الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: هل الخضر حيّ أم ميت
؟
تعرض الشيخ الأمين رحمه الله لهذه المسألة، وأطال فيها النفس جداً، وأكثر من الكلام فيها1؛ فذكر اختلاف العلماء في وفاته، ثم سرد أدلة من قال بأنه حيّ، وناقش أدلتهم، ورد عليها، ورجح رحمه الله وفاته بعدة براهين وحجج قوية؛ فقال رحمه الله:"اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر: هل هو حي إلى الآن، أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حيّ، وأنه شرب من عين تسمى عين الحياة. وممن نصر القول بحياته: القرطبي، في تفسيره2، والنووي في شرح مسلم3وغيره، وابن الصلاح4، والنقاش5، وغيرهم. قال ابن عطية: وأطنب النقاش في هذا المعنى؛ يعني حياة الخضر وبقاءه إلى يوم القيامة، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره6"7.
1 كتب عن هذه المسألة ما لايقل عن ست عشرة صفحة من تفسيره.
2 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/29.
3 انظر شرح النووي على مسلم 15/135.
4 هو الحافظ تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي. من أشهر مؤلفاته كتابه في علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح. ولد سنة (577)، وتوفي سنة (643هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 23/140. والبداية والنهاية 13/179.
5 هو الحافظ محمد بن علي بن عمر بن مهدي الأصبهاني الخليلي أبو سعيد النقاش. محدث حافظ، توفي سنة (414هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 17/307. وشذرات الذهب 3/201) .
6 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/29.
7 أضواء البيان 4/163.
ثم ذكر الشيخ الأمين رحمه الله أن أقوى ما يستند عليه من قال بحياته، ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد عن علي رضي الله عنه، قال:"لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب، هتف هاتف..إلخ"1، فذكر الحديث في تعزية الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام2.
وقد رد الشيخ رحمه الله هذا الأثر من وجهين؛ فقال: " الأول: أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح؛ قال ابن كثير في تفسيره: وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن، ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم. وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك. وأشهرها حديث التعزية، وإسناده ضعيف. ا.?3.
الثاني: أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح، لا يلزم من ذلك عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً، أن يكون ذلك المعزي هو الخضر، بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن؛ لأن الجن هم الذين قال الله فيهم:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 4. ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بلا دليل. وقولهم: كانوا يرون أنه الخضر- ليس حجة يجب الرجوع إليها؛ لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معصوم، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى"5.
ثم رجح رحمه الله موت الخضر عليه السلام مؤيداً ذلك بعدة أدلة؛
1 التمهيد لابن عبد البر 2/162. ولم يسنده، ولم يذكر الخضر.
2 انظر أضواء البيان 4/163.
3 تفسير ابن كثير 3/99. وانظر كلام أبي الخطاب بن دحية عن هذا الأثر ص410 من هذا البحث.
4 سورة الأعراف، الآية [27] .
5 أضواء البيان 4/164.
فقال رحمه الله: "الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسالة أن الخضر ليس بحيّ، بل توفي، وذلك لعدة أدلة:
الأول: ظاهر عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 1؛ فقوله: {لِبَشَرٍ} نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل البشر، فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله، والخضر بشر من قبله، فلو كان شرب من عين الحياة وصار خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"2.. أي: لا تقع عبادة لك في الأرض. فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض؛ لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يعبد في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض
…
الثالث: إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة. فلو كان الخضر حياً في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة"3.
ثم ساق الشيخ الأمين رحمه الله عدة روايات لهذا الحديث؛ منها ما رواه ابن عمر: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لايبقى ممن هو على ظهرها أحد" 4، ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري:"لا تأتي مائة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم"5.
1 سورة الأنبياء، الآية [34] .
2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1384.
3 أضواء البيان 4/164-166.
4 أخرجه مسلم 4/1965.
5 أخرجه مسلم 4/1967.
ثم ذكر رحمه الله المرجح الرابع والأخير الدال على وفاة الخضر عليه السلام وعدم بقائه، فقال:
"الرابع: أن الخضر لو كان حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه؛ لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن. والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً؛ كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1، وقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3. ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة آل عمران أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4. وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عباس وغيره فالأمر واضح على أنها عامة، فهو صلى الله عليه وسلم يدخل في عمومها دخولاً أولياً. فلو كان الخضر حياً في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته. ومما يوضح أنه لايدركه نبيّ
1 سورة الأعراف، الآية [158] .
2 سورة الفرقان، الآية [1] .
3 سورة سبأ، الآية [28] .
4 سورة آل عمران، الآيتان [81-82] .
إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة1، والبزار2من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال:" لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني "3ا.?. قال ابن حجر في الفتح: "ورجاله موثقون، إلا أن في مجالد ضعفاً4"5.
وقد أورد الشيخ الأمين رحمه الله كلاماً للقرطبي في إسقاط ونقض أدلة من قال بوفاة الخضر، ونصر القول بحياته، وذكر وجهة نظره وناقشها مناقشة دقيقة أجاب فيها على إشكالاته، ورد عليه فيها؛ فقال رحمه الله:"واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته فزعموا أنه لا يشمله عموم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 6، ولا عموم حديث: " أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظاهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم "7كما تقدم"8.
1 هو الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن القاضي ابن شيبة؛ إبراهيم بن عثمان العبسي. سيد الحفاظ. صنف المسند والمصنف والتفسير.
(انظر: سير أعلام النبلاء 11/122. والبداية والنهاية 10/328) .
2 هو الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار. صاحب المسند الكبير. من كبار الحفاظ. ولد بعد سنة (210) . ومات بالرملة سنة (292?) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 13/554. وشذرات الذهب 2/209) .
3 مسند الإمام أحمد 3/387، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه.
4 فتح الباري 13/345.
5 أضواء البيان 4/168-169.
6 سورة الأنبياء، الآية [34] .
7 سبق تخريجه؟؟.
8 أضواء البيان 4/171-172.
ثم ذكر رحمه الله دعوى القرطبي ومناقشته لأدلة من قال بوفاته بنصها: "قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره، رحمه الله: ولا حجة لمن استدل به؛ يعني الحديث المذكور على بطلان قول من يقول: إن الخضر حيّ لعموم قوله: "ما من نفس منفوسة.." 1؛ لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصاً فيه، بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بل هو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حيّ بدليل حديث الجساسة2، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام، وليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. ا.? منه3"4.
ثم أجاب رحمه الله عن هذه الإشكالات وتتبعها، ووصفها بالسقوط، فقال: "كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع، فإنه اعترف بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عموماً مؤكداً؛ لأن زيادة (من) قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصاً صريحاً في العموم لا ظاهراً فيه كما هو مقرر في الأصول
…
ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي -رحمه الله تعالى- من أن ظاهر العموم لانص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام، فإن العلماء يجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سنداً ومتناً. فالدعوى المجردة عن دليل
1 سبق تخريجه؟ قبل ثلاث صفحات.
2 أخرجه مسلم 4/2261.
3 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/29.
4 أضواء البيان 4/172.
من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعاً. وقوله: "إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث" فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناول عيسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال فيه:"لم يبق على ظهر الأرض، ممن هو بها اليوم أحد "1فخصص ذلك بظهر الأرض، فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 2، وهذا واضح كما ترى، ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط، ولو فرضنا حياتهم، فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم، ولم يثبت شيء يعارضه. وقوله:"إن الخضر ليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً"، يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين:
الأولى: أن دعوى كون الخضر محجوباً عن أعين الناس كالجن والملائكة دعوى لا دليل عليها، والأصل خلافها؛ لأن الأصل أن بني آدم يري بعضهم بعضاً لاتفاقهم في الصفات النفسية ومشابهتهم فيما بينهم.
الثانية: أنا لو فرضنا أنه لايراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو:"هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة" عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة. ولو سلمنا جدلاً أنه فرد نادر لا تراه العيون، وأن مثله لم يقصد بالشمول في العموم؛ فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد الغير مقصود، خلافاً لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق"3.
1 سبق تخريجه.
2 سورة النساء، الآية [157] .
3 أضواء البيان 4/172-173.
ثم ذكر رحمه الله أقوال الأصوليين تأييداً لما ذهب إليه، ثم قال:"وما ذكره القرطبي في خروج الدجال من تلك العمومات –بدليل حديث الجساسة- لا دليل فيه؛ لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس، رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه حدثه تميم الداري1، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور؛ لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال.."2. ثم ساق رحمه الله الحديث بطوله3.
وقد عقب على ذلك بقوله: "فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حيّ موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور، وأنه باق، وهو حيّ حتى يخرج في آخر الزمان. وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه؛ فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل
…
وهو الحق ومذهب الجمهور. وغالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي"4.
ثم ختم الشيخ رحمه الله في هذا المبحث بقوله: "وبهذا يتبين أن
1 هو تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة اللخمي الداري. صحابي قيل: إنه توفي سنة (60هـ) .
(انظر: الاستيعاب 1/184. والإصابة 1/183-184) .
2 أضواء البيان 4/175-176.
3 سبق تخريجه؟؟.
4 أضواء البيان 4/176.
النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة، ونفي الخلد عن كل بشر تتناول بظواهرها الخضر ولم يخرج منها نص صالح للتخصيص كما رأيت. والعلم عند الله"1.
وبذلك أشبع الشيخ الأمين رحمه الله هذه المسألة بحثاً وتحقيقاً وأماط اللثام عن جوانبها، وأسقط رحمه الله ما ذهب إليه القرطبي وغيره من القول بحياة الخضر عليه السلام، وناقشه مناقشة جيدة.
ويجدر بنا أن نورد بعض أقوال الأئمة الذين حققوا وفاته عليه السلام، ولم يتقبلوا القصص والروايات التي تشير إلى حياته وبقائه في هذه الدنيا:
فمنهم العلامة أبو الخطاب بن دحية2الذي قال: ".. ولاثبت اجتماع الخضر مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى، كما قص الله تعالى من خبرهما. وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل، وإنما يذكر ذلك من يروي الخبر ولا يذكر علته؛ إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث. وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شخصاً لا يعرفه، فيقول له: أنا فلان، فيصدقه. وأما حديث التعزية الذي ذكره أبو عمر: فهو موضوع"3.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الخضر وإلياس، وهل هما معمران؟ فأجاب: "إنهما ليسا في الأحياء، ولا معمران. وقد سأل إبراهيم الحربي4أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان
1 المصدر نفسه 4/177.
2 هو العلامة مجد الدين أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن الجُميَل بن دحية بن خليفة الكلبي. توفي سنة (633هـ) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 22/389. وشذرات الذهب 5/160) .
3 الزهر النضر في نبأ الخضر ص42-43.
4 هو الإمام إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن إسحاق الحربي. كان إماماً في العلم، رأساً في الزهد. ولد سنة (198هـ) ، وتوفي (285هـ) .
(انظر: سير أعلام النبلاء 13/356. وشذرات الذهب 2/190) .
يُريان، ويروى عنهما فقال الإمام أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا الشيطان وسئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد "1، وقال أبو الفرج ابن الجوزي2: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 3، وليس هما في الأحياء. والله أعلم"4.
وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله:"وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي"5.
وبهذا يتضح لنا صحة ما ذهب إليه الشيخ الأمين رحمه الله، ويتبين أن قوله هو القول الذي ذهب إليه أهل التحقيق من أهل العلم، وأن قول من قال ببقاء الخضر حياً وخلوده قول متهافت لا دليل عليه. والله أعلم.
1 سبق تخريجه.
2 هو العلامة الواعظ عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد البكري البغدادي، المعروف بابن الجوزي. ولد سنة (510هـ) . وتوفي سنة (597هـ) .
(انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 1/399. وشذرات الذهب 4/329) .
3 سورة الأنبياء، الآية [34] .
4 الفتاوى 4/337.
5 الزهر النضر في نبأ الخضر، ص115.