الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أفعال العباد بين الإفراط والتفريط
المطلب الأول: وسطية أهل السنة والجماعة في أفعال العباد
ذكر الشيخ الأمين رحمه الله أنّ هذه المسألة قد ضلّ فيها القدرية والجبرية، وهدى الله فيها أهل السنة والجماعة إلى القول الحقّ بإذنه؛ فقال رحمه الله:"أما القدرية فضلوا بالتفريط؛ حيث زعموا أنّ العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه. وأما الجبرية فضلوا بالإفراط؛ حيث زعموا أنّ العبد لاعمل له أصلا حتى يؤاخذ به. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا؛ فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية –ومن الضروري عند جميع العقلاء أنّ الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية-، وأثبتوا أنّ الله خالق كل شيء؛ فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته. وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أنّ العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب"1.
وقد بسط الشيخ الأمين رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر، وبين وسطيتهم بين الغالين والمفرطين، وقررها أحسن تقرير؛ فأتى بخلاصة معتقد السلف في القدر؛ فقال رحمه الله: "إنّ الله تبارك وتعالى قدر
1 دفع إيهام الاضطراب 10/330. وانظر معارج الصعود ص297-298.
مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق، وعلم أنّ قوما صائرون إلى الشقاء، وقوما صائرون إلى السعادة؛ فريق في الجنة وفريق في السعير. وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحقّ لبسا، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك. ثمّ إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكلّ واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرتهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في عمله من أعمال الخير المستوجبة للسعادة وأعمال الشر المستوجبة للشقاء. فأتوا كلّ ما أتوا، وفعلوا كلّ ما فعلوا طائعين مختارين غير مجبورين ولامقهورين:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2"3.
وبهذه الخلاصة الجامعة أبرز الشيخ الأمين رحمه الله عقيدة أهل السلف في القدر موضحا وسطية أهل السنة والجماعة بين الغالين والجافين.
وقد سبقه إلى بيان هذه الوسطية علماء أجلاء من أهل السنة والجماعة؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي قال: "اعلم أنّ العبد فاعل على الحقيقة وله مشيئة ثابتة، وله إرادة جازمة، وقوة صالحة. وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية؛ كقوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4، ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: يعملون، يفعلون، يؤمنون، يكفرون، يتفكرون، يحافظون، يتقون. وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق،
1 سورة الإنسان، الآية [30] .
2 سورة الأنعام، الآية [149] .
3 أضواء البيان 7/223-224.
4 سورة التكوير، الآية [28] .
فارقنا الجبرية بإثبات أنّ العبد كاسب فاعل صانع عامل، والجبر المعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا على الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار؛ مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح"1.
وقال رحمه الله أيضا: "الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد؛ بمعنى أنها قائمة به، وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه. وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد وجعلها عملا له وكسبا؛ كما يخلق المسببات بأسبابها؛ فهي من الله مخلوقة له، ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه كما إذا قلنا هذه الثمرة من الشجرة، وهذا الزرع من الأرض؛ بمعنى أنه حدث منها، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها: لم يكن بينهما تناقض"2.
1 مجموع الفتاوى 8/393-394.
2 نقلاً عن لوامع الأنوار البهية 1/313.