الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: حياة ابن القيم، وسيرته العلمية وآثاره
الفصل الأول: عصر ابن القيم وبيئته
.
المبحث الأول: الحالة السياسية
…
مصادر ترجمة ابن القَيِّم:
وقد رأيت أن أمهد بين يدي هذا الباب بالكلام على المصادر التي ترجمت لابن القَيِّم رحمه الله، فأعطي فكرة عنها، مع تحليل للمادة التي احتواها كل مصدر منها، وذكر ما تميز به بعضها عن الآخر.
وذلك: لأن ما سيأتي من وصفٍ لابن القَيِّم، وسردٍ لأحداث حياته، مأخوذٌ من هذه المصادر بالدرجة الأولى، فيحتاج الناظر في هذه الترجمة أن يتعرف على هذه المصادر.
وقد ترجم لابن القَيِّم جماعةٌ من معاصريه فمن بعدهم، فمن هؤلاء:
الحافظ الذهبي1 (ت748هـ) ، وتلميذه الصَّفَدِي2 (ت764هـ) ، وأبو المحاسن الحُسَينيُّ3 (ت765هـ)، وتلميذاه: ابن كثير4 (ت774هـ) ، وابن رجب5 (ت 795هـ) .
وتتفاوت هذه التراجم فيما بينها من حيث: طولها وقصرها، ونوع المادة والمعلومات التي قدمتها كل ترجمة منها.
فأطول هذه التراجم وأوفاها: ترجمة تلميذيه الصَّفَدِي، وابن رجب؛ إذ استوعبا أهمَّ المعلومات المتعلقة بحياة ابن القَيِّم - وبخاصة
1 المعجم المختص: (ص 269) .
2 الوافي بالوفيات: (2/270-272) .
3 ذيل العبر: (ص155) .
4 البداية والنهاية: (14/246-247) .
5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447 - 451) .
العلمية منها - فقد كان للصَّفَدِي جهد طيب في محاولة استقصاء شيوخ ابن القَيِّم في كل فن، وأما ابن رجب فقد بذل جهداً كبيراً في محاولة استقصاء أكبر قدر من مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله. كما أبرزَ الكثيرَ من صفاته الشخصية، وأخلاقه، وعبادته.
ويليهما في ذلك: الحافظ ابن الكثير، وقد أبرز اجتهاد ابن القَيِّم في الطلب، وتفوقه وتقدمه في علوم عديدة، وكذا أحواله في عبادته وزهده، وما تحلى به من أخلاق حميدة.
وأما الذهبي، وأبو المحاسن الدمشقي: فقد جاءت ترجمتهما مختصرة جداً؛ حيث وقعت في أسطر معدودة، ومع ذلك فإن ترجمة الذهبي تضمنت معلومات دقيقة ومفيدة على وجازتها، حتى إن أكثر من جاء بعده نقل من ترجمته. وقدم أيضاً - أعني الذهبي - رأيه الشخصي في ابن القَيِّم؛ إذ وصفه بأنه:(معجب برأيه، جرئ على الأمور) . وسيأتي رد الشوكاني على ذلك.
وأما المترجمون له ممن جاء بعده، فهم:
ابن ناصر الدين1 (ت842هـ) ، والمقريزي2 (ت 845 هـ) ، وابن حجر3 (ت852هـ) ، وابن تَغْرِي بَرْدِي4 (ت874 هـ) ،
1 الرد الوافر: (ص68 - 69) .
2 السلوك: (2/3/834) .
3 الدرر الكامنة: (4/21 - 23) .
4 النجوم الزاهرة: (10/249)، والمنهل الصافي: ج3 (ق 61 - 62)، والدليل الشافي:(2/583) .
والسخاوي1 (ت902هـ) ، والسيوطي2 (ت911هـ) ، والنعيمي3 (ت 927هـ) ، والداودي4 (ت 945هـ) ، وابن العماد5 (ت1089هـ) ، والشوكاني6 (ت1250هـ) ، وصديق حسن7 (ت 1307هـ) ، والآلوسي8 (ت1317هـ) ، وابن بدران9 (ت 1346هـ) ، والشطي10 (ت 1379هـ) ، وأحمد قدامة11 (قَدَّمَ لكتابه سنة 1385هـ) ، وعمر رضا كحَّالة12 وغيرهم.
ولم تقدم هذه المصادر زيادة على المصادر السابقة، بل إن أكثرها ينقل عن تلك المصادر.
إلا أننا - مع ذلك - يمكن أن نلمح بعض الأمور التي تستحق التنبيه عليها في بعض هذه المصادر المتأخرة؛ فقد أفاد المقريزي مثلاً: أن ابن القَيِّم رحمه الله قدم القاهرة مراراً. وأما ابن حجر: فقد قَدَّمَ رأيه
1 نقل ترجمته وكلامه في ابن القَيِّم: صديق حسن في (التاج المكلل: ص 419) .
2 بغية الوعاة: (1/62 - 63) .
3 الدارس في تاريخ المدارس: (2/90) .
4 طبقات المفسرين: (2/90 - 93) .
5 شذرات الذهب: (6/168 - 170) .
6 البدر الطالع: (2/143 - 145) .
7 التاج المكلل: (ص 416 - 420) .
8 جلاء العينين: (ص 30 - 31) .
9 منادمة الأطلال: (ص240 - 242) .
10 مختصر طبقات الحنابلة: (61 - 62) .
11 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/267) .
12 معجم المؤلفين: (9/106 - 107) .
الشخصي عن بعض الجوانب في حياة ابن القَيِّم العلمية، فرأى أن ابن القَيِّم مع جودة تصانيفه وعذوبة أسلوبها، فإنها لا تخرج عن أقوال شيخه ابن تَيْمِيَّة، مع تصرفه في ذلك 1.
وأما الشوكاني رحمه الله: فقد تضمنت ترجمته دفاعاً قوياً عن ابن القَيِّم رحمه الله، وبخاصة في الرد على ما قاله الذهبي، كما سيأتي ذكر ذلك.
وفي مقابل ذلك نجد الكتب الأخرى لم تقدم أي جديد؛ فابن تغري بردى - مثلاً - مع أنه ترجم لابن القَيِّم في ثلاثة من كتبه، إلا أنه لم يضف جديداً، فنقل في (المنهل الصافي) كلام شيخه الصَّفَدِي بحروفه، ولم يزد على ذلك شيئاً، واختصر ذلك في سطرين في (الدليل الشافي) . وهكذا باقي المترجمين.
وبذلك تبقى المصادر المتقدمة هي الأصل في استيفاء مقاصد ترجمة ابن القَيِّم رحمه الله، وبخاصة: الصَّفَدِي، وابن كثير، وابن رجب.
1 وقد أجاب عن ذلك الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله، فأجاد وأفاد، وكان مما قال: "
…
لكن محل البحث هو ترتيب هذه النتيجة وهي (أنه لا يخرج عن شيء من أقواله) على هذه المحبة - يعني محبة ابن القَيِّم لشيخه - فإنَّ فيها نوع إجمال مانع من فهم المراد. فإن كان المراد أن ابن القَيِّم آلة ليس له سوى فضل الجمع والتهذيب والترتيب والانتصار لآراء شيخه لا للدليل وما يؤيده الدليل. فهذا سبيله الرفض، وفهمه بعيد من كلمة الحافظ ابن حجر.
وإن كان المراد: أن ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - مع محبته لشيخه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله فإنه إنما ينتصر لأقواله ومفرداته عن دليل وقناعة لا مجرد تبعية. فنعم، وهذا المراد هو الأقرب لجلالة الحافظ ابن حجر واتصافه بالإنصاف". انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 86 - 88) .
بعض الدراسات الحديثة عن ابن القَيِّم:
من المناسب في هذا المقام - ونحن بصدد الحديث عن مصادر ترجمة ابن القَيِّم - أن نشير إلى بعض الدراسات التي قام بها بعض المعاصرين حول ابن القَيِّم وجهوده العلمية المختلفة.
فمما وقفت عليه من ذلك:
1-
(ابن قَيِّم الجوزية: حياته وآثاره) للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد.
وهو من أجمع وأنفع ما كتب حول ابن القَيِّم وآثاره العلمية، مع قيامه - أثناء الكتاب - بالرد على كثير من الشبه والافتراءات التي أثارها بعض الحاقدين على ابن القَيِّم.
والكتاب مطبوع عدة طبعات.
2-
(ابن القَيِّم وموقفه من التفكير الإسلامي) للدكتور عوض الله حجازي، وقد نال به درجة الدكتوراه سنة 1947م.
قال عنه الشيخ بكر أبو زيد: "ومع أنه خَلَفِيُّ العقيدة، فإن كتابته هي أرق وأغزر رسالة درست حياة ابن القَيِّم رحمه الله"1.
3-
(ابن القَيِّم: من آثاره العلمية) لأحمد ماهر محمد البقري.
حصل به الباحث على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية، بجامعة الإسكندرية، وطبع سنة 1397هـ.
1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص117) حاشية 4.
وقد تناول فيه المؤلف جوانب عدة من حياة ابن القَيِّم العلمية: في اللغة، والتفسير وغيرهما، مع مباحث أخرى حول ثقافة ابن القَيِّم، وآثاره.
4-
(ابن قَيِّم الجوزية: عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف) للدكتور عبد العظيم عبد السلام شرف الدين، طبع للمرة الثالثة سنة 1405هـ وقد بذل فيه مؤلفه جهداً ظاهراً.
5-
(ابن قَيِّم الجوزية: جهوده في الدرس اللغوي) للدكتور طاهر سلمان حموده. طبع بالإسكندرية، سنة 1396هـ.
وقد بحث فيه المؤلف الجانب اللغوي عند ابن القَيِّم، فدرس منهجه في: النحو والإعراب، ثم في: المعنى. مع كتابته ترجمة جيدة لابن القَيِّم.
6-
(ابن القَيِّم وحسه البلاغي في تفسير القرآن) للدكتور عبد الفتاح لاشين، وهو مطبوع.
7-
(ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف) للدكتور عبد الله محمد جار النبي. حصل به المؤلف على درجة الدكتوراه، من جامعة أم القرى، بمكة المكرمة. وطبع بمكة سنة 1406هـ.
وقد أبرز فيه المؤلف جهود ابن القَيِّم في الدفاع عن عقيدة السلف، وذلك بعرض آراء المخالفين لعقيدة السلف، ثم إيراد رد ابن القَيِّم عليهم من خلال أبحاثه التي طرقها في أكثر كتبه.
8-
(الفكر التربوي عند ابن القَيِّم) للدكتور حسن على الحجاجي، حصل به المؤلف على درجة الدكتوراه من كلية العلوم الاجتماعية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وطبع سنة 1408هـ بجدة.
وقد عرض فيه المؤلف آراء ابن القَيِّم التربوية في أسلوب شيق، وترتيب ممتع، مستشهداً في كل قضية بكلام ابن القَيِّم في كتبه المختلفة.
والكتاب نافع جداً ومفيد في بابه.
9-
(منهج ابن القَيِّم في التفسير) لمحمد أحمد السنباطي.
ذكر فيه آراء ابن القَيِّم في التفسير، وهو مطبوع.
تلك هي أبرز الدراسات التي وقفتُ عليها حول ابن القَيِّم رحمه الله في عصرنا الحاضر.
وقد اشتملت كل هذه الدراسات على ترجمة لحياة ابن القَيِّم الشخصية والعلمية، وكان أوفاها في ذلك: كتاب الشيخ بكر أبي زيد حفظه الله، وقد استفدت منه كثيراً في دراستي لابن القَيِّم.
وبالإضافة إلى هذه الدراسات، فقد ترجم لابن القَيِّم أغلبُ المحققين لكتبه1.
1 انظر مقدمة التحقيق للكتب التالية: (أحكام أهل الذمة) تحقيق الدكتور/ صبحي الصالح، و (زاد المعاد) تحقيق/ شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، و (الصواعق المرسلة) تحقيق الدكتور/ علي بن محمد الدخيل الله، و (شرح القصيدة النونية) لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، وغير ذلك من كتبه.
الفصل الأول: عصر ابن القَيِّم وبيئته
لا شك أن هناك علاقة وثيقة، وصلة وطيدة بين المرء وبيئته التي عاش وترعرع فيها، وبين الصفات التي تميز شخصيته، ولذلك فإنه من الضروري عند دراسة شخصية من الشخصيات إلقاء الضوء على الزمان والمكان اللذين وُجِدت فيهما تلك الشخصية، وبخاصة أولئك الذين يعيشون أحداث عصرهم، ولهم صلة بمشكلاته، وعلى رأس هؤلاء: الدعاة، والمصلحون، والعلماء.
فكما أن لهؤلاء العلماء أثراً واضحاً في مجتمعاتهم وأهل عصرهم: تربيةً، وإصلاحاً، ونشراً للخير والفضيلة، فإن للعصر وأحداثه - أيضاً - تأثيراً بالغاً فيهم، وذلك من حيث: نوع المشكلات والأدواء التي يهتمون بمعالجتها، والطريقة التي يسلكونها في ذلك، وما يرونه أولى بصرف العناية إليه من غيره، وكذا من ناحية نظرة حُكَّام ذلك العصر للعلم وأهله، ومدى تجاوبهم مع رسالة العلماء، إلى غير ذلك من الأمور التي لها أثر مباشر على أهل العلم ودعوتهم.
وقد رأيت أن يكون هذا الفصل مشتملاً على بيان لكل من: الحالة السياسية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية لهذا العصر، وذلك ضمن مباحث أربعة:
المبحث الأول: الحالة السياسية
لقد عاش ابن القَيِّم رحمه الله في الشام في أواخر القرن السابع ومنتصف القرن الثامن الهجري (691 - 751هـ) .
ولو عدنا إلى ما قبل مولد ابن القَيِّم رحمه الله بفترة ليست بالبعيدة، لوجدنا أن العالم الإسلامي قد مني بكارثة مروعة، وذلك حين اجتاح التتار العالم الإسلامي، واستولوا على بغداد عاصمة الخلافة، وقتلوا خليفة المسلمين المستعصم بالله، حتى (بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التُّلُول)1. وذلك في سنة (656هـ) .
ثم ما كان بعد من لطف الله - سبحانه - بالعباد والبلاد، حين رد كيد هؤلاء الغزاة، وهزمهم شر هزيمة على يد الملك المظفر قطز2 - سلطان مصر - وذلك بعد أن استولى التتار على معظم مدن الشام، وفي عزمهم الزحف إلى مصر وكانت هزيمتهم في سنة (658هـ)(وجاءت البشارة، ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه)3.
1 البداية والنهاية: (13/216) ، حوادث سنة (656هـ) .
2 سيف الدين، قطز بن عبد الله المُعِزّي، كان من مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، وكان فارساً، شجاعاً، بطلاً، ديناً كثير الخير، محبباً إلى الرعية، هزم الله على يديه التتار، ونصر به الإسلام، قتل سنة (658هـ) .
3 البداية والنهاية: (13/231- 235) ، حوادث سنة (658هـ) .
كما أن العالم الإسلامي تعرض -أيضاً- للغزو الصَّليبي الحاقد، فاستولى الصليبيون على كثير من ديار المسلمين، واستمرت الحروب بينهم وبين المسلمين قرنين من الزمان، يصيبون من المسلمين، ويصيب المسلمون منهم، إلى أن منَّ الله سبحانه - وله الحمد - بتطهير البلاد منهم في سنة (690هـ) - قبل مولد ابن القَيِّم بسنة - على يد الملك الأشرف خليل بن قلاوون1، فما حَلَّت سنة (690هـ) إلا وقد (فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مُدَدٍ متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة)2.
تلك أهم المؤثرات السياسية الخارجية التي تعرض لها العالم الإسلامي - وبخاصة مصر والشام - في ذلك العصر، وما تركته تلك الحروب من آثار على العالم الإسلامي آنذاك، كان من أهمها:
- إحياء روح الجهاد في نفوس الأمة، والرغبة في التضحية وبذل النفس في سبيل الله سبحانه.
- توحيد الصفوف عند نزول المحن والشدائد، وبخاصة إذا كان الخطر المحدق يهدد الإسلام والمسلمين.
- كشفت هذه الحروب عن بعض المنافقين أعداء الإسلام وأهله،
1 خليل بن قلاوون، الملك الأشرف بن الملك المنصور - قلاوون - وليَ السلطة بعد موت أبيه المنصور في سنة 689هـ، وكان شجاعاً مهاباً كريماً، مات مقتولاً سنة 693هـ.
انظر: البداية والنهاية: (17/667)، والدليل الشافي:(1/292) .
2 البداية والنهاية: (13/338) ، حوادث سنة (690هـ) .
من: الرافضة، والنصارى، وغيرهم ممن كانوا عوناً لأعداء الإسلام، وكان أشرّ هؤلاء جميعاً الرافضة، وعلى رأسهم ابن العلقمي - وزير الدولة حينذاك - حيث إنه اجتهد في (صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان
…
إلى أن لم يبق منهم سوى عشرة آلاف - وقد كانوا مائة ألف - ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً في أن يزيل السُنَّةَ بالكُلِّيَة، وأن يُظْهِرَ البدعة الرافضيَّة، وأن يقيمَ خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين
…
) 1.
وبالرغم من أن هذه الأحداث سابقة لمولد ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه أفاد منها واستوعب دروسها جيداً، فكان يحذر المسلمين من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر، ويُبَيِّنُ خطرهم على الإسلام وأهله، يقول رحمه الله في حق الرافضة:
"وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رؤوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات2 المسلمين وعلماؤهم وعُبَّادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جَرَّائهم؟ ومُظَاهَرَتُهُم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة"3.
هكذا أفاد ابن القَيِّم من أحداث التاريخ في دعوته، ومن هنا يتأكد
1 البداية والنهاية: (13/215) ، حوادث سنة (656هـ) .
2 سَرَاةُ: كل شيء أعلاه. والجمع: سروات. (مختار الصحاح، مادة: سرا) .
3 مدارج السالكين: (1/83) .
لنا: إلى أي حد كان ابن القَيِّم رحمه الله متأثراً بأحداث عصره، وإلى أي حدٍّ استطاع أن يُسَخِّر دروس هذه الأحداث في خدمة أهدافه ومبادئه، وكيف اشتعلت غيرته الدينية رحمه الله على حرمات الإسلام التي انتهكت، وعلى صفوة علمائه وعُبَّادِه الذين راحوا ضحية حقد الرافضة وكيدهم للإسلام وأهله.
تلك أبرز الآثار التي تركتها هذه الحروب على المسلمين في ذلك العصر.
وإذ قد استعرضنا أهم المؤثرات الخارجية في الظروف السياسية للدولة، يحسن أن نتعرف - كذلك - على أوضاع الدولة وسياستها الداخلية في تلك الفترة.
حكم المماليك لمصر والشام:
خضعت مصر والشام لحكم المماليك فترة طويلة من الزمن، والمماليك: أصلهم من الرقيق الذين كان حكام الدولة الأيوبية - ومن قبلهم العباسيون - يشترونهم، حتى جاء عهد الملك نجم الدين أيوب، فاستكثر منهم، واتخذهم جنوده وأعوانه1.
أما عن قيام دولتهم: فإنه لما توفي الملك الصالح أيوب في سنة (647هـ) متأثراً بمرضه- فيما كان منشغلاً بقتال الفرنج عند المنصورة- استُدْعِيَ ابنه المعظم تورانشاه من الشام، وبويع له بالملك، وقاتل الفرنج قتالاً عظيماً، إلا أن مماليك أبيه قتلوه، وأقاموا عليهم عزَّ الدين أيبك
1 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص1-2) .
التركماني، ولقبوه: بالملك المعز1، وكان ذلك في سنة (648هـ) .
وقد قضى المماليك بذلك على آخر سلاطين الدولة الأيوبية، وأقاموا أول سلاطين دولتهم: عز الدين أيبك2.
وفور سماع الأمراء الأيوبيين في الشام بمقتل تورانشاه، ثارت ثورتهم، وأخذوا يستعدون لغزو مصر والقضاء على دولة المماليك الناشئة، وظل الأمر مُتَوتِّرًا حتى تم الاتفاق بين المماليك والأيوبيين على اقتسام السلطة بينهم: مصر، وفلسطين حتى نهر الأردن، مع غزة والقدس للماليك، وبقية بلاد الشام للأيوبيين، وذلك في سنة (651هـ)3.
ثم لما هزم الله التتار على يد المماليك كما مضى - بعد أن فر الأيوبيون من أمامهم - استقرت الأمور نسبياً للماليك في بلاد الشام، وأصبح نوَّابُ الشام - بالرغم من تمتعهم بالسلطان والنفوذ - تابعين لسلطة المماليك بالقاهرة، التي كانت عاصمة الدولة ومقر الحكومة آنذاك4. وبذلك أصبحت الشام - موطن ابن القَيِّم - خاضعة في حكمها لسلطة المماليك، والسلطان يستنيب عليها من شاء من الأمراء.
ويصف الدكتور صفوح خير الوضع آنذاك بقوله: "ثم أصبح مماليك مصر سادة الشام بعد انتصارهم الكبير على المغول في عين
1 البداية والنهاية: (13/188 - 190) ، حوادث سنة (648هـ) .
2 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص 9 - 11) .
3 البداية والنهاية: (13/196)، والعصر المماليكي في مصر والشام:(ص15 - 17) فما بعدها.
4 العصر المماليكي: (ص 197 - 204) .
جالوت
…
وأصبحت سوريا بكاملها - اعتباراً من هذا التاريخ - مقاطعة ملحقة بدولة مصر، وعلى رأس هذه الدولة: المماليك الترك الذين ثاروا على سادتهم سلاطين الأيوبيين" 1.
إحياء الخلافة العباسية:
ثم إنه تم على يد المماليك إعادة منصب الخلافة، وذلك بعد أن ظل شاغراً منذ مقتل الخليفة المستعصم على أيدي التتار سنة (656هـ) .
ففي سنة (659هـ) خرج المستنصر بالله أحمد بن الظاهر من معتقله ببغداد، ثم قدم على الظاهر بيبرس في مصر، وبعد ثبوت نسبه بايعه الملك الظاهر، والقاضي، والوزير، والأمراء، وخُطِبَ له على المنابر، وضرب اسمه على السِّكَّة2، ثم قُلِّدَ الظاهر بيبرس السلطة في السنة نفسها3، فكان ذلك بمثابة اعترافٍ رسمي بشرعية حكم الدولة المملوكية آنذاك.
ولكن هل كان لمنصب الخليفة هذه المرة قيمة فِعْلِيَّة؟ أم أن ذلك لم يكن إلا أمراً شكلياً يضفي على سلطة المماليك وحكمهم للبلاد الصبغة الشرعية فحسب؟
الواقع أن الأمر لم يكن إلا شكلاً، مع خلوه عن كل مضمون حقيقي لصفة الخليفة، وممارسته لصلاحياته في حكم البلاد.
1 مدينة دمشق - دراسة في جغرافية المدن: (172 - 173) .
2 السكة: حديدة منقوشة تطبع بها الدراهم والدنانير.
3 البداية والنهاية: (13/244 - 245) .
ولقد أحسَّ ابن القَيِّم رحمه الله بمرارة هذا الأمر، وتأسف لما وصل إليه حال الخليفة في تلك الأيام، فأخذ يُعَبِّرُ عن ذلك في مؤلفاته وكتاباته، فقال مرة - في معرض ذَمِّهِ للمعرضين عن نصوص الوحي، الْمُقَدِّمين عليها آراء الرجال:"أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السِّكة والخطبة، وما له حكم نافذ ولا سلطان"1.
وهكذا يتأثر ابن القَيِّم رحمه الله مرة أخرى بأحداث مجتمعه، فلا يجد إلا قلمه يصوِّر به بعض تلك الأحداث، لافتاً بذلك الأنظار إلى وضع خاطئ، ومرض يحتاج إلى علاج.
والواقع أن الأمر بالنسبة للخليفة لم يقف عند مجرد إهماله، وتدبير الأمر دونه، بل تعدَّى ذلك إلى إهانة السلطان له، بل واعتقاله وتشريده؛ فقد استهلت سنة (737هـ) "والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس) 2. ولم تستهل السنة التي بعدها إلا والخليفة المستكفي (منفيٌّ ببلاد قوص، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به
…
"3. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
التنافس والتناحر بين سلاطين المماليك:
أما عن الأمراء والسلاطين الذين حكموا البلاد في تلك الفترة: فقد كانوا في حالة يرثى لها من التناحر، والتطاحن، والتنافس، والتقاتل فيما بينهم.
1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص42) .
2 البداية والنهاية: (14/187) .
3 البداية والنهاية: (14/190) .
فإن هؤلاء المماليك - الذين كانوا أرقَّاء في خدمة السلاطين - قد وصل أكثرهم إلى مناصب مرموقة، وكثر اتخاذ الأمراء منهم، ومن ثَمَّ أصبح كل واحد منهم يتطلع إلى الجلوس على كرسي السلطة، ولا يرى لغيره ميزة في التقدم عليه، واعتلاء السلطة دونه.
فأخذ كل واحد منهم يقوِّي من أمر نفسه، ويكثر من المماليك حوله، حتى إذا سنحت له فرصة انقض على السلطان القائم فقتله، أو سجنه، أو نفاه، ثم يحل محله في حكم البلاد.
ولم يكن الطمع في السلطة وحده هو الدافع إلى التخلُّص من السلطان القائم، بل إن مجرد عدم رضى الأمراء عن السلطان، أو خوفهم من بطشه بهم، كان مسوِّغاً - كذلك - لإقصائه أو التخلص منه.
ومن يستعرض تاريخ تلك الدولة يجد من ذلك عجباً، إذ إن العَدْوَ على السلطان القائم، وقتله أبشع قتلة، لم يكن أمراً مستغرباً آنذاك، حتى إن كلَّ واحد منهم كان يتوقع أن يأتي دوره في أية لحظة، وكان لا يستبعد ذلك، فالأمراء الذين قتلوا المظفر قطز - ظلماً وعدواناً - قيل: إنهم لما قتلوه "حار الأمراء بينهم فيمن يُوَلُّون المُلْك، وصار كلُّ واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعاً
…
" 1.
فقد اعتلى كرسيَّ السلطنة في الفترة (648 - 784هـ) - وهي ستة وثلاثون عاماً، هي فترة حكم دولة المماليك الأولى - تسعةٌ وعشرون حاكماً، قُتِل أكثرهم أو خُلِع، وقليل منهم توفي أو اعتزل2.
1 البداية والنهاية: (13/236) ، حوادث سنة (658هـ) .
2 انظر: (التاريخ الإسلامي - العهد المملوكي) لمحمود شاكر: (ص 35 - 39) .
تلك هي أبرز السمات المميزة للناحية السياسية التي عاشتها تلك الدولة:
- أخطار خارجية محدقة بالدولة، تمثلت في حروب التتار والصليبيين ضد الدولة.
- ومناوشات وعداوات بين المماليك في مصر والملوك الأيوبيين في الشام، عقب قضاء المماليك على آخر ملوكهم.
- وتناحر وتقاتل بين سلاطين الدولة أنفسهم.
- مع ضياع سلطة الخليفة في وسط هذه الأحداث، وعدم تمكينه من القيام بأعباء الخلافة، أو تصريف شيء من أمور الدولة.
ولا يخفى ما خلَّفَتْه هذه القلاقل والاضطرابات من آثار على الناس في ذلك الوقت: من عدم الأمن والاستقرار، وارتفاع الأسعار وغلاء الأقوات، مع حرمان الناس من المشاركة في حكم بلادهم؛ إذ كان ذلك لطائفة المماليك دون غيرهم، إلى غير ذلك من الأوضاع السيئة التي كان لها أسوأ الأثر على حياة الناس حينذاك.