الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
الموطن الْحَادِي عشر من مَوَاطِن الصَّلَاة عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عِنْد ذكره
وَقد اخْتلف فِي وُجُوبهَا كلما ذكر اسْمه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَأَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ تجب الصَّلَاة عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسْمه وَقَالَ غَيرهمَا إِن ذَلِك مُسْتَحبّ وَلَيْسَ بِفَرْض يَأْثَم تَاركه ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت فرقة تجب الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الْعُمر مرّة وَاحِدَة لِأَن الْأَمر الْمُطلق لَا يَقْتَضِي تَكْرَارا والماهية تحصل بِمرَّة وهذ محكي عَن أبي حنيفَة وَمَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ قَالَ عِيَاض وَابْن عبد الْبر وَهُوَ قَول جُمْهُور الْأمة
وَقَالَت فرقة بل تجب فِي كل صَلَاة تشهدها الْأَخير كَمَا تقدم وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد فِي آخر الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَغَيرهمَا
وَقَالَت طَائِفَة الْأَمر بِالصَّلَاةِ أَمر اسْتِحْبَاب لَا أَمر إِيجَاب وَهَذَا قَول ابْن جرير وَطَائِفَة وَادّعى ابْن جرير فِيهِ الْإِجْمَاع وَهَذَا على أَصله فَإِنَّهُ إِذا رأى الْأَكْثَرين على قَول جعله إِجْمَاعًا يجب اتِّبَاعه والمقدمتان هُنَا باطلتان
وَاحْتج الموجبون بحجج
الْحجَّة الأولى حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل ذكرت عِنْده فَلم يصل عَليّ صَححهُ
الْحَاكِم وَحسنه التِّرْمِذِيّ وَرَغمَ أَنفه دُعَاء عَلَيْهِ وذم لَهُ وتارك الْمُسْتَحبّ لَا يذم وَلَا يدعى عَلَيْهِ
الْحجَّة الثَّانِيَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه صعد الْمِنْبَر فَقَالَ آمين آمين آمين فَذكر الحَدِيث الْمُتَقَدّم فِي أول الْكتاب وَقَالَ فِيهِ من ذكرت عِنْده فَلم يصل عَلَيْك فَمَاتَ فَدخل النَّار فَأَبْعَده الله قل آمين فَقلت آمين رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَقد تقدّمت الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْمَعْنى من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة وَجَابِر بن سَمُرَة وَكَعب بن عجْرَة وَمَالك بن الْحُوَيْرِث وَأنس بن مَالك وكل مِنْهَا حجَّة مُسْتَقلَّة وَلَا ريب أَن الحَدِيث بِتِلْكَ الطّرق المتعددة يُفِيد الصِّحَّة
الْحجَّة الثَّالِثَة مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي دَاوُد عَن الْمُغيرَة بن مُسلم عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من ذكرت عِنْده فَليصل عَليّ فَإِنَّهُ من صلى على مرّة صلى الله عَلَيْهِ عشرا صلى الله عليه وسلم
وَهَذَا // إِسْنَاد صَحِيح // وَالْأَمر ظَاهر الْوُجُوب
الْحجَّة الرَّابِعَة مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث عبد الله بن عَليّ بن حُسَيْن عَن عَليّ بن حُسَيْن عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الْبَخِيل من ذكرت عِنْده فَلم يصل عَليّ
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ قَالَ ابْن حبَان هَذَا أشبه شَيْء رُوِيَ عَن الْحُسَيْن بن عَليّ وَكَانَ الْحُسَيْن
رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قبض النَّبِي صلى الله عليه وسلم ابْن سبع سِنِين إِلَّا أشهراً وَذَلِكَ أَنه ولد لليال خلون من شعْبَان سنة أَربع وَابْن سِتّ سِنِين وَأشهر إِذا كَانَت لغته الْعَرَبيَّة يحفظ الشَّيْء بعد الشَّيْء وَقد تقدّمت الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْمَعْنى وَالْكَلَام عَلَيْهَا
قَالَ أَبُو نعيم حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله حَدثنَا الْحَارِث بن مُحَمَّد حَدثنَا عبيد الله بن عَائِشَة حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي هِلَال الْعَنزي قَالَ حَدثنِي رجل فِي مَسْجِد دمشق عَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قعد أَو قعد أَبُو ذَر فَذكر حَدِيثا طَويلا وَفِيه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن أبخل النَّاس من ذكرت عِنْده فَلم يصل عَليّ
وَقَالَ قَاسم بن أصبغ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ حَدثنَا نعيم بن حَمَّاد حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك حَدثنَا جرير بن حَازِم قَالَ سَمِعت الْحسن يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِحَسب الْمُؤمن من الْبُخْل أَن أذكر عِنْده فَلم يصل عَليّ // إِسْنَاده صَحِيح //
وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور ثَنَا هشيم بن أبي حرَّة عَن الْحسن قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كفى بن شحا أَن أذكر عِنْد
رجل فَلَا يُصَلِّي عَليّ صلى الله عليه وسلم
قَالُوا فَإِذا ثَبت أَنه بخيل فَوجه الدّلَالَة بِهِ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْبُخْل اسْم ذمّ وتارك الْمُسْتَحبّ لَا يسْتَحق اسْم الذَّم
قَالَ الله تَعَالَى {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل} الْحَدِيد 23 24 فقرن الْبُخْل بالاختيال وَالْفَخْر وَالْأَمر بالبخل وذم على الْمَجْمُوع فَدلَّ على أَن الْبُخْل صفة ذمّ
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأي دَاء أدوأ من الْبُخْل // إِسْنَاده صَحِيح //
الثَّانِي أَن الْبَخِيل هُوَ مَانع مَا وَجب عَلَيْهِ فَمن أدّى الْوَاجِب عَلَيْهِ كُله لم يسم بَخِيلًا وَإِنَّمَا الْبَخِيل مَانع مَا يسْتَحق عَلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ وبذله
الْحجَّة الْخَامِسَة أَن الله سبحانه وتعالى أَمر بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ وَالْأَمر الْمُطلق للتكرار وَلَا يُمكن أَن يُقَال التّكْرَار هُوَ كل وَقت فَإِن الْأَوَامِر المكررة إِنَّمَا تَتَكَرَّر فِي أَوْقَات خَاصَّة أَو عِنْد شُرُوط واساليب تَقْتَضِي تكرارها وَلَيْسَ وَقت أولى من وَقت فتكرر الْمَأْمُور بتكرار ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أولى لما تقدم من النُّصُوص
فَهُنَا ثَلَاث مُقَدمَات
الأولى أَن الصَّلَاة مَأْمُور بهَا أمرا مُطلقًا وَهَذِه مَعْلُومَة
الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي التّكْرَار وَهَذَا مُخْتَلف فِيهِ فنفاه طَائِفَة من الْفُقَهَاء والأصوليين وأثبته طَائِفَة وَفرقت طَائِفَة بَين الْأَمر الْمُطلق وَالْمُعَلّق على شَرط أَو وَقت فأثبتت التّكْرَار فِي الْمُعَلق دون الْمُطلق والأقوال الثَّلَاثَة فِي مَذْهَب احْمَد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا ورجحت هَذِه الطَّائِفَة التّكْرَار بِأَن عَامَّة أوَامِر الشَّرْع على التّكْرَار كَقَوْلِه تَعَالَى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوله} آل عمرَان 136 {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة} الْبَقَرَة 20 {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول) النِّسَاء 59 {وَاتَّقُوا اللَّهَ} الْبَقَرَة 194 {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} الْبَقَرَة 34 وَقَوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمرَان 200 وَقَوله تَعَالَى {وَخَافُونِ} آل عمرَان 175 {واخشوني} الْبَقَرَة 150 {واعتصموا بِاللَّه} الْحَج 78 {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} آل عمرَان 103 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} النَّحْل 91 و (أَوْفوا بِالْعُقُودِ) الْمَائِدَة 1 {وأوفوا بالعهد} الْإِسْرَاء 34 وَقَوله تَعَالَى فِي الْيَتَامَى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} النِّسَاء 5 وَقَوله {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البيع}
) الْجُمُعَة 9
وَقَوله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} إِلَى قَوْله {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} إِلَى قَوْله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} النِّسَاء 43 والمائدة 6 وَقَوله تَعَالَى {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الْبَقَرَة 45
وَقَوله تَعَالَى {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفوا} الْأَنْعَام 153
وَقَوله تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الْأَنْعَام 151 وَذَلِكَ فِي الْقُرْآن أَكثر من أَن ينْحَصر وَإِذا كَانَت أوَامِر الله وَرَسُوله على التّكْرَار حَيْثُ وَردت إِلَّا فِي النَّادِر علم أَن هَذَا عرف خطاب الله وَرَسُوله للْأمة وَالْأَمر وَإِن لم يكن فِي لَفظه الْمُجَرّد مَا يُؤذن بتكرار وَلَا فَور فَلَا ريب أَنه فِي عرف خطاب الشَّارِع للتكرار فَلَا يحمل كَلَامه إِلَّا على عرفه والمألوف من خطابه وَإِن لم يكن ذَلِك مفهوماً من أصل الْوَضع فِي اللُّغَة وَهَذَا كَمَا قُلْنَا إِن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب وَالنَّهْي يَقْتَضِي الْفساد فَإِن هَذَا مَعْلُوم من خطاب الشَّارِع وَإِن كَانَ لَا تعرض لصِحَّة الْمنْهِي وَلَا فَسَاده فِي أصل مَوْضُوع اللُّغَة وَكَذَا خطاب الشَّارِع لوَاحِد من الْأمة يَقْتَضِي معرفَة الْخَاص أَن يكون اللَّفْظ متناولاً لَهُ ولأمثاله وَإِن كَانَ مَوْضُوع اللَّفْظ لُغَة لَا يَقْتَضِي ذَلِك فَإِن هَذَا لُغَة صَاحب الشَّرْع وعرفه فِي مصَادر كَلَامه وموارده وَهَذَا مَعْلُوم بالاضطرار من دينه قبل أَن يعلم صِحَة الْقيَاس واعتباره وشروطه وَهَكَذَا فَالْفرق بَين اقْتِضَاء اللَّفْظ وَعدم اقتضائه لُغَة وَبَين اقتضائه فِي عرف الشَّارِع وَعَادَة خطابه
الْمُقدمَة الثَّالِثَة أَنه إِذا تكَرر الْمَأْمُور بِهِ فَإِنَّهُ لَا يتَكَرَّر إِلَّا بِسَبَب أَو وَقت وَأولى الاسباب الْمُقْتَضِيَة لتكرار ذكر اسْمه صلى الله عليه وسلم لإخباره برغم أنف من ذكر عِنْده فَلم يصل عَلَيْهِ وللإسجال عَلَيْهِ بالبخل واعطائه اسْمه
وَقَالُوا وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَن الله سُبْحَانَهُ أَمر عباده الْمُؤمنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عقب إخْبَاره لَهُم بِأَنَّهُ وَمَلَائِكَته يصلونَ عَلَيْهِ وَمَعْلُوم أَن الصَّلَاة من الله وَمَلَائِكَته عَلَيْهِ لم يكن مرّة وانقطعت بل هِيَ صَلَاة متكررة وَلِهَذَا ذكرهَا مُبينًا بهَا فَضله وشرفه وعلو مَنْزِلَته عِنْده ثمَّ أَمر الْمُؤمنِينَ بهَا فتكرارها فِي حَقهم أَحَق وآكد لأجل الْأَمر
قَالُوا وَلِأَن الله تَعَالَى أكد السَّلَام بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّسْلِيم وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُبَالغَة وَالزِّيَادَة فِي كميته وَذَلِكَ بالتكرار
قَالُوا وَلِأَن لفظ الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ يدل على التكثير وَهُوَ صلى وَسلم فَإِن فعل المشدد يدل على تكْرَار الْفِعْل كَقَوْلِك كسر الْخبز وَقطع اللَّحْم وَعلم الْخَيْر وَبَين الْأَمر وشدد فِي كَذَا وَنَحْوه
قَالُوا وَلِأَن الْأَمر بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي مُقَابلَة إحسانه إِلَى الْأمة وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم وَمَا حصل لَهُم ببركته من سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَعْلُوم أَن مُقَابلَة مثل هَذَا النَّفْع الْعَظِيم لَا يحصل بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مرّة وَاحِدَة فِي الْعُمر بل لَو صلى العَبْد عَلَيْهِ بِعَدَد أنفاسه لم يكن موفياً لحقه وَلَا مؤديالنعمته فَجعل ضَابِط شكر هَذِه النِّعْمَة بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْد ذكر اسْمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالُوا وَلِهَذَا أَشَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِك بتسميته من لم يصل عَلَيْهِ عِنْد ذكر اسْمه بَخِيلًا لِأَن من أحسن إِلَى العَبْد الْإِحْسَان الْعَظِيم وَحصل لَهُ بِهِ الْخَيْر الجسيم ثمَّ يذكر عِنْده وَلَا يثني عَلَيْهِ وَلَا يُبَالغ فِي مدحه وحمده وتمجيده ويبدي ذَلِك ويعيده وَيعْتَذر من التَّقْصِير فِي الْقيام بشكره وَحقه عده النَّاس بَخِيلًا لئيماً كفوراً فَكيف بِمن أدنى إحسانه إِلَى العَبْد يزِيد على أعظم إِحْسَان المخلوقين بَعضهم لبَعض الَّذِي بإحسانه حصل للْعَبد خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَنَجَا من شَرّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة الَّذِي لَا تتَصَوَّر الْقُلُوب حَقِيقَة نعْمَته وإحسانه فضلا عَن أَن يقوم بشكره أَلَيْسَ هَذَا الْمُنعم المحسن أَحَق بِأَن يعظم ويثنى عَلَيْهِ ويستفرغ الوسع فِي حَمده ومدحه إِذا ذكر بَين الْمَلأ فَلَا أقل من أَن يصلى عَلَيْهِ مرّة إِذا ذكر اسْمه صلى الله عليه وسلم
قَالُوا وَلِهَذَا دَعَا عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم برغم أَنفه وَهُوَ أَن يلصق أَنفه بالرغام وَهُوَ التُّرَاب لِأَنَّهُ لما ذكر عِنْده فَلم يصل عَلَيْهِ اسْتحق أَن يذله الله تَعَالَى ويلصق أَنفه بِالتُّرَابِ
قَالُوا وَلِأَن الله سُبْحَانَهُ نهى الْأمة أَن يجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَينهم كدعاء بَعضهم بَعْضًا فَلَا يسمونه إِذا خاطبوه باسمه كَمَا يُسَمِّي بَعضهم بَعْضًا بل يَدعُونَهُ برَسُول الله وَنَبِي الله وَهَذَا من تَمام تعزيره وتوقيره وتعظيمه فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن يخص باقتران اسْمه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ليَكُون ذَلِك فرقا بَينه وَبَين ذكر غَيره كَمَا كَانَ الْأَمر بدعائه بالرسول وَالنَّبِيّ فرقا بَينه وَبَين خطاب غَيره فَلَو كَانَ عِنْد ذكره لَا تجوز الصَّلَاة عَلَيْهِ كَانَ ذكره كذكر غَيره فِي ذَلِك هَذَا على أحد التفسيرين فِي الْآيَة وَأما على التَّفْسِير الآخر وَهُوَ أَن الْمَعْنى لَا
تجْعَلُوا دعاءه إيَّاكُمْ دُعَاء بَعْضكُم بَعْضهَا فتؤخروا الْإِجَابَة بالاعتذار والعلل الَّتِي يُؤَخر بهَا بَعْضكُم إِجَابَة بعض وَلَكِن بَادرُوا إِلَيْهِ إِذا دعَاكُمْ بِسُرْعَة الْإِجَابَة ومعالجة الطَّاعَة حَتَّى لم يَجْعَل اشتغالهم بِالصَّلَاةِ عذرا لَهُم فِي التَّخَلُّف فِي إجَابَته والمبادرة إِلَى طَاعَته فَإِذا لم تكن الصَّلَاة الَّتِي فِيهَا شغل عذرا يستباح بهَا تَأْخِير إجَابَته فَكيف مَا دونهَا من الْأَسْبَاب والأعذار فعلى هَذَا يكون الْمصدر مُضَافا إِلَى الْفَاعِل وعَلى القَوْل الأول يكون مُضَافا إِلَى الْمَفْعُول
وَقد يُقَال وَهُوَ أحسن من الْقَوْلَيْنِ إِن الْمصدر هُنَا لم يضف إِضَافَته إِلَى فَاعل وَلَا مفعول وَإِنَّمَا أضيف إِضَافَة الْأَسْمَاء الْمَحْضَة وَيكون الْمَعْنى لَا تجْعَلُوا الدُّعَاء الْمُتَعَلّق بالرسول الْمُضَاف إِلَيْهِ كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا وعَلى هَذَا فَيعم الْأَمريْنِ مَعًا وَيكون النَّهْي عَن دُعَائِهِمْ لَهُ باسمه كَمَا يَدْعُو بَعضهم بَعْضًا وَعَن تَأْخِير إجَابَته صلى الله عليه وسلم وعَلى كل تَقْدِير فَكَمَا أَمر الله سُبْحَانَهُ بِأَن يُمَيّز عَن غَيره فِي خطابه ودعائه اياهم قيَاما للْأمة بِمَا يجب عَلَيْهِم من تَعْظِيمه وإجلاله فتمييزه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْد ذكر اسْمه من تَمام الصَّلَاة
قَالُوا وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن من ذكر عِنْده فَلم يصل عَلَيْهِ خطئَ طَرِيق الْجنَّة هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ من مَرَاسِيل مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَله شَوَاهِد قد ذَكرنَاهَا فِي أول الْكتاب فلولا أَن الصَّلَاة عَلَيْهِ وَاجِبَة عِنْد ذكره لم يكن تاركها مخطئاً لطريق الْجنَّة
قَالُوا وَأَيْضًا فَمن ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو ذكر عِنْده فَلم يصل
عَلَيْهِ فقد جفاه وَلَا يجوز لمُسلم جفاؤه صلى الله عليه وسلم
فالدليل على الْمُقدمَة الأولى مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد بن الاعرابي حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْجفَاء أَن أذكر عِنْد الرجل فَلَا يُصَلِّي عَليّ صلى الله عليه وسلم وَلَو تركنَا وَهَذَا الْمُرْسل وَحده لم نحتج بِهِ وَلَكِن لَهُ أصُول وشواهد قد تقدّمت من تَسْمِيَة تَارِك الصَّلَاة عَلَيْهِ عِنْد ذكره بَخِيلًا وشحيحاً وَالدُّعَاء عَلَيْهِ بالرغم وَهَذَا من مُوجبَات جفائه
وَالدَّلِيل على الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن جفاءه منَاف لكَمَال حبه وَتَقْدِيم محبته على النَّفس والأهل وَالْمَال وَأَنه أولى بِالْمُؤمنِ من نَفسه فَإِن العَبْد لَا يُؤمن حَتَّى يكون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحب إِلَيْهِ من نَفسه وَمن وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ كَمَا ثَبت عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ يَا رَسُول الله وَالله لأَنْت أحب إِلَى من كل شَيْء إِلَّا من نَفسِي قَالَ لَا يَا عمر حَتَّى أكون احب إِلَيْك من نَفسك قَالَ فو الله لأَنْت الْآن أحب من نَفسِي قَالَ الْآن يَا عمر
وَثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ
فَذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَنْوَاع الْمحبَّة الثَّلَاثَة فَإِذا الْمحبَّة إِمَّا محبَّة إجلال وتعظيم كمحبة الْوَالِد وَإِمَّا محبَّة تَحَنن وود ولطف كمحبة الْوَلَد وَإِمَّا محبَّة لأجل الْإِحْسَان وصفات الْكَمَال كمحبة النَّاس بَعضهم بَعْضًا وَلَا يُؤمن العَبْد حَتَّى يكون حب الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عِنْده أَشد من هَذِه المحاب كلهَا
وَمَعْلُوم أَن جفاءه صلى الله عليه وسلم يُنَافِي ذَلِك
قَالُوا فَلَمَّا كَانَت محبته وَكَانَت توابعها من الإجلال والتعظيم والتوقير وَالطَّاعَة والتقديم على النَّفس وإيثاره بِنَفسِهِ بِحَيْثُ يقي نَفسه بِنَفسِهِ فرضا كَانَت الصَّلَاة عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم إِذا ذكر من لَوَازِم هَذِه الأحبية وتمامها قَالُوا وَإِذا ثَبت بِهَذِهِ الْوُجُوه وَغَيرهَا وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم على من ذكر عِنْده فوجوبها على الذاكر نَفسه أولى وَنَظِير هَذَا أَن سامع السَّجْدَة إِذا أَمر بِالسُّجُود إِمَّا وجوبا أَو اسْتِحْبَابا فوجوبها على التَّالِي أولى وَالله أعلم