المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصول وقواعد وتنبيهات - حاشية الروض المربع لابن قاسم - جـ ١

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌أصول وقواعد وتنبيهات

‌أصول وقواعد وتنبيهات

(أصول الأحكام)

قال شيخ الإسلام وغيره: أجمع المسلمون على أن الأصول ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب والسنة فهما أصل الأصول، وكلية الشريعة وعمدة الملة والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، ولا طريق إلى الجنة إلا بالكتاب والسنة، وليسا بمحتاجين إلى تقريب واستدلال، والأصل الثالث الإجماع.

قال: ويجب تقديمه على ما يظن من معاني الكتاب والسنة، وعلى المجتهد أن ينظر إليه أول شيء في كل مسألة، فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه، لكونه دليلا قاطعا، ثابتا في نفس الأمر، قالعا للشواغب، لا يقبل نسخا ولا تأويلا، ولا شك أن مستنده الكتاب والسنة، وأنه قطعي معصوم فإن أهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام، ولا تحريم حلال، وكثير من الفرائض التي لا يسع أحدًا جهلها إذا قلت أجمع الناس لا تجد أحدا يقول: هذا ليس بإجماع، ومجرد النزاع لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع.

قال: ومعنى الإجماع أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة لم يكن لأحد أن يخرج عنه فإنها لا تجتمع على ضلالة، فقد عصمها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مضمون قوله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) ومفهوم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق) ، ولكن كثيرا من المسائل يحكي بعض الناس فيها إجماعا، ولا يكون الأمر كذلك، بل قد يكون فيها قول آخر أرجح في الكتاب والسنة، وقول بعض الأئمة كالأربعة وغيرهم ليس حجة لازمة، ولا إجماعا باتفاق المسلمين، وإذا خرج من خلافهم متوخيا مواطن الاتفاق مهما أمكنه كان آخذا بالحزم، وعاملا بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن، وتوخى ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، ما لم يخالف كتابا أو سنة، قال: وكل مسألة دائرة بين نفي وإثبات لا بد فيها من حق ثابت في نفس الأمر، أو تفصيل، وإن كان لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه، لكن ولله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية، تبين الحق.

ص: 11

إحاطة الشرع بالأحكام

وأجمع المسلمون على أن الله أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثير، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، وبهذا الوجه تكون النصوص المحيطة بأحكام أفعال العباد، ولا ينكر ذلك إلا من لا يفهم معاني النصوص العامة وشمولها قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: «تركتم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» .

قواعد تدور عليها الأحكام

وقال هو وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: تدور الأحكام على قواعد. منها أن الله أكمل لنا الدين، فلا يحتاج إلى زيادة، وتقدم قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومنها أن كل ما سكت عنه فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه أو يوجبه أو يستحبه أو يكرهه قال تعالى:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم «وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» ومنها أن الله حرم القول عليه بلا علم، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فجعل تعالى منزلة القول عليه بلا علم فوق منزلة الشرك، وقال عليه الصلاة والسلام «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ، ومنها أن ترك الدليل الواضح والاستدلال بلفظ متشابه هو طريق أهل الزيغ، قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» فالواجب اتباع المحكم، فإن عرف معنى المتشابه وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، ومنها أن الحرام بين والحلال بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن لم يتفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم في كل مسألة بكلام فاصل فقد ضل وأضل.

ص: 12

حفظ الأحكام

قيض الله سبحانه لحفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتمييز الصحيح من السقيم، حتى استقر الثابت المعمول به فحولا جهابذة أئمة للمسلمين، ورثة لسيد المرسلين، وسائط ووسائل بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغون الناس ما قاله، ويفهمونهم مراده، يقولون هذا عهده إلينا، ونحن عهدناه إليكم، وهكذا يتلقاه خالف عن سالف، قال عليه الصلاة والسلام «يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فهموا عن الله ورسوله، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه، واحتيج في إيضاحها إليه، وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة، وكثيرا ما يتبين الحق فيكون فهمهم من النصوص هو الذي تشهد العقول والفطر بأنه هو العلم النافع، ومن تمام العصمة أن جعل تعالى عددا من العلماء إذا أخطأ الواحد في شيء كان الآخر قد أصاب فيه، حتى لا يضيع الحق، وجاء بعدهم من تعقب أقوالهم، فبين ما كان خطأ عنده، كل ذلك حفظ لهذا الدين، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .

سؤال أهل العلم بها

ولما كان كثير من المسائل لا يعرفها كثير من الناس، أمروا بسؤال أهل العلم بالأحكام، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ *} وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال» فالواجب على المكلف إذا لم تكن فيه أهلية لمعرفة الدليل من الكتاب والسنة سؤال أهل العلم، وليس المراد التقليد المذموم، وهو أن يقلد الرجل شخصًا بعينه في التحريم والتحليل، بغير دليل، بل المراد الاقتداء الذي لا يعرف الحق إلا به، وهو الاقتداء بمن يحتج لقوله بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وليس في الحقيقة، بمقلد بل متبع لتلك الأدلة الشرعية، مجتهد فيما اختاره، داخل تحت قوله {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا.

ص: 13

صفة المسئول

ينبغي أن يكون عارفا بآثار السلف، ومقاصد أفعالهم، وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصحيح، الذي لا يتصور أن يناقض ذلك، عالما بقول من تقدمه، وإلا لم يمكنه أن يقول بمبلغ علمه، وإن كان عنده شواهد وبينات مما شاهده أو وجده أو عقله أو عمله، وذلك قد ينتفع به هو في نفسه إن وافق، فإن بصيرة المؤمن قد تنطق بالحكمة، وإن لم يسمع أثرا، فإذا جاء الأثر كان نورا على نور، وأما حجة الله على عباده فهي الكتاب والسنة.

إذا اجتهد

وإذا اجتهد الفاضل بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، وكان مقصوده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب إمكانه، فبان له الحق، فله أجران، وإن اقتضى اجتهاده قولا آخر فعليه أن يعمل به، لا لأنه أمر بذلك القول، بل لأن الله أمره أن يعمل بما يقتضيه اجتهاده، وبما يمكنه معرفته، وهو لم يقدر إلا على ذلك، وهو مأجور غير مؤاخذ بما أخطأ، وهذا حكم من الله من جهة العمل بما قدر عليه من الأدلة، وإن كان في نفس الأمر دليل معارض راجح لم يتمكن من معرفته، فليس عليه اتباعه إلا إذا قدر عليه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها أمر لا ينضبط وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

وتمكن

ومن تمكن من الحكم بنفسه بالقوة القريبة من الفعل، لكونه أهلا للاجتهاد فلا خلاف في أنه لا يجوز له تقليد غيره، سواء كان الغير أعلم منه أم لا، مع ضيق الوقت أو سعته، ويجب عليه اتباع النص، وإن لم يفعل كان متبعا للظن {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} ومن أكبر العصاة لله ولرسوله، ومن بلغته السنة، وتبين له حقيقة الحال لم يبق له عذر، ولا يجوز له أن يرغب عما شرعه الله ورسوله، لأجل اجتهاد غيره، وقد أجمع أهل العلم على تحريم التقليد بعد ظهور الحجة، وتحريم تقليد من ليس بأهل أن يؤخذ بقوله: أو تقليد واحد من الناس في جميع ما قال دون غيره.

ص: 14

إذا نظر في مسألة متنازع فيها

ومن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها، ورأى مع أحد القولين نصا لم يعلم له معارضا، فهو بين أمرين، إما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنص، وهو واجبه فقد أجمع المسلمون على تحريم القول في دين الله بما يخالف النص، ويسقط حينئذ الاجتهاد والتقليد، وإما أن يتبع قول القائل لمجرد كونه إمامًا اشتغل على مذهبه، وقد علم بالضرورة من كلام الأئمة الأربعة وغيرهم أن من قلد أحدا منهم أو من غيرهم في نازلة بعد ظهور كون رأيه فيها مخالفًا نص كتاب أو سنة أو إجماعا أو قياسا جليا عند القائل به فهو كاذب في دعواه التقليد له، متبع لهواه وعصبتيه، فقد أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، ولا يلتفت إلى الآراء مع وجود سنة تخالفها.

القول الصحيح يخرج على مذاهبهم

وكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة الأربعة بلا ريب، فقد اتفقوا على أصول الأحكام، فإذا تبين رجحان قول وصحة مأخذه خرجوا على قواعد إمامه، فهو مذهبه، وقد صرحوا بأن النصوص الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما فهموا من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يقال قول هذا صواب دون قول هذا إلا بحجة.

أقوالهم يحتج لها

أقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، وتذكر وتورد في المعارضات والالتباس، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله، فإنهم قصدوا تجريد المتابعة، للرسول صلى الله عليه وسلم، والوقوف مع سنته، ولم

ص: 15

يلتفتوا إلى خلاف أحد، بل أنكروا على من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنا من كان، ولا يجوز تعليل الأحكام بالخلاف، فإن تعليلها بذلك علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر وإنما ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يسلكه إلا من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في نفس الأمر، لطلب الاحتياط.

تدوينها

حكاية القولين والثلاثة إنما دونت لفائدة، وهي التنبيه على مدارك الأحكام، واختلاف القرائح والآراء، وربما يستنير أهل العلم ممن بعدهم بما فيها من الآراء، وربما يظهر من مجموعها ترجيح بعضها، وذلك من المطالب المهمة، والقياس أن لا تدون تلك الأقوال، وهو أقرب إلى ضبط الشرع، إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه، فتدوينه تعب محض، ولكن جرت طريقة أهل العلم في طلب أقوال العلماء، وضبطها والنظر فيها، وعرضها على الكتاب والسنة، فما وافق ذلك قبلوه وقضوا به وإلا لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع، ولا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدا، ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها، بل قد نهونا عن الأخذ بما يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة، وكانوا أول العاملين بها، الداعين إليها، ولم يكتبوا كتبا بآرائهم في الدين، يكلفون الناس العمل بها، والكتب المنسوبة إليهم إنما كتبها خلفهم، لنشر آرائهم، وإظهار اجتهادهم ورأى بعضهم من يكتب عنه كل ما يقول فنهاه، وقال أتكتب عني رأيا فتجعله دينا للناس؟ وربماأرجع عنه غدا.

ما لا يجوز نقله

لا يجوز لمطلع على قول مخالف لأصل شرعي، من كتاب أو سنة أو إجماع

نقله للناس إلا للتنبيه عليه، ولا يجوز له أن يفتي به في دين الله، فإن الفتوى بغير

ص: 16

شرع الله حرام، وإن لم يعص صاحب القول، بل يؤجر لاجتهاده، بخلاف المطلع عليه المخالف عمدا فيأثم.

الاحتياط

رجح عامة العلماء الدليل الحاظر على الدليل المبيح، وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط في كثير من الأحكام، بناء على هذا، وأما الاحتياط في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة، والاحتياط ما لم تتبين السنة، فإذا تبينت فالاحتياط اتباعها، فإن أفضى الاحتياط إلى خلافها كان خطأ، والعلماء متفقون على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر.

الاعتناء بالشرع

يتعين الاعتناء بالكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في غير موضع من كتابه، أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، واعتنوا بهما، ففيهما الهدى والنور، وحذر عن مخالفتهما، فعلى المتمسكين بالمذاهب أن يعتنوا بالشريعة المطهرة أكثر، ويعرضوا أقوال الأئمة عليها، ليعلموا بذلك مذاهب أئمتهم الحقة، وعليهم أن يرجعوا إلى الأدلة الشرعية التي اشتهر العمل بها بين علماء المسلمين، خلاف ما لهج به غالب المتأخرين من أتباع الأئمة، من اقتصارهم على الكتب الخالية من الدليل، وإعراضهم عن الكتاب والسنة وعن نقل بعض ما صح عن أئمتهم المطابق للكتاب والسنة وكثير من الآراء التي يعتقدونها مذاهب لأئمتهم، بعضها مخالف لمذاهب أئمتهم. فضلا عن الكتاب والسنة، وما عليه جمهور الأمة، وما كان كذلك ليس بمذهب لأحد من الأئمة، كما علم ذلك عنهم.

كتب المتأخرين

وقال مجدد هذه الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذاهب أحمد ونصه، فضلا عن نص رسول الله

ص: 17

صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك من عرفه، وقال نحو ذلك في كتب المتأخرين من أهل المذاهب، ولشيخ الإسلام عن أهل عصره نحو ذلك، فكيف بكتب عصرنا؟ وقال ابن القيم: المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة، ويبينونها على ما لم يكن لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرد لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به، فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي به، ويحكم به، والإمام لم يقله قط، بل يكون نص على خلافه، وقال لا يحل أن ينسب إلى إمامه القول، ويطلق عليه أنه قوله، بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة، وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم منصوصا عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نص لهم فيه وكثير منهم يخرج على فتاويهم وكثير منهم أفتوا به بلفظه، أو بمعناه، فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه، إلا أن يعلم يقينا أنه قوله ومذهبه اهـ.

وإذا تتبع المنصف تلك الكتب، واستقرأ حال تلك الأتباع، وعرضها على الكتاب والسنة، وعلى أصول الأئمة، وما صح عنهم، وجدها كما قالوا رحمهم الله، وقد يؤصل أتباعهم ويفصلون على ما هو عن مذاهب أئمتهم الصحيحة بمعزل يعرف ذلك من كان خبيرا بأصولهم ونصوصهم، ومع ذلك عند بعضهم كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي في أمته، لا يلتفت إلى ما سواه، ولو جاءته الحجة كالشمس في رابعة النهار.

التأويل

وكثير منهم إذا رأى حديثا يخالف مذهبه تلقاه بالتأويل، وحمله على خلاف ظاهره، مهما وجد إليه سبيلا، فإن جاءه ما يغلبه فزع إلى دعوى الإجماع على خلافه، فإذا رأى من الخلاف ما لا يمكنه معه دعوى الإجماع، فزع إلى القول بأنه منسوخ، أو إلى أن متبوعه أعلم، وأنه ما خالفه إلا وقد صح عنده ما يقتضي مخالفته.

ص: 18

وليست هذه طريقة السلف، بل كلهم على خلاف هذه الطريقة، فإنهم إذا وجدوا سنة صحيحة لم يبطلوها بتأويل، ولا دعوى إجماع، ولا نسخ ولا ادعاء علم متبوع، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ الأئمة لا تضيع نقل سنة صحيحة متأخرة وتحفظ المنسوخ.

التعصب

التعصب إلى المذاهب والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض، والدعوى إلى ذلك، والموالاة عليه من دعوى الجاهلية، بل كل من عدل عن الكتاب والسنة فهو من أهل الجاهلية، والواجب على المسلم أن يكون أصل قصده طاعة الله وطاعة رسوله، يدور على ذلك ويتبعه أينما وجده، ولا ينتصر لشخص انتصارًا مطلقا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصار مطلقا عاما إلا لأصحابه فإن الهدى يدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دار ويدور مع أصحابه دون غيرهم، خلاف ما درج عليه بعض متأخري الأصحاب وغيرهم، حتى قال أبو الحسن الكرخي الحنفي، الأصل قول أصحابنا فإن وافقه نصوص الكتاب والسنة فذاك، وإلا وجب تأويلها، وجرى العمل عليه، وفي جامع الراموز وغيره، المذاهب أنه لا يقلد أحد من الصحابة ولا التابعين إلا أبا حنيفة، بل منهم من أدخل في الإسلام المذهب، وادعى الجويني وغيره وجوب انتحال مذهب الشافعي على كافة المسلمين حتى على العوام الطغام، بحيث لا يبغون عنه حولا، ولا يريدون به بدلا، وقيل غير ذلك مما يستحي العاقل من حكايته فضلا عن نقله.

فضل الأئمة

فضل الأئمة الأربعة وكذا غيرهم من أئمة الدين، ووجوب توقيرهم واحترامهم والتحذير من بغضهم وأذاهم، فقد تظاهرت به الآيات وصحيح الأخبار

والآثار، وتواترت به الدلائل العقلية والنقلية، وتوافقت، وهم أهل الفضل علينا، ونقلوا الدين إلينا، وعول جمهور المسلمين على العمل بمذاهبهم، من صدر الإسلام إلى

ص: 19

يومنا هذا، بل لا يعرف العلم إلا من كتبهم، ولم يحفظ الدين إلا من طريقهم. فيجب احترامهم، وتوقيرهم والاعتراف بقدرهم وتحسين الظن بهم، فهم من خيار الأمة، وخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أقوالهم سبب للإصابة ومعرفة الحق، لا سيما أهل الحديث فإنهم أعظم الناس بحثا عن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وطلبا لعلمها، وأرغب الناس في اتباعها، وأبعد الناس عن اتباع ما يخالفها ومقدمهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي قال فيه شيخ الإسلام وغيره: أحمد أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ولا يكاد يوجد له قول يخالف نصا، كما يوجد لغيره، لكن لا ندعي فيه ولا في أحد منهم العصمة، ولا نتخذهم أربابا من دون الله، وما وجد في بعض كتبهم من خطأ فمردود على قائله مع إحسان الظن به، والفقهاء المنتسبون إليهم لم يختاروا مذاهبهم عند عدم الدليل، إلا عن اجتهاد، لا مجرد رأي وتقليد، كما ظنه من لم يحقق النظر في مصنفاتهم، ومع ذلك فليسوا بمعصومين.

التمذهب

ولا يجب التزام مذهب معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له فعله، فإنما يكون متبعا لهواه فإنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو محرما، ثم يعتقد الواجب حراما والمحرم واجبا، بمجرد هواه، كمسألة الجد وشرب النبيذ وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول بدليل، أو رجحان مفت فيجوز بل يجب، والعاجز إذا اتبع من هو من أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره أرجح، فهو محمود مثاب، والله الموفق للصواب.

ص: 20

بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الحمد لله الذي شرح صدر من أراد هدايته للإسلام (2) وفقَّه في الدين من أراد به خيرا (3) ، وفهمه فيما أحكمه من

(1) لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يكتب «باسمك اللهم» حتى نزلت عليه {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الحافظ: وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وكذا معظم كتب الرسائل، وقدمت هنا على التعوذ دون القرآن لأن التعوذ هناك للقراءة، والبسملة من القرآن فقدم التعوذ عليها وابتدئ بها هنا للتبرك.

(2)

الحمد: هو الثناء بالقول على المحمود، قال شيخ الإسلام: الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، وشرح أي وسع قلب من أراد هدايته وتوفيقه وإرشاده لاتباع الرسل، وفي الحديث قالوا: يا رسول الله كيف يشرح صدره؟ قال: «نور يقذفه فيه فينشرح له وينفسح» ، والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وفيه اقتباس، وهو أن يضمن المتكلم كلامه بشيء من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه، ولا يضر فيه التغيير، لا لفظا ولا معنى، وشرح فيه أيضا إشارة إلى أن هذا الكتاب شرح: ومثل هذا يسمى براعة الاستهلال، وهو من المحسنات البديعة، وكذا قوله: فقه: و: من الأحكام، وبيان الحلال والحرام.

(3)

أي علم وأرشد من أراد به خيرا، والخير كلمة جامعة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الطاعات، ضد الشر، يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين» ، والدين الإسلام، والعبادة، والطاعة، والذل، والتوحيد، واسم لجميع ما يتعبد به.

ص: 21

الأحكام (1) . أحمده أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس (2) وخلع علينا خلعة الإسلام خير لباس (3) وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وأوحاه إلى محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام (4) ، وأشكره وشكر المنعم واجب على

(1) أي علمه وعرفه، فيما أحكمه أبرمه وأتقنه، من الأحكام جمع حكم، وهو مدلول خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين، وينقسم إلى خمسة أقسام: واجب، وحرام ومستحب ومباح، ومكروه.

(2)

أي أصفه بالجميل على أن جعلنا من أمة هي خير الأمم، وأنفع الناس للناس، وفيه إشارة إلى قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وكرر الحمد إيذانا بتكرره، حيث أعاده بالجملة الفعلية، واتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الحمد لله نحمده ونستعينه» .

(3)

أي جعل علينا خلعة الإسلام، وكذا الإيمان، لا ستلزام كل واحد منهما الآخر عند الانفراد خير لباس وأجمله، لمن أخذ به، وخلعة بكسر الخاء ما يخلع على الإنسان، وخير بالنصب صفة لخلعة، ولم يؤنثه لأنه اسم تفضيل مضاف لنكرة.

(4)

أي وسن لنا طريقا واضحا من الدين الذي تطابقت على صحته الأنبياء، وهو ما أوحاه تعالى وأمر به، وعهده إلى هؤلاء الخمسة، وخصهم لأنهم أفضل الأنبياء، وأصحاب الشرائع المعظمة، والأتباع الكثيرة، وأولو العزم من الرسل عليه، وعليهم أسنى الثناء وأزكى التحية، والشرع لغة البيان والإظهار، يقال شرع الله كذا، أي جعله طريقا ومذهبا، واصطلاحا تجويز الشيء أو تحريمه، والشريعة ما شرعه الله لعباده على ألسن رسله والشرائع ثلاث منزلة ناسخة أو منسوخة، فالناسخة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم والمنسوخة جميع الشرائع والثانية المبدلة وهي التي لم تشرع أصلا، والثالثة المؤولة وهي المستنبطة من النصوص

وربما يصيب التأويل وربما يخطئ، فالمنزلة يجب العمل بها، والمبدلة يحرم العمل بها والمؤولة سائغ العمل بها.

ص: 22

الأنام (1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام (2) وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله (3) .

(1) ثنى بالشكر، وهو مثل الحمد، إلا أن الحمد أعم منه، واجب أي لازم، يقال وجب وجوبا إذا ثبت ولزم، والواجب ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهو مرادف للفرض، والأنام الجن والإنس، وقيل ما على وجه الأرض من جميع الخلق.

(2)

معطوف على الجملة الاسمية، أي أقطع وأجزم أن لا معبود بحق إلا الله، وحده: حال من الاسم الشريف، تأكيد للإثبات، لا شريك له، تأكيد للنفي، قال الحافظ: تأكيد بعد تأكيد اهتمام بمقام التوحيد، ذو الجلال والإكرام، العظمة والكبرياء، فهو سبحانه الجليل الكامل في صفاته، الكريم الذي لا ينفد عطاؤه، له الجلال المطلق، والكمال المطلق، من جميع الوجوه، ولأبي داود من حديث أبي هريرة (كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء) وجاءت كلمة لا إله إلا الله في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن.

(3)

أي وأقطع أن سيدنا، أي أفضلنا، ويطلق على الشريف والرئيس والكريم، ومتحمل أذى قومه، ونبيًا أي أشرفنا، مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع، لرفعته وشرفه على سائر الخلق، وآثر لفظ النبي لما فيه من الشرف والرفعة، ومحمد علم منقول من التحميد، مشتق من الحميد، والحميد اسم من أسماء الله تعالى، وإليه أشار حسان بقوله:

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

ومحمد أشرف أسمائه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: اسم مفعول، من حمد فهو محمد، إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها من المضاعف للمبالغة

فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر، وعبده أشرف اسم فإنه لا أشرف ولا أتم للمؤمن من وصفه بالعبودية لله تعالى، وقدمه لأنه أحب الأسماء إليه، وأشرفها لديه تعالى، ولذا وصفه به في أشرف المقامات، ورسوله أي مرسله وسفيره بأداء شريعته، قال ابن الأنباري الرسول في اللغة الذي يتابع أخبار الذي بعثه.

ص: 23

وحبيبه وخليله المبعوث لبيان الحلال والحرام (1) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم الكرام (2) أما بعد فهذا شرح لطيف على مختصر المقنع (3) .

(1) حبيبه بمعنى محبوبه، والله سبحانه يحب ويحب، وخليله أي صفيه والخلة فوق المحبة، وفي الصحيح «إن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا» والمبعوث المرسل، أرسله الله إلى الثقلين لبيان أي: لتوضيح الحلال والحرام وهما ضدان والحلال شرعا: ما خلا عن مدح وذم لذاته، ويسمى مباحا وطلقا، والحرام ما ذم فاعله شرعا ولو قول وعمل قلب، ويسمى محظورا وممنوعا وغير ذلك.

(2)

آله أتباعه على دينه على المشهور، أو أهل بيته وعليه الأكثر واختاره الشيخ وتلميذه وفي اللغة يرجع إلى الجميع، وأصحابه جمع صاحب بمعنى الصحابي، وهو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة ومات مؤمنا به، ويأتي وتابعيهم أي السائرين على منهاجهم إلى يوم القيامة، الكرام أي الجامعين لأنواع الخير والشرف والفضائل، وذكر ابن عبد البر عن بعضهم أنه قال: يجب أي من جهة الصناعة، على كل شارع في تصنيف أربعة أمور البسملة والحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتشهد، ويسن له ثلاثة أمور تسمية نفسه، وتسمية كتابه، والإتيان بما يدل على المقصود، وهو المعروف ببراعة الاستهلال.

(3)

أي بعدما تقدم ولما كانت أما متضمنة لمعنى الشرط أتى بعدها بالفاء الجزائية فقال: فهذا إشارة إلى المرتب الحاضر في الذهن، سواء تقدمت الديباجة أو تأخرت، إذ لا حضور للألفاظ المرتبة ولا لمعانيها في الخارج، وبعد ظرف مبهم لا يفهم معناه إلا بالإضافة لغيره، هو زمان متراخ عن السابق، واسم الإشارة وإن كان وضعه للأمور المبصرة الحاضرة في مرئي المخاطب، فقد يستعمل في الأمور المعقول لنكتة وهي الإشارة إلى إتقانه لهذه المعاني، حتى صار لكمال علمه بها كأنها مبصرة عنده، والشرح الكشف، تقول شرحت الغامض إذا فسرته، والمراد هنا ما يوضح المعاني ويكشفها، من شرحه شرحا كشفه وفسره وبينه، ولطيف فعيل من اللطافة، والمراد بها هنا صغر الحجم، وبديع الصناعة، والاختصار ضم بعض الشيء إلى بعض للإيجاز ويأتي.

ص: 24

للشيخ الإمام العلامة (1) والعمدة القدوة الفهامة (2) وهو شرف الدين أبو النجا (3) موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى المقدسي الحجاوي ثم الصالحي الدمشقي (4) تغمده الله برحمته (5) وأباحه بحبوحة جنته (6) .

(1) إطلاق الشيخ على العالم باعتبار الكبر في العلم والفضيلة، والإمام من يؤتم به أي يقتدى به من رئيس وغيره، والعلامة العالم جدا، والهاء للمبالغة.

(2)

العمدة ما يعتمد عليه، والقدوة مثلثة من يستن به والأسوة، يقال فلان قدوة أي يقتدى به، والفهامة صيغة مبالغة، من فهم أي علم وعرف.

(3)

الشرف المجد والعلو، ويجب تأخير اللقب مع الاسم، ويخير مع الكنية.

(4)

مفتي الحنابلة بدمشق والصالحي نسبة إلى بلدة الصالحية بظاهر دمشق وله كتاب الإقناع، وحاشية التنقيح، وغيرهما، واشتهر بالحجاوي نسبة إلى حجة، قرية من قرى نابلس، توفي سنة تسعمائة وثمان وستين.

(5)

أي غمده فيها وغمره بها، من غمد السيف وهو غلافه، وفي الحديث «إلا أن يتغمدني الله برحمته» قال أبو عبيد: يتغمدني يلبسني ويتغشاني ويغمرني بها.

(6)

أي أسكنه وسطها، وفي الحديث «من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة» .

ص: 25

يبين حقائقه (1) ويوضح معانيه ودقائقه (2) مع ضم قيود يتعين التنبيه عليها (3) وفوائد يحتاج إليها (4) مع العجز وعدم الأهلية لسلوك تلك المسالك (5) لكن ضرورة كونه لم يشرح اقتضت ذلك (6) .

(1) أي يكشف هذا الشرح مسائل زاد المستقنع ويبينها وحقيقة الشيء منتهاه، وأصله المشتمل عليه وكماله الخاص.

(2)

أي يبين ما يتضمنه اللفظ ويدل عليه ويبين دقائقه يعني غوامضه جمع دقيقة، والدقائق هي المسائل الغامضة، وصدق رحمه الله فلقد أوضحها غاية الإيضاح، واعتني بحل عباراته، وبيان إشاراته وإبراز فوائده وتقييد شوارده.

(3)

أي مع جمع وإضافة قيود إليه، جمع قيد وهو ما جيء به لجمع أو منع أو بيان واقع، وهو ما يقيد المعنى المطلق، ويحصل بصفة أو غيرها، ويتعين من تعين عليه الشيء لزمه بعينه، والتنبيه الإيقاظ مصدر نبه، والمراد بيان الشيء قصدا، بعد سبقه ضمنا، على وجه لو توجه إليه السامع الفطن لعرفه، ولكن لكونه ضمنيا ربما يغفل عنه ونبهته على الشيء أوقفته عليه.

(4)

أي ومع ضم فوائد جمع فائدة يفتقر إلى طلبها، والفائدة ما استفيد به علم أو مال، مما يكون الشيء به أحسن حالا منه بدونه.

(5)

أي ومع الضعف وعدم القدرة والاستعداد، والصلاحية لدخل تلك المداخل، متعلق بيوضح، وهذا تواضع منه رحمه الله، وإلا فهو أهل لذلك، كما هو مشهور عنه وظاهر باستقراء مصنفاته.

(6)

أي لكن الضرورة الداعية إلى كشف مسائله استدعت واستوجبت له شرحه، ولقد شرحه رحمه الله شرحًا وافيًا، وبين ما أشكل منه بيانا شافيا، ولم يكن يوجد له شرح قبل هذا، ويذكر أن الشيخ سليمان بن علي شرحه، فالتقى بمنصور في الحج فلما اطلع على شرحه اكتفى به.

ص: 26

والله المسئول بفضله أن ينفع به كما نفع بأصله (1) وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم (2) وزلفى لديه في جنات النعيم المقيم (3)«بسم الله الرحمن الرحيم» (4) أي بكل اسم للذات الأقدس (5) .

(1) فضل الله صفة من صفاته تعالى كرحمته توسل إلى الله تعالى بفضله أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله زاد المستقنع في مختصر المقنع فإنه اشتهر أي اشتهار وعكف على الاستفادة منه المبتدي والمنتهي، وصار يحفظ عن ظهر قلب، وكذا الشرح اشتهر وعم نفعه، وهذا الدعاء من هذا العبد الصالح يرغبك فيه، ونسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفع بهذه الحاشية عليهما إنه لا يضيع أجر المصلحين.

(2)

أي صافيا من شائبة الرياء، لله تعالى وحده الكريم الذي لا أكرم منه، جلت عظمته وتقدست أسماؤه.

(3)

أي مقربا لديه، وسببا موصلا للسكنى في جنات النعيم المقيم الدائم وسميت بالنعيم لما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والسرور، وقرة العيون نسأل الله من فضله النعيم المقيم.

(4)

حذفت الألف لكثرة الاستعمال، وطولت الباء عوضا عنها، وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طولها على الباء، ليكون دالا على سقوط الألف، وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه: طولوا الباء، وأظهروا السين وفرجوا بينهما ودوروا الميم، تعظيما لكتاب الله، وكذا أسقطوا ألف الجلالة، وألف الرحمن، بقاء على قاعدة المصحف، ولا بد من إثباتها في اللفظ، وبعض العامة يقول: لا والله فيحذف الألف، واسم الله يجل أن ينطق به إلا على أجمل الوجوه وأكملها، والاسم مشتق من السمو وهو العلو، فكأنه علا على معناه وظهر عليه، فصار معناه تحته.

(5)

أي بكل اسم من أسماء الله، سمي به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علمه أحدا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، والأقدس الأطهر، وقدس يقدس قدسا طهر وتبارك، والقدس بالضم وبفتحتين الطهر اسم ومصدر وتقدس تنزه.

ص: 27

المسمى بهذا الاسم الأنفس (1) الموصوف بكمال الإنعام وما دونه، أو بإرادة ذلك (2) أؤلف مستعينا أو ملابسا على وجه التبرك (3) .

(1) وهو الله تعالى، والله أعرف المعارف، الجامع لمعاني الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ولذا يضاف لجميع الأسماء، فيقال الرحمن من أسماء الله، وكذا الباقي، ولا يضاف هو إلى شيء، وخصت الإضافة إليه لأنه يدل على غيره، فيكون ذكره ذكرا لباقي الأسماء، ولأنه لا يطلق على غيره، فالإضافة إليه أولى وهو مشتق، أي دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية وأصله (الإله) حذفت همزته وأدغمت اللام في اللام فقيل الله، ومعناه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأكثر العلماء على أنه اسم الله الأعظم، وقد ذكر في ألفين وثلاثمائة وستين موضعا من القرآن.

(2)

يعني الإنعام، وله سبحانه الكمال المطلق من جميع الوجوه، والإنعام مصدر أنعم ونعمة الله ما أعطاه للعبد، مما لا يتمنى غيره، أن يعطيه إياه، وقال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} وتأويله الرحمة بالإنعام، أو بإرادة الإنعام جرى على طريقة الأشعرية، والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات صفة الرحمة، مع القطع بأنها ليست كرحمة المخلوق ومن ثمرتها الإنعام، وإرادة الشيء قصده والعزيمة عليه.

(3)

إشارة إلى أن الباء إما للاستعانة، أو الملابسة، ليكون التقدير بسم الله أؤلف حال كوني مستعينا بذكره، متبركا به، والتبرك التيمن والفوز بالبركة، وكذا يضمر فعل ما جعلت التسمية مبدأ له، فيضمر المسافر أسافر، والآكل آكل، ليفيد تلبس الفعل جميعه بالتسمية، ولحذف العامل فوائد: منها أنه مواطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر اسم الله تعالى، ولأنه إذا حذف الفاعل صح الابتداء بالتسمية في كل قول وعمل، ولأن الحذف أبلغ فلا حاجة إلى النطق بالفعل، لدلالة الحال أن كل فعل إنما هو باسم الله، وإضافته للجلالة من إضافة العام للخاص، ليفيد أن الاستعانة والتبرك بذكر اسمه تعالى.

ص: 28

وفي إيثار هذين الوصفين المفيدين للمبالغة في الرحمة إشارة لسبقها وغلبتها، من حيث ملاصقتها لاسم الذات، وغلبتهامن حيث تكرارها على أضدادها، وعدم انقطاعها (1) وقدم الرحمن لأنه علم في قول أو كالعلم، من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى (2) لأن معناه المنعم الحقيقي (3) .

(1) ويحقق أن في إيثار لفظ الرحمن الرحيم إشارة لسبق الرحمة وغلبتها ما في الحديث القدسي، «سبقت رحمتي غضبي» ، وفي الترمذي وغيره «إن الله لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي» .

(2)

ولأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وتقديم الكلم في اللسان، على حسب المعاني في الجنان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء، إما بالزمان، وإما بالطبع وإما بالرتبة، وإما بالفضل، والكمال، أو بأكثرها، وربما ترتب بحسب الخفة والثقل، وكونه علما لوروده غير تابع لاسم قبله، في قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وصوب هذا القول ابن هشام، والتحقيق ما ذكره ابن القيم وغيره أنه لا منافاة بين العلمية والوصفية في جميع الأسماء الحسنى، فإنها دالة على صفات كماله، ونعوت جلاله، والرحمن الرحيم اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، فالرحمن رحمة عامة لجميع الخلق، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، والرحمن دال على الصفة القائمة به، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، والرحمن عام المعنى خاص اللفظ، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى.

(3)

يعني: لأن ما عداه طالب عوض بلطفه وإنعامه، يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء، وتأويله أيضًا الرحمة بالنعمة مذهب الأشاعرة، أخذه عن غيره،

ولم يتفطن له، ويقع كثيرا في كلام غيره، يذكرون عبارات لم يتفطنوا لمعناها ومذهب أهل السنة إثبات الصفات لله، الواردة في الكتاب والسنة، على ما يليق بجلال الله وعظمته، ومعناه اتصافه بما دل عليه اسمه حقيقة، ولا تكيف صفاته، ولا تشبه بصفات خلقه.

ص: 29

البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره (1) وابتدأ بها تأسيا بالكتاب العزيز (2) وعملا بحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» أي: ناقص البركة (3) ، وفي رواية «بالحمد لله» (4) .

(1) أي: البلوغ في الرحمة غايتها منتهاها، أو فائدتها المقصودة، لا يصدق إلا على الله عز وجل، لا على غيره، والغاية مدى الشيء.

(2)

أي: ابتدأ بالبسملة تأسيا بالقرآن الكريم، فإن الله ذكر فيه الحمد بعد البسملة في الفاتحة وغيرها.

(3)

أي: وإن تم حسا، والحديث رواه الخطيب بهذا اللفظ، والرهاوي وابن ماجه بلفظ «أقطع» وحسنه ابن الصلاح وغيره، و «ذي بال» أي شرف وشأن وحال يهتم به شرعا.

(4)

«فهو أجذم» وهذا تشبيه بليغ، وفي رواية بالحمد، رواه أبو داود، ولأحمد بذكر الله فهو أبتر أو أقطع، قال النووي: وهو حديث حسن حجة عند الأئمة، رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي، وأبو عوانة في صحيحه المخرج على صحيح مسلم، وروى ابن مردويه وغيره عن جابر لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم، هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح. وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزته وجلاله لا يسمى باسمه على شيء إلا بارك فيه، فتكتب أوائل الكتب، كما كتبها سليمان، ونبينا عليهما الصلاة والسلام، بل تذكر في ابتداء جميع الأفعال، وعند دخول المنزل، والخروج

منه، ونحو ذلك للبركة، وهي تطرد الشيطان، وإنما تستحب إذا ابتدأ فعلا تبعا لغيرها، لا مستقلة فلم تجعل كالهيللة والحمدلة، ونحوهما ويأتي أنها تجب وتسن وتكره في أ/ر دون أمور.

ص: 30

فلذلك جمع بينهما فقال الحمد لله (1) أي جنس الوصف بالجميل، أو كل فرد منه (2) مملوك أو مستحق للمعبود بالحق (3) المتصف بكل كمال على الكمال (4) .

(1) بدأ الماتن وكذا الشارح بالحمدلة بعد البسملة اقتداء بالقرآن العظيم وبالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، في ابتدائه بالحمد في جميع خطبه، وعملا بجميع روايات الحديث المشهور السابق، ويستحب البداءة بالحمدلله، لكل مصنف ودارس ومدرس وخطيبت وخاطب ومزوج ومتزوج، وبين يدي سائر الأمور المهمة، والابتداء إما حقيقي وإما إضافي، والحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة، وقدمت البسملة عملا بالكتاب والسنة والإجماع، وثني بالحمدلة عملا بما تقدم قريبا، فإن قيل: لكل من البسملة والحمدلة أمر ذو بال، فيحتاج إلى سبق مثله وتسلسل قيل: المراد الأمر الذي يقصد لذاته بحيث لا يكون وسيلة لغيره، وإن كلا من البسملة والحمدلة كما يحصل به البركة لغيره، ويمنع نقصه، كذلك يحصل به مثل ذلكلنفسه كالشاة من أربعين تزكي نفسها وغيرها.

(2)

أي من الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، وفيه إشارة إلى أن أل للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد، وهو حقيقة الحمد وماهيته.

(3)

ضد الباطل، والحق من أسمائه تعالى فهو الحق، وقوله الحق، جلت عظمته وتقدست أسماؤه.

(4)

تعالى وتقدس، فله الكمال المطلق من جميع الوجوه، وجميع أنواع الثناء له لا لغيره تبارك وتعالى.

ص: 31

والحمد والثناء بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا (1) وفي الاصطلاح فعل ينبنئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره (2) والشكر لغة هو الحمد اصطلاحا (3) واصطلاحا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله (4) .

قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (5) وأثر لفظه

(1) يعني سواء كان الثناء بالصفات الجميلة، والأفعال الحسنة، في مقابلة نعمة أسداها المحمود على الحامد، أو لم يكن، يقال حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسنه وشجاعته، والثناء بما ليس للمرء فيه اختيار، كالجمال ونحوه يسمى مدحا لا حمدا.

(2)

ينبئ أي يدل على تعظيم المنعم من حيث إنه منعم، واصلة تلك النعمة أو غير واصلة، وفيه إشارة إلى أن الحمد متعلقه الإنعام، كما تقدم وليس كذلك عند أهل التحقيق، بل يتعلق بجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال.

(3)

اللغة اللسان، وحده أصوات وحروف دالة على المعاني أو الكلام المصطلح عليه بين كل قبيلة من لغي بالشيء لهج به، ولغوت بكذا لفظت به وتكلمت والاصطلاح هو العرف الخاص، وهو عبارة عن اتفاق القوم على وضع الشيء ويقال إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر، لبيان المراد منه، لمناسبة بينهما أو مشاركة في أمر، أو مشابهة في وصف، أو غير ذلك.

(4)

أي الشكر في الاصطلاح هو صرف العبد ما أنعم الله به عليه من السمع والبصر وغيرهما فيما خلقه الله له من توحيده وطاعته، وقالوا أيضا الشكر الثناء عليه بإنعامه، ومن اعترف بالنعمة وقام بالخدمة وأكثر من ذلك سمي شكورا. وقال الشاعر:

أفادتاكم النعماء منِّي ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

(5)

الصواب الاستدلال بأول الآية {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أي اعملوا بطاعة الله شكرا على نعمه، ومورد الحمد اللغوي هو اللسان وحده، ومتعلقه يعم النعمة وغيرها. ومورد العرفي. أي الاصطلاحي، يعم اللسان وغيره، ومتعلقه يكون النعمة وحدها، فاللغوي أعم باعتبار المتعلق، وأخص باعتبار المورد، والعرفي بالعكس، فبين الحمدين عموم وخصوص وجهي، وبين الحمد والشكر اللغويين عموم وخصوص من وجهين، فعموم الحمد أنه لمبدئ النعم على الحامد وغيره، وخصوصه أنه لا يكون إلا باللسان، وعموم الشكر أنه يكون بغير اللسان، وخصوصه أنه لا يكون إلا لمبدئ النعمة، فهو أعم من الحمد متعلقا، وأخص سببا والحمد أعم سببا وأخص متعلقا، فما يحمد الله عليه أعم مما يشكر عليه، فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه، ويشكر على نعمه، وفي الحديث «الحمد رأس الشكر» ، فما شكر الله عبد لا يحمده، وقال ابن عباس: الحمد كلمة الشكر، فالحمد والشكر متقاربان، ورجح بعض أهل العلم اتحاد الحمد والشكر، بدليل إيقاع جميع أهل المعرفة بلسان العرب كلا منهما مكان الآخر، ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفر.

ص: 32

الجلالة دون باقي الأسماء كالرحمن والخالق، إشارة إلى أنه كما يحمد لصفاته، يحمد لذاته (1) ولئلا يتوهم اختصاص استحقاقه الحمد بذلك الوصف دون غيره (2) .

(1) بما هو أهله من الجلال والإكرام، ولا شيء في العقول والفطر أحسن من الثناء عليه ولا أنفع للعبد منه.

(2)

لاشتماله على جميع صفات الجلال والكمال، وعلى الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ولأن لفظ الجلالة لا يطلق على غيره تعالى، ولجمعه معاني الأسماء والصفات وغير ذلك.

ص: 33

(حمدا) مفعول مطلق، مبين لنوع الحمد (1) لوصفه، بقوله (لا ينفد) بالدال المهملة وفتح الفاء ماضيه نفد بكسرها، أي لا يفرغ (2)(أفضل ما ينبغي) أي يطلب (أن يحمد) أي يثنى عليه ويوصف (3) وأفضل منصوب على أنه بدل من حمدا، أو صفته أو حال منه (4) وما موصول اسمي، أو نكرة موصوفة، أي أفضل الحمد الذي ينبغي، أو أفضل حمد ينبغي حمده به (5) .

(1) والمفعول المطلق هو الذي ليس بمفعول فيه، ولا لأجله ولا معه، فحمدا مفعول لعامل محذوف، من حمد يحمد حمدا، ومحمدة شكره، ومدحه، والفرق بين الحمد والمدح، أن الحمد يتضمن الثناء مع العلم بما يثنى به، فإن تجرد عن العلم كان مدحا وكل حمد مدح دون العكس.

(2)

ولا يفنى ولا ينقطع فله الحمد في الأولى والآخرة.

(3)

لما يقتضيه جل وعلا من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وأسمائه وصفاته.

(4)

وأفضل اسم تفضيل ينبئ بزيادة الفضل، والبدل العوض، وعند النحويين هو التابع المقصود بالحكم بلا واسطة، وصفة الشيء نعته وتوضيحه، والحال الوقت، واصطلاحا ما بين هيئة الفاعل أو المفعول.

(5)

فهو المستحق لذلك لما له من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وما اقتضت أفعاله من الحكم الباهرة، ولما له من النعم الباطنة والظاهرة، وقد شهد له جميع المخلوقات بالحمد، بل الحمد كله له، ملكا واستحقاقا، وله الثناء والمجد.

ص: 34

وصلى الله قال الأزهري معنى الصلاة من الله تعالى الرحمة (1) ومن الملائكة الاستغفار (2) ومن الآدميين التضرع والدعاء (3) وسلم من السلام بمعنى التحية (4) .

(1) وكذا عند كثير من المتأخرين، وقال ابن القيم وغيره: قد غاير تعالى بينهما فقال: «عليهم صلوات من ربهم ورحمة» ، وسؤال الرحمة مشروع لكل مسلم والصلاة مختصة والرحمة عامة، وصوب هو وغيره ما حكاه البخاري في صحيحه عن أبي العالية، الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، وقالوا أيضا ثناؤه عليه وتشريفه وزيادة تكريمه، ورفع ذكره ومنزلته صلى الله عليه وسلم، والأزهري هو محمد بن أحمد أبو منصور، الهروي أحد الأئمة في اللغة والأدب، وغيرهما ولد بهراة بخراسان واشتهر بالفقه، ثم غلب عليه التبحر في العربية، فرحل في طلبها، وقصد القبائل وصنف كتبا منها التهذيب في اللغة وغريب الألفاظ عشر مجلدات وتوفي سنة ثلاثمائة وسبعين.

(2)

وقال ابن القيم رحمه الله: صلاة الملائكة عليه هي ثناؤهم عليه، وكذا الآدميون، وسؤالهم من الله أن يثني عليه، ويزيده تشريفا وتكريما.

(3)

أن يعلي الله ذكره، ويزيده تعظيما وتشريفا، وأخبر الله أنه يثني عليه في الملأ الأعلى وملائكته، وأمرنا بسؤال الله أن يفعل به ذلك ليجتمع الثناء عليه من العالم العلوي والسفلي، وقال ابن القيم أيضًا: الصلاة بمعنى الدعاء مشكل، من وجوه: أحدها أن الدعاء يكون بالخير والشر، والصلاة لا تكون إلا بالخير، (الثاني) أن دعوت يتعدى باللام، وصليت لا يتعدى إلا بعلى، ودعا المعداة بعلي ليست بمعنى صلى، وهذا يدل على أن الصلاة ليست بمعنى الدعاء (الثالث) أن الدعاء يقتضي مدعوا ومدعوا له، تقول دعوت الله لك بالخير، وفعل الصلاة لا يقتضي ذلك، لا تقول صليت الله لك، ولا عليك، فدل على أنه ليس بمعناه.

(4)

واسم مصدر من: سلم ومصدره تسليم، مشتق من السلام اسم من أسماء الله تعالى.

ص: 35

أو السلامة من النقائص والرذائل، أو الأمان (1) والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مستحبة (2) تتأكد يوم الجمعة وليلتها (3) وكذا كلما ذكر اسمه (4) وقيل بوجوبها إذًا (5) .

(1) من النقائص أي التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، ومن الرذائل والرذل من كل شيء الرديء منه، أو السلامة الأمان ضد الخوف، دعاء له وطلب السلامة له، أو اسم الله عليه، إذا كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيه، وانتفاء عوارض الفساد عنه، والسلام اسم من أسماء الله تعالى لسلامته من كل عيب ونقص، ومنه الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات.

(2)

في كل حال، واجبة في الجملة وركن في التشهد الأخير، وخطبتي الجمعة كما يأتي، وتواتر الأمر بها، وفي كيفيتها وفضلها، وفي الصحيح «من صلَّى علىَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا» ، اللهم صل وسلم على محمد.

(3)

لقوله صلى الله عليه وسلم «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة» ، رواه ابن ماجه، ولأبي داود فيه «فأكثروا علي من الصلاة فيه» ، ولقوله:«أكثروا الصلاة علي ليلة الجمعة ويوم الجمعة» رواه البيهقي بإسناد جيد.

(4)

أي وكذا الصلاة عليه تتأكد كلما ذكر اسمه لقوله صلى الله عليه وسلم «رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل علي» ، رواه الترمذي.

(5)

أي وقت ذكر اسمه، قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية، والحليمي وجماعة من الشافعية وحكي عن اللخمي من المالكية، وابن بطة، والبلباني، وذكر أنه أقوى لقوله تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ} والأمر يقتضي الوجوب، قال الشيخ: ويحتمل وهو الأشبه أنه تجب الصلاة عليه في الدعاء، ولا تجب مفردة، لقول عمر وعلي: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم، وتقدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس.

ص: 36

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وروي (من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب)(2) .

(1)«أي قولوا اللهم صلِّ وسلم على محمد» وأكد التسليم بالمصدر تنبيها على تأكده، قال بعض المفسرين أخبر سبحانه إنه وملائكته يثنون عليه فصلوا أنتم عليه، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه، وتسلموا تسليما، لما نالكم ببركة رسالته.

(2)

رواه الطبراني وغيره بسند ضعيف، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات وروي من كلام جعفر بن محمد موقوفا عليه، قال المنذري وهو أشبه، وروي تستعمل في الضعيف كما هو الصواب هنا، واستعمالها في الصحيح والحسن حيد عن الصواب، كاستعمال كثيرين: قال وفعل وأمر ونهى وروى عنه فلان وذكر وأخبر، وهو ضعيف فإنه لا ينبغي أن يطلق نحو هذا إلا فيما صح، وإلا كان في معنى الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم، واستغفار الملائكة هو أن تقول «اللهم اغفر له» وفي لفظ تصلي عليه، يعني على من كتب اسمه صلى الله عليه وسلم فيه. مقرونا بالصلاة عليه، كما في بعض الطرق، وصرح به ابن وضاح، وقد استدل به على وضع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطب والمراسلات، وأول من فعله أبو بكر رضي الله عنه، وكتاب بمعنى مكتوب، وقد غلب الكتاب في العرف العام على جميع الكلمات المفردة بالتدوين، ولما كانت الكمالات الدينية والدنيوية، بل جميع ما فيه صلاح المعاش والمعاد فائض من الجناب الأقدس جل وعلا علينا بواسطة هذا النبي الكريم، الذي هو عين جميع هذه المخلوقات وأشرفها، أتبع المصنف الحمد بالصلاة

والسلام عليه صلى الله عليه وسلم أداء لبعض ما يجب له صلوات الله وسلامه عليه، وعملا بقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال مجاهد وغيره: لا أذكر إلا ذكرت معي، وامتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم «كل كلام لا يذكر الله فيه فيبدأ به وبالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة» ، أخرجه الديلمي وابن المديني

والرهاوي وابن مندة بلفظ فهو أقطع أكتع، وضعفه البخاري ولما تقدم، وغير ذلك مما ورد من الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إنما هي على الوجه الذي أمر به من التعظيم لحقه، والرغبة في الثواب عند ذكره، أو ذكر شيء من أمره، ويروى «لا يصلى على إلا في موضع احتساب أو رجاء ثواب» ، فتكره في الأماكن القذرة، وأماكن النجاسة، وعند الذبح، وعند العطاس، وعند الجماع، والعثرة، والتعجب، وشهرة المبيع، ونحو ذلك.

ص: 37

وأتى بالحمد بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، لثبوت مالكية الحمد واستحقاقه له أزلا وأبدا (1) وبالصلاة بالفعلية الدالة على التجدد أي الحدوث، لحدث المسئول وهو الصلاة أي الرحمة من الله (2) على أفضل المصطفين محمد بلا شك (3) لقوله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (4) وخص ببعثه إلى الناس كافة (5) .

(1) أي قديما وحالا ودائما في الدنيا والآخرة.

(2)

على القول به، وتقدم أنه الثناء من الله عليه في الملأ الأعلى.

(3)

فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخالصين الطيبين المختارين من جميع الخلق بإجماع المسلمين.

(4)

رواه أحمد والترمذي وغيرهما في حديث طويل، أي لا أقوله تبجحا، ولكن شكرًا لله وتحدثا بنعمته، والفخر هو التعاظم على الغير.

(5)

قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وقال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} وقال صلى الله عليه وسلم «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» ، ولمسلم «أرسلت إلى الناس كافه، وختم بي النبيون» وخص بالبناء للمفعول، أي خصه الله، وإنما حذفه للعلم به والخصائص جمع خصيصة، وهي الصفة الخاصة، سواء كانت في ذاته أو في صفاته، أو فيما يصدر عنه من معجزاته وكراماته.

ص: 38

وبالشفاعة (1) والأنبياء تحت لوائه (2) والمصطفون جمع مصطفى وهو المختار، من الصفوة (3) وطاؤه منقلبة عن تاء (4) ومحمد من أسمائه صلى الله عليه وسلم سمي به لكثرة خصاله الحميدة (5) سمي به قبله سبعة عشر شخصا على ما قاله ابن الهائم عن بعض الحفاظ (6) .

(1) أي وخص بالشفاعة العظمى، وهو المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وذلك شفاعته في أهل الموقف ليقضى بينهم بعد ما يستغيثون بآدم وأولي العزم، ويتراجعونها بينهم فيقول: أنا لها.

(2)

اللواء الراية، وفي الحديث لواء الحمد بيدي يوم القيامة، وخص بالنصر بالرعب مسيرة شهر، وإحلال الغنائم له، وجعل الأرض مسجدا وطهورا وإعطاء جوامع الكلم، والختم والإسراء وغير ذلك مما يفوت الحصر.

(3)

وهو الخلوص من الكدر، والصفوة من كل شيء خالصه فإن الإنسان لا يصطفى إلا إذا كان خالصا طيبا، وهو صلى الله عليه وسلم أخلص الخلق وأطيبهم وخيرهم بلا نزاع. ،

(4)

لوقوعها بعد حرف الإطباق وهو الصاد، وقلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها فصفو من فعل نقل إلى افتعل، فثقل النطق به، فقيل اصطفى.

(5)

من حسن الخلق والكرم والجود والشجاعة، وغير ذلك ما خصه الله به من الخصال الرفيعة التي لا تحصر وهو الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون.

(6)

ابن الهائم هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عماد بن علي المصري، ثم المقدسي، المشهور بابن الهائم المتوفى سنة ثمانمائة وخمس عشرة، وله مؤلفات في الفرائض والحساب.

ص: 39

بخلاف أحمد فإنه لم يسم به قبله (1) وعلى آله أي أتباعه على دينه نص عليه أحمد (2) وعليه أكثر الأصحاب (3) ذكره في شرح التحرير (4) وقدمهم للأمر بالصلاة عليهم (5) .

(1) ولا في زمنه، ولا في زمن أصحابه، حماية لهذا الاسم الذي بشر به الأنبياء، وهو علم مشتق من حمد بالبناء للمفعول، يعني حمدا أكمل من غيره، وصفة أيضا اجمتعا في حقه صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم أسمائه وأشرفها وأشهرها.

(2)

وصححه صاحب تصحيح الفروع وغيره لقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} أي أتباعه، وقال الشيخ رحمه الله: آله أهل بيته، وإنه نص أحمد، وقاله الموفق وغيره، واختاره الشريف، ومنهم بنو هاشم، وأفضل أهل بيته من أدار عليهم الكساء، وخصهم بالثناء، وقال الشيخ وأصل آل أول تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فقيل آل ومن قال أهل فقد غلط، فآل الشخص هم من يأوون له، ويئولون إليه، ويرجعون إليه، ويضافون إليه، ويؤوله أي يسوسه يكون مآله إليه، ونفسه هي أولى من يئول إليه، فطلبت تبعا له، وهو الأصل.

(3)

أي أكثر أصحاب الإمام أحمد على أن آله أتباعه، ومنهم أبو حامد وأبو حفص، واختاره القاضي وغيره، وقدمه في المغني والشرح وجمع.

(4)

في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن سليمان بن محمد بن أحمد بن محمد السعيديِّ المرداوي، ثم الصالحي الحنبلي، صاحب الإنصاف وغيره، المتوفى سنة ثمانمائة وخمس وثمانين، ثم اختصره ابن النجار.

(5)

في قوله صلى الله عليه وسلم «قولوا اللهم صلِّ على محمد وآل محمد» ونحو ذلك.

ص: 40

وإضافته إلى الضمير جائزة عند الأكثر، وعمل أكثر المصنفين عليه، ومنعه جمع منهم الكسائي والنحاس والزبيدي (1) وأصحابه: جمع صاحب بمعنى الصحابي (2) وهو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا ومات على ذلك (3) .

(1) أي منع جمع من اللغويين، إضافة الآل للضمير، لتوغله في الإبهام منهم الكسائي علي بن حمزة النحوي المشهور، المتوفى بالري سنة مائة وإحدى وثمانين، ومنهم النحاس أبو جعفر، أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس النحوي التونسي له تصانيف في التفسير والنحو، مات سنة ثلاثمائة وثمان وثلاثين، ومنهم الزبيدي بالضم محمد بن الحسن النحوي، من أئمة اللغة العربية، مات سنة ثلاثمائة وتسع وسبعين.

(2)

وجمع الأصحاب أيضا صحابة وصحابة وأصاحيب، والصحابة في الأصل مصدر صحبه يصحبه صحابة وصحبة، فهو صاحب، عاشره ورافقه، وهو لفظ يضاف إلى من له أدنى ملابسة بأي شيء، وجمع الصاحب صحب، والصاحب الملازم مشتق من الصحبة بلا خلاف، يقال: صحبه شهرا ويوما وساعة والصحابة علم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووجه الثناء على الآل والأصحاب وهو الوجه في الثناء عليه صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الرب تبارك وتعالى، لأنهم الواسطة في إبلاغ الشرائع إلى العباد، فاستحقوا سؤال الثناء عليهم من الله عز وجل، ولإتيانه عليه الصلاة والسلام بذكرهم في الصلاة عليه، فلا يتم الامتثال بالصلاة التي علمها أمته إلا بذكرهم.

(3)

هذا مذهب أهل الحديث كما نقله البخاري، وهذا لشرفه صلى الله عليه وسلم أعطوا كل من رآه حكم أصحابه، سواء كان مؤمنا حكما، أو اختيارا.

ص: 41

وعطفهم على الآل من عطف الخاص على العام (1) وفي الجمع بين الصحب والآل مخالفة للمبتدعة لأنهم يوالون الآل دون الصحب (2) ومن تعبد أي عبد الله تعالى (3) والعبادة ما أمر به شرعا (4) من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي (5) .

(1) على القول المشهور أن آله أتباعه على دينه، وأما على القول الثاني الذي اختاره الشيخ وغيره، وصوبه ابن القيم وغيره، أنهم أهل بيته، فهو من عطف العام على الخاص، وسائغ ذكر العام ثم الخاص، تنويها بشأنه وتعظيما لأمره، وتفخيما لحاله كما في الكتاب والسنة، وجاء ذكر العام بعد الخاص.

(2)

كالرافضة يتبرءون منهم ويسبونهم.

(3)

وعبده يعبده عبودية وحده وأطاع له، وخضع وذلك وانقاد والتزم شرائع دينه، فالعبادة تتضمن غاية الذل لله والانقياد له، مع غاية المحبة له.

(4)

أي ما أمر الله به في الشرع، بأن لم يعلم طريقه إلا من الشارع، ويحرم اعتقاد غير المشروع مشروعا وطاعة وقربة ودينا، والأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله، وفي العادات الحل إلا ما حظره الله ورسوله، وفي الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، والعقود الأصل فيها الصحة إلا ما أبطله الله ورسوله والمطاعم الأصل فيها الإباحة إلا ما حرمه الله ورسوله، قاله الشيخ وغيره.

(5)

قاله الفخر وأبو البقاء وغيرهما، أي ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم، وفيه قصور، والتعريف الجامع المانع الشامل، قول شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين، والذكر، والدعاء، والمحبة والخشية، والإنابة، وغير ذلك، وقال أيضا: هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسن رسله.

ص: 42

(أما بعد) أي بعد ما ذكر من حمد الله والصلاة والسلام على رسوله (1) وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره (2) ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يأتي بها في خطبة وشبهها (3) حتى رواه الحافظ عبد القاهر الرهاوي في الأربعين التي له عن أربعين صحابيا (4) ذكره ابن قندس في حواشي المحرر (5) .

(1) صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم واتباعا لسبيل السلف من المصنفين وغيرهم.

(2)

أي يأتي بها المتكلم إذا كان في كلام وأراد الانتقال إلى غيره، ولا يؤتى بها في أول الكلام، وأسلوب بالضم أي من الطريق أو فن جمعه أساليب.

(3)

وهل أول من ابتدأ بها داود عليه السلام، أو قس بن ساعدة، أو كعب ابن لؤي، أو يعرب بن قحطان، أو سحبان فصيح العرب، أقوال، قالوا والأول أشبه.

(4)

أورد فيها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفصل بأما بعد، في الخطب والمراسلات على سبيل من صنف في الأربعينات، لما روى «من حفظ على أمتي أربعين حديثا» إلخ وعبد القاهر بالهاء وفي بعض النسخ بالدال بدل الهاء وهو الصواب كما في كشف الظنون وغيره نسبة إلى رها، بضم الراء بلدة بالجزيرة محدث حنبلي، مولى لبعض أهل الموصل فأعتقه، توفي سنة ستمائة واثنتي عشرة.

(5)

أي ذكر أن عبد القادر روى ذلك، وابن قندس هو الشيخ تقي الدين أبو بكر إبراهيم بن قندس البعلي الحنبلي صاحب حواشي المحرر، والفروع المشهورين، وغيرهما المتوفى سنة ثمانمائة وإحدى وستين، والحواشي مجلد ضخم، له على كتاب المحرر المشهور في الفقه، للإمام مجد الدين بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله.

ص: 43

وقيل إنها فصل الخطاب المشار إليه في الآية (1) والصحيح أنه الفصل بين الحق والباطل (2) والمعروف بناء بعد على الضم (3) وأجاز بعضهم تنوينها مرفوعة ومنصوبة (4) والفتح بلا تنوني على تقدير المضاف إليه (5) فهذا إشارة إلى ما تصوره في الذهن (6) وأقامه مقام المكتوب المقروء الموجود بالعيان (7) .

(1) وهي قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} وبه قال أبو موسى والشعبي.

(2)

أي أن فصل الخطاب المذكور في الآية هو الفصل بين الحق والباطل في الكلام والحكم، وهو المراد بالآية، وإنما يقال:(لأما بعد) فصل الخطاب لأنها تفصل بين الكلامين، أي تحجز بينهما.

(3)

إذا قطعت عن الإضافة مع نية المضاف إليه نحو {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} إذ الضم لا يدخلها إعرابا، لأنه لا يصلح وقوعا موقع الفاعل، ولا المبتدأ والخبر.

(4)

إخراجا لها عن الظرفية، ولقطعها عن الإضافة، مع عدم نية المضاف إليه لفظا ومعنى، وتعرب إذا أضيفت كقوله:(من بعدهم) و (أما) فيها معنى الشرط أو حرف شرط، و (بعد) قائم مقام الشرط، والأصل: مهما يكن من شيء بعد.

(5)

إذ لم تكن غاية وغاية الكلام ما بقي بعد الحذف.

(6)

بالكسر الذكاء والفطنة والفهم والعقل، والقوة في العقل وحفظ القلب، والجمع أذهان ولما كانت أما متضمنة معنى الشرط أتى بالفاء الجزائية.

(7)

بكسر العين، من عاين الشيء معاينة وعيانا، رآه بعينه، ومقام بضم الميم، لأن ماضيه رباعي، يعني أنه لما تأكد عزمه على تصنيفه عامله معاملة الموجود فأشار إليه وهذا المعروف في اللغة وقال الله تعالى:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} وقيل بل ترك موضع الخطبة مبيضا إلى أن فرغ من تصنيف الكتاب، ثم كتب الخطبة وتكون إشارة إلى موجود، والأول هو المعروف، ويقع الثاني.

ص: 44

(مختصر) أي موجز وهو ما قل لفظه وكثر معناه (1) قال علي رضي الله عنه: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل (2)(في الفقه) وهو لغة الفهم (3) .

(1) ويقال تجريد اللفظ اليسير، من اللفظ الكثير، مع بقاء المعنى، وفي الكليات، تقليل المباني، مع إيفاء المعاني، وبالغ رحمه الله في اختصاره، لئلا تنفر النفس منه.

(2)

بضم الطاء المهملة، من طال المجرد ويمل بضم الياء المثناة مبني للمجهول أي يسأم منه، ويضجر من طوله، وعلي هو ابن أبي طالب، أمير المؤمنين، وصهر النبي صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به من الصبيان، والخليفة الرابع، ولد قبل البعثة بعشر، وقتله ابن ملجم سنة أربعين، بمسجد الكوفة، وفضائله رضي الله عنه مشهورة، معروفة.

(3)

وقال ابن القيم: الفقه فهم المعنى المراد، ويقال: العلم بالشيء والفهم له، ويقال: الفطنة وقد غلب على علم الدين لشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، وقال: الفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت الناس في هذا تفاوت مراتبهم في الفقه والعلم اهـ. وجعلته العرب خاصا بعلم الشريعة، وتخصيصا بعلم الفروع منها، ولغة نصب على نزع الخافض، أو على الحال، أو على التمييز، والأول أحسنها، ومثله عرفا، وشرعا واصطلاحا وتقدم تعريف اللغة. والفهم بفتح الفاء وسكون الهاء إدراك معنى الكلام، لا جودة الذهن، وفي الواضح: إدراك معنى الشيء بسرعة، وفي الفتح: فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من

قول أو فعل وفي الصحيح «من يرد الله به خيرا يفقهه» والتفقه أخذ الفقه شيئا فشيئا وفقه غاص علما لاستخراج معنى القول، فمعناه استخراج الغوامض، والاطلاع على أسرار الكلم، ويقال فقه بالكسر لمطلق الفهم، وبالضم إذا كان له سجية، وبالفتح إذا ظهر على غيره، والفقيه من عرف الأحكام الشرعية بأدلتها وعند عامة العقلاء والفقهاء أنه لايمكن الخوض في علم من العلوم إلا بعد تصور ذلك العلم، والتصور مستفاد من التعريفات.

ص: 45

واصطلاحا: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية (1) بالاستدلال بالفعل (2) أو بالقوة القريبة (3) .

(1) أخرج العقلية والأصولية، والأحكام جمع حكم، وهو ثبوت أمر لأمر أو نفيه عنه، والحكم الشرعي هو مدلول خطاب الشرع.

(2)

الاستدلال استفعال، من دل يدل طلب الدليل بالفعل، أي طلب الحكم بالنظر في الأدلة واستخراجها حالا إذا أورد عليه السائل مسألة قال كذا وكذا، وقال بعضهم: الاستدلال إقامة الدليل من نص أو إجماع أو قياس أو غيرها.

(3)

أي من الفعل: وهي الأهلية لاستخراج الأحكام بالاستدلال، ولو لم يكن حالا، لكنه معه قوة يستخرج بها الدليل من الكتاب والسنة بالبحث والمطالعة فخرج المقلد ويقال: التهيئ ومعرفة مكان المسألة إذا طلبها لمعرفتها، فإن إطلاقه على التهيئ شائع عرفا، وأفضل العلوم بعد أصل الدين الفقه، وهو الأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام، وحده: علم شرعي عملي، مكتسب من دليل تفصيلي، وموضوعه: أفعال المكلفين، واستمداده: من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وسائر الأدلة المعروفة، كالاستصحاب، وفائدته امتثال: أوامر الله، واجتناب نواهيه، المحصلين للفوائد الدنيوية والأخروية، وحكمه: الوجوب العيني، أو الكفائي، وواضعه: الأئمة المجتهدون.

ص: 46

(من مقنع) أي من الكتاب المسمى بالمقنع (1) تأليف (الإمام) المقتدى به شيخ المذهب (الموفق أبي محمد) عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة (2) المقدسي (3) تغمده الله برحمته (4) وأعاد علينا من بركته (5) .

(1) المشتهر أي اشتهار، عند علماء المذهب، وعكف الناس عليه وخدموه بالشروح والحواشي، منها الشرح الكبير، والإنصاف والممتع والمبدع والمطلع وغيرها.

(2)

ابن مقدام بن نصر بن عبد الله بن حذيفة بن محمد بن يعقوب بن القاسم ابن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(3)

الأصل: ثم الدمشقي، الصالحي أحد الأعلام الزاهد الورع الفقيه المشهور ومن بعده عيال عليه ولد بجماعيل، سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقدم دمشق، ورحل إلى بغداد، ثم رجع وصنف ودرس، كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، قال شيخ الإسلام: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه منه، وقال ابن الصلاح: ما رأيت مثل الموفق، توفي رحمه الله سنة ستمائة وعشرين.

(4)

أي غمره بها، وتقدم.

(5)

أعاد وأرجع وكرر، والبركة النماء والزيادة قال شيخ الإسلام، قول القائل: أنا في بركة فلان، إن أراد بركة مستقلة بتحصيل المصالح، ودفع المضار، فكذب وشرك، وإن أراد أن فلانا دعا لي فانتفعت بدعائه، أو أنه علمني وأدبني فأنا في بركة ما انتفعت به وتأديبه فصحيح، وإن أراد بذلك أنه بعد موته يجلب المنافع، ويدفع المضار، أو مجرد صلاحه ودينه قربة من الله ينفعني، من غير أن أطيع الله فكذب وقال أيضا قول القائل ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه أو ما أمره به وعلمه من الخير، وبركة معاونته على الحق، وموالاته في الدين ونحو ذلك.

وهذه كلها معان صحيحة، لا استقلاله بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه أو غير قادر عليه فمن البدع.

ص: 47

(على قول واحد) وكذلك صنعت في شرحه، فلم أتعرض للخلاف طلبا للاختصار (1)(وهو) أي ذلك القول الواحد الذي يذكره ويحذف ما سواه من الأقوال إن كانت هو القول (الراجح) أي المعتمد (2)(في مذهب) إمام الأئمة وناصر السنة (3) أبي عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل (4) .

(1) تقدم معنى الاختصار وقد بلغا الغاية فيه، فلم يتعرضا للخلاف لا مطلقا ولا بين الأصحاب، إلا الشارح نادرا والاختلاف بين الأصحاب إنما يكون لقوة الدليل من الجانبين، وكل واحد ممن قال بتلك المقالة إمام يقتدى به فيجوز تقليده ما لم يظهر رجحان غيره بحجة، ويكون في الغالب مذهبا لإمامه، ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، وتقدم أن المرء مأمور أن يجتهد، ويتقي الله ما استطاع.

(2)

في الغالب، وسيمر بك ما ليس بمعتمد، بل مخالف لنص أحمد، فضلا عن نص الشرع، وقوله إن كانت أي وجدت فكان هنا تامة.

(3)

أي في طريق ومعتقد قدوة الأئمة، وناصر السنة، أي منجي الطريقة المحمدية، ومخلصها مما أحدثه المبتدعة، لقب بذلك لنصرته لها حيث ماجت البدع، بإبرازه الحجج وصبره على المحن.

(4)

ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس ابن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان، البطن المتسع الشعوب في صدر الإسلام.

ص: 48

الشيباني نسبة لجده شيبان بن ذهل بن ثعلبة (1) والمذهب في الأصل الذهاب أو زمانه أو مكانه (2) ثم أطلق على ما قاله المجتهد بدليل ومات قائلا به (3) وكذا ما أجري مجرى قوله من فعل أو إيماء ونحوه (4) .

(1) ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، البطن المعروف، ولد الإمام أحمد رحمه الله ببغداد سنة 164 هـ ورحل إلى المدينة ومكة واليمن والشام والكوفة والبصرة والجزيرة، وأخذ عن بشر منهم: ابن علية وسفيان، وهشيم، وعبد الرزاق، ومعتمر، وغيرهم، وعنه البخاري، ومسلم، وابن مهدي، والشافعي، وخلق قال الشيخ: كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ولهذا لا يكاد يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى، وأكثر مفاريده يكون قوله فيها راجحا، ومن مصنفاته المسند ثلاثون ألف حديث، والتفسير مائة وخمسون ألف حديث، ولم يؤلف رحمه الله في الفقه، وإنما أخذ أصحابه مذهبه من أقوال وأفعاله وأجوبته ونحو ذلك، توفي رحمه الله سنة مائتين وإحدى وأربعين، وكان يوما مشهودا.

(2)

مفعل من ذهب يذهب إذا مضى، والمقصود به هنا المصدر، أي ظاهر ذهابه و: في الأصل: يعني في اللغة.

(3)

والمجتهد في الشيء الباذل الواسع والطاقة في طلب ما فيه كلفة ومشقة وكان المذهب عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية.

(4)

كتصحيح خبر، أو تحسينه أو تدوينه، أو تعليل قول وكتنبيه ويطلق المذهب عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، من باب إطلاق الشيء على جزئه الأهم، ومجرى بضم الميم، لأنه من أجرى الرباعي.

ص: 49

(وربما حذفت منه مسائل) جمع مسألة من السؤال وهي ما يبرهن عنه في العلم (1)(نادرة) أي قليلة (الوقوع) لعدم شدة الحاجة إليها (2)(وزدت) على ما في المقنع من الفوائد (ما على مثله يعتمد) أي يعول لموافقته الصحيح (3)(إذ الهمم قد قصرت)(4) تعليل لاختصاره المقنع (5) .

(1) أي ربما حذف الماتن مما في المقنع مسائل نادرة الوقوع، فلم يذكرها في هذا المتن، يعني زاد المستقنع طلبا للاختصار، ويأتي تعليله وهو قوله: إذ الهمم قد قصرت إلخ.

(2)

ويكون الغرض من ذلك العلم معرفتها، أو استدعاء معرفتها، أو ما يؤدي إليها، وتطلق على القضية المطلوب بيانها في العلم، والنبذة من بعض الأبواب وبرهن الشيء وعليه وعنه أقام عليه البرهان، والبرهان الحجة الفاصلة البينة، والعلم ما يستدل به على الطريق وسمي العالم البارع بذلك لأنه يهتدى به.

(3)

أي زاد رحمه الله في هذا المتن عما في المقنع، وأشار لمدحه من وجوه كثيرة، كونه في الفقه، وكونه مختصرا، وكون اختصاره من كتاب المقنع، وكون المقنع للموفق، وهما هما، وكونه على قول واحد، وكون ذلك القول هو الراجح من مذهب أحمد، وكونه حذف ما ندر وقوعه، وزاد ما على مثله يعتمد.

(4)

قصر عن الأمر يقصر قصورا من باب قعد، انتهى وعنه عجز وبالتشديد كل عنه.

(5)

العلة المرض الشاغل، جمعها علات وعلل، وجمع الجمع أعلال، وهذه علة هذا أي سببه، أو حكمة الشيء، وعلل بين علته، وشرعا عبارة عما يجب الحكم به معه.

ص: 50

والهمم جمع همة بفتح الهاء وكسرها، يقال هممت بالشيء إذا أردته (1)(والأسباب) جمع سبب وهو ما يتوصل به إلى المقصود (2)(المثبطة) أي الشاغلة (3)(عن نيل) أي إدراك (المراد) أي المقصود (قد كثرت) لسبق القضاء بأنه «لا يأتي عليكم زمان إلا وما بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» (4)(و) هذا المختصر (مع صغر حجمه حوى) أي جمع (ما يغني عن التطويل)(5) .

(1) بفتح التاء، فإن فسر بأي فبالضم قال بعضهم.

إذا كنيت بأي فعلاً تفسره

فضم تاءك فيه ضم معترف

وإن تكون بإذا يومًا تفسره

ففتحك التاء أمر غير مختلف

(2)

وقال في النهاية: وأصله من السبب: وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشيء.

(3)

وقيل المقعدة: وهو أولى قال بعض أهل العلم: ازدحام العلوم مضلة أفهام.

(4)

رواه البخاري وغيره، والمراد القضاء الكوني القدري، لا الشرعي الديني فإنه سبحانه يريد الخير ويأمر به، ولم يأمر بالشر بل نهى عنه، ولم يرضه دينا، وشرعا، وإن كان مريدا له خلقا وقدرا، بل أرسل الرسل وأنزل الكتب، إعذارا وإنذارا، {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .

(5)

حجم الشيء ضخامته وجيده، وملمسه الناتئ تحت يدك، وفي الحديث «لا يصف حجم عظامها» والتطويل مصدر طول الشيء جعله طويلا، أي ما يغني عن جعل اللفظ زائدا على أصل المراد، لا لفائدة، فهو كتاب صغر حجمه وكثر علمه، وجمع فأوعى، وفاق أضرابه جنسا ونوعا، لم تسمح قريحة بمثاله، ولم ينسج ناسج على منواله.

ص: 51

لاشتماله على جل المهمات التي يكثر وقوعها ولو بمفهومه (1)(ولا حول ولا قوة إلا بالله) أي لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك إلا بالله (2) وقيل لا حول عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله (3) والمعنى الأول أجمع وأشمل (4)(وهو حسبنا) أي كافينا (5)(ونعم الوكيل) جل جلاله أي المفوض إليه تدبير خلقه (6) .

(1) أي لاشتمال هذا المختصر صغير الحجم على جل: بضم الجيم أي معظم الأمور العظيمة، ولو بمفهومه أي ولو كان اشتماله على ذلك بالمفهوم إذ المفهوم على جميع أنواعه حجة على الصحيح، والمفهوم هو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، نحو {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه يدل على تحريم ما هو أعظم منه كالضرب.

(2)

متبرئا من حول نفسه ومن قوته إلا بالله وحده.

(3)

روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفي النهاية الحول ههنا الحركة يقال حال الشخص يحول إذا تحرك المعنى لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله، وقيل: الحول الحيلة والأول أشبه اهـ. والحول معناه الحيلة والمحاولة والتحيل، يقال ما للرجل حول ولا احتيال، والقوة معناها القدرة وقال الخطابي: معناه إظهار الفقر، وطلب المعونة من الله على ما يزاوله من الأمور أي يعالجه، وفي بعض النسخ: ولا قدرة على ذلك إلا بالله.

(4)

قاله شيخ الإسلام وغيره لدخول غيره في معناه.

(5)

ومغنيا عن غيره، وكل ما في الوجود منه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لا منع، لا إله غيره، ولا رب سواه، و (حسبنا) من أحسبه إذا كفاه.

(6)

الموكول إليه أمورهم أو نعم الموكول إليه هو سبحانه قال النحاس وقول حسبي الله، أحسن من قوله: وحسبنا، لما في الثاني من التعظيم، ورجح شيخ الإسلام وغيره ضمير الجمع في الدعاء، لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين.

ص: 52

والقائم بمصالحهم أو الحافظ (1) ونعم الوكيل إما معطوف على: وهو حسبنا، والمخصوص محذوف، أو على: حسبنا: والمخصوص هو الضمير المتقدم (2) .

(1) أي أو الوكيل الحافظ، فلا يغيب عنه شيء ولاينساه.

(2)

أي: نعم الوكيل الله، كنعم العبد أيوب، وعلى الثاني، وهو نعم الوكيل.

ص: 53