الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس عشر: مُخْتَلِفُ الحديث
تعريفه: قال النووي رحمه الله: "هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً، فَيُوَفَّقُ بينهما أو يرجَّح أحدهما"1.
أقسامه: ينقسم مختلف الحديث إلى قسمين:
أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، فَيَتَعَيَّن حينئذ المصير إلى ذلك، والقول بهما جميعاً.
الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، وهذا يكون على ضربين:
1-
أن يظهر كون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فَيُعْمَلُ بالناسخ ويَتْرَكُ المنسوخ.
2-
أن لا تقوم دلالة على النسخ، فَيُصَارُ إلى ترجيحِ أحدهما على الآخرِ بوجه من وجوه الترجيح2.
فَتَبَيَّنَ من ذلك: الخطوات التي ينبغي أن تسلك فيما ظاهره التعارض، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "فصار ما ظاهره التعارض واقعاً على هذا الترتيب:
1 التقريب: (ص33) .
2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص 143)، والتدريب:(2/196- 198) .
- الجمع إن أمكن،
- فاعتبار الناسخ والمنسوخ،
- فالترجيح إن تعين،
- ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين"1.
وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم رحمه الله أنَّ الأحاديث التي ظاهرها التعارض لا تخرج عن أحد ثلاث حالات، فقال: "فإذا وقع التعارض:
- فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً، فالثقة يغلط.
- أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ.
- أو يكون التعارض في فهم السامع، لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم.
فلابد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة"2.
فقد بَيَّنَ ابن القَيِّم رحمه الله بهذه القسمة العقلية أن الحديثين إذا وقع بينهما تعارض: فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالهما، أو أن أحدهما لا يكون من كلامه، ويكون أحد الرواة غلط فجعله من كلامه، كمن يرفع الموقوف أو يزيد لفظة ليست من كلامه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.
1 نزهة النظر: (ص 39) .
2 زاد المعاد: (4/149) .
فإذا ثبت أن أحد الخبرين ليس من كلامه فلا إشكال، فإن الضعيف لا يُعَارَضُ به الثابت الصحيح.
وأما إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما جميعاً: فإنه ينظر في نسخ أحدهما بالآخر إذا ثبت تأخر أحدهما. فإن لم نجد سبيلاً إلى نسخ أحدهما بالآخر، فإنه يتعين الجمع بينهما، وحينئذ لا يكون هناك تعارض في واقع الأمر، وإنما التعارض في فهم السامع.
شرط وقوع التعارض:
لابد للحكم على حديثين بالتعارض، وجعلهما من باب مختلف الحديث: أن يكون كل منهما مُحْتَجًّا به، أما إن كان أحدهما لا يُقْبَلُ بحال، فإنه لا يُعَارَضُ به القوي؛ إذ إنه - والحالة هذه - لا أَثَر له.
وقد بين ابن القَيِّم رحمه الله ذلك وأكده، فقال:"لا يجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به"1.
وقال: "ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا توجب سقوط الحكم بالصحيحة، والأحاديث الصحيحة يصدق بعضها بعضاً"2.
1 تهذيب السنن: (6/324) .
2 أحكام أهل الذمة: (2/641) .
ذِكْرُ بعض وجوه الترجيح التي استعملها ابن القَيِّم رحمه الله:
فمن وجوه الترجيح التي استعملها عند التعارض، أو أشار إليها:
1-
أن يكون رواة أحد الخبرين من أهل الرجل - صاحب القصة - وخاصته، فإنهم أعلم به من غيرهم، فيقدم خبرهم.
قال ابن القَيِّم رحمه الله في قصة توبة كعب بن مالك وانخلاعه من ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:"أمسك عليك بعض مالك" من غير تعيين لقدره، وما عارض ذلك من أنه عَيَّنَ له الثلث، قال مُقَدِّماً رواية عدم التعيين:
"فإن الصحيح
…
ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري، عن ولد كعب بن مالك، عنه
…
وهم أعلمُ بالقصةِ من غيرهم؛ فإنهم وَلَدُهُ، وعنه نقلوها"1.
وقال في حديث جابر رضي الله عنه في قصة الصلاة على شهداء أحد: "وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"2.
2-
أن يكون عمل الصحابة أو أكثرهم - ولاسيما الخلفاء
1 زاد المعاد: (3/586 - 587) .
2 تهذيب السنن: (4/296) .
الراشدين - موافقاً لأحد الخبرين، فيقدم على ما لم يكن كذلك.
قال أبو داود رحمه الله: "إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر بما أخذ به أصحابه"1.
قال ابن القَيِّم في ترجيحه أحاديث المزارعة على غيرها: "الأحاديث إذا اختلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد تقدم ذكر عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وغيرهم من الصحابة بالمزارعة"2.
وقال عند الكلام على أحاديث نقض الوضوء بمس الذَّكَر: "لو قُدِّر تعارض الخبرين من كل وجه، لكان الترجيح لحديث النقض؛ لقول أكثر الصحابة به: منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان رضي الله عنهم
…
"3.
قال الحازمي رحمه الله في وجه الترجيح بعمل الصحابة والخلفاء: "
…
فيكون إلى الصحة أقرب، والأخذ به أصوب"4.
1 السنن: (2/428) .
2 تهذيب السنن: (5/60) .
3 تهذيب السنن: (1/135) .
4 الاعتبار: (ص19) .
3-
أن يكون أحد الخبرين جاء بالشك، والآخر مجزوماً به، فَتُقَدَّم روايةُ الجازم على رواية الشاكِّ.
قال ابن القَيِّم في حديث تعريف اللُّقَطَة، وتقديم الرواية التي فيها التعريف سَنَة، على حديث أُبَيٍّ الذي فيه: أن التعريف ثلاث سنين: "ووقع الشك في رواية حديث أُبَيِّ بن كعب أيضاً: هل ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟ وفي الأخرى: عامين أو ثلاثة؟ فلم يجزم، والجازم مَقَدَّمٌ"1.
وقال عند الكلام على رمي الجمرة، وقول ابن عباس رضي الله عنه:"ما أدري أَرَمَاهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع؟: "قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة بسبع حصيات من رواية: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر. وشكُّ الشاكِّ لا يُؤَثِّرُ في جَزْمِ الجازم"2.
4-
تقديم ما أخرجاه في "الصحيحين" أو أحدهما على ما لم يُخَرَّجْ فيهما3.
قال ابن القَيِّم رحمه الله في قصة صلاة معاذ بقومه وتطويله عليهم:
1 تهذيب السنن: (2/268) .
2 تهذيب السنن: (2/417 - 418) .
3 وقد ذكر العراقي ذلك من المرجحات، التقييد والإيضاح:(ص 289) .
"الذي في الصحيحين: أنه قرأ سورة البقرة
…
وقصة قراءته بـ (اقتربت) لم تُذْكَر في الصحيح، والذي في الصحيح أولى بالصحة منها"1.
5-
تقديم خبر الْمُثْبتِ على خبرِ النَّافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم خَفِيَتْ على النافي.
قال ابن القَيِّم في حديث جابر في الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، وما جاء في حديث أسامة بن زيد من قوله: "أُقِيْمت الصلاة فصلَّى المغرب
…
ثم أقَيِّمت العشاء فصلاها" قال في حديث أسامة هذا: "
…
وسكت عن الأذان
…
بل لو نفاه جملة، لَقُدِّمَ عليه حديث من أَثْبَتَهُ؛ لِتَضَمُّنِهِ زيادة خفيت على النافي"2.
وقال رحمه الله في الأحاديث التي تثبت سجوده صلى الله عليه وسلم في المفصل، والأحاديث التي تنفي ذلك:"فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لَتَعَيَّنَ تقديم حديث أبي هريرة؛ لأنه مثبتٌ معه زيادةُ علمٍ خفيت على ابن عباس"3.
6-
أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه، والآخر لم
1 الصلاة: (ص 191 - 192) .
2 تهذيب السنن: (2/402) .
3 زاد المعاد: (1/364) .
تختلف، فَيُقَدَّمُ الذي لم يختلف على غيره1.
قال ابن القَيِّم رحمه الله في ترجيح حديث بُسْرَة في نقض الوضوء بِمَسِّ الذَّكَر على حديث طَلْق في عدم النقض:
"أن طلقاً قد اختلفت الرواية عنه، فروي عنه: "هل هو إلا بضعة منك؟ " وروى أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً: "من مسَّ فرجه فليتوضأ"" 2
7-
الترجيح بكثرة عدد الرواة لأحد الخبرين.
قال الحازمي: "وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر"3. وقال السيوطي: "لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل"4.
وقد رَجَّحَ ابن القَيِّم رحمه الله بالكثرة، فقال في أحاديث النقض بمس الذكر أيضاً: "أن رواة النقض أكثر
…
فإنه من رواية: بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد"5.
وبعد، فهذه أبرز الْمُرَجِّحَات التي وقفتُ عليها في كلامِ ابن القَيِّم وأبحاثه في الترجيح بين الأخبار.
1 وانظر: الاعتبار: (ص15) .
2 تهذيب السنن: (1/135) .
3 الاعتبار: (ص11) .
4 تدريب الراوي: (2/198) .
5 تهذيب السنن: (1/135) .