الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: هل يشترطُ ذكر سببِ الْجَرْح والتعديل
؟
هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل؟ وأنه لا بد أن يكون مُفَسَّراً، أم أنهما يقبلان مُبْهَمين غير مفسرين؟ في المسألة مذاهب أربعة:
الأول: يقبلُ التعديل من غير ذكر سببه، وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً مبين السبب. وهذا مذهب الجمهور من المحدثين وغيرهم.
- أما عدم اشتراط التفسير في التعديل: فلأن أسباب التعديل كثيرة يصعب ذكرها؛ إذ لو طُلب إليه ذلك، للزمه أن يقول في حقِّ الْمُعَدَّل:"يفعل كذا وكذا"، فيعد ما يجب عليه فعله. "وليس يفعل كذا ولا كذا" فيعد ما يجب عليه تركه، وهذا لا شك فيه عُسْرٌ ومشقة. أما الجرح: فإنه يحصل بأمر واحد، فلا يشق في الغالب ذكره1.
- وأما اشتراطه في الجرح: فلأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناءً على ما اعتقده جرحاً، وليس هو بجرح في نفس الأمر، فمطالبته إذن ببيان السبب مزيل لهذا المحذور؛ إذ بالنظر في السبب المذكور يُعْرَف ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا2.
ويؤيد ضرورة ذلك: أنه ربما اسْتُفْسِرَ الجارح عن سبب جرحه، فذكر ما لا يصلح جارحاً، فمن ذلك: أن شعبة قيل له: لم تركت حديث
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) ، وشرح ألفية العراقي، له:(1/300) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص51)، وفتح المغيث:(1/299) .
فلان؟ فقال: "رَأَيْته يركضُ على بِرْذَوْن، فتركت حديثه"1. ومنه: أن مسلم بن إبراهيم سألوه عن حديث الصالح المُرِّيِّ؟ فقال: "ما يُصْنع بصالح، ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة، فامتخط حماد"2.
إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يُعَدُّ الجرح فيها قدحاً في الراوي3.
الثاني: عكس الأول، فيجب بيان سبب العدالة، ولا يجب بيان سبب الجرح، قالوا:
- لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها، فيسارع الناس إلى الثناء على الظاهر4.
الثالث: أنه لا بدَّ من ذكر أسباب الجرح والتعديل معاً، حكاه الخطيب والأصوليون. قالوا:
- فكما يَجْرَحُ الجارح بما لا يقدح، فكذلك الْمُعَدِّل قد يُوَثِّقُ بما لا يقتضي العدالة5؛ كما استدل أحمد بن يونس على عدالة عبد الله العُمَري وثقته بقوله:"لو رأيتَ لحيته، وخضابه، وهيئته، لعرفت أنه ثقة".
1 الكفاية: (ص182) . والبرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة. والجمع: براذين، والأنثى برذونة. (لسان العرب: برذن، والمعجم الوسيط: برذن) .
2 الكفاية: (ص185) .
3 انظر (الكفاية) : (ص181-186) فقد عقد باباً لذلك.
4 شرح ألفية العراقي: (1/303)، وفتح المغيث:(1/301) .
5 فتح المغيث: (1/302) .
وهذا لا شك مما لا يعتمد عليه في إثبات العدالة، قال الخطيب:"لأن حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح"1.
الرابع: عكس الثالث، فلا يجب ذكر السبب في واحد منهما، إذا كان الجارح والمعدل عالماً بأسباب الجرح والتعديل، بصيراً مرضياً في أفعاله واعتقاده2.
والراجح من هذه الأقوال: هو القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور، قال الخطيب البغدادي: "هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونُقَّاده، مثل: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري
…
"3. وقال ابن الصلاح: "التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور". قال: "وأما الجرح فإنه لا يقبلُ إلا مفسراً مبيَّنَ السبب
…
وهذا ظاهرٌ مقررٌ في الفقه وأصوله"4. وقال العراقي: "هو الصحيح المشهور"5.
وقد اختار ابن القَيِّم رحمه الله مذهب الجمهور، وصرح به في عدة مواضع، فقال في "عبد الحميد بن جعفر":
1 الكفاية: (ص165) .
2 شرح ألفية العراقي: (1/304)، وتدريب الراوي:(1/308) .
3 الكفاية: (ص179) .
4 مقدمة ابن الصلاح: (ص50-51) .
5 شرح الألفية: (1/300) .
"وثقَهُ يحيى بن معين في جميع الروايات عنه، ووثقه الإمام أحمد أيضاً، واحتج به مسلم في صحيحه، ولم يُحفَظ عن أحد من أئمة الجرح والتعديل تضعيفه بما يوجب سقوط روايته
…
وحتى لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته ما لم يُبَيِّن سبب ضعفه، وحينئذ يُنظر فيه: هل هو قادحٌ أم لا؟ "1.
فابن القَيِّم رحمه الله يؤكد هنا أن الجرح لا يقبلُ إلا مُفَسَّراً، ويذكر تعليل ذلك: بأنه قد لا يكون جرحاً قادحاً مؤثراً، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بذكر سببه وتفسيره.
ومثال آخر يقرر فيه ابن القَيِّم رحمه الله هذا القول ويؤكده، فيقول في حق "محمد بن عمرو بن عطاء" - وقد نقل عن يحيى بن سعيد تضعيفه له -: "
…
تضعيف محمد بن عمرو بن عطاء: ففي غاية الفساد؛ فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وَثقَه أئمة الحديث: كأحمد، ويحيى بن سعيد
…
وتضعيف يحيى بن سعيد له - إن صحَّ عنه - فهو رواية، المشهور عنه خلافها، وحتى لو ثبت على تضعيفه فأقام عليه، ولم يبينْ سَبَبَهُ لم يُلْتَفت إليه، مع توثيق غيره من الأئمة له
…
"2.
ويُبْرِزُ لنا ابن القَيِّم رحمه الله ثمرة عدم قبول الجرح إلا
1 تهذيب السنن: (1/360) .
2 تهذيب السنن: (1/360) .
مفسراً وفائدته، وأن ذلك هو السبيل لمعرفة ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا، فيقول في تضعيف شعبة "للمنهال بن عمرو" بسماعه صوت طنبور من بيته، أو أنه سمع صوت قراءة بالتطريب: "ومعلوم أن شيئاً من هذا لا يقدح في روايته
…
ولعله مُتَأوِّلٌ فيه
…
وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره، ولا إِذنه، ولا عِلْمه. وبالجملة: فلا يُرَدُّ حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.
وقال مرة: "وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطِّراح حديثه"2.
ولما ردَّ ابن حزم رواية "أبي الطفيل، وأبي عبد الله الجدلي" بأنهما كانا في جيش المختار3، وأن الجدلي كان حامل رَايَتِه قال ابن القَيِّم رحمه الله يرد عليه:"فَرَدُّ رواية الصاحب، والتابع الثقة بذلك باطل"4.
وقد وافقه الحافظ ابن حجر رحمه الله على أن الجرح بمثل هذا ليس بقادح، فقال:"ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"5.
فهذه الأمثلة وغيرها للجرح غير القادح تُوَضِّح لنا دقة مسلك
1 تهذيب السنن: (7/140) .
2 الروح: (ص64) .
3 الذي أرسله إلى مكة ليمنع ابن الحنفية مما أراد به ابن الزبير. (تهذيب التهذيب 12/148) .
4 تهذيب السنن: (1/117) .
5 تهذيب التهذيب: (12/149) .
الجمهور في اشتراط تفسير الجرح، وبيان سببه.
وإذا عرفنا رأيَ ابن القَيِّم رحمه الله وطريقته في هذه المسألة، وأنه مع الجمهور في ضرورة تفسير الجرح، وأن التعديل يقبل على الإبهام، فإنه لا يفوتنا أن ننبه على أمر مهم، وهو:
هل يُطْلب تفسير الجرح دائماً، وفي كل راوٍ مُجَرَّح، أم أن هناك ضابطاً لهذا الأمر؟
هذا ما أجاب عنه ابن القَيِّم رحمه الله حين قال: "وهذا إنما يُحْتَاج إليه - يعني طلب تفسير الجرح - عند الاختلاف في توثيق الرَّجُل وتضعيفه، وأما إذا اتَّفَق أئمة الحديث على تضعيف رجل، لم يُحْتَج إلى ذكر سبب ضعفه. هذا أولى ما يُقَال في مسألة التضعيف المطلق"1.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله مثل ذلك، إذ قال:"فإنْ خلا المجروح عن التعديل: قُبِل الجرح فيه مُجْمَلاً غير مبين السبب، إذا صَدَرَ من عارف على المختار؛ لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حَيِّزِ المجهول، وإعمال قول الْمُجَرِّح أولى من إهماله"2. وقال مرة: "
…
فوجه قولهم: إن الجرح لا يقبل إلا مفسراً: هو فيمن اخْتُلِفَ في توثيقه وتجريحه"3.
1 تهذيب السنن: (1/360) .
2 نزهة النظر: (ص73) .
3 لسان الميزان: (1/ 16) .
وهذا الضابط الذي وَضَعَه ابن القَيِّم رحمه الله لاشتراط تفسير الجرح، والتفصيل الذي فَصَّلَهُ، ووافقه عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، استحسنه غيرُ واحد، وعدَّه اللَّكنوي قولاً خامساً في المسألة1، بعد أن قال: "
…
لكنه تحقيق مستحسن، وتدقيق حسن"2.
فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم قد وافق الجمهور على عدم قبول الجرح إلا مفسراً، ثم أضاف إلى ذلك ضابطاً حسناً، وتفصيلاً دقيقاً، في مسألة طلب تفسير الجرح، وهو: أنه يستغنى عن طلب التفسير في حالة الاتفاق على التضعيف، وهو نفسه الذي عبر عنه الحافظ ابن حجر "بالخلوِّ من التوثيق"، وقد جاء ذلك لبيان أن التفسير لا يشترط طلبُهُ على الإطلاق.
وقد تضمن كلامه رحمه الله الإشارة إلى حالة تعارض أقوال المعدلين والمجرحين في الراوي، فيطلب حينئذ تفسير الجرح للترجيح، وسيأتي الكلام على تعارض الجرح والتعديل في المطلب التالي.
1 فقد مضى أن في مسألة اشتراط ذكر سبب الجرح والتعديل أربعة أقوال. (انظر ص 541) .
2 الرفع والتكميل: (ص110) .