الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد
الاعتبار: "هو الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد". قاله الحافظ ابن حجر1.
ذلك أن الأئمة يأتون إلى الحديث الذي يُظن كونه فرداً، فينظرون: هل وافق راويه أحد غيره على روايته أم لا؟ وذلك بالبحث والتفتيش في: الصِّحَاح، والجوامع، والمسانيد، والمعاجم، والفوائد، والمشيخات وغيرها. فهذا النظر والتفتيش يسمى "اعتباراً".
فإن وُجِدَ أحد شارك هذا الراوي فرواه عن شيخه، أولم يوجد ولكن وُجد من رواه عن شيخ شيخه، وهكذا حتى الصحابي، فعند ذلك يُسمى حديث هذا المُشارك:"متابعة". وكلما بَعدت المشاركة عن ذلك الراوي الذي اعتبرت روايته، كلما كانت المتابعة أنقص وأقصر.
فإن فُقِدَت المتابعة بهذا المعنى، ولكن وُجِدَت رواية هذا الحديث أو معناه عن صحابي آخر، فهو:"الشاهد".
فعُلِمَ بذلك أن الاعتبار: هو عملية البحث والتفتيش عن متابع أو شاهد للحديث الذي يُظن أنه فردٌ، فإن فُقِدَتْ المتابعاتُ والشواهدُ فالحديث بذلك يكون فرداً2.
1 النكت على ابن الصلاح: (2/681) .
2 انظر: التقييد والإيضاح: (ص109- 111)، وتدريب الراوي:(1/241- 245) .
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب:
المسألة الأولى: هل يتقوَّى الحديث الضعيف بتعدد طرقه؟
جمهور أئمة الحديث على أن الحديث الضعيف يَتَقَوَّى بمجيئه من طرق أخرى، قال الإمام الزركشى: "وَشَذَّ ابنُ حزم عن الجمهور، فقال: ولو بلغت طرق الضعيف ألفاً لايقوى
…
"1.
وقال ابن دقيق العيد: "قد عُلِمَ أن تَضَافَرُ الرواةِ على شيء، ومتابعة بعضهم لبعض في حديث: مِمَّا يَشُدُّهُ ويقويه، وربما التحق بالحسن وما يحتجُّ به"2.
ولقد كان ابن القَيِّم رحمه الله موافقاً للجمهور في القول بتقوية الضعيف بتعدد طرقه.
ومن أقواله رحمه الله في ذلك:
أنه قال في أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء فيها من أمرهصلى الله عليه وسلم بما يفيد الوجوب، قال:"الدليل الرابع - يعني من أدلة الوجوب -:ثلاثة أحاديث كل منها لا تقوم به الحجة عند انفراده، وقد يقوي بعضها بعضاً عند الاجتماع"3.
1 البحر الذي زخر: (3/1075) .
2 المصدر السابق: (3/1080) .
3 جلاء الأفهام: (ص199) .
وقال رحمه الله عند كلامه على مقدار زكاة الفطر: "وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضاً"1.
وقال في حديث اعتداد أم سلمة رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها في الصَّبِر: "لا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار" قال:
"وَذَكَرَ أبو عمر في "التمهيد" له طرقاً يشدُّ بعضها بعضاً"2.
فهذه بعض الأقوال لابن القَيِّم فيما يتعلق بتقوية الضعيف واعتضاده بتعدد الطرق.
المسألة الثانية: كتابة الحديث الضعيف للاعتبار به، دون اعتماد عليه.
كثير من الأئمة يكتبون الحديث الضعيف ويخرجونه في كتبهم في باب المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد"3.
وقال النووي رحمه الله: "وإنما يفعلون هذا - يعني إدخال الضعفاء في المتابعات والشواهد - لكون التابع لا اعتماد عليه، وإنما
1 زاد المعاد: (2/19) .
2 زاد المعاد: (5/703) .
3 شرح علل الترمذي: (ص112) .
الاعتماد على من قبْله"1.
قال السخاوي - عقب نقله كلام النووي هذا -: "ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كل من المُتابِعِ والمتابَع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة"2.
فالحاصل: أن الأئمة رحمهم الله يكتبون حديث الضعيف - ضعفاً قريباً- متابعةً واستشهاداً، ويكون اعتمادهم على الرواية الأصلية إن كانت مما يصلح لذلك، أو يكون الاعتماد على مجموع الروايتين معاً إذا كان كل منهما لا ينتهض للحجة بانفراده.
وقد أشار ابن القَيِّم رحمه الله إلى جواز كتابة الحديث الضعيف وذكره في المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه وحده، فمن ذلك:
ما جاء عنه في حديث بلال بن الحارث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "إنه من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها
…
". وقد رُوِيَ من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وضَعَّفَهُ بعضهم،
فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "لكن هذا الأصل ثابت من وجوه: كحديث: " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه"
…
1 شرح صحيح مسلم: (1/34) .
2 فتح المغيث: (1/205) .
وحديث: " من دل على خير، فله مثل أجر فاعله" وهو حديث حسن".
قال: "فهذا الأصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات، فلا يَضُرُّ ذكره"1.
وقال أيضاً - عند ذكره أحاديث الفطر بالحجامة -: "إن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها
…
والباقي إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده، وإما ضعيف فهو يصلح للشواهد والمتابعات، وليس العمدة عليه"2.
فظهر بذلك: موافقةُ ابن القَيِّم رحمه الله لأئمة هذا الشأن في جواز ذكر الضعيف في المتابعات والشواهد، دون الاعتماد عليه.
1 مفتاح دار السعادة: (1/76) .
2 تهذيب السنن: (3/247 - 248) .