الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: جهود الشيخ الأمين في توضيح مباحث الإمامة
الإمامة لغة:
الإمام: كلّ من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم، أو كانوا ضالين. وإمام كلّ شيء قيّمه والمصلح له. والقرآن إمام المسلمين. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة. والخليفة إمام الرعية. وإمام الجند قائدهم1.
الإمامة اصطلاحا:
عرفها ابن خلدون بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا"2.
وقد اهتمّ الشيخ الأمين رحمه الله بالإمامة، وتناولها في أربع عشرة صفحة، تحدث فيها عن وجوب نصب الإمام، والأمور التي تنعقد بها الإمامة، وشروطها، ومتى تفسخ، وهل يجوز نصب خليفتين، وهل للإمام أن يعزل نفسه، وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ وقد استطرد رحمه الله في تقرير هذه المسائل.
1 لسان العرب 12/24-25.
2 المقدمة لابن خلدون ص191.
أولا: وجوب نصب الإمام:
قال الشيخ الأمين رحمه الله: "من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أنّ المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الله في أرضه. ولم يخالف في هذا إلا من لايعتدّ به.. وأكثر العلماء على أنّ وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع؛ كما دلت عليه الآية المتقدمة1 وأشباهها وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولأن الله تعالى قد يزع بالسلطان ما لايزعه بالقرآن؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 2؛ لأنّ قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة"3.
وقد أوضح الإمام القرطبي رحمه الله ذلك، وذكر الأدلة الشرعية الدالة على وجوب نصب الإمام4.
ثانيا: الأمور التي تنعقد بها الإمامة:
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله أنّ الإمامة تنعقد بعدة أمور، فقال:
"الأول: ما لو نص صلى الله عليه وسلم على أنّ فلانا هو الإمام فإنها تنعقد له بذلك. وقال بعض العلماء5: إنّ إمامة أبي بكر رضي الله عنه من هذا القبيل؛ لأنّ تقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم له في إمامة الصلاة وهي
1 هي قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} .
2 سورة الحديد، الآية [25] .
3 أضواء البيان 1/121.
4 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/182-183.
5 نسبه الإمام ابن أبي العز الحنفي إلى الحسن البصري، وجماعة من أهل الحديث. (انظر شرح العقيدة الطحاوية ص533) .
أهمّ شيء: فيه إشارة إلى التقديم للإمامة الكبرى، وهو ظاهر.
الثاني: اتفاق أهل الحل والعقد على بيعته، وقال بعض العلماء1: إنّ إمامة أبي بكر منه لإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار عليها بعد الخلاف، ولاعبرة بعدم رضى بعضهم؛ كما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه من عدم قبوله بيعة أبي بكر رضي الله عنه.
الثالث: أن يعهد إليه الخليفة الذي قبله؛ كما وقع من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما.
ومن هذا القبيل جعل عمر رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض.
الرابع: أن يتغلب على الناس بسيفه، وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتبّ له الأمر، وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شقّ عصا المسلمين وإراقة دمائهم. قال بعض العلماء: ومن هذا القبيل قيام عبد الملك ابن مروان على عبد الله بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف، فاستتبّ الأمر له"2.
وقد ذكر هذه الأمور التي تنعقد بها الإمامة الإمام القرطبي3 رحمه الله.
1 قال الإمام ابن أبي العز عن إمامة أبي بكر: "وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنه ثبتت بالاختيار".
(شرح العقيدة الطحاوية ص533) .
2 أضواء البيان 1/122.
3 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/185-186. ونسب رحمه الله القول الرابع إلى سهل بن عبد الله التستري، وابن خويز منداد.
ثالثا: الشروط الواجب توفرها في الإمام:
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله الشروط التي لابدّ من توفرها في الإمام لتصح إمامته، وهي:
الأول: أن يكون قرشيا. وذلك مشروط بإقامتهم الدين، وإطاعتهم لله ورسوله، فإن خالفوا أمر الله فغيرهم ممن يطيع الله تعالى وينفذ أوامره أولى منهم.
الثاني: كونه ذكرا. ولاخلاف في ذلك بين العلماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "1.
الثالث: كونه حرا. فلا يجوز أن يكون عبدا. ولاخلاف في هذا بين العلماء. أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإنّ طاعته تجب إخمادا للفتنة، وصونا للدماء، مالم يأمر بمعصية.
الرابع: أن يكون بالغا. فلا تجوز إمامة الصبيّ إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة.
الخامس: أن يكون عاقلا. فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه. وهذا لا نزاع فيه.
السادس: أن يكون عدلا. فلا تجوز إمامة فاسق. واستدلّ عليه بعض العلماء بقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 2 ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام؛ لأنّ العدل لا يكون غير مسلم.
السابع: أن يكون ممن يصلح أن يكون من قضاة المسلمين مجتهدا يمكنه
1 صحيح البخاري 8/97.
2 سورة البقرة، الآية [124] .
الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث.
الثامن: أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك.
ويدلّ لهذين الشرطين الأخيرين؛ أعني العلم، وسلامة الجسم قوله تعالى في طالوت:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 1.
التاسع: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، وردع الأمة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم.
العاشر: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولافزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء2.
وقد ذكر هذه الشروط أيضا: الإمام القرطبي رحمه الله، إلا أنه زاد شرطا هو الإسلام3، مع أنه ذكر الشرط السادس بلفظه، وهو يغني عن زيادة هذا الشرط.
وقد توفرت هذه الشروط كلها في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لذلك صحت خلافتهم، قال الشيخ الأمين رحمه الله عند قوله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 4 مخبرا عن صحة خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: "هذه الآيات تدلّ على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأنّ الله نصرهم على أعدائهم لأنهم نصروه، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر.
وقد مكن لهم، واستخلفهم في الأرض كما قال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ} الآية5. والحق أنّ
1 سورة البقرة، الآية [247] .
2 باختصار من أضواء البيان 1/123-129.
3 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/186-187.
4 سورة الحج، الآية [40] .
5 سورة النور، الآية [55] .
الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل. والعلم عند الله"1.
وقال عن إمامة الصديق أبي بكر رضي الله عنه عند قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2: "يوخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم؛ أعني الفاتحة بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أنّ صراطهم هو الصراط المستقيم؛ وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} . وقد بين الذين أنعم عليهم، فعدّ منهم الصديق.
وقد بين صلى الله عليه وسلم أنّ أبا بكر من الصديقين؛ فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم، الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم، فلم يبق لبس في أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وأنّ إمامته حقّ"3.
وقد ذكر الشيخ الأمين رحمه الله بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة وأجاب عنها:
المسألة الأولى: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة هل يكون ذلك سببا لعزله والقيام عليه، أولا؟
أجاب رحمه الله على هذا السؤال بقوله: "قال بعض العلماء4: إذا
1 أضواء البيان 5/704.
2 سورة الفاتحة، الآية [6] .
3 أضواء البيان 1/104-105.
4 وحكى القرطبي هذا القول عن الجمهور فقال: قال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته، ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم. انظر (الجامع لأحكام القرآن 1/187) . لكن كثير من العلماء حكى الإجماع على أن الإمام لاينعزل بالفسق. انظر ص604-605.
صار فاسقا، أو داعيا إلى بدعة، جاز القيام عليه لخلعه. والتحقيق الذي لاشك فيه أنه لايجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان"1.
ثمّ استشهد رحمه الله بعدة أحاديث، منها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان "2.
وحديث أم سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون. فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم. ولكن من رضي وتابع". قالوا: يارسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا "3.
ثمّ قال رحمه الله: "والأحاديث في هذا كثيرة. فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه ولو كان مرتكبا لما لا يجوز، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعيّ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه كفرٌ بواح، أي ظاهرٌ باد، لا لبس فيه. وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة. ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة.
1 أضواء البيان 1/129.
2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1470-1471.
3 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1480 بدون لفظة "يارسول الله".
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لاطاعة لإمام ولا غيره في معصية الله. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره، مالم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أخرجه الشيخان وأبو داود1.
وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار:"لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف "2.
وفي الكتاب العزيز: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} 3"4.
وهذا الذي ذكره الشيخ الأمين هو القول الصحيح الذي نختاره ونعتقده وهو معتقد أهل السنة، قال القاضي عياض رحمه الله مخبراً عن معتقد أهل السنة في الإمام الفاسق:"جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولايخلع، ولايجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك"5.
بل حكى القاضي رحمه الله الإجماع على ذلك فقال: "وقيل إن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم"، وقال الإمام النووي رحمه الله: "وأجمع أهل السنة أنه لاينعزل السلطان
1 أخرجه البخاري في صحيحه 8/105-106- واللفظ له-، ومسلم في صحيحه 3/1469، وأبو داود في سننه 3/93-94.
2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1469.
3 سورة الممتحنة، الآية [12] .
4 أضواء البيان 1/130-131.
5 شرح النووي على صحيح مسلم 12/229.
بالفسق"1.
وممن ذكر الإجماع على ذلك ابن بطال2. وابن مجاهد3.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أنه مذهب أهل الحديث4.
وقال ابن حجر رحمه الله "وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لاينخلع بالفسق) 5.
ومما يدل على معتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وحفاظهم على اجتماع كلمة الأمة ودرء الفتنة عنها موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مع الخلفاء الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق، مع ماحصل عليه من أذى كبير ليحمل على اعتقاد باطل، والأمة كانت تنتظر إشارة منه لنصرته، ومع ذلك يرى عدم المساس بجناب السلطان لما في ذلك من الفتن العظيمة التي لايعلم مداها إلا الله، فما أجدرنا بالاقتداء بهؤلاء الأعلام، سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن. نسأل الله أن يحفظنا راعيا ورعية من مضلات الفتن.
المسألة الثانية: هل للإمام أن يعزل نفسه؟
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله في هذه المسألة قولين لأهل العلم، الأول: أنّ له عزل نفسه. وعزاه للقرطبي. والثاني: ليس له عزل نفسه؛ لأنه تقلد
1 نفس المصدر السابق بالجزء والصفحة.
2 انظر فتح الباري 13/9.
3 انظر مراتب الإجماع لابن حزم 199.
4 الفتاوى 4/444.
5 فتح الباري 13/77 ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام محرر في منهاج السنة حول هذا الموضوع. انظر 1/115-118، 547-565، 4/524-548، ومما قاله رحمه الله (إن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يكره وينكر ما يأتونه من معصية الله ولاتنزع اليد من طاعتهم بل يطاعون في طاعة الله وأن منهم خياراً وشرارا..) منهاج السنة 1/117.
حقوق المسلمين.
وعقب رحمه الله على هذين القولين بقوله: "إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك، كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة: فلا نزاع في جواز عزله لنفسه. ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحسن بن علي رضي الله عنهما؛ لعزله نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية بعد أن بايعه أهل العراق؛ حقنا لدماء المسلمين. وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه جده، رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنّ ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1"2.
المسألة الثالثة: هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقلّ دون الآخر؟
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله ثلاثة أقوال لأهل العلم في ذلك:
الأول: جواز ذلك مطلقا. ونسبه للكرامية.
الثاني: لا يجوز تعدد الإمام الأعظم. ونسبه للجمهور3.
الثالث: التفصيل. فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة، ويجوز في الأقطار المتنائية؛ كالأندلس وخراسان4.
ونقل رحمه الله قول القرطبي في هذه المسألة: (لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت، كالأندلس وخراسان جاز ذلك)5.
ونقل أيضا قول ابن كثير: "وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق،
1 أخرجه البخاري في صحيحه 4/216.
2 أضواء البيان 1/123. وانظر الجامع لأحكام القرآن 1/188.
3 قال الإمام النووي: "اتفق العلماء على أنه لايجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد". (شرح النووي على صحيح مسلم 12/233) .
4 انظر أضواء البيان 1/131-132.
5 الجامع لأحكام القرآن 1/188.
والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب"1.
ولم يختر رحمه الله قولا من هذه الأقوال الثلاثة، وإنما اكتفى بسردها، ونقل كلام بعض العلماء في ذلك.
المسألة الرابعة: هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله قولين لأهل العلم في هذه المسألة:
الأول: لا يجب؛ لأنه يحتاج إلى دليل من النقل، وهذا لادليل عليه منه.
الثاني: يجب الإشهاد عليه؛ لئلا يدعي مدع أنّ الإمامة عقدت له سرا، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة2.
ولم يختر رحمه الله واحدا من هذين القولين أيضا.
وهكذا فصل الشيخ الأمين رحمه الله القول في الإمامة وما يتعلق بها من مسائل؛ إذ هي من أهمّ المسائل التي يجب العناية بها؛ لما يترتب عليها من وحدة الأمة، وصون حقوقها، ورفع راية الدين، والذود عنه، وإقامة أمره.
1 تفسير القرآن العظيم 1/72.
2 انظر أضواء البيان 1/133-134، وقد حكى القرطبي هذين القولين عن المالكية، (انظر الجامع لأحكام القرآن 1/186.
الخاتمة
الحمد لله الرب الكريم، الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وبتوفيقه تقضى الحاجات، فقد تمّ هذا البحث، وتوصلت فيه إلى النتائج التالية:
(1)
- إنّ عقيدة الشيخ رحمه الله هي عقيدة السلف الصالح التي ترتكز على الوحيين، الكتاب والسنة.
وقد وافقهم في جميع محتويات العقيدة، ولم يخرج عن منهجهم قيد أنملة، فقد عرف الإيمان بأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
كما قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
وأوضح بقية مباحث الإيمان الأخرى؛ كالإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر؛ خيره وشره، وذكر جزئيات هذه المباحث.
(2)
- أظهر رحمه الله هذه العقيدة، ودعا إليها في جميع كتبه، ومحاضراته، ودروسه. وكان لايترك مناسبة إلا وحرص على ذكرها والدعوة إليها.
(3)
- أبرز رحمه الله العقيدة الصافية، واستنبطها من نصوص القرآن الكريم بأسلوبه الرائع وطريقته المعروفة في تفسير القرآن بالقرآن.
(4)
- أكد رحمه الله أنّ الآيات الدالة على توحيد الربوبية في القرآن الكريم إنما هي إلزام للمشركين أن يوحدوا الله في العبادة.
(5)
- اهتم رحمه الله بعقيدة السلف في الأسماء والصفات، وجعلها من أنواع البيان المذكورة في أضواء البيان، ومن أهمها.
وأنّ جميع ما وصف الله به نفسه في القرآن العظيم فهو موصوف به حقيقة لامجازا.
(6)
- سلك رحمه الله قاعدة الإمام مالك الذهبية في الصفات:
(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب) ، وطردها في جميع الصفات؛ لأنها كلها في باب واحد.
(7)
- اهتم رحمه الله بذكر رأيه في الصفات في ضوء الدليل، ووفق المنهج المرسوم. فلا يطيل الحديث عنها؛ لأنه قد اكتفى ببيان المنهج، وتوضيح العقائد التي تشترك فيها سائر الصفات.
(8)
- لم يؤول رحمه الله أيّ صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، ولم يرتض التأويل بأي شكل من أشكاله.
(9)
- أبرز عقيدة السلف بأسلوب عربي مختصر بعيد عن مصطلحات أهل الكلام. وكان رحمه الله يكره التعمق في آيات الصفات والخوض فيها، ويقول: هي من البدع التي كرهها السلف.
(10)
- جعل رحمه الله قواعد وضوابط وأسسا في إثبات الصفات لتسهيل فهمها وحفظها.
(11)
- نقد رحمه الله منهج أهل الكلام عن دراية وفهم، وناقشه، واستعرض شبه أهل الكلام، وردّ عليها بحجج في غاية القوة والإقناع مدارها الكتاب والسنة.
(12)
- كان رحمه الله من العلماء العالمين بالجدل والمنطق، وأسلوب البحث والمناظرة. لكنه لايجعله أساساً يثبت به صفات الله ويهدر الأدلة السمعية، بل لم يستخدمه في مبحث التوحيد إلا للرد على دليلهم الجدلي بلغتهم، مبينا أنه من أساسه كاذب بلا شك، وأنّ
النتيجة سوف تكون كاذبة.
(13)
- أكد رحمه الله أنّ معتقد السلف هو الأسلم والأحكم والأعلم، وأنه المنجي يوم القيامة.
(14)
- كان رحمه الله ذا حجة مقنعة، وعقلية فذة، وعلم واسع، وفهم لعقيدة السلف على أصولها الصحيحة، وعمل على نشرها بين الناس.
(15)
- رجح رحمه الله أنّ الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، ولم يقتل به إنسانا، أنه لايقتل.
(16)
- رجح رحمه الله وفاة الخضر عليه السلام، ونبوته، وناقش أدلة القائلين بحياته وعدم نبوته مناقشة دقيقة، مؤيدة بالحجج الواضحة والأدلة الصريحة، وردّ ما يقال حوله من قصص خيالية، وروايات موضوعة.
(17)
- ردّ رحمه الله على من جوز العمل بالإلهام، وأنّ الولي يسعه الخروج عن الوحي المحمدي، وقال عنها: إنها زندقة.
(18)
- له مشاركات لعلماء الأمة فعالة في التصدي للتيارات الإلحادية، وموقف راسخ في الذود عن حياض العقيدة الصافية.
(19)
- عند المناقشة مع المخالفين يذكر رحمه الله قول المخالف بإنصاف مع حجته، ولاينقص من قدره، بل يرد عليه بحياد وعدم تعصب.
(20)
- مؤلفات الشيخ رحمه الله عظيمة الفوائد، ومنهل عذب، ومعين لاينضب وعلى رأسها أضواء البيان؛ فإنه لقي قبولا واهتماما من العلماء والباحثين. لكن تنقصه الطباعة الجيدة، والتحقيق المتقن لتدارك الأخطاء التي تخلّ بالمعنى.
(21)
هناك رسائل مهمة للشيخ رحمه الله تدلّ على سعة علمه وهي لاتزال مخطوطة ولو طبعت وأخرجت لعمت الفائدة منها.
(22)
- محاضرة الشيخ رحمه الله المسماة: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: هي اسم على مسمى: أبرز فيها الشيخ رحمه الله عقيدة السلف في الصفات مع توضيح المنهج والقواعد والأسس التي يقوم عليها، واشار إلى طريقة المخالفين مبينا وهنها.
فلو قررت هذه الرسالة على المعاهد والكليات في بابها، فهي جديرة بالعناية والدراسة.
(23)
- هناك أشرطة للشيخ رحمه الله في تفسير بعض سور القرآن الكريم بصوته، سبق أن أشرت إلى أرقامها والآيات المفسرة.
وكذا رحلته إلى أفريقيا للدعوة، فيها محاضرات وكلمات. فلو فرغت وطبعت لكانت أجزاء كثيرة، فيها العلم النافع الغزير، هيأ الله لها من يخرجها وينشرها.
-وفي الأخير: أحمد الله الذي وفقني لإتمام هذا البحث، فقد خرجت منه بفوائد جليلة؛ حيث منّ الله عليّ بقراءة بعض كتب السلف في العقيدة والتفسير والتراجم، واطلعت على أكثر مباحث العقيدة، وذلك بفضل الله وتوفيقه فله الحمد والمنة.
وفي الختام أسأل الله العليّ القدير العلم النافع، والرزق الطيب، والعمل المتقبل لي ولإخواني المسلمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.