الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبجث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد
…
المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد
اشتراط العدالة والضبط في الراوي:
قال ابن الصلاح رحمه الله: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه: على أنه يُشْتَرط فيمن يحتجُّ بروايته أن يكون عدلاً، ضابطاً لما يرويه
…
"1.
فَبَيَّنَ رحمه الله بذلك: أن رُكْنَي القبول للراوي هما: العدالة، والضبط. وقد سَبَقَ ضمن مباحث الحديث الصحيح الكلام عن هذين الشرطين.
وقد عَبَّرَ ابن القَيِّم رحمه الله عن ضرورة توافر هذين الشرطين فيمن تقبل روايته، فقال: "
…
اشْتُرِطَ فيها - أي الرواية - ما يكون مُغَلِّباً على الظن صدقَ الْمُخْبر، وهو: العدالةُ المانعةُ من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.
فالشطرُ الأولُ من كلامِهِ يشيرُ إلى شرطِ العدالة، والشطرُ الثاني يشير إلى شرطِ الضبطِ.
ومن المسائل التي تتعلق بالكلام على صفة من تُقْبَل روايته ومن ترد:
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 50)
2 بدائع الفوائد: (1/5) .
إنكار الأصل تحديث الفرع:
إذا روى ثقة عن شيخ ثقة - أيضا ً- حديثاً، فأنكر الشيخ هذا الحديث ونفاه، فإن لذلك صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون الشيخ جَازِمَاً بِرَدِّهِ، فيقول:"ما رويته"، أو:"كذب عليّ". فعند ذلك يتعارض الجزمان، والشيخُ هو الأصل، فيجبُ رَدّ حديثِ فَرْعِهِ تبعاً لذلك1.
وإنِّمَا رُدَّ الخبر لكذبِ واحدٍ منهما لا بعينه، كما قال ابن حجر رحمه الله2.
وفي هذه الحالة - حالة جزم الشيخ بالنفي - سَوَّى ابن الصلاح رحمه الله وتبعه الحافظ ابن حجر3- بين تصريح الشيخ بكذب الراوي، وبين مجرد الإنكار. إلا أن السخاوي رحمه الله حكى خلافاً بين المحدثين في الصورة الثانية خاصة - وهي إنكار الشيخ الرواية دون تكذيب - وأن بعضهم قال بقبول الرواية في هذه الحالة4.
الصورة الثانية: ألا يجزم الشيخ برد ذلك المروي، كأن يقول:"لا أذكره"، أو:"لا أعرفه" أو نحو ذلك من الألفاظ التي تقتضي نسيانه، فإن ذلك لا يوجب رد رواية الراوي، بل تقبل عند الجمهور من المحدثين، ومعظم الفقهاء5.
1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 55) .
2 نزهة النظر: (ص61) .
3 نزهة النظر: (ص61) .
4 فتح المغيث: (1/340 - 341) .
5 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .
وَحُكِيَ عن قوم من الحنفية القول بإسقاط المروي في هذه الحالة، وعدم قبوله.
وَرَدَّ ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا مُتَعِقَّبٌ بأن عدالةَ الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي"1.
وقد تناول ابن القَيِّم رحمه الله هذه القضية وبيّن رأيه فيها، فإنه لمّا تكلم على حديث: ربيعة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد، وأن سُهَيلاً لما عرض عليه قال:"لا أحفظه"، ثم إنه - يعني سُهيلاً- رواه عن ربيعة - راويه عنه - فقال:"أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه"، وقد طعن قوم في الحديث بسبب ذلك، فأجاب ابن القَيِّم عن ذلك - مصححاً الحديث - بقوله: "
…
إنَّ هذا يدل على صدق الحديث؛ فإن سُهيلاً صَدَّقَ ربيعة، وكان يرويه عنه عن نفسه، ولكنه نسيه، وليس نسيان الراوي حجة على من حفظ.
الثالث: أن ربيعة من أوثق الناس، وقد أخبر أنه سمعه من سهيل، فلا وجه لرد حديثه ولو أنكره سهيل، فكيف ولم ينكره، وإنما نسيه للعلة التي أصابته؟ وقد سمعه منه ربيعة قبل أن تصيبه تلك العلة"2.
فتضمن كلامه رحمه الله أموراً، وهي:
1 نزهة النظر: (ص62) .
2 تهذيب السنن: (5/226) .
1-
أن الأصل قد صَدَّقَ الفرع، وكان يرويه عنه، مما يؤكد صدق الفرع، وهذا صريح في كلامه رحمه الله.
2-
أن الأصل نَسِيَ الحديث لِعِلَّة أصابته، والنسيان لا يوجب رد الحديث، فمن حفظ حجة على من نسي.
3-
أن الفرع إذا كان ثقة وأخبر أنه سمعه، فلا وجه لرد الحديث وإن أنكره الأصل، وهذا مفهوم من قوله عن سهيل:"فكيف ولم ينكره؟ ".
وهذا الكلام منه رحمه الله لا غبار عليه، وهو متفقٌ مع ما تَقَدَّمَ تقريره في هذه المسألة، إلا أنه لم يتعرض لحالة انضمام التكذيب إلى الإنكار.
فيمكن أن يُحْمَلَ كلامُ ابن القَيِّم رحمه الله على القبول في حالة إنكار الشيخ دون تكذيب، أو يكون قد اختار من الخلاف في هذه الصورة - حتى مع التكذيب -: القول بعدم الرد، والله أعلم.