الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل
إذا تعارض الجرحُ والتعديل في راو، فَجَرَحَهُ جماعة، وعَدَّلَه آخرون، فللعلماء في ذلك أربعة أقوال:
الأول: أن الجرح مُقَدَّم مطلقاً، سواء زاد عدد الْمُعَدِّلين على الْمُجَرِّحين، أو نقص عنه، أو استويا. هذا قول الجمهور كما قال الخطيب1، وقال ابن الصلاح:"هو الصحيح"2.
وذلك:
- لأن مع الجارح زيادة علم لم يَطَّلِع عليها الْمُعَدِّل، فهو قد علم ما علمه المعدل من حاله الظاهرة، وزاد عليه علم ما لم يعلمه من اختبار أمره.
- ولأن إخبار الْمُعَدِّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب تقديم قول الجارح3.
الثاني: إذا كان عدد الْمُعَدِّلين أكثر، قُدِّم التعديل على الجرح. قالوا:
- لأن كثرة المعدلين تُقَوِّي حالهم، وتوجب العمل بخبرهم. وقِلَّة الجارحين تضعف خبرهم.
1 الكفاية: (ص 175- 177) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) .
3 الكفاية: (ص175) .
قال الخطيب - بعد أن حكى هذا القول عن طائفة -: "وهذا خطأ
…
وبُعْدٌ ممن تَوَهَّمَهُ؛ لأن الْمُعَدِّلِين - وإن كثروا - ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون"1.
الثالث: يُقَدَّم الأحفظ. نقله السيوطي2 عن البلقيني، وظاهره أنه إذا زاد المعدلون أيضاً.
الرابع: أنهما يتعارضان فلا يُرَجَّح أحدهما على الآخر إلا بِمُرَجِّحٍ، نقله العراقي عن ابن الحاجب3، وهذا أيضاً فيما إذا كان عدد المعدلين أكثر، قال السخاوي:
"ووجهه: أن مع الْمُعَدِّلِ زيادة قوة بالكثرة، ومع الجارح زيادة قوة بالإطلاع على الباطن"4.
والراجح هو مذهب الجمهور، كما تقدم في كلام الخطيب، وابن الصلاح، وقال السيوطي:"هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين"5.
ولكن ينبغي عدم القول بتقديم الجرح على التعديل مطلقاً، بل لابد من تقييد ذلك: بكون الجرح مُفَسَّراً مبيناً، من عارفٍ بأسبابه. وإلى هذا أشار الحافظ ابن حجر بقوله:"والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة، ولكن مَحَله: إن صدر مَبَيَّناً، من عارف بأسبابه"6.
1 الكفاية: (ص 177) .
2 تدريب الراوي: (1/310) .
3 شرح الألفية: (1/313) .
4 فتح المغيث: (1/308) .
5 تدريب الراوي: (1/309) .
6 نزهة النظر مع النخبة: (ص73) .
وقال السخاوي: "لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فُسِّرَ
…
أما إذا تعارضا من غير تفسير: فالتعديل - يعني مقدم - كما قاله المزي وغيره"1.
وقال السيوطي: "وإذا اجتمع في الراوي جرح مفسر وتعديل: فالجرح مقدم، ولو زاد عدد المعدل"2.
ولم أقف لابن القَيِّم رحمه الله على رأي صريح في هذه المسألة - مسألة تعارض الجرح والتعديل - إلا أن كلامه في المسألة السابقة - مسألة اشتراط تفسير الجرح - يمكن أن يعطينا تصوراً عن رأيه في هذا الموضوع.
فقد قَرَّرَ ابن القَيِّم فيما مضى: أن الجرح لا ينبغي قبوله إلا مفسراً، وأن تفسير الجرح إنما يطلب عند الاختلاف في الراوي، وتعارض أقوال المجرحين والمعدلين فيه؛ وذلك للنظر في الأسباب التي أبداها المجرح هل هي قادحة أم لا؟ 3.
وبهذا يلتقي قول ابن القَيِّم في هذه المسألة مع قول الجمهور القائلين بتقديم الجرح على التعديل عند التعارض، مع تقييد ذلك بكون الجرح مفسراً، وأسبابه قادحة مؤثرة4.
1 فتح المغيث: (1/307) .
2 تدريب الراوي: (1/309) .
3 انظر كلام ابن القَيِّم المتقدم في ص: (543- 547) .
4 انظر ما تقدم في ص: (548 - 549) .
على أن تقديم الجرح على التعديل، أو إعمال التعديل والإعراض عن الجرح، يكون محكوماً - في بعض الأحيان - ببعض الضوابط والأمور التي ينبغي أن تراعى عند التعرض لهذه المسألة.
ونستطيع - من خلال النظر في كلام ابن القَيِّم في الرجال، وتحليل بعض أقواله - أن نستخلص بعض هذه الضوابط وتلك الملاحظات، فمن ذلك:
أولاً: أن أقوال الأئمة في الراوي قد تَرِدُ مقيدة، فيجب مراعاة تلك القيود عند التعارض.
تناول ابن القَيِّم رحمه الله هذه المسألة في أكثر من مناسبة، وبَيَّنَ أن الرجل قد يحتج به فيما رواه عن شيخ، ويترك في شيخ آخر. أو يوثق في روايته عن أهل بلد، ويضعف - هو بعينه - فيما رواه عن أهل بلد آخر.
ونَبَّهَ رحمه الله على ضرورة مراعاة ذلك في كلام الأئمة وحكمهم على الرواة، وأنه لا ينبغي في مثل ذلك معارضة أقوال بعضهم ببعض، بل يُعمل بكل قول باعتبار.
قال رحمه الله: "وهذه مسألة غير مسألة تعارض الجرح والتعديل، بل يظن قاصر العلم أنها هي، فيعارض قول من جَرَحَهُ بقول من عَدَّلَه، وإنما هي مسألة غيرها، وهي: الاحتجاج بالرجل فيما رواه عن بعض الشيوخ، وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن آخر"1.
1 الفروسية: (ص44) .
ومن الصور التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله لتلك المسألة:
1-
تضعيف حديث الراوي في بعض الشيوخ، وتوثيقه في غيرهم.
وذلك أن الراوي يكون ثقة في نفسه، لكنه يُضَعَّف في روايته عن بعض الشيوخ دون بقية شيوخه.
ويبيِّن ابن القَيِّم رحمه الله أن من الأسباب التي تجعل حديث الرجل ضعيفاً في شيخ بعينه: كونه غير معروف بالرواية عنه، وحفظ حديثه وإتقانه، وملازمته له1.
ومن الأمثلة التي وردت عند ابن القَيِّم لهذه الصورة:
أ- سفيان بن حسين2عن الزهري:
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ثقة صدوق، وهو في الزهري ضعيف لا يحتج به؛ لأنه إنما لَقِيَه مرة بالموسم، ولم يكن له من الاعتناء بحديث الزهري، وصحبته، وملازمته له، ما لأصحاب الزهري الكبار: كمالك، والليث، ومعمر، وعقيل، ويونس، وشعيب"3.
1 الفروسية: (ص44) .
2 ابن حسن، أبو محمد أو أبو حسن، الواسطي، ثقة في غير الزهري باتفاقهم، من السابعة /خت م 4. التقريب:(ص244) .
3 الفروسية: (ص44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (4/107)، وهدي الساري:(ص457)، وشرح علل الترمذي:(ص455)، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم:(ص364-370) .
ب- قبيصة بن عقبة1 عن سفيان الثوري:
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ومثل هذا: تضعيف قبيصة في سفيان الثوري، واحْتُجَّ به في غيره، كما فَعَل أبو عبد الرحمن النسائي"2.
2-
توثيق حديث الرجل في أهل بلد، وتضعيفه في غيرهم.
ومثال ذلك عند ابن القَيِّم:
- إسماعيل بن عَيَّاش3:
قال ابن القَيِّم: "
…
وهذا كإسماعيل بن عياش، فإنه عند أئمة هذا الشأن حجة في الشاميين أهل بلده، وغير حجة فيما رواه عن الحجازيين والعراقيين، وغير أهل بلده"4.
فالحاصل: أن ابن القَيِّم رحمه الله يقرر أنه إذا وجد في الرجل من أمثال هؤلاء جرح وتعديل، فإنه لا يُقَدَّمُ أحدهما على الآخر مطلقاً، بل تارة يقدم الجرح، وتارة يقدم التعديل، وذلك طبقاً للموازين التي مر ذكرها، والتي تضبط إطلاقات الأئمة في هذا الصدد.
1 السوائي، أبو عامر الكوفي، صدوق ربما خالف، مات سنة 215 هـ- /ع. التقريب:(ص453) .
2 الفروسية: (ص 44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (8/347)، وهدي الساري:(ص436)، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم:(ص141-149) .
3 الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم /ى 4 التقريب:(ص109) .
4 الفروسية: (ص44) . وانظر: شرح علل الترمذي: (ص428) .
ثانياً: عدم معارضة أقوال أئمة الشأن الْمُعْتَبَرين بقول غيرهم.
إذا تعارض قول جماعة من الأئمة المعتبرين، وقول واحد ممن دونهم في هذا الشأن، فإن الأخذ بقول هؤلاء الأئمة - مع علمهم وإمامتهم في هذا الشأن - أولى من الأخذ بقول من دونهم، وكذا من كان مُتَأَخِّراً عنهم زمناً.
قال ابن القَيِّم رحمه الله رَدًّا على ابن حزم في تضعيفه عمرو بن شعيب -: "وإذا تَعَارَضَ معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقول: البخاري، وأحمد، وابن المديني، والْحُمَيدي، وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم يُلْتَفَت إلى سواهم"1.
وقال مرة في ابن إسحاق - وقد نقل عن ابن عيينة قوله: ما سمعت أحداً يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر -: "ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بَعْدَهُم"2.
فهكذا نجد ابن القَيِّم رحمه الله يُقَرِّر: أن مَتَانَة الإمام الْمُتَكَلِّم في الرجل، ورسوخ قدمه، وطول باعه في الفَنِّ، مع مُعَاصَرَتِهِ للراوي - أو قرب عهده به - أَدْعى إلى تقديم قوله على قول غيره ممن ليس بهذه المثابة.
ثالثاً: مراعاة صحة سند القول المنسوب إلى أئمة الجرح والتعديل.
قد يَرِدُ قول لا يصح سنده إلى الإمام المنسوب إليه، فلا يجوز
1 زاد المعاد: (5/456) .
2 تهذيب السنن: (7/95) .
حينئذ اعتماد هذا القول قي الترجيح عند التعارض؛ لأنه - والحالة هذه - كعدمه.
فمن ذلك: حكاية تكذيب محمد بن إسحاق، من رواية سليمان ابن داود، قال: قال لي يحيى بن سعيد القطان: أشهد أن محمد بن إسحاق كَذَّاب. قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهيب بن خالد. فقلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس. فقلت لمالك بن أنس: ما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة. قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة ابنة المنذر، ودَخَلَتْ عليَّ وهي ابنة تسعِ سنين، وما رآها حَتَّى لَقِيَتْ الله.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "إن سليمان بن داود - رَاوِيها عن يحيى - هو: الشاذكوني، وقد اتُّهِم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني"1.
وقد وافق الذهبيُّ ابنَ القَيِّم على تكذيب هذه الحكاية، فقال:"معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بدا منهم هذا بناءً على أصل فاسدٍ واهٍ، ولكن هذه الخرافة من صَنْعَةِ سليمان، وهو الشاذكوني - لا صَبَّحَه الله بخير -؛ فإنه مع تَقَدُّمه في الحفظ مُتَّهَمٌ عندهم بالكذب، وانظر كيف سلسل الحكاية؟! "2.
1 تهذيب السنن: (7/ 97) .
2 سير أعلام النبلاء: (7/49) .
فهكذا ينبهُ ابن القَيِّم رحمه الله إلى أنه لا يُعْتَمَد على جرح لا يصح سنده، فَيُعَارَض به أقوال الأئمة الآخرين ممن وَثقَ الرَّجُلَ.
وبعد، فهذه بعض الضوابط التي تيسر الوقوف عليها من كلام ابن القَيِّم رحمه الله فيما يتعلق بمسألة تعارض الجرح والتعديل، والتي ينبغي التنبه لها عند الوقوف على أقوال متعارضة للأئمة في الرجل، والله أعلم.