الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: الشَّاذ
تعريفه: اخْتُلِفَ في تعريف الحديث الشاذ على أقوال، أرجحها: أنه: مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه. قال الحافظ ابن حجر: "وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح"1. وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وجماعة من أهل الحجاز2.
وعلى هذا المذهب: لابد أن يتوافر للحكم بالشذوذ شرطان:
الأول: أن يكون الْمُتَفَرِّد ثقة.
الثاني: أن يكون هذا المتفرد مخالفاً لمن هو أرجح منه: لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من المرجحات.
وقد حَدَّ الخليلي الشاذ: بمطلق التفرد، ولم يقيده بالمخالفة، ولا بكون المتفرد ثقة3.
وذهب الحاكم إلى تقييد الشاذ: بتفرد الثقة، ولكنه لم يشترط فيه المخالفة4.
والراجح هو التعريف المتقدم أولاً، كما مضى في كلام ابن حجر، ورجحه أيضاً ابن كثير5.
1 انظر: (نخبة الفكر مع نزهة النظر) : (ص35) .
2 مقدمة ابن الصلاح: (ص36)، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح:(2/653) .
3 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) .
4 معرفة علوم الحديث: (ص119) .
5 اختصار علوم الحديث: (ص58) .
وقد حَرَّرَ ابن الصلاح أن الشاذ المردود على قسمين:
أحدهما: الحديث الفرد الذي خالف راويه من هو أولى منه في الحفظ والضبط.
الثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يكون جابراً لما يوجبه التفرد من النكارة والضعف1.
وهذا الذي حرره ابن الصلاح في حد الشاذ وصفته قال به ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنه قال - عند كلامه على صفة الراوي المقبول وشروط قبول خبره -: "أن لا يشذ عن الناس: فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يتابع عليه، وليس ممن يُحتمل ذلك منه: كالزهري، وعمرو بن دينار، وسعيد بن المسيب، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة ونحوهم؛ فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط.
فأما مثل: سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وجعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر ونحوهم: فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأساً. وأما إذا روى أحدهم ما يخالف الثقات فيه، فإنه يزداد وهناً على وهن"2.
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص37) .
2 الفروسية: (ص 53 - 54) .
وهذا الكلام من ابن القَيِّم رحمه الله يُحَدِّدُ بوضوحٍ صفة الحديث الشاذ بقسميه المتقدم بيانهما عند ابن الصلاح، فقد بيّن رحمه الله أن الشاذ هو:
1-
أن يروي الثقة ما يخالفه فيه من هو أوثق وأكبر.
2-
أو: ينفرد بما لا يتابع عليه، وليس هو ممن يحتمل تفرده، وذلك لقلة ضبطه، وعدم تمام حفظه. وهذا بخلاف تفرد الثقة الضابط، فإنه مقبول محتج به.
ويؤكد ابن القَيِّم رحمه الله هذا المعنى ويزيده وضوحاً، فيذكر أن التفرد أنواع، وأنه ليس كل تفرد يكون الحديث بموجبه شاذاً، فيقول رحمه الله:
"التفرد نوعان:
1-
تفرد لم يُخَالَف فيه من تفرد به؛ كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين1، وأشباه ذلك.
2-
وتفردٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن2 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلولم يرو هذا عن ابن جريج، وتفرد همام بحديثه، لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه.
1 يشير إلى تفرد مالك بحديث: " دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر". وتفرد عبد الله بن دينار بحديث: "النهي عن بيع الولاء وهبته".
2 وهو حديث: "وضع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه إذا دخل الخلاء".
فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1.
ففي هذا الكلام منه رحمه الله بيان للفرق بين تَفَرُّدِ الثقة بما لم يروه غيره - مع كونه ممن يحتمل تفرده -: فهذا مقبول، وبين تفرد الثقة بما يخالفه فيه الثقات: فهذا الذي يكون شاذاً مردوداً، وهذا الفرق سبق بيانه واضحاً في كلام ابن الصلاح وغيره.
ويؤكد هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقول رحمه الله: "والتَّفَرُّدُ الذي يُعَلَّلُ به: هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها.
وأما الثقة العدل: إذا روى حديثاً وتفرد به، لم يكن تفرده علة، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم عملت بها الأمة"2.
ويشير مرة إلى أن تفرد الثقة - إذا لم يخالف - لا يضر، فيقول في حديث السعاية، وما قيل من تفرد ابن أبي عروبة به:"ثم لو قدر تفرد سعيد به لم يضره"3.
فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم رحمه الله قد حرر بكلامه هذا: معنى الشاذ، وصورته الصحيحة، وبيّن الفرق بين التفرد الذي يعد شذوذاً وما لا يكون كذلك.
1 تهذيب السنن: (1/29- 30) .
2 تهذيب السنن: (3/224) .
3 تهذيب السنن: (5/399) .
ومع ذلك، فكأنه رحمه الله أراد التنزل مع من يسمي تفرد الثقة غير المخالف "شاذاً"، فذهب إلى القول: بأن ذلك وإن سمي شاذاً، فإنه ليس بمردود بل هو محتج به.
وقد سبق أن هذا المعنى وقع في تعريف الحاكم رحمه الله للشاذ، فهو عنده: تفرد الثقة دون متابع.
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "
…
فأما إذا روى الثقة حديثاً منفرداً به، لم يرو الثقات خلافه: فإن ذلك لا يُسمى شاذاً، وإن اصطلح على تسميته شاذاً بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح مُوجباً لرده، ولا مُسوِّغاً له".1
وقال مرة في حديث صيام ست شوال: "فإن قيل: مداره على عمر بن ثابت الأنصاري، لم يروه عن أبي أيوب غيره، فهو شاذ، فلا يحتجُّ به.
قيل: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث الأعمال بالنيات"2.
وذلك محمول - كما تَقَدَّمَ - على التنزل منه رحمه الله مع المخالفين، وإلا فقد سبق تأكيده على أن هذا ليس شاذاً، ونقلنا كلامه في ذلك، والله أعلم.
1 إغاثة اللهفان: (1/296) .
2 تهذيب السنن: (3/313) .