الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ا
لمبحث السادس: حكم أهل الفترة
بحث الشيخ الأمين رحمه الله هذه المسألة عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1؛ فذكر فيها قولين لأهل العلم مع أدلتهم من الكتاب والسنة. ثمّ ناقش هذين القولين، وجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، ورجح رحمه الله ما يقتضي الدليل رجحانه.
أما القول الأول في هذه المسألة فهو: "أنّ كلّ من مات على الكفر فهو في النار، ولو لم يأته نذير. واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فمن الآيات: قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 2، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 3.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 4، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5،
1 سورة الإسراء، الآية [15] .
2 سورة النساء، الآية [18] .
3 سورة البقرة، الآية [161] .
4 سورة آل عمران، الآية [91] .
5 سورة النساء، الآية [48] .
وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} الآية2، وقوله:{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} 3، إلى غير ذلك من الآيات.
وظاهر جميع هذه الآيات العموم؛ لأنها لم تخصص كافرا دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار"4.
ومن الأحاديث التي ذكرها الشيخ الأمين رحمه الله مدللا بها للقول الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: "في النار". فلما مضى دعاه فقال: "إنّ أبي وأباك في النار"5.
ولمسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي"6. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين.
والقول الثاني: قالت جماعة من أهل العلم: إنّ أهل الفترة معذورون بأنهم لم يأتهم نذير، ولو ماتوا على الكفر.
واستدلوا بقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} 7؛ فصرح في هذه الآية الكريمة بأنه لابدّ أن يقطع
1 سورة الحج، الآية [31] .
2 سورة المائدة، الآية [72] .
3 سورة الأعراف، الآية [50] .
4 أضواء البيان 3/474
5 صحيح مسلم 1/191.
6 صحيح مسلم 2/671.
7 سورة النساء، الآية [165] .
حجة كلّ أحد بإرسال الرسل مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 1، وقال تعالى:{وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2، وقوله جل وعلا:{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} 3، وقوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} الآية4. وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَة} الآية5، وقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الآية6.
وقد عرض الشيخ الأمين رحمه الله مناقشة كلّ طرف للآخر، وما يحتج به أحدهما على الآخر، وأطال في إيراد ذلك7.
ثمّ ذكر ما ترجح لديه في هذه المسألة فقال: "والذي يظهر رجحانه
1 سورة طه، الآية [134] .
2 سورة القصص، الآية [47] .
3 سورة الأنعام، الآية [131] .
4 سورة المائدة، الآية [19] .
5 سورة الأنعام، الآيات [155-157] .
6 سورة الملك، الآية [9] .
7 انظر أضواء البيان 3/471-484. ودفع إيهام الاضطراب 10/178-186.
بالدليل هو الجمع بين الأدلة؛ لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف. ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار؛ فمن اقتحمها دخل الجنة؛ وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع عذب بالنار؛ وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأنّ الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
وبهذا الجمع تتفق الأدلة: فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا.
ويحمل كلّ واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم فيزول التعارض"1.
ثمّ ذكر رحمه الله أنه رجح هذا القول لأمرين:
الأول: أنّ هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم، وامتحانهم؛ بأنّ الآخرة دار جزاء لا عمل، وأنّ التكليف بدخول النار تكليف بما لايطاق، وهو لايمكن، ما نصه: والجواب عما قال أنّ أحاديث هذا الباب منها ماهو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء. ومنها ماهو حسن. ومنها ماهو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة
1 دفع إيهام الاضطراب 10/184-185.
متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها"1.
أما المرجح الثاني: فقال رحمه الله: "إنّ الجمع بن الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف؛ لأنّ إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان. فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة. والعلم عند الله تعالى"2.
ونقل رحمه الله عن الحافظ ابن كثير ما يؤيد ما ذهب إليه فقال: "وقال ابن كثير رحمه الله تعالى
…
ما نصه: ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات؛ فمن أطاع دخل الجنة. وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو
1 أضواء البيان 3/482. وانظر تفسير ابن كثير 3/31.
والشيخ الأمين رحمه الله لم يذكر حديثا ينص على حكم أهل الفترة، وإنما اكتفى بكلام ابن كثير السابق.
وقد روى الإمام أحمد عن الأسود أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: أربعة يوم القيامة؛ رجل أصم لايسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربّ ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما". (مسند الإمام أحمد 4/24. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 3/418، رقم1434) .
2 أضواء البيان 3/484، وانظر دفع إيهام الاضطراب 10/66-67، 185-186.
الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد1"2.
وممن قال بعذر أهل الفترة: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "لا يهلكهم الله ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولا". وقد رويت آثار متعددة من أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة"3.
1 تفسير القرآن العظيم 3/30.
2 أضواء البيان 3/483.
3 مجموع الفتاوى 17/308.