الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الصراط
الصراط لغةً: قال الشيخ الأمين –رحمه الله: "الصراط في لغة العرب: الطريق الواضح والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط
إذ اعوج الموارد مستقيم1.
وأما شرعاً: فهو جسر منصوب على متن جهنم، يمرّ عليه الناس إلى الجنة، فمنهم من يمرّ كالطرف، ومنهم كالريح، ومنهم من يمرّ كشدّ الرجل؛ يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمرّ الذي نوره على إبهام قدمه، ومنهم من يخطف فيلقى في النار، فمن يمرّ على الصراط دخل الجنة2.
وقد ورد في ذكر الصراط أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها. ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل.
ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بقي بعمله، أو الموثق بعمله، ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه "3.
1 أضواء البيان 7/203. وانظر: لسان العرب 7/313. والمفردات للراغب الأصفهاني ص280.
2 انظر شرح الطحاوية ص469-470.وفتاوى شيخ الإسلام 3/146-147.
3 أخرجه البخاري في صحيحه 8/179. وانظر صحيح مسلم 1/163.
والمرور على الصراط هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} 1.
وقد اختلف العلماء في المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} إلى أقوال كثيرة، ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله أربعة منها، فقال:
"الأول: أن المراد بالورود: الدخول ولكنّ الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول.
الثاني: أن المراد بورود النار المذكور: الجواز على الصراط؛ لأنه جسر منصوب على متن جهنم.
الثالث: أن الورود المذكور: هو الإشراف عليها والقرب منها.
الرابع: أن حظّ المؤمنين من ذلك هو حرّ الحمى في دار الدنيا2.
ثمّ استدلّ للقول الأول "أنّ ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كلّ واحد منها: الدخول. فاستدلّ بذلك ابن عباس على أنّ الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول؛ لدلالة الآيات الأخرى على ذلك؛ كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} 3؛ قال: فهذا ورود دخول. وكقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} 4؛ فهو ورود دخول أيضا. وكقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} 5، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
1 سورة مريم، الآية [71] .
2 أضواء البيان 4/348. وانظر روح المعاني 16/121-122.
وقد ذكر هذه الأقوال: القرطبي، وزادها قولاً خامساً: إنّ الورود النظر إليها في القبر: فينجي منها الفائز، ويصلاها من قدر عليه دخولها. (الجامع لأحكام القرآن 11/92) .
وذكر ابن رجب الأقوال الأربعة السابقة، إلا أنه ذكر بدل الإشراف عليها والقرب منها الورود خاصّ بالمحضرين حول جهنم. (انظر التخويف من النار ص 200) .
3 سورة هود، الآية [98] .
4 سورة الأنبياء، الآية [99] .
5 سورة مريم، الآية [86] .
مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1. وبهذا استدلّ ابن عباس على نافع
ابن الأزرق في2أنّ الورود: الدخول"3.
ثمّ قال رحمه الله: "واحتج من قال بأنّ الورود: الإشراف والمقاربة، بقوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الآية4، قال: فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه. وكذا قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} الآية5. ونظيره من كلام العرب: قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
فلما وردن الماء زرقاً جمامه
وضعن عصيّ الحاضر المتخيم6
قالوا والعرب تقول: وردت القافلة البلد، وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. واحتجّ من قال بأنّ الورود في الآية التي نحن بصددها، ليس نفس الدخول، بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُون} 7، قالوا: إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدلّ على عدم دخولهم فيها، فالورود غير الدخول.
واحتجّ من قال بأنّ ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين: حرّ الحمى في دار الدنيا بحديث: " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" 8، وهو حديث
1 سورة الأنبياء، الآيتان [98] .
2 هو نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي البكري الوائلي الحروري.
رأس الأزارقة وإليه نسبتهم. كان أمير قومه وفقيههم. من أهل البصرة. قتل في الأهواز يوم دولاب سنة (65هـ) . (انظر: الأعلام 7/351-352) .
3 أضواء البيان 4/349.
4 سورة القصص، الآية [23] .
5 سورة يوسف، الآية [19] .
6 انظر شرح المعلقات العشر ص58.
7 سورة الأنبياء، الآية [101-102] .
8 أخرجه البخاري 4/89-90، ومسلم 4/1731-1732: من حديث ابن عباس، وعائشة، وابن عمر. والبخاري 4/89-90، ومسلم 4/1733: من حديث رافع بن خديج بلفظ: "الحمى من فور جهنم فأبردوها عنكم بالماء ". ومسلم 4/1733: من حديث أسماء.
متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر، ورافع بن خديج رضي الله عنهم.
رواه البخاري أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس1.
ثمّ نصر رحمه الله القول الأول؛ القائل بأنّ الورود بمعنى الدخول، واستدلّ على ذلك بأربعة أدلة؛ فقال:
الأول: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أنّ جميع ما في القرآن من ورود النار؛ معناه دخولها، غير محلّ النزاع، فدلّ ذلك على أنّ محلّ النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
الدليل الثاني: هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك؛ وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} 2، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكوربقوله:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} 3أي نترك الظالمين فيها دليل على أنّ ورودهم لها: دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل:{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} ، بل يقول: وندخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى، وكذلك قوله:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} 4.
أما الدليل الثالث: فقد استدلّ رحمه الله بحديث جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها،
1 أضواء البيان 4/349-350.
2 سورة مريم، الآية [71] .
3 سورة مريم، الآية [72] .
4 أضواء البيان 4/350.
فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا" 1.
ثم قال رحمه الله: "إن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخر التي استدل بها ابن عباس"2.
أما الدليل الرابع: فقد استدلّ رحمه الله بآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم، كلهم يقولون: إنه ورود دخول3. وختم كلامه رحمه الله بالردّ على أدلة من منع الدخول؛ فقال رحمه الله: "وأجاب من قال بأنّ الورود في الآية: الدخول عن قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 4؛ بأنهم مبعدون عن عذابها والآمها، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حرّ منها
…
وأجابوا عن الاستدلال بحديث "الحمى من فيح جهنم" بالقول بموجبه، قالوا: الحديث حقّ صحيح، ولكنه لا دليل فيه لمحلّ النزاع؛ لأنّ السياق صريح في أنّ الكلام في النار في الآخرة، وليس في حرارة منها في الدنيا؛ لأنّ أول الكلام قوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} إلى أن قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 5؛ فدل على أنّ كلّ ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى6.
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/329 باختلاف يسير. وقال الشيخ الأمين عن إسناده: "لا يقل عن درجة الحسن"(انظر أضواء البيان 4/351) .
قال الشيخ الألباني: (عن أبي سمية، عنه. وأبوسمية مجهول كما قال الذهبي. وقد صححه هو والحاكم، وفيه نظر ليس هذا موضع بيانه) . (كلمة الإخلاص لابن رجب ص41، بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني) .
2 أضواء البيان 4/352.
3 انظر أضواء البيان 4/352. وتفسير القرآن العظيم 3/132-133.
وهذه الآثار عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وأبي ميسرة، وعبد الله بن المبارك، عن الحسن البصري؛ كلهم يقولون: إنه ورود دخول.
4 سورة الأنبياء، الآية [101] .
5 سورة مريم، الآيات [68-72] .
6 أضواء البيان 4/352. وانظر هذا المبحث في دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/192-193.
وتفسير الورود اختلف فيه الصحابة، ومن بعدهم من العلماء1.
والشيخ الأمين رحمه الله حين يرجح أنّ الورود بمعنى الدخول لم يأت بشيء مبتدع، بل قاله غيره من علماء التفسير؛ أمثال القرطبي2 رحمه الله، وغيره. بل قد قال الألوسي:"ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة"3.
وبالمقابل رجح بعض العلماء أنّ الورود: هو المرور على الصراط؛ ومن هؤلاء ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، الذي قال:"اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 4 ماهو؟ والأظهر الأقوى أنه المرور على الصراط"5.
وكذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله الذي قال: "ومما يستدلّ به على أنّ الورود ليس هو الدخول: ما خرجه مسلم من حديث جابر قال: أخبرتني أم بشر أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها". قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها. فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 6 فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} 7"8 9.
1 انظر التخويف من النار لابن رجب ص193. وأضواء البيان 4/352.
2 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/93.
3 انظر روح المعاني 16/121.
4 سورة مريم، الآية [71] .
5 شرح الطحاوية ص471.
6 سورة مريم، الآية [71] .
7 سورة مريم، الآية [72] .
8 أخرجه مسلم في صحيحه 4/1942.
9 التخويف من النار ص194.
وكذلك الإمام الشوكاني1 رحمه الله قال: "وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود وحمله على ظاهره؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2.... ولا يخفى أنّ القول بأنّ الورود هو المرور على الصراط، أو الورود على جهنم وهي خامدة: فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة، فينبغي حمل هذه الآيات على ذلك"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 4: فقد فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: رواه مسلم في صحيحه عن جابر: بأنه المرور على الصراط5. والصراط هو الجسر، فلا بد من المرور عليه لكلّ من يدخل الجنة؛ من كان صغيراً في الدنيا، ومن لم يكن"6.
1 تقدمت ترجمته.
2 سورة الأنبياء، الآية [101] .
3 فتح القدير 3/344.
4 سورة مريم، الآية [71] .
5 أخرجه مسلم 4/1942. وقد تقدم قبل صفحة.
6 الفتاوى 4/279.