الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة
؟
الصحيح المشهور: أن العدالة تثبتُ بأحد أمرين:
1-
فتارةً تثبت بتنصيص الْمُعَدِّلِين على عدالته، وقد تَقَدَّم أنه يُكتفى في ذلك بقول الواحدِ على الصحيح.
2-
وتارة تثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، "فمن اشتهرتْ عَدَالَتُهُ بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، اسْتُغْنِي فيه بذلك عن بَيِّنَةٍ شاهدة بعدالته تنصيصاً"1. فمثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ويحيى القطان، وأحمد، وابن مهدي، والشافعي، ووكيع، "ومن جَرَى مجراهم في: نباهة الذِّكْرِ، واستقامةِ الأمر، والاشتهارِ بالصِّدق والبصيرةِ والفهم، لا يُسْأَل عن عدالتهم، وإنما يُسْأَل عن عدالةِ من كان في عِدَاد المجهولين، أو أَشْكَلَ أَمْرُهُ على الطالبين"2.
قال ابن الصلاح: "وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث: أبو بكر الخطيب الحافظ"3.
وأما ابن القَيِّم رحمه الله: فقد تَوَسَّعَ في إثبات العدالة،
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .
2 الكفاية: (ص147) .
3 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .
فذهب إلى أنها تثبت لكل من عُرِفَ بحملِ العِلْمِ، والعناية به، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"1.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ العلم الذي جاء به يحمله عُدُولُ أُمَّتِهِ من كلِّ خَلَفٍ، حتى لا يضيعَ ويذهب، وهذا يتضمن تعديله صلى الله عليه وسلم لحملة العلم الذي بُعِثَ به
…
فكل من حَمَل العلم المشار إليه، لا بد أن يكون عدلاً، ولهذا اشتهر عند الأمة عدالة نَقَلتِهِ وحَمَلَتِهِ، اشتهاراً لا يَقْبَلُ شَكَّاً ولا امتراء، ولا ريب أن من عَدَّلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُسمعُ فيه جَرْحٌ، فالأئمة الذين اشتهروا عند الأمة بنقل العلم النبوي وميراثه، كلهم عدول بتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند الأمة جَرْحُه والقدحُ فيه: كأئمة البدعِ، ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين، فإنهم ليسو عند الأمة من حملة العلم، فما حَمَل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عدل"2.
ثم حَدَّدَ رحمه الله مفهوم العدالة، فقال:"ولكن قد يُغْلَط في مُسَمَّى العدالة، فَيُظَنُ أن المراد بالعدل: من لا ذنب له! وليس كذلك، بل هو عَدْلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا يُنَافي العدالة، كما لا ينافي الإيمان والولاية"3.
1 أخرجه ابن عبد البر في (التمهيد) : (1/59) ، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث)(ص29) ، من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، وسيأتي الكلام عليه بعد قليل.
2 مفتاح دار السعادة: (1/163) .
3 المصدر السابق.
فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم هذا أموراً:
- أنَّ العدالة تثبت لكل من عُرِفَ بحمل العلم النبوي.
- وأنَّ هذه العدالة ثابتةٌ لهذه الطائفة بشهادَتِهِ وخبره صلى الله عليه وسلم.
- وأنَّ هذه العدالةَ لا يُنَافِيهَا الوقوع في الذنوب الصغيرة التي يتوب العبد منها.
وقد سبقَ ابنَ القَيِّم رحمه الله إلى القول بذلك: ابنُ عبد البر، فقال:"كل حامل علم، معروف العناية به، فهو عدل، محمول في أمره أبداً على العدالة، حتى يتبين جرحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدُولُه" 1".
وقد تُعُقِّبَ ابن عبد البر في ذلك، فقال ابن الصلاح:"وفيما قاله اتساع غير مرضي"2.
وبيان المآخذ على ما ذهب إليه ابن القَيِّم - وسبقه إليه ابن عبد البر - من وجوه:
أولها: ضَعْفُ الحديث الذي بنوا عليه هذا القول، وهو حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله
…
". وقد روي مرسلاً ومسنداً3.
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . وانظر التمهيد: (1/58-59) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .
3 ينظر دراسة هذا الحديث والكلام عليه: فيما علقته على (البدر المنير) : (1/214-219) .
فقد ضَعَّفَ هذا الحديث: ابن القطان1، والحافظ ابن كثير2، والعراقي3وغيرهم.
وصَحَّحَ الإمام أحمد الرواية المرسلة4. وذهب جماعة إلى أن الحديث يقوى بمجموع طرقه، ويصل إلى درجة الحسن، قال ذلك: العلائي5، والقسطلاني6، والسخاوي7، والقاسمي8، وغيرهم.
وقد مال ابن القَيِّم رحمه الله إلى تقويته أيضاً، فقال:"يُروى عنه من وجوهٍ شَدَّ بعضها بعضاً"9.
ثانيها: أنه على فرض ثبوت هذا الحديث، فإنه لا يصحُّ حَمْلُه على الخبر "لوجودِ من يحمل العلم وهو غير عدل وغير ثقة
…
فلم يبق له محمل إلا على الأمر، ومعناه: أنه أمرٌ للثقات بحملِ العلمِ؛ لأن العلم إنما يُقْبَلُ عن الثقات"10.
ويؤيد ذلك: مجيئهُ من بعض الطرق بصيغة الأمر: "ليحمل هذا العلم
…
" 11.
1 التقييد والإيضاح: (ص139) .
2 الباعث الحثيث: (ص94) .
3 التقييد والإيضاح: (ص138) .
4 شرف أصحاب الحديث: (ص29) .
5 بغية الملتمس: (ص34) .
6 إرشاد الساري: (1/4) .
7 الهداية في علم الرواية: (ق16/ب) .
8 قواعد التحديث: (ص49) .
9 طريق الهجرتين: (ص619) .
10 فتح المغيث: (1/294- 295) .
11 الجرح والتعديل: (1/1/17) .
وَحَمَلَهُ بعضهم على إرادة الغالب، فقال السخاوي: "
…
بل لا مانع أيضاً من كونه خبراً على ظاهره، ويُحْمَل على الغالب، والقصد: أنه مَظِنَّةٌ لذلك"1.
على أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله ومن قبله ابن عبد البر - قد أَيَّدَهُما فيه جماعة، منهم: ابن الْمَوَّاق، فقال كمقالة ابن عبد البر2.
وقال المزي: "هو في زماننا مرضي، بل ربما يتعين"3.
وقال ابن الجزري: "ما ذهب إليه ابن عبد البر هو الصواب، وإن رَدَّهُ بعضهم"4.
وقال ابن سيد الناس: "لست أراه إلا مرضياً"5.
وقال النووي رحمه الله: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله - تعالى - يُوَفِّقُ له في كلِّ عصرٍ خَلَفَاً من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف
…
وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة. ولا يَضُرُّ - مع هذا - كون بعض الفُسَّاقِ يَعْرِفُ شيئاً من العلم؛ فإن الحديث إنما هو
1 فتح المغيث: (1/295) .
2 التقييد ولإيضاح: (ص139) .
3 فتح المغيث: (1/297) .
4 المصدر السابق.
5 المصدر السابق.
إخبار: بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرفُ شيئاً منه"1.
قال السخاوي - عقب مقالة النووي هذه -: "على أنه يقال: ما يَعْرِفُهُ الفُسَّاقُ من العلم ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عَمَلِهِم به
…
وَصَرَّحَ به الشافعي في قوله:
ولا العلم إلا مع التُّقَى
…
ولا العَقْلُ إلا مع الأَدَبِ"2
وقال الحافظ الذهبي: "إنه حق - ولا يدخلُ فيه المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم - فكلُّ من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث، وأنه معروفٌ بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تَلْيِيناً، ولا اتَّفَقَ لهم علم بأن أحداً وَثَّقَهُ: فهذا الذي عَنَاه الحُفَّاظ، وأنه يكونُ مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جَرْحٌ"3.
فظهر بذلك أن ابن القَيِّم رحمه الله له في قوله هذا مُؤَيِّدون، وأنه لم ينفرد بذلك، وأن هذا المذهب قَوَّاهُ جماعة لا يستهان بهم من أئمة هذا الشأن.
وبنظرةٍ فاحصة إلى كلام هؤلاء الأئمة يتبين لنا: أنه لا منافاةَ بين حملِ هذا الحديث على الخبر على الحقيقة، وبين ما وَقَعَ من حَمْل بعض ساقطي العدالة لهذا العلم، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار بعض الأمور، منها:
أولاً: أن يُحْمَلَ هذا الخبر على الغالب، أي: غالبُ من يحمل هذا العلم، أو: أَنَّ من يَحْمِلُهُ تغلبُ عليه العدالة، قال السخاوي: "والقصد:
1 تهذيب الأسماء واللغات: (1/17) .
2 فتح المغيث: (1/295) .
3 فتح المغيث: (1/297) .
أنه مظنة لذلك"1.
ثانياً: ما قَرَّرَه النووي رحمه الله من أن: معرفة بعض الفُسَّاِق بهذا العلم، لا يتنافى مع إخباره صلى الله عليه وسلم بحمل العدول إياه؛ فإنَّ معرفتهم بهذا العلم غيرُ داخلة في هذا الحمل. هذا على فرض صحة تسمية ما يحمله هؤلاء الفساق علماً.
فَتَلَخَّص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله من ثبوت العدالة لكل من عرف بحمل هذا العلم، والاشتغال به، قد يكون مقبولاً إذا حُمل على ما تقدم ذكره. ومع ذلك فإن ما ذهب إليه الجمهور، من أنه لابُدَّ - لإثبات العدالة - من التنصيص على ذلك، أو الاعتماد على الشهرة والاستفاضة: هو الأقرب إلى الاحتياط، ولذلك قال ابن أبي الدم2 - في رَدِّهِ على ابن عبد البر-:"وهو غير مرضي عندنا؛ لخروجه عن الاحتياط"3. والله أعلم.
ويلتحق بمسألة ثبوت العدالة مسألة أخرى وهي:
إذا روى العدل عن رجل وَسَمَّاهُ، هل تُعْتَبُر روايتهُ عنه تعديلاً له؟
1 فتح المغيث: (1/297) .
2 العلامة، شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم، الهمداني الحموي الشافعي. حَدَّث بالقاهرة وكثير من بلاد الشام، وولي قضاء حماة، وكان إماماً في المذهب الشافعي، توفي سنة (642هـ) .
له ترجمة في سير أعلام النبلاء (23/25) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/124) .
3 فتح المغيث: (1/296) .
في المسألة ثلاثة أقوال1:
الأول: أنه ليس بتعديل له؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل، وهذا هو قول أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، وصححه ابن الصلاح2، وقال النووي:"هو الصحيح"3.
الثاني: أنه تعديل له مطلقاً، وهذا قول بعض أهل الحديث، وبعض أصحاب الشافعي. واحتجوا لهذا القول: بأن العدل لو كان يَعْلَم فيه جرحاً لَذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ الخطيب، فقال:"وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلا ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها. كيف وقد وُجِدَ جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أَمْسَكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم، مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب"4.
ثم ساق رحمه الله أمثلة مما وقع فيه ذلك.
الثالث: التفصيل؛ فإن كان ذلك العدل الذي روى عنه لا يروي إلا عن عدول، كانت روايته تعديلاً، وإلا فلا. وهذا المختار عند الأصوليين: كالسيف الآمدي، وابن الحاجب وغيرهما5. قال السخاوي: "بل وذهب إليه جمع من المحدثين، وإليه ميل الشيخين، وابن خزيمة في
1 شرح الألفية: (1/320-321) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) .
3 التقريب: (ص13) .
4 الكفاية: (ص 150-151) .
5 شرح ألفية العراقي: (1/321-322) .
صحاحهم، والحاكم في مستدركه
…
"1.
وقد اختار ابن القَيِّم رحمه الله القول الثاني: وهو أن ذلك يكون تعديلاً له مطلقاً؛ فإنه قال:
"
…
ورواية العدل عن غيره تعديل له، ما لم يعلم فيه جرح"2.
وقال مرة في حديث رواه أبو إسحاق السبيعي، عن العالية في بيع العينة:
"وأما العالية: فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات، وقد دَخَلَت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلمُ بها
…
ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكَذِبُ لم يكن فاشياً في التابعين فُشُوّه فيمن بعدهم"3.
ويدلُّ كلامه رحمه الله في أكثر من مناسبة على اختياره هذا المذهب وقوله به، فمن أمثلة ذلك:
أنه رحمه الله استدل على ثقة "سعد بن سعيد"4برواية جماعة من الأَجِلَّةِ عنه، فقال رحمه الله رداً على من ضَعَّفَه -: "
…
لكنه ثقة صدوق
…
روى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن"5.
1 فتح المغيث: (1/313) .
2 زاد المعاد: (5/181) .
3 تهذيب السنن: (5/105) .
4 الأنصاري، صدوق سيئ الحفظ. التقريب:(231) .
5 تهذيب السنن: (3/311) .
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه رد تضعيف مغراء العبدي1 بقوله: "قد روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"2.
فهذا هو اختيار ابن القَيِّم رحمه الله في هذه المسألة، وقد تَقَدَّمَ ضعف هذا المذهب وعدمُ صحته، وذلك لأمور، منها:
1-
جوازُ أن يكون العدل لا يَعْرِفُ عَدَالة من روى عنه، فلا تكون روايته عنه تعديلاً له ولا خبراً عن صدقه.
2-
أن العدل قد يَرْوِي عَمَّن تكون حالُهُ غير مرضية - مع علمه بحاله - ومع ذلك يمسك عن ذكر ذلك وبيانه. أشار إلى هذين الوجهين الخطيب كما تقدم.
3-
وأمر ثالث ذكره أبو بكر الصيرفي، وهو: أن الرواية تعريف - أي مطلق تعريف - تزول جهالة العين بها بشرطه. أما العدالة: فلا تثبت إلا بالخبرة، ومجرد الرواية عنه لا تدل على الخبرة3.
ولكن: إذا كان العدل قد عُرِفَ بأنه لا يَرْوِي إلا عن ثقة عنده، فهل تكون روايته عَمَّنَ روى عنه تعديلاً له؟
تقدم عند الكلام على المذهب الثالث في هذه المسألة: أن جماعة ذهبوا إليه من الأصوليين والمحدثين، قال الخطيب البغدادي: "إذا قال
1 الكوفي، أبو المخارق، مقبول. التقريب:(542) .
2 الصلاة: (ص119) .
3 فتح المغيث: (1/313) .
العَالِمُ: كل من أروي عنه وأُسَمِّيه فهو عدلٌ رضاً مقبولُ الحديثِ، كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه"1.
وقال الحافظ ابن حجر: "من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجل وصف بكونه ثقة عنده، كمالك، وشعبة، والقطان، وابن مهدي، وطائفة ممن بعدهم"2.
وابن القَيِّم رحمه الله قد أخذ بهذا القول وأَعْمَلَه؛ فإنه قال في داود بن الحصين: "وروى عنه مالك، وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده"3.
وقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله ما يفيد ذلك، فقد سأله بشر بن عمر الزهراني عن رجل؟ فقال:"رأيته في كتبي؟ " قال: لا. قال: "لو كان ثقة لرأيته في كتبي"4.
ولكن هل هذه القاعدة على عمومها في حق كل من قيل فيه إنه لا يروي إلا عن ثقة؟؟
قال الحافظ الذهبي رحمه الله عقب مقالة مالك هذه: "فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عَمَّن هو عنده ثقة، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه، وهو
1 الكفاية: (ص154) .
2 لسان الميزان: (1/15) .
3 رسالة في الأحاديث الموضوعة: (ق48/ ب)
4 مقدمة الجرح والتعديل: (ص24)، وسير أعلام النبلاء:(8/71-72) .
عنده ثقة، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره، إلا أنه - بكل حال - كثير التَّحَرِّي في نقد الرجال"1.
ولهذا قال السخاوي رحمه الله: "من كان لا يروي إلا عن ثقة - إلا في النادر -: الإمام أحمد
…
ومالك، ويحيى القطان"2. فاحترز بقوله: "إلا في النادر.
فظهرَ من ذلك أن هذه القاعدة أغلبية، وليست كُلِّيَّة في حق من قيل ذلك في حقه، وإذا كان كذلك فلا يصحُّ الاعتماد عليها في الحكم بعدالة كل من روى عنه واحد من أولئك الأئمة.
ويتلخص من ذلك: أن القول الأول - وهو عدم اعتبار رواية العدل تعديلا لمن روى عنه - هو الصواب والأقرب للاحتياط، كما تقدم بيانه. وأن القول الثاني - وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - غير صحيح، والأخذ به ينافي الاحتياط في الرواية. وأما القول الثالث: فهو تَوَسُّطٌ بين القولين، لكن يراعى تقييده وعدم إطلاقه، فيحمل على الغالب في حق من قيل فيه، ولذلك فإنه لا يعمل به بمجرده دون مراعاة أقوال الأئمة الآخرين في الرجل، وغير ذلك من الاعتبارات، كما هو واضح في كلام الذهبي المتقدم، والله أعلم.
1 سير أعلام النبلاء: (8/72) .
2 فتح المغيث: (1/314) .