الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الثَّامِن
فِي قَوْله اللَّهم بَارك على مُحَمَّد وعَلى آل محمّد
وَذكر الْبركَة وحقيقتها الثُّبُوت واللزوم والاستقرار فَمِنْهُ برك الْبَعِير إِذا اسْتَقر على الأَرْض وَمِنْه المبرك لموْضِع البروك
قَالَ صَاحب الصِّحَاح وكل شَيْء ثَبت وَأقَام فقد برك والبرك الْإِبِل الْكَثِيرَة وَالْبركَة بِكَسْر الْبَاء كالحوض وَالْجمع البرك ذكره الْجَوْهَرِي
قَالَ وَيُقَال سميت بذلك لإِقَامَة المَاء فِيهَا والبراكاء الثَّبَات فِي الْحَرْب وَالْجد فِيهَا قَالَ الشَّاعِر
(وَلَا يُنجي من الغمرات إِلَّا
…
براكاء الْقِتَال أَو الْفِرَار)
وَالْبركَة النَّمَاء وَالزِّيَادَة والتبريك الدُّعَاء بذلك
وَيُقَال باركه الله وَبَارك فِيهِ وَبَارك عَلَيْهِ وَبَارك لَهُ وَفِي
الْقُرْآن {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} النَّمْل 8
وَفِيه {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَاق} الصافات 113
وَفِيه {بَارَكْنَا فِيهَا} الاعراف 37
وَفِي الحَدِيث وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت // إِسْنَاده صَحِيح //
وَفِي حَدِيث سعد بَارك الله لَك فِي أهلك وَمَالك
الْمُبَارك الَّذِي قد باركه الله سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ الْمَسِيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} مَرْيَم 31
وَكتابه مبارك كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} الْأَنْبِيَاء 50
وَقَالَ تَعَالَى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مبارك} ص 29 وَهُوَ
أَحَق أَن يُسمى مُبَارَكًا من كل شَيْء لِكَثْرَة خَيره ومنافعه ووجوه الْبركَة فِيهِ والرب سبحانه وتعالى يُقَال فِي حَقه تبَارك وَلَا يُقَال مبارك
ثمَّ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم الْجَوْهَرِي إِن تبَارك بِمَعْنى بَارك مثل قَاتل وتقاتل قَالَ إِلَّا أَن فَاعل يتَعَدَّى وتفاعل لَا يتَعَدَّى وَهَذَا غلط عِنْد الْمُحَقِّقين وَإِنَّمَا تبَارك تفَاعل من الْبركَة وَهَذَا الثَّنَاء فِي حَقه تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لوصف رَجَعَ إِلَيْهِ كتعالى فَإِنَّهُ تفَاعل من الْعُلُوّ وَلِهَذَا يقرن بَين هذَيْن اللَّفْظَيْنِ فَيُقَال تبارك وتعالى وَفِي دُعَاء الْقُنُوت تَبَارَكت وَتَعَالَيْت وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَق بذلك وَأولى من كل أحد فَإِن الْخَيْر كُله بيدَيْهِ وكل الْخَيْر مِنْهُ صِفَاته كلهَا صِفَات كَمَال وأفعاله كلهَا حِكْمَة وَرَحْمَة ومصلحة وخيرات لَا شرور فِيهَا كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك وَإِنَّمَا يَقع الشَّرّ فِي مفعولاته ومخلوقاته لَا فِي فعله سُبْحَانَهُ فَإِذا كَانَ العَبْد وَغَيره مُبَارَكًا لِكَثْرَة خَيره ومنافعه واتصال أَسبَاب الْخَيْر فِيهِ وَحُصُول مَا ينْتَفع بِهِ النَّاس مِنْهُ فَالله تبارك وتعالى أَحَق أَن يكون متباركاً وَهَذَا ثَنَاء يشْعر بالعظمة والرفعة وَالسعَة كَمَا يُقَال تعاظم وَتَعَالَى وَنَحْوه فَهُوَ دَلِيل على عَظمته وَكَثْرَة خَيره ودوامه واجتماع صِفَات الْكَمَال فِيهِ وَأَن كل نفع فِي الْعَالم كَانَ وَيكون فَمن نَفعه سُبْحَانَهُ وإحسانه
وَيدل هَذَا الْفِعْل أَيْضا فِي حَقه على العظمة والجلال وعلو الشَّأْن وَلِهَذَا إِنَّمَا يذكرهُ غَالِبا مفتتحاً بِهِ جَلَاله وعظمته وكبرياءه
وَقَالَ تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} الْفرْقَان 1
وَقَالَ تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً منيرا} الْفرْقَان 61
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ} الْملك 1
وَقَالَ تَعَالَى عقب خلق الْإِنْسَان فِي أطواره السَّبْعَة {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} الْمُؤْمِنُونَ 14
فقد ذكر تبَارك سُبْحَانَهُ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي أثنى فِيهَا على نَفسه بالجلال وَالْعَظَمَة وَالْأَفْعَال الدَّالَّة على ربوبيته وإلهيته وحكمته وَسَائِر صِفَات كَمَاله من إِنْزَال الْفرْقَان وَخلق الْعَالمين وَجعله البروج فِي السَّمَاء وَالشَّمْس وَالْقَمَر وانفراده بِالْملكِ وَكَمَال الْقُدْرَة
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
تبَارك بِمَعْنى تَعَالَى
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس تبَارك ارْتَفع وَالْمبَارك الْمُرْتَفع
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي تبَارك بِمَعْنى تقدس وَقَالَ الْحسن تبَارك تَجِيء الْبركَة من قبله وَقَالَ الضَّحَّاك تبَارك تعظم وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد تمجد وَقَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل تبَارك فِي ذَاته وَبَارك من شَاءَ من خلقه وَهَذَا أحسن الْأَقْوَال فتباركه سُبْحَانَهُ وصف ذَات لَهُ وَصفَة فعل كَمَا قَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل
وَالَّذِي يدل على ذَلِك أَيْضا أَنه سُبْحَانَهُ يضيف التبارك إِلَى اسْمه كَمَا قَالَ تَعَالَى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام} الرَّحْمَن 78
وَفِي حَدِيث الاستفتاح تبَارك اسْمك وَتَعَالَى جدك
فَدلَّ هَذَا على أَن تبَارك لَيْسَ بِمَعْنى بَارك كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي وَأَن تبريكه سُبْحَانَهُ جُزْء مُسَمّى اللَّفْظ لَا كَمَال مَعْنَاهُ
وَقَالَ ابْن عَطِيَّة مَعْنَاهُ عظم وَكَثُرت بركاته وَلَا يُوصف بِهَذِهِ اللَّفْظَة إِلَّا الله سبحانه وتعالى وَلَا تتصرف هَذِه اللَّفْظَة فِي لُغَة الْعَرَب لَا يسْتَعْمل مِنْهَا مضارع وَلَا أَمر قَالَ وَعلة ذَلِك أَن تبَارك لما لم يُوصف بِهِ غير الله لم يقتض مُسْتَقْبلا إِذْ الله سبحانه وتعالى قد تبَارك فِي الْأَزَل قَالَ وَقد غلط أَبُو عَليّ القالي فَقيل
لَهُ كَيفَ الْمُسْتَقْبل من تبَارك فَقَالَ يتبارك فَوقف على أَن الْعَرَب لم تقله
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة تبَارك اسْمك تفَاعل من الْبركَة كَمَا يُقَال تَعَالَى اسْمك من الْعُلُوّ يُرَاد بِهِ أَن الْبركَة فِي اسْمك وَفِيمَا سمي عَلَيْهِ
وَقَالَ وأنشدني بعض أَصْحَاب اللُّغَة بَيْتا حفظت عَجزه
(إِلَى الْجذع النَّخْلَة المتبارك
…
)
فَقَوله يُرَاد بِهِ أَن الْبركَة فِي اسْمك وَفِيمَا سمي عَلَيْهِ يدل على أَن ذَلِك صفة لمن تبَارك فَإِن بركَة الِاسْم تَابِعَة لبركة الْمُسَمّى وَلِهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الْوَاقِعَة 74 و 96 والحاقة 52 دَلِيلا على أَن الْأَمر بتسبيح الرب بطرِيق الأولى فَإِن تَنْزِيه الِاسْم من تَوَابِع تَنْزِيه الْمُسَمّى
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِيهِ مَعْنيانِ أَحدهمَا تزايد خَيره وتكاثر أَو تزايد عَن كل شَيْء وَتَعَالَى عَنهُ فِي صِفَاته وأفعاله
قلت وَلَا تنَافِي بَين الْمَعْنيين كَمَا قَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل وَغَيره
وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل سَأَلت الْخَلِيل بن أَحْمد عَن تبَارك فَقَالَ تمجد وَيجمع الْمَعْنيين مجده فِي ذَاته وإفاضته الْبركَة على خلقه فَإِن هَذَا هُوَ حَقِيقَة الْمجد فَإِنَّهُ السعَة وَمِنْه مجد الشَّيْء إِذا اتَّسع واستمجد وَالْعرش الْمجِيد لسعته
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين يُمكن أَن يُقَال هُوَ من البروك فَيكون تبَارك ثَبت ودام أزلاً وأبداً فَيلْزم أَن يكون وَاجِب الْوُجُود
لِأَن مَا كَانَ وجوده من غَيره لم يكن أزلياً
وَهَذَا قد يُقَال إِنَّه جُزْء الْمَعْنى فتباركه سُبْحَانَهُ يجمع هَذَا كُله دوَام وجوده وَكَثْرَة خَيره ومجده وعلوه وعظمته وتقدسه ومجيء الْخيرَات كلهَا من عِنْده وتبريكه على من شَاءَ من خلقه وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُود من أَلْفَاظ الْقُرْآن كلهَا أَنَّهَا تكون دَالَّة على جملَة معَان فيعبر هَذَا عَن بَعْضهَا وَهَذَا عَن بَعْضهَا وَاللَّفْظ يجمع ذَلِك كُله وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع
وَالْمَقْصُود الْكَلَام على قَوْله وَبَارك على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا باركت على آل إِبْرَاهِيم فَهَذَا الدُّعَاء يتَضَمَّن إعطاءه من الْخَيْر مَا أعطَاهُ لآل إِبْرَاهِيم وإدامته وثبوته لَهُ ومضاعفته وزيادته هَذَا حَقِيقَة الْبركَة
وَقد قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيم وَآله {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاق} الصافات 112 و 113
وَقَالَ تَعَالَى فِيهِ وَفِي أهل بَيته {رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} هود 73
وَتَأمل كَيفَ جَاءَ فِي الْقُرْآن {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَاق} وَلم يذكر إِسْمَاعِيل
وَجَاء فِي التَّوْرَاة ذكر الْبركَة على إِسْمَاعِيل وَلم يذكر إِسْحَاق كَمَا تقدم حكايته وَعَن إِسْمَاعِيل سَمِعتك هانا باركته فجَاء فِي التَّوْرَاة ذكر الْبركَة فِي إِسْمَاعِيل إِيذَانًا بِمَا حصل لِبَنِيهِ من الْخَيْر وَالْبركَة لَا سيّما خَاتِمَة بركتهم وَأَعْظَمهَا وأجلها برَسُول الله صلى الله عليه وسلم فنبههم بذلك على مَا يكون فِي بنيه من هَذِه الْبركَة الْعَظِيمَة الموافية على
لِسَان الْمُبَارك صلى الله عليه وسلم وَذكر لنا فِي الْقُرْآن بركته على إِسْحَاق منبهاً لنا على مَا حصل فِي أَوْلَاده من نبوة مُوسَى عليه السلام وَغَيره وَمَا اتوه من الْكتاب وَالْعلم مستدعياً من عباده الْإِيمَان بذلك والتصديق بِهِ وَأَن لَا يهملوا معرفَة حُقُوق هَذَا الْبَيْت الْمُبَارك وَأهل النُّبُوَّة مِنْهُم وَلَا يَقُول الْقَائِل هَؤُلَاءِ أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل لَا تعلق لنا بهم بل يجب علينا احترامهم وتوقيرهم وَالْإِيمَان بهم ومحبتهم وموالاتهم وَالثنَاء عَلَيْهِم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
وَلما كَانَ هَذَا الْبَيْت الْمُبَارك المطهر أشرف بيُوت الْعَالم على الْإِطْلَاق خصهم الله سبحانه وتعالى مِنْهُ بخصائص
مِنْهَا أَنه جعل فِيهِ النُّبُوَّة وَالْكتاب فَلم يَأْتِ بعد إِبْرَاهِيم عليه السلام نَبِي إِلَّا من أهل بَيته
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعلهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأَمْره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَكل من دخل الْجنَّة من أَوْلِيَاء الله بعدهمْ فَإِنَّمَا دخل من طريقهم وبدعوتهم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ اتخذ مِنْهُم الخليلين إِبْرَاهِيم ومحمداً صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا
وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} النِّسَاء 125
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا وَهَذَا من خَواص الْبَيْت
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل صَاحب هَذَا الْبَيْت إِمَامًا للْعَالمين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} الْبَقَرَة 124
وَمِنْهَا أَنه أجْرى على يَدَيْهِ بِنَاء بَيته الَّذِي جعله قيَاما للنَّاس وقبلة لَهُم وحجاً فَكَانَ ظُهُور هَذَا الْبَيْت من أهل هَذَا الْبَيْت الأكرمين
وَمِنْهَا أَنه أَمر عباده بِأَن يصلوا على أهل هَذَا الْبَيْت كَمَا صلى على أهل بَيتهمْ وسلفهم وهم إِبْرَاهِيم وَآله وَهَذِه خَاصَّة لَهُم
وَمِنْهَا أَنه أخرج مِنْهُم الأمتين المعظمتين اللَّتَيْنِ لم تخرجا من أهل بَيت غَيرهم وهم أمة مُوسَى وَأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا وَأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم تَمام سبعين أمة هم خَيرهَا وَأَكْرمهَا على الله
وَمِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ أبقى عَلَيْهِم لِسَان صدق وثناء حسنا فِي الْعَالم فَلَا يذكرُونَ إِلَّا بالثناء عَلَيْهِم وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِم قَالَ تَعَالَى {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلام على إِبْرَاهِيم كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الصافات 108 و 110
وَمِنْهَا جعل أهل هَذَا الْبَيْت فرقاناً بَين النَّاس فالسعداء ابتاعهم ومحبوهم وَمن تولاهم والأشقياء من أبْغضهُم وَأعْرض عَنْهُم
وعاداهم فالجنة لَهُم ولأتباعهم وَالنَّار لأعدائهم ومخالفيهم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل ذكرهم مَقْرُونا بِذكرِهِ فَيُقَال إِبْرَاهِيم خَلِيل الله وَرَسُوله وَنبيه وَمُحَمّد رَسُول الله وخليله وَنبيه ومُوسَى كليم الله وَرَسُوله قَالَ تَعَالَى لنَبيه يذكرهُ بنعمته عَلَيْهِ {وَرَفَعْنَا لَك ذكرك} الانشراح 4
قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما إِذا ذكرت ذكرت معي فَيُقَال لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فِي كلمة الْإِسْلَام وَفِي الْأَذَان وَفِي الْخطب وَفِي التشهدات وَغير ذَلِك
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل خلاص خلقَة من شقاء الدُّنْيَا وَالْآخِرَة على أَيدي أهل هَذَا الْبَيْت فَلهم على النَّاس من النعم مَا لَا يُمكن إحصاؤها وَلَا جزاؤها وَلَهُم المنن الجسام فِي رِقَاب الْأَوَّلين والآخرين من أهل السَّعَادَة والأيادي الْعِظَام عِنْدهم الَّتِي يجازيهم عَلَيْهَا الله عز وجل
وَمِنْهَا أَن كل ضرّ ونفع وَعمل صَالح وَطَاعَة لله تَعَالَى حصلت فِي الْعَالم فَلهم من الْأجر مثل أجور عامليها فسبحان من يخْتَص بفضله من يَشَاء من عباده
وَمِنْهَا أَن الله سبحانه وتعالى سد جَمِيع الطّرق بَينه وَبَين الْعَالمين وأغلق دونهم الْأَبْوَاب فَلم يفتح أحد قطّ من طريقهم وبابهم
وَقَالَ الْجُنَيْد رحمه الله يَقُول الله عز وجل لرَسُوله صلى الله عليه وسلم وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَو أَتَوْنِي من كل طَرِيق أَو استفتحوا من كل بَاب لما فتحت لَهُم حَتَّى يدخلُوا خَلفك
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ خصهم من الْعلم بِمَا لم يخص بِهِ أهل بَيت سواهُم من الْعَالمين فَلم يطْرق الْعَالم أهل بَيت أعلم بِاللَّه
وأسمائه وَصِفَاته وَأَحْكَامه وأفعاله وثوابه وعقابه وشرعه ومواقع رِضَاهُ وغضبه وَمَلَائِكَته ومخلوقاته مِنْهُم فسبحان من جمع لَهُم علم الْأَوَّلين والآخرين
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ خصهم من توحيده ومحبته وقربه والاختصاص بِهِ بِمَا لم يخْتَص بِهِ أهل بَيت سواهُم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ مكن لَهُم فِي الأَرْض واستخلفهم فِيهَا واطاع أهل الأَرْض لَهُم مَا لم يحصل لغَيرهم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ أَيّدهُم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه وأعدائهم بِمَا لم يُؤَيّد غَيرهم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ محا بهم من آثَار أهل الضلال والشرك وَمن الْآثَار الَّتِي يبغضها ويمقتها مَا لم يمحه بسواهم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ غرس لَهُم من الْمحبَّة والإجلال والتعظيم فِي قُلُوب الْعَالمين مَا لم يغرسه لغَيرهم
وَمِنْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل آثَارهم فِي الأَرْض سَببا لبَقَاء الْعَالم وَحفظه فَلَا يزَال الْعَالم بَاقِيا مَا بقيت آثَارهم فَإِذا ذهب آثَارهم من الأَرْض فَذَاك أَوَان خراب الْعَالم
قَالَ الله تَعَالَى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِد} الْمَائِدَة 97
قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي تَفْسِيرهَا لَو ترك النَّاس كلهم الْحَج لوقعت السَّمَاء على الأَرْض
وَقَالَ لَو ترك النَّاس كلهم الْحَج لما نظرُوا
وَأخْبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن فِي آخر الزَّمَان يرفع الله بَيته من الأَرْض وَكَلَامه من الْمَصَاحِف وصدور الرِّجَال فَلَا يبْقى لَهُ فِي الأَرْض بَيت يحجّ وَلَا كَلَام يُتْلَى فَحِينَئِذٍ يقرب خراب الْعَالم وَهَكَذَا النَّاس الْيَوْم إِنَّمَا قيامهم بِقِيَام آثَار نَبِيّهم وشرائعه بَينهم وَقيام امورهم حُصُول مصالحهم واندفاع أَنْوَاع الْبلَاء وَالشَّر عَنْهُم بِحَسب ظُهُورهَا بَينهم وقيامها وهلاكهم وعنتهم وحلول الْبلَاء وَالشَّر بهم عِنْد تعطلها والإعراض عَنْهَا والتحاكم إِلَى غَيرهَا واتخاذ سواهَا
وَمن تَأمل تسليط الله سُبْحَانَهُ على من سلطه على الْبِلَاد والعباد من الْأَعْدَاء علم أَن ذَلِك بِسَبَب تعطيلهم لدين نَبِيّهم وسننه وشرائعه فَسلط الله عَلَيْهِم من أهلكهم وانتقم مِنْهُم حَتَّى إِن الْبِلَاد الَّتِي لآثار الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وسننه وشرائعه فِيهَا ظُهُور دفع عَنْهَا بِحَسب ظُهُور ذَلِك بَينهم
وَهَذِه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثَار رَحْمَة الله وَبَرَكَاته على أهل هَذَا الْبَيْت فَلهَذَا أمرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن نطلب لَهُ من الله تَعَالَى أَن بَارك عَلَيْهِ وعَلى آله كَمَا بَارك على هَذَا الْبَيْت الْمُعظم صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
وَمن بَرَكَات أهل هَذَا الْبَيْت أَنه سُبْحَانَهُ أظهر على أَيْديهم
من بَرَكَات الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَا لم يظهره على يَدي أهل بَيت غَيرهم
وَمن بركاتهم وخصائصهم أَن الله سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُم من خصائصهم مَا لم يُعْط غَيرهم فَمنهمْ من اتَّخذهُ خَلِيلًا وَمِنْهُم الذَّبِيح وَمِنْهُم من كَلمه تكليماً وقربه نجياً وَمِنْهُم من آتَاهُ شطر الْحسن وَجعله من أكْرم النَّاس عَلَيْهِ وَمِنْهُم من أَتَاهُ ملكا لم يؤته أحدا غَيره وَمِنْهُم من رَفعه مَكَانا عليا
وَلما ذكر سبحانه وتعالى هَذَا الْبَيْت وَذريته أخبر أَن كلهم فَضله على الْعَالمين
وَمن خصائصهم وبركاتهم على أهل الأَرْض أَن الله سُبْحَانَهُ رفع الْعَذَاب الْعَام عَن أهل الأَرْض بهم وببعثتهم وَكَانَت عَادَته سُبْحَانَهُ فِي أُمَم الْأَنْبِيَاء قبلهم أَنهم إِذا كذبُوا أنبياءهم ورسلهم أهلكهم بِعَذَاب يعمهم كَمَا فعل بِقوم نوح وَقوم هود وَقوم صَالح وَقوم لوط فَلَمَّا أنزل الله سبحانه وتعالى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن رفع بهَا الْعَذَاب الْعَام عَن أهل الأَرْض وَأمر بجهاد من كذبهمْ وَخَالفهُم فَكَانَ ذَلِك نصْرَة لَهُم بِأَيْدِيهِم وشفاء لصدورهم واتخاذ الشُّهَدَاء مِنْهُم وإهلاك عدوهم بِأَيْدِيهِم لتَحْصِيل محابه سُبْحَانَهُ على ايديهم وَحقّ بِأَهْل بَيت هَذَا بعض فضائلهم أَن لَا تزَال الألسن رطبَة بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِم وَالسَّلَام وَالثنَاء والتعظيم والقلوب ممتلئة من تعظيمهم ومحبتهم وإجلالهم وَأَن يعرف الْمُصَلِّي عَلَيْهِم أَنه لَو أنْفق أنفاسه كلهَا فِي الصَّلَاة عَلَيْهِم مَا وفى الْقَلِيل من حَقهم فجزاهم الله عَن بريته أفضل الْجَزَاء وَزَادَهُمْ فِي الْمَلأ الْأَعْلَى تَعْظِيمًا وتشريفاً وتكريما وَصلى عَلَيْهِم صَلَاة دائمة لَا انْقِطَاع لَهَا وَسلم تَسْلِيمًا