الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الحالة الدينية
في ظل هذا الوضع السياسي المتردي، وهذه الظروف غير المستقرة، ساءت الحالة الدينية في البلاد، وضعف الوازع الديني في نفوس الكثيرين، وَاْرْتُكِبَت الكثير من المحرمات، وشاعت المنكرات.
ولقد كان الكثيرُ من الأمراء والسلاطين قدوةً سيئة في هذا الجانب، وذلك بما شانوا به أنفسهم من حياة اللهو والبذخ والانحلال والترف، فنجد أحدهم - وهو الملك المنصور - قد "صدر عنه من الأفعال التي ذكر أنه تعاطاها من شرب المسكر، وغشيان المنكرات، وتعاطي ما لا يليق به
…
"1.
هذا إلى جانب سفك كل واحد منهم دم الآخر طمعاً في المنصب والسلطة كما تقدم.
ولقد انتشر حينذاك التعصب المذهبي، وأدى إلى كثير من الخلافات بين العلماء أنفسهم، فضلاً عن بقية الناس، حتى إن الجامع الأموي في دمشق كان يوجد به إمام لكل مذهب، ولكل إمام محراب، ويشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى شيء من الاختلاف في الجامع، فيقول:"وأمر الكاملُ في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحدٌ منهم المغرب سوى الإمام الكبير، لِمَا كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد، وَلَنِعْمَ ما فعل"2.
1 البداية والنهاية: (14/204) حوادث سنة (742هـ) .
2 البداية والنهاية: (13/159) .
وكانت هذه الخلافات تؤدي في بعض الأحيان إلى الشحناء والقطيعة بين العلماء، حتى إن السلطان كان يتدخل في ذلك للإصلاح بينهم، ويَحْكِي ابن كثير رحمه الله موقفاً من هذه المواقف - وكان حاضره - فيقول:"وجلس نائبُ السلطة في صدر المكان، وجلسنا حوله، فكان أول ما قال: كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا، فصرنا نحن إذا اختلفتِ العلماءُ واختصموا فمن يصلح بينهم؟ وشرع في تأنيب من شنَّع على الشافعيّ"1.
وقد كانت العقائد المختلفة المخالفة لعقيدة أهل السنة منتشرة حينذاك، وربما أدت إلى وقوع الخلاف والفتن أيضاً؛ ففي المحرم من سنة 716هـ (وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق، فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز، فأصلح بينهم)2. كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله.
ولعله رحمه الله يشير بهذه الحادثة إلى الخلاف بين الأشعرية3 - الذين كانوا جمهور الشافعية وقتئذ - وبين الحنابلة أهل الحديث والأثر، فالخلاف بينهم في ذلك الوقت معروف، والنزاع بينهم
1 البداية والنهاية: (14/332) .
2 البداية والنهاية: (14/78) .
3 وينسبون إلى أبي الحسن الأشعري (ت324هـ) ، ويثبتون لله سبع صفات فقط، وهي: العلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والحياة، وهذه الصفات قديمة قائمة بذاته، وأما صفات الأفعال، مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة فهي حادثة. ولهم غير ذلك من الاعتقادات التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة. انظر: الملل والنحل (1/119) ، ورسالة في الرد على الرافضة (ص166) .
مضطرم "زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة العقائد، واعتماد الأشاعرة على الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي في دراستها"1.
ولقد كان لابن القَيِّم رحمه الله موقفه الواضح في هذه القضية، من: الانتصار لعقيدة أهل السنة والجماعة، والوقوف في وجه الأشاعرة، كما يتضح ذلك من مؤلفاته العديدة في هذا الصدد.
هذا عن النزاعات العقدية والمذهبية في ذلك الوقت، التي كانت - ولاشك - من عوامل الفوضى الدينية، والتفرق والاختلاف.
كما انتشرت في ذلك الوقت بعض الفرق الضالة التي تنتسب - كذباً - إلى الإسلام، مع شدة عداوتها وحربها لأهله، وعلى رأس هذه الفرق: الرَّافِضَة2، والنُّصَيْرِيَّة3 وغيرهما، وما كان لهذه الفرق
1 الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص76) .
2 وسموا بذلك: لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج على هشام بن عبد الملك، فطعن عسكره في أبي بكر، فمنعهم من ذلك فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم: رفضتموني؟ قالوا: نعم. فيقي عليهم هذا الإسلام.
وهم فِرق عديدة، ويقولون بإمامة عليٍّ وتفضيله على سائر الصحابة، ويتبرءون من أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة، ومنهم من يسب الصحابة ويلعنهم، قبحهم الله. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (ص77)، والفَرْقُ بين الفِرَق:(ص15– 17) .
3 وهم يُنْسبون إلى محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكري، وادَّعى النبوة، ثم ادَّعى الربوبية.
ومن اعتقاداتهم: أن الله كان يَحلُّ في علي، وأنه في اليوم الذي قلع فيه باب خيبر كان الله - تعالى عما يقولون - قد حلَّ فيه. ولهم غير ذلك من الاعتقادات الباطلة. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (ص91 - 92) ، والمذاهب الإسلامية- لمحمد أبي زهرة (ص94 - 95) .
من أثر في زعزعة الاستقرار الديني في المجتمع، والكيد للمسلمين، وقد تقدم ما فعلته الرافضة بالمسلمين أثناء غزو التتار.
ولقد كان هؤلاء الرافضة - ولله الحمد - يُقَابَلُون بالقتل والتنكيل عندما يُصرِّح أحدهم بكفره؛ ففي سنة (744هـ) "وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرَّفض الدال على الكفر
…
) 1. ووجد رجل آخر، اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي يسب الصحابة ويقول: كانوا على الضلالة، (فعند ذلك حُمِلَ إلى نائب السلطنة، وشهد عليه قوله: كانوا على الضَّلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه، وأحرقته العامة، قَبَّحَهُ الله"2.
ولم تكن النُّصَيْرِيَّة أخف شرّاً ولا أقل ضرراً من أولئك الرافضة، بل إنهم خرجوا في سنة (717هـ) عن الطاعة، وادَّعوا الألوهية لعليِّ، وكفَّروا المسلمين، ودخلوا مدينة (جَبَلَة) وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وسَبُّوا الشيخين، وخربوا المساجد واتخذوها خَمَّارَات إلى أن "جُرِّدَت إليهم العساكر، فهزموهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً
…
وقتل المهدي أضلهم"3.
وإلى جانب وجود هذه الفرق المعادية للإسلام والسنة وأهلها، وجدت في أوساط الناس البِدَعُ والخرافات، والاعتقاد في الأشخاص من
1 البداية والنهاية: (14/222) ، حوادث سنة (744هـ)
2 البداية والنهاية: (14/325) ، حوادث سنة (766هـ) .
3 البداية والنهاية: (14/86) ، حوادث سنة (717هـ) .
المشعوذين والدجالين، وقد كان لانتشار فرق الصوفية حينذاك دورٌ كبيرٌ في شيوع هذه الخرافات والترويج لها، وزاد الأمر سوءاً: تشجيع بعض الأمراء لهم، بل والعناية بأمرهم، والإنفاق عليهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الاعتقاد فيهم؛ كما كان من أمر الظاهر بيبرس؛ إذ كان له شيخ اسمه الخضر بن أبي بكر العدوي، وكان الظاهر "يعظمه تعظيماً زائداً، وينزل إلى عنده إلى زاويته في الأسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره، ويكرمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحةٍ مطابقةٍ؛ إما رحمانيةٍ أو شيطانية
…
" 1. وشيخ آخر اسمه ناصر الدين بن إبراهيم العثماني "كان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد، وَوَصَلَهُ منه افتقاد" 2.
كما انتشر الْمُنَجِّمُون، وكثر قصد الناس لهم، حتى كانت سنة (733هـ)"أمر السلطان بتسليم المُنَجِّمِين إلى والي القاهرة، فضربوا وحبسوا؛ لإفسادهم حال النساء"3.
أما البدع التي سادت المجتمع في ذلك الوقت فكثيرة، كبدعة الوَقِيْد في المسجد الأموي بدمشق في ليلة النصف من شعبان، وذلك أن الناس يشعلون في هذه الليلة في المسجد قناديل زيادة عما فيه، ويعتقدون أنهم إن لم يفعلوا ذلك في عام مات السلطان، مع إحياءِ هذه الليلة، وفي سنة (751هـ) - عام وفاة ابن القَيِّم رحمه الله – "بطل الوقيد بجامع
1 البداية والنهاية: (17/538 - 539) ، حوادث سنة (676هـ) .
2 البداية والنهاية: (14/66) ، حوادث سنة (711هـ) .
3 البداية والنهاية: (14/169) ، حوادث سنة (733هـ) .
دمشق، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة، وفرح أهل العلم بذلك وأهل الديانة، وشكروا الله -تعالى- على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد" 1.
كما سادت المجتمع ألوانٌ من الشركيات؛ كالتبرك بالأحجار والجمادات ونحو ذلك، من ذلك ما حكاه ابن كثير رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، من أنه في شهر رجب سنة (704هـ) :"راح الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه - ومعه حَجَّارون - بقطع صخرة كانت بنهر قَلُوطٍ تزار ويُنْذَر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن الناس شبهة كان شرُّهَا عظيماً"2.
كما انتشرت المعاصي والمنكرات بين الناس: من شرب للخمر والحشيش، واحترافِ بعض النساء للبغاء وغير ذلك، حتى إن جماعة من مجاوري الجامع بدمشق جاءوا في سنة (758هـ)"إلى أماكن مُتَّهَمَةٍ بالخمر وبيع الحشيش، فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها، وأتلفوا شيئاً كثيراً من الحشيش وغيره"3.
بل قد وُجِدَ من الأمراء من يضمن هذه المنكرات والفواحش نظير
1 البداية والنهاية: (14/247) ، حوادث سنة (751هـ) .
2 البداية والنهاية: (14/36) ، حوادث سنة (704هـ) .
3 البداية والنهاية: (14/269) ، حوادث سنة (758هـ) .
أجر معلوم يأخذه على ذلك، كما كان من حال سيف الدين قَبْجَق1 نائب دمشق؛ فإنه "ضَمِنَ الخَمَّارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجُعِلَت دار ابن جَرَادة
…
خَمَّارَة وحانة أيضاً، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهمٍ، وهي التي دمَّرته ومحقت آثاره"2.
ومن المنكرات التي سادت المجتمع أيضاً: الغناء والطرب، وقد أعلن ابن القَيِّم رحمه الله حرباً لا هوادة فيها على الغناء وأهله، وبَيَّنَ شَبَهَهُم، ودحض مزاعمهم في استحلال ذلك، حتى إنه أفرد لذلك مؤلفاً كما سيأتي، كما اعتنى بذلك في مؤلفاته الأخرى، وبخاصة (إغاثة اللهفان) ، وما ذلك إلا دليلٌ على شيوع هذا البلاء في زمنه، واستفحال أمره.
تلك هي أهم مظاهر الفساد الديني في ذلك الوقت، ولا شك أن مثل هذه البيئة وما فيها من مفاسد ومخالفات شرعية، من أكبر العوامل التي تُحَرِّكُ الدعاة المخلصين، والعلماء العاملين، للقيام بمجابهة هذه المنكرات، والتحذير منها، والتنبيه على خطرها، ومحاولة الأخذِ بأيدي الناس إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم.
ولقد كان لابن القَيِّم رحمه الله في هذا الباب جهد مشكور؛ فإنه يُعَدّ واحداً من أبرز علماء هذه الأمة الذين حملوا راية الإصلاح الديني في ذلك العصر، ولا يزال صدى دعوته وأثرها يعمل عمله في الناس إلى يومنا هذا، وسيظل كذلك إن شاء الله.
1 له ترجمة في البداية والنهاية: (18/107) ، حوادث سنة 710هـ، والدليل الشافي:(2/533) .
2 البداية والنهاية: (14/11) ، حوادث سنة (699هـ) .