الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وَأما الذُّرِّيَّة فَالْكَلَام فِيهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ
الْمَسْأَلَة الأولى فِي لَفظهَا وفيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنَّهَا من ذَرأ الله الْخلق أَي نشرهم وأظهرهم إِلَّا أَنهم تركُوا همزها استثقالا فأصلها ذريئة بِالْهَمْز فعيلة من الذرء وَهَذَا اخْتِيَار صَاحب الصِّحَاح وَغَيره
وَالثَّانِي أَن أَصْلهَا من الذَّر وَهُوَ النَّمْل الصغار وَكَانَ قِيَاس هَذِه النِّسْبَة ذُرِّيَّة بِفَتْح الذَّال وبالياء لكِنهمْ ضمُّوا أَوله وهمزوا آخِره وَهَذَا من بَاب تَغْيِير النّسَب
وَهَذَا القَوْل ضَعِيف من وُجُوه مِنْهَا مُخَالفَة بَاب النّسَب وَمِنْهَا إِبْدَال الرَّاء يَاء وَهُوَ غير مقيس
وَمِنْهَا أَن لَا اشْتِرَاك بَين الذُّرِّيَّة والذر إِلَّا فِي الذَّال وَالرَّاء وَأما فِي الْمَعْنى فَلَيْسَ مَفْهُوم أَحدهمَا مَفْهُوم الآخر
وَمِنْهَا أَن الذَّر من المضاعف والذرية من المعتل أَو المهموز فأحدهما غير الآخر
وَالْقَوْل الثَّالِث أَنَّهَا من ذرا يذرو إِذا فرق من قَوْله تَعَالَى
{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} الْكَهْف 45 وَأَصلهَا على هَذَا ذريوه فعلية من الذرو ثمَّ قلبت الْوَاو يَاء لسبق إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ
وَالْقَوْل الأول أصح لِأَن الِاشْتِقَاق وَالْمعْنَى يَشْهَدَانِ لَهُ فَإِن أصل هَذِه الْمَادَّة من الذرء
قَالَ الله تَعَالَى {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَام أَزْوَاجًا يذرؤكم فِيهِ} الشورى 11
وَفِي الحَدِيث أعوذ بِكَلِمَات الله التامات الَّتِي لَا يجاوزهن بر وَلَا فَاجر من شَرّ مَا خلق وذرأ وبرأ
وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الاعراف 179
وَقَالَ تعالي {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} النَّحْل 13
فالذرية فعلية مِنْهُ بِمَعْنى مفعولة أَي مذروءة ثمَّ أبدلوا همزها فَقَالُوا ذُرِّيَّة
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي معنى هَذِه اللَّفْظَة
وَلَا خلاف بَين أهل اللُّغَة أَن الذُّرِّيَّة تقال على الْأَوْلَاد الصغار وعَلى الْكِبَار أَيْضا
قَالَ تَعَالَى {وَإِذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذريتي}
) الْبَقَرَة 124
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا من بعض} آل عمرَان 134
وَقَالَ تَعَالَى {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الْأَنْعَام 87
وَقَالَ تَعَالَى (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لبني إِسْرَائِيل أَن لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) الْإِسْرَاء 2 3
وَهل تقال الذُّرِّيَّة على الأباء فِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا أَنهم يسمون ذُرِّيَّة أَيْضا احْتَجُّوا على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يس 41
وَأنكر ذَلِك جمَاعَة من أهل اللُّغَة وَقَالُوا لَا يجوز هَذَا فِي اللُّغَة والذرية كالنسل والعقب لَا تكون إِلَّا للعمود الْأَسْفَل وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وإخوانهم} فَذكر جِهَات النّسَب الثَّلَاث من فَوق وَمن أَسْفَل وَمن الْأَطْرَاف
قَالُوا وَأما الْآيَة الَّتِي استشهدتم بهَا فَلَا دَلِيل لكم فِيهَا لِأَن الذُّرِّيَّة فِيهَا لم تضف إِلَيْهِم إِضَافَة نسل وإيلاد وَإِنَّمَا أضيفت إِلَيْهِم بِوَجْه مَا وَالْإِضَافَة تكون بِأَدْنَى مُلَابسَة واختصاص وَإِذا كَانَ الشَّاعِر قد أضَاف الْكَوْكَب فِي قَوْله
(إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرة
…
سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب)
فأضاف اليها الْكَوْكَب لِأَنَّهَا كَانَت تغزل إِذا لَاحَ وَظهر وَالِاسْم قد يُضَاف بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلفين إِلَى شَيْئَيْنِ وجهة إِضَافَته إِلَى أَحدهمَا غير جِهَة إِضَافَته إِلَى الْأُخَر قَالَ أَبُو طَالب فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم
(لقد علمُوا أَن ابننا لَا مكذب
…
لدينا وَلَا يعزى لقَوْل الأباطل)
فأضاف نبوته اليه بِجِهَة غير جِهَة إِضَافَته إِلَى أَبِيه عبد الله وَهَكَذَا لَفْظَة رَسُول الله فَإِن الله سُبْحَانَهُ يضيفه إِلَيْهِ تَارَة كَقَوْلِه {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولنَا} الْمَائِدَة 15
وَتارَة إِلَى الْمُرْسل إِلَيْهِم كَقَوْلِه {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} الْمُؤْمِنُونَ 69 فأضافه سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ إِضَافَة رَسُول إِلَى مرسله واضافه إِلَيْهِم إِضَافَة رَسُول إِلَى مُرْسل إِلَيْهِم
وَكَذَا لفظ كِتَابه فَإِنَّهُ يُضَاف إِلَيْهِ تَارَة فَيُقَال كتاب الله ويضاف إِلَى الْعباد تَارَة فَيُقَال كتَابنَا الْقُرْآن وَكِتَابنَا خير الْكتب وَهَذَا كثير فَهَكَذَا لفظ الذُّرِّيَّة أضيف إِلَيْهِم بِجِهَة غير الْجِهَة الَّتِي أضيف بهَا إِلَى آبَائِهِم
وَقَالَت طَائِفَة بل المُرَاد جنس بني آدم وَلم يقْصد الْإِضَافَة إِلَى الْمَوْجُودين فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا أُرِيد ذُرِّيَّة الْجِنْس
وَقَالَت طَائِفَة بل المُرَاد بالذرية نَفسهَا وَهَذَا أبلغ فِي قدرته وتعديد نعمه عَلَيْهِم أَن حمل ذُرِّيتهمْ فِي الْفلك فِي أصلاب آبَائِهِم وَالْمعْنَى أَنا حملنَا الَّذين هم ذُرِّيَّة هَؤُلَاءِ وهم نطف فِي أصلاب الْآبَاء وَقد أشبعنا الْكَلَام على ذَلِك فِي = كتاب الرّوح وَالنَّفس =
إِذا ثَبت هَذَا فالذرية الْأَوْلَاد واولادهم وَهل يدْخل فِيهَا أَوْلَاد الْبَنَات فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد إِحْدَاهمَا يدْخلُونَ وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَالثَّانيَِة لَا يدْخلُونَ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة
وَاحْتج من قَالَ بدخولهم بِأَن الْمُسلمين مجمعون على دُخُول أَوْلَاد فَاطِمَة رضي الله عنها فِي ذُرِّيَّة النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمَطْلُوب لَهُم من الله الصَّلَاة لِأَن أحدا من بَنَاته لم يعقب غَيرهَا فَمن انتسب إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم من أَوْلَاد ابْنَته فَإِنَّمَا هُوَ من جِهَة فَاطِمَة خَاصَّة وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْحسن ابْن ابْنَته إِن ابْني هَذَا سيد فَسَماهُ ابْنه وَلما أنزل الله سُبْحَانَهُ آيَة المباهلة {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم} دَعَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَاطِمَة وحسناً وَحسَيْنا وَخرج للمباهلة
قَالُوا وَأَيْضًا فقد قَالَ تَعَالَى فِي حق إِبْرَاهِيم عليه السلام {وَمن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وإلياس} الْأَنْعَام 84 85 وَمَعْلُوم أَن عِيسَى لم ينْسب إِلَى إِبْرَاهِيم إِلَّا من جِهَة أمه مَرْيَم عليها السلام
وَأما من قَالَ بِعَدَمِ دُخُولهمْ فحجته أَن ولد الْبَنَات إِنَّمَا ينتسبون إِلَى آبَائِهِم حَقِيقَة وَلِهَذَا إِذا ولد الْهُذلِيّ أَو التَّيْمِيّ أَو الْعَدوي هاشمية لم يكن وَلَدهَا هاشمياًً فَإِن الْوَلَد فِي النّسَب يتبع أَبَاهُ وَفِي الْحُرِّيَّة وَالرّق أمه وَفِي الدّين خيرهما دينا وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِر
(بنونا بَنو أَبْنَائِنَا وبناتنا
…
بنوهن أَبنَاء الرِّجَال الأباعد)
وَلَو وصّى أَو وقف على قَبيلَة لم يدْخل فِيهَا أَوْلَاد بناتها من غَيرهَا
قَالُوا واما دُخُول أَوْلَاد فَاطِمَة رضي الله عنها فِي ذُرِّيَّة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فلشرف هَذَا الأَصْل الْعَظِيم وَالْوَالِد الْكَرِيم الَّذِي لَا يدانيه أحد من الْعَالمين سرى وَنفذ إِلَى أَوْلَاد الْبَنَات لقُوته وجلالته وَعظم قدره وَنحن نرى من لَا نِسْبَة لَهُ إِلَى هَذَا الجناب الْعَظِيم من العظماء والملوك وَغَيرهم تسري حُرْمَة ايالدهم وأبوتهم إِلَى أَوْلَاد بناتهم فتلحظهم الْعُيُون بلحظ أبنائهم ويكادون يضر بون عَن ذكر آبَائِهِم صفحاً فَمَا الظَّن بِهَذَا الإيلاد الْعَظِيم قدره الْجَلِيل خطره
قَالُوا وَأما تمسككم بِدُخُول الْمَسِيح فِي ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم فَلَا
حجَّة لكم فِيهِ فَإِن الْمَسِيح لم يكن لَهُ أَب فنسبه من جِهَة الْأَب مُسْتَحِيل فَقَامَتْ أمه مقَام أَبِيه وَلِهَذَا ينْسبهُ الله سُبْحَانَهُ إِلَى امهِ كَمَا ينْسب غَيره من ذَوي الاباء إِلَى أَبِيه وَهَكَذَا كل من انْقَطع نسبه من جِهَة الْأَب إِمَّا بِلعان أَو غَيره فأمه فِي النّسَب تقوم مقَام أَبِيه وَأمه وَلِهَذَا تكون فِي هَذِه الْحَال عصبته فِي أصح الْأَقْوَال وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَات عَن الإِمَام أَحْمد وَهُوَ مُقْتَضى النُّصُوص وَقَول ابْن مَسْعُود رضي الله عنه وَغَيره وَالْقِيَاس يشْهد لَهُ بِالصِّحَّةِ لِأَن النّسَب فِي الأَصْل للْأَب فَإِذا انْقَطع من جِهَته عَاد إِلَى الْأُم فَلَو قدر عوده من جِهَة الْأَب رَجَعَ من الْأُم إِلَيْهِ وَهَكَذَا كَمَا اتّفق النَّاس عَلَيْهِ فِي الْوَلَاء أَنه لموَالِي الاب فَإِذا تعذر رُجُوعه إِلَيْهِم صَار لموَالِي الْأُم فَإِذا أمكن عوده إِلَيْهِم رَجَعَ من موَالِي الْأُم إِلَى معدنه وقراره وَمَعْلُوم أَن الْوَلَاء فرع على النّسَب يحتذى فِيهِ حذوه فَإِذا كَانَ عصبات الْأُم من الْوَلَاء عصبات لهَذَا الْمولى الَّذِي انْقَطع تعصيبه من جِهَة موَالِي أَبِيه فَلِأَن تكون عصبات الْأُم من النّسَب عصبات لهَذَا الْوَلَد الَّذِي انْقَطع تعصيبه من جِهَة أَبِيه بطرِيق الأولى وَإِلَّا فَكيف يثبت هَذَا الحكم فِي الْوَلَاء وَلَا يثبت فِي النّسَب الَّذِي غَايَته أَن يكون مشبهاً بِهِ مفرعا عَلَيْهِ وَهَذَا مِمَّا يدل على أَن الْقيَاس الصَّحِيح لَا يُفَارق النَّص أصلا ويدلك على عمق علم الصَّحَابَة رضي الله عنهم وبلوغهم فِي الْعلم إِلَى غَايَة يقصر عَن نيلها السباق وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم