الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الرسل لا يعلمون الغيب
علم الغيب من خصائص الألوهية، وليس من صفات الأنبياء؛ لأنهم بشرٌ اصطفاهم الله لتبليغ أوامره ونواهيه، ولا يعلمون من المستقبل إلا ما أطلعهم الله عليه، وأذن لهم به.
وقد تناول الشيخ الأمين –رحمه الله هذا الموضوع بذكر الأدلة
التي تؤكد عجز الأنبياء عن الإطلاع على أمور كانت تخصهم، وأحوال كانوا عاجزين عن معرفة الحقيقة فيها؛ فقال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 1: "وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك، لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 2. أخرجه مسلم3"4.
ثم ذكر رحمه الله أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب، وذلك في قوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
1 سورة الأنعام، الآية [59] .
2 سورة النمل، الآية [65] .
3 صحيح مسلم 1/159.
4 أضواء البيان 2/195.
يُوحَى إِلَيَّ} 1. ثم ساق رحمه الله أمثلة ووقائع حصلت للرسل تدل على أنهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه؛ فذكر أولاً أمثلة ووقائع حصلت لرسولنا صلى الله عليه وسلم تدل على أنه لا يعلم الغيب، ثم أتبعها بوقائع حصلت لعدد من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، تدل أيضاً على أنهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه؛ فقال رحمه الله: "لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك لم يعلم؛ أهي بريئة أم لا، حتى أخبره الله تعالى بقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون} 2. وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة، ولا علم له بأنهم ملائكة حتىأخبروه، وقالوا له:{إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} 3..
ولما جاؤا لوطاً لم يعلم أيضاً أنهم ملائكة، ولذا {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة، حتى قال:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له:{إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} الآيات4..
ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف. وسليمان عليه السلام، مع أن الله سخر له الشياطين والريح، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد، وقال له:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} الآيات5. ونوح –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم، حتى قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي
1 سورة الأنعام، الآية [50] .
2 سورة النور، الآية [26] .
3 سورة هود، الآية [70] .
4 سورة هود، الآيتان [80-81] .
5 سورة النمل، الآيات [22-28] .
مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقّ} الآية1، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله تعالى بقوله:{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 2. وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 3. والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 4"5.
ثم عقب رحمه الله على هذه الأمثلة بقوله: "فقد ظهر أن أعلم المخلوقات –وهم الرسل-، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء؛ كما أشار له بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} 6، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداًإِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول} 7"8.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "وقد أطلع الله جلّ وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم، على أمور كثيرة من المغيبات، حتى إنه قام ذات يوم يخطب في قومه من بعد صلاة الفجر حتى الظهر، ثم صلى الظهر وقام
1 سورة هود، الآية [45] .
2 سورة هود، الآية [46] .
3 سورة هود، الآية [31] .
4 سورة البقرة، الآيتان [31-32] .
5 أضواء البيان 2/195-196.
6 سورة آل عمران، الآية [179] .
7 سورة الجن، الآيتان [26-27] .
8 أضواء البيان 2/196-197.
يخطب فيهم حتى صلى العصر، ثم قام يخطب حتى صلى المغرب، وذكر أموراً كثيرة هائلة في ذلك اليوم، حفظها من حفظ، ونسيها من نسي1. وقد أخبر الله جلّ وعلا أنه هو المختص بعلم الغيب، حيث نفاه عن كلّ أحد سواه، وأثبته لنفسه، كما قال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2"3.
وقد سئل رحمه الله: أيجوز إطلاق علم الغيب على أحد من الرسل الذين أطلعهم الله على بعض المغيبات، كما يطلق على الذي يعلم مسائل الفقه أنه فقيه، أم لايجوز ذلك؟.
فأجاب رحمه الله على هذا السؤال إجابة مفصلة قال فيها: "إن ذلك لايجوز أبداً؛ لأن علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، وقد نفاها عن كل خلقه. وكونه يطلع بعض خلقه على بعض الغيب لا يقتضي أن يوصفوا بما وصف به، وليس هذا من تعظيم الرسل كما يزعم بعضهم، بل إن تعظيم الرسل في نفي علم الغيب عنهم؛ لأنهم هم الذين أخبرونا أن علم الغيب مختص بالله تعالى، وأنهم لا يعلمون إلا ما علمهم به هو. وفرق بعيد بين ما ذكر من كون من يعلم بعض المسائل الفقهية يطلق عليه أنه فقيه، وبين من أطلعه الله على بعض الغيب؛ فإن الأول علم مسائل الفقه بملكة راسخة فيه يستطيع بها أن يصل إلى علم المسائل باستمرار. أما الثاني فلا طريق له إلى الوصول إلى علم الغيب فيه إلا ما أخبره الله به. وهذا آخر الرسل وأفضلهم؛ نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى عنه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
1 انظر صحيح مسلم 4/2217.
2 سورة النمل، الآية [65] .
3 معارج الصعود، ص102.
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. والله جلّ وعلا يخاطب خلقه بقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} 2: فهل فطن الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم كل المغيبات لهذه الآيات وأمثالها مما يصعب حصره، ثم هو صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في آخر حياته يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" 3. وقد سبق أن الله تعالى أطلعه على كثير من المغيبات، ومما أخبر به ووقع ما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لتتركن القلاص4 فلا يسعى عليها "5. ومن أكثر الناس حفظاً ورواية لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من المغيبات: حذيفة وأبو هريرة رضي الله عنهما" 6.
1 سورة الأعراف، الآية [188] .
2 سورة الإسراء، الآية [85] .
3 أخرجه البخاري في صحيحه 8/128. ومسلم في صحيحه 2/879، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4 القلوص من النوق: الشابة. وهي من النوق بمنزلة الجارية من النساء. وجمعها قُلُص –بضمتين-، وقلائص. وجمع القبص: قلاص. (مختار الصحاح للرازي، ص548) .
5 أخرجه مسلم في صحيحه 1/136، من حديث أبي هريرة، وقد ذكره الشيخ الأمين رحمه الله بالمعنى، وليس فيه: والذي نفسي بيده.
6 معارج الصعود، ص103-104. وانظر: المصدر نفسه، ص112. وأضواء البيان 2/340. ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/302.
المطلب الخامس: هل آدم رسول أم نبي
؟
…
"وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى"1.
وفي المقابل وردت أدلة تثبت أن آدم عليه السلام لم يكن رسولاً، منها: قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:"فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض" 3، وقوله صلى الله عليه وسل:" أول نبي أرسل نوح"4.
وقد جمع الشيخ الأمين –رحمه الله بين هذين القولين؛ فقال رحمه الله: "والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين؛ الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذريته في الجنة، ونوح أول رسولٍ أُرْسِلَ في الأرض. ويدل لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ويقول: "ولكن ائتوا نوحاً؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" الحديث5، فقوله: "إلى أهل الأرض" لو لم يرد به الاحتزاز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا، ويستأنس له بكلام ابن عطية6"7.
ثم ذكر رحمه الله الوجه الثاني، فقال: "إن آدم أرسل إلى ذريته وهم
1 الجامع لأحكام القرآن 3/172.
2 سورة البقرة، الآية [213] .
3 انظر صحيح مسلم 1/184-185.
4 رواه الديلمي في مسنده، وضعف الألباني إسناده، وقال:"لكن الحديث صحيح؛ فإن له شاهداً قويا عن أبي هريرة مرفوعاً". (انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/280) .
5 أخرجه البخاري في الصحيح 8/172. ومسلم في الصحيح 1/184.
6 انظر الجامع لأحكام القرآن 3/172.
7 أضواء البيان 1/286.