الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مراتب المؤمنين
هذه المسألة مترتبة على التي سبقتها؛ وهي زيادة الإيمان ونقصانه. فالذي حقق شعب الإيمان كلها أعلى مرتبة من الذي اقتصر على بعض الشعب.
والمؤمنون الكمل عندهم من تفاصيل علوم الإيمان، ومعارفه وأعماله ما لا يقاس بعلوم كثير من المؤمنين وأعمالهم وأخلاقهم؛ ولهذا فالمؤمنون على ثلاث مراتب1.
وقد ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله مراتبهم مستشهدا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُجَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 2؛ فقال رحمه الله:
"فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنّ إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أنّ الله اصطفاها في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، وبين أنهم ثلاثة أقسام:
الأول: الظالم لنفسه: وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه أيضا، فهو
1 انظر التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للشيخ السعدي ص36.
2 سورة فاطر، الآيات [32-35] .
الذي قال الله فيه: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 1.
والثاني: المقتصد: وهو الذي يطيع الله ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.
والثالث: السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات، ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة.
وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق"2.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "وأظهر الأقوال في المقتصد، والسابق، والظالم أنّ المقتصد: هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزد على ذلك. وأنّ السابق بالخيرات: هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات خوفا من أن يكون سببا لغيره. وأنّ الظالم هو المذكور في قوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية3. والعلم عند الله تعالى"4.
وقال رحمه الله في موضع آخر أيضا: "ووعدنا على لسانه صلى الله عليه وسلم وعدا يزيل الطمع من الفرق، وهو ما صحّ عنه أنّ مؤمننا في الجنة وإن زنى وإن سرق، وجعلنا ثلاث طوائف في كتابه المنير؛ قال:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 5. ووعد جميع الطوائف الثلاث بدخول الجنات
1 سورة التوبة، الآية [102] .
2 أضواء البيان 6/164-165.
3 سورة التوبة، الآية [102] .
4 أضواء البيان 2/116.
5 سورة فاطر، الآية [32] .
والتحلية بالأساور ولبس الحرير؛ قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} 1؛ فأتى في قوله "يدخلونها" بواو الجمع الشاملة للظالم لنفسه، وقدمه لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط، وخاطب المسرفين منا خطابا تجعل لذته الأصمّ سميعا، قال:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 2.
فاعجب لأمة يخاطب الله مسرفيها هذا الخطاب في الآيات البينات المحكمات من الكتاب"3.
فالشيخ الأمين –رحمه الله قال بأنّ المؤمنين على ثلاث مراتب، كلّ مرتبة تخالف سابقتها في الفضل؛ فهم متفاوتون حسب اجتهادهم في الأعمال، وطريقة أدائهم لها. وليسوا كما قالت المرجئة على درجة واحدة من الإيمان.
وقد قال بهذا التقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومما قاله: "فقد قسم الله سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.
وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل "الإسلام"، و"الإيمان"، و"الإحسان"
…
ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع الذنوب؛ فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً، أو سابقا. كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات؛ كما قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} 4.فلابدّ أن
1 سورة فاطر، الآية [33] .
2 سورة الزمر، الآية [53] .
3 رحلة الحج ص39-40.
4 سورة النساء، الآية [31] .
يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا"1.
فالناس متفاوتون في درجات إيمانهم، وقربهم من بارئهم بحسب ما أدوا من واجبات وطاعات، واجتنبوا من محرمات. فلا ريب أنّ التفاوت الذي ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله مستدلا عليه بالقرآن الكريم حقيقة واقعة لا مراء فيها.
نسأل الله جلّ وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أعلاهم درجة؛ من السابقين بالخيرات الذين هم أمثل الطوائف الثلاث إنه جواد كريم.
1 مجموع الفتاوى 7/485.