الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
هذا كتاب دراسي (أكاديمي) أريد منه بالدرجة الأولى عرض وتحليل الهيكل الأساسي المتفق عليه لأحداث سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوزيع مساحات البحث بشكل متكافىء على كافة جوانب الموضوع.. وهذا الكتاب يجيء ثمرة طبيعية لتدريس هذه المادة في كلية الآداب ما يزيد على الست سنوات، الأمر الذي أتاح لي احتكاكا عمليا مباشرا بالموضوع، ودفعني للبحث عن أشد الصور المنهجية ملائمة لتوصيل المادة للطالب الجامعي، وتمكينه من الإحاطة بوحداتها الأساسية إحاطة علمية مركزة ومتوازنة، ترفض الجنوح صوب الخيال القصصي الإسرائيلي، والتهويل الأسطوري، أو التطرف- في الوقت ذاته- صوب النظرة المادية التي تقتل في السيرة روحها وتطمس على شخصيتها.
كما أن هذه الدراسة تسعى لتجاوز منطق الدفاع- قدر الإمكان- لكي تجعل الحقائق المجردة نفسها تشكل في ذهن الدارس النسق الحقيقي للسيرة، وتدفع كل ما علق بها في الماضي والحاضر من تهاويل وإضافات ومفتريات ما كان لها أن تصمد أمام (الواقعة) التاريخية نفسها، وليس غير الواقعة التاريخية حكما وقاضيا.
ومن ثم كان الرجوع إلى طبقة المصادر الأساسية في الموضوع (وبخاصة سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري ومغازي الواقدي وأنساب البلاذري وصحيح البخاري
…
) ، والتعامل المباشر معها. وتجاوز (التضخّم) الذي عانته المصادر المتأخرة، و (الارتجال) الذي مارسته المراجع الحديثة، أمران لازمان لبناء صورة أقرب إلى الواقع التاريخي قدر المستطاع «1» .
(1) عن نقد مصادر السيرة انظر جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، الفصل الأول ص 6- 35 ومقاله القيم في مجلة (المجمع العلمي العراقي) المجلد الأول، السنة الأولى.
إن سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم تجربة غنية بأحداثها، زاخرة بدلالاتها، متنوعة بمعطياتها، وما كان لباحث يسعى إلى إيفائها حقها من البحث والتحليل إلا أن يوسع نطاق رؤياه ويصبّ اهتماماته على هذه الجوانب جميعا؛ حركية وسياسية وعسكرية وشخصية وفقهية وروحية وواقعية وغيبية وعقيدية وحضارية.
ولم أشأ- من أجل تركيز الصورة وتحديد أبعادها بدقة- أن التزم الخط الزمني لأحداث السيرة، ذلك الخط الذي وقع في أسره معظم الباحثين، فضاعت في مجراه حقائق، وطمست دلالات وقيم، ما كان لها أن تضيع أو تنطمس لو قسمت وقائع السيرة إلى وحدات متجانسة خصص لكل وحدة منها مساحة مناسبة في البحث، استقصيت فيها سائر جوانبها ونسقت جلّ وقائعها، وحللت معظم دلالاتها وقيمها.
ومعروف أن التزام المجرى الزمني يدفع الباحث إلى أن يحشر في النقطة الواحدة، أو المقطع الواحد، مجموعة أحداث ووقائق متنافرة متقاطعة غير متجانسة، ويلجئه أحيانا أخرى إلى تقطيع الواقعة الواحدة إلى أجزاء متناثرة لا يضمها إطار واحد ولا يوحدها تجانس نوعي، وهذا- بطبيعة الحال- نتيجة محتمة للسعي وراء منطق التقسيم الرياضي الصارم للأيام والسنين، وهو الأسلوب الذي اعتمده مؤرخونا القدماء وعرفوه باسم (الحوليات) ، حيث لم يكن علم التاريخ ولا مناهج البحث فيه قد استكملت أسبابها بعد.
من أجل ذلك جاء هذا البحث يعرض أحداث السيرة كوحدات محددة الأبعاد، وبخاصة في عصرها المدني حيث تكثر الروايات وتتكاثف الأخبار وتزدحم التفاصيل.. تناولت فيها على التوالي: محمد بين الميلاد والنبوة، الدعوة في عصرها المكي، تحليل للهجرة، دولة الإسلام في المدينة، الصراع مع الوثنية، العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية، الصراع مع اليهود، ثم حركة النفاق في العصر المدني. وبقدر ما رأيت في بعض الروايات والأخبار قوة وأهمية، فوقفت عندها طويلا محللا مستنتجا، رابطا إياها في نسقها النوعي من الوقائع، بقدر ما لمست في روايات وأخبار أخرى ضعفا وانعدام أهمية فأغفلتها إغفالا تاما، أو مررت بها مرورا سريعا معتمدا في ذلك على المقياس الصارم وهو قبول كل ما لا يتعارض مع آيات القرآن الكريم ومعطيات السنن الصحيحة، ورفض ما عدا ذلك أو- على الأقل- عدم التسليم المطلق به.
إن اعتماد بعض المؤرخين المحدثين على عدد من مصادر المتأخرين (كالحلبي وأبي الفدا والمقريزي وابن الأثير.. إلخ) كمصادر محورية، وتغافلهم عن واحد أو أكثر من المصادر الأساسية الواردة، آنفا، جعلهم يتركون ثغرات عميقة في صلب أبحاثهم، كما دفعهم إلى سرد الكثير من الإضافات (المتأخرة) التي لا تعرفها المصادر الأولى، ومن ثم تضخيم وقائع السيرة إلى أضعاف حجمها الحقيقي على حساب الوقائع نفسها. لذا كان لا بد- مرة أخرى- من عرض كافة الروايات على معطيات القرآن والسنة والمصادر الأولى- على ما في الأخيرة من إضافات وثغرات- وعلى مقولات العقل الخالص، ثم على الأرضية التاريخية التي تحركت فوقها الأحداث، ونمت، واكتسبت ملامحها النهائية. وكل ما لا ينسجم مع هذا أو مع ذاك كان له أن يلغى من حساب المؤرخ الجاد، أو ينسحب- على الأقل- إلى الخط الثاني من روايات السيرة ووقائعها الغنية المتشابكة.
إن النبي العربي- يقول الدكتور جواد علي «1» - هو «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. وهو عبد الله ورسوله، ونبي وبشر مثل سائر البشر إلا في النبوة ونزول الوحي عليه. فقد ورد في القرآن الكريم: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «2» . وعلى هذه الآية وبوحيها يجب السير في تدوين السيرة النبوية وتاريخها، ولو سار المؤرخ بموجبها وبموجب وحي آيات القرآن الآخرى، لجنب نفسه الوقوع في المزالق والماخذ، وجعل السيرة النبوية، سيرة حية: سيرة نبي مرسل بالمعنى الإسلامي الصحيح الذي نجد روحه في الآية المذكورة. ولو جنب أصحاب السير المتأخرون سيرهم القصص الإسرائيلي الذي أدخل على السيرة وعلى الإسلام، والذي لا يتفق مع هذه الآية ومع أحكام القرآن، لأراحوا السيرة وجنّبوا الناس الأخذ بهذا القصص الذي بنى عليه بعض المستشرقين أحكاما وآراء أساءت كثيرا إلى الإسلام، وأرادوا بها التشكيك بصاحب الرسالة والمسلمين» «3» .
(1) تاريخ العرب في الإسلام، الجزء الأول، هو من أدق المراجع الحديثة في السيرة، ولا تقل عنه دقة وأهمية أبحاث كل من: صالح أحمد العلي ومحمد عزة دروزة وإبراهيم أحمد الشريف ومحمد الغزالي في الطبعات الأخيرة لكتابه (فقه السيرة) التي خرج الشيخ الألباني أحاديثها، ومحمد سعيد رمضان ومحمود شيت خطاب، (انظر قائمة المصادر والمراجع) .
(2)
سورة الكهف: الآية 110.
(3)
جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام 1/ 75.
ويؤكد المؤرخ المذكور أن «في أغلب الروايات التي يتصل سندها بكعب الأحبار أو محمد بن كعب القرظي أو النعمان السبائي، وهم من مسلمة يهود، أو غيرهم من مسلمة أهل الكتاب طابع القصص الإسرائيلي، وفي أغلبه دسّ على الرسول وعلى الإسلام، كما في قصة الغرانيق وفي أمور أخرى
…
ويظهر من دراسة هذا النوع من القصص أن أصحابه كانوا يريدون من روايته ونشره وإدخاله بين المسلمين أمرا، وأن قلوبهم لم تكن مسلمة كألسنتهم، وأنهم كذبوا على التوراة والإنجيل أحيانا وذلك على سبيل التودد إلى المسلمين والتقرب إليهم على ما يبدو» .. ويمضي إلى القول بأن مما يلاحظ «أن معظم هذا القصص المتقدم هو ما يرد في الكتب المتأخرة، أما الكتب الواصلة إلينا من أول عهد المسلمين بالتدوين، فقد كانت تتحاشاه في الغالب، ولا تميل إليه ولا إلى الخوارق والمعاجز، وهو قصص مخالف لما جاء في القرآن الكريم عن الرسول ولحديث الرسول، ولروح الإسلام، ولهذا وجب أن يكون اعتماد المؤرخ على هذا الموارد المتقدمة المحترمة في نظر النقاد أمثال: كتب الصحاح في الحديث وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري. وسندنا الأول بالطبع ومرشدنا قبل كل هذه هو القرآن» «1» .
وعلى المستوى الحربي يقول محمود شيت خطاب، بصدد المنهج الذي اعتمده في كتابه عن (الرسول القائد) :«وقد أغفلت ذكر الحوادث التي لا يمكن أن تحدث في الحرب فعلا، تلك الحوادث التي يرددها بعض المؤرخين ليثبتوا للناس أن انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالخوارق غير الاعتيادية بالدرجة الأولى، لا بتطبيق مبادىء الحرب. ومن الغريب أنهم يعتبرون ذلك من مظاهر الإيمان برسالة النبي.. لقد كان محمد واقعيا بعيدا عن الخيال، وكان إذا أراد شيئا هيّأ له أسبابه.. وقد عمل بكل مبادىء الحرب المعروفة، إضافة إلى مزاياه الشخصية الآخرى في القيادة، لهذا انتصر على أعدائه، ولو أغفل شيئا من الحذر والحيطة والاستعداد لتبدّل الحال غير الحال» «2» .
ونحن نلتقي بهذا التحذير من تضخيم السيرة، وبخاصة فيما قبل البعثة، بحشد من القصص والإسرائيليات والخوارق، في كتاب محمد عزة دروزة القيّم
(1) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام 1/ 33- 34.
(2)
الرسول القائد، المقدمة ص 6- 7.
لكن أيا من المؤرخين السابقين، أو غيرهم من المؤرخين الجادّين، لم يقل إن الضرورة المنهجية الملحّة لرفض الإسرائيليات والقصص والخوارق تدعونا أن نقطع السيرة عن أية صلة لها بعالم الغيب (الميتافيزيقا) - كما يرغب دعاة التفسير المادي للتاريخ أن يكون- لأن معنى هذا بوضوح نكران لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم واتصاله عن طريق الوحي غير المرئي- بعالم (الغيب) في السماء، كما أنهم لم يقولوا- ولا أي من المؤرخين الجادين- أن رفض القصص والخوارق يدعونا بالضرورة إلى رفض الاعتقاد بأن الله سبحانه طمس على أعين المشركين الذين حاصروا دار الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل هجرته، سعيا وراء قتله، أو أنه صدّهم عن إلقاء القبض عليه وهو مختبىء وصاحبه في الغار، أو أنه أنزل ملائكته من السماء لتنصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في معركة بدر، ومعارك أخرى تلتها..
إن كثيرا من وقائع السيرة، وأخبارها أوضح من أن تتكلف فيها الشروح والتفاسير والتعليقات، ومن ثم فهي لن تحتاج إلا إلى قدر معقول من تنسيق المادة الأولية وترتيبها، قائم على منهج علمي في الانتقاء والاستبعاد، ليس كذلك
(1) عصر الرسول 1/ 25- 26.
الذي اعتمده كثير من الباحثين المحدثين، وبخاصة طبقة المستشرقين الأولين التي حكّمت الظن وانساقت وراء الهوى، وهي تنتقي وتستبعد، أو تحلل وتستنتج وفق منهج بحث لا تقرّه بداهات العلم.
وهنا أحب أن أقف بعض الوقت لأعرض بإيجاز لهذه المسألة المنهجية، التي سوف لن أعود إليها مرة أخرى إلا لماما، خوف أن تندّ بي عن المنهج الموضوعي في دراسة السيرة من مصادرها (الأساسية) وبيئتها (الواقعية) بعيدا عن الرؤى والإسقاطات المعاصرة، شخصية ومذهبية، مما يتطلب بحثا آخر يضم مطولات من الردود والإثباتات والتحليل والمناقشات أحسب أنها تتم فعلا وأنها في طريقها إلى الظهور «1» .
ويمضي الدكتور جواد علي إلى القول بأن كثيرا من المستشرقين «غالوا في كتاباتهم في السيرة النبوية، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك في السيرة. وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجود النبي. وطريقة مثل هذه دفعتهم إلى الاستعانة بالشاذ والغريب فقدموه على المعروف المشهور. استعانوا بالشاذ ولو كان متأخرا، أو كان من النوع الذي
(1) يذكر أحد الأساتذة أن صديقه الدكتور حسين مؤنس أخبره أنه يعكف منذ مدة ليست بالقصيرة على دراسة كافة معطيات المستشرقين في حقل السيرة، ومناقشتها مناقشة شاملة في بحث مستقل.
(2)
تاريخ 1/ 8- 9.
استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك. ومهما قالوا في نسبة التاريخ الصحيح في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن سيرة الرسول هي أوضح وأطول سيرة نعرفها بين سير جميع الرسل والأنبياء..
والذين يؤاخذون المستشرقين على سلوكهم هذا المسلك من النقد يؤاخذون كذلك من يحاول من المسلمين كتابة التاريخ متأثرا بعاطفته وهواه. فهم لا يريدون توجيه اللوم إلى المستشرقين وحدهم لتأثرهم بعاطفتهم ثم يتركون من يركب هذا المركب من الشرقيين دون لوم ولا تعنيف» «1» .
فالمنهج العلمي هو المنهج العلمي، والخروج عنه خروج عن العلم الصحيح سواء مارسه رجل في أقصى الغرب أم في أقصى الشرق، وسواء كان وراءه إنسان يتعبد في كنيسة أم يصلّي في مسجد.. والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) .. ولم يحدد صلى الله عليه وسلم هوية الكاذبين وانتما آتهم الدينية والجغرافية.
ويحدثنا الدكتور (صالح أحمد العلي) كيف أن بداية الحركة الاستشراقية في مواقفها الظنية والعاطفية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت قد جانفت العلم كثيرا، ثم بدأت تعتدل شيئا فشيئا، «لقد تناول المستشرقون الغربيون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما تناولوا من الأبحاث عن التاريخ الإسلامي. ولا شك أن التعصب والتحامل كانا يطغيان على كتابات المستشرقين القدامى نظرا لتأثرهم بروح التعصب الديني الذي كان مسيطرا ومتبلورا بتأثير الحروب الصليبية، ونظرا لضعف معرفتهم باللغة العربية، وقلة المصادر المتوفرة لديهم. غير أنه لم يخل الغرب منذ أوائل العصور الحديثة من مفكرين معتدلين امتدحوا الإسلام «2» ولكن منذ القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام بدراسة المخطوطات العربية وطبعها، وأخذ المستشرقون يدرسون تاريخ الشرق لذاته متّبعين الطريقة العلمية التي كانت قد قطعت شوطا كبيرا من التقدم في الغرب. ومع أن فريقا منهم لم يتقن كل ذلك، إلا أن عددا غير قليل كان يتميّز بسعة الاطلاع، وبعد النظر، وعمق التفكير، مما ساعدهم على إنتاج مباحث تستثير التفكير والتقدير، رغم أنه لا يمكن القول بأن أحكامهم نهائية» «3» .
(1) تاريخ 1/ 9- 11.
(2)
انظر عنهم نور اندريه: محمد ص 243- 247.
(3)
محاضرات في تاريخ العرب 1/ 255- 256.
ويعود جواد علي ليبين لنا كيف أن (كايتاني) وهو من كبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا (معكوسا) في البحث يذكرنا بكثير من المختصين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطىء من أساسه إذ أنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك. فلقد كان كايتاني «ذا رأي وفكرة، وضع رأيه وكوّنه في السيرة قبل الشروع في تدوينها، فلما شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويها، وتمسّك بها كلها، ولا سيما ما يلائم رأيه، لم يبال بالخبر الضعيف، بل قواه وسنده وعدّه حجة، وبنى حكمه عليه. ومن يدري؟ فلعله كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها، لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إن ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث؟» «1» .
ومن المستشرقين أنفسهم من دفعهم جدّهم وموضوعيتهم- وهم ليسوا بالقليل- إلى نقد وتفنيد الأخطاء المنهجية التي مارسها رفاقهم في دراسة التاريخ عامة وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وإلى تعرية الدوافع التي تكمن وراء موقفهم هذا، سواء كانت محتشدة في الوعي أو منسربة في اللاشعور.. «لقد رأى (دينيه) أنه من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وأنهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يغشي على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم محمدا يتحدث بلهجة ألمانية، إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا، وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب. وإذا بحثنا في هذه السير عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر. إن المستشرقين يقدمون لنا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (وولتر سكوت) و (إسكندر ديماس)
(1) تاريخ 1/ 95.
وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة، فصوروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري. وأن الدكتور (سنوك هيرغرنجة) ليقول بحق في نهاية نقده لكتاب المستشرق غريم (إننا نرى أن الأستاذ غريم لو اقتصر على درس السيرة النبوية القديمة وبحثها بعمق لكان أفضل، وأن الثمار التي كان يمكن أن يجنيها من مثل هذا الدرس لهي أجدر ببلوغ الغاية التي توخّاها، ولكنه ظن أن هذا عمل ليست له أهمية كبيرة، وأراد أن يطرف الناس بنبأ جديد ففشل في وضع السير النبوية) ..» «1» .
وفي ختام كتاب (آتيين دينيه) القيم (الشرق كما يراه الغرب) ترد بعض الآراء حول (المنهج) حيث يقول «لقد أصاب الدكتور سنوك هيرغرنجة بقوله «إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضي عليها بالعقم إذا سخرت لآية نظرية أو رأي سابق» . هذه حقيقة يجمل بمستشرقي العصر جميعا أن يضعوها نصب أعينهم، فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التي تكلفهم من الجهود ما يجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شك خاطئة «2» . فقد يحتاجون في تأييد رأي من الآراء إلى هدم بعض الأخبار، وليس هذا بالأمر الهين، ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمر لا ريب مستحيل. إن العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول.. إلخ لا سيما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات» . ثم ما يلبث دينيه أن يضرب (مثلا عكسيا) فيقول: «ما رأي الأوروبيين في عالم من أقصى الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عن مؤرخي الفرنسيين ويمحصها بمنطقها الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشيليو) كما نعرفها، ليعيد لنا ريشيليو آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطباعه!؟ إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق برسمهم الحديث في سيرة
(1) آتيين دينيه: محمد رسول الله، مقدمة عبد الحليم محمود ص 27- 28 وانظر عن بعض نماذج تخبط المستشرقين في دراسة السيرة: المقدمة نفسها ص 28- 33 وهوامشها. وعن موقف القسيس لامانس (النموذجي) من السيرة انظر: المقدمة ص 35- 41.
(2)
انظر رأي جواد علي في كايتاني قبل قليل.
الرسول صلى الله عليه وسلم ويخيل إلينا أننا نسمع محمدا يتحدث في مؤلفاتهم إما باللهجة الألمانية أو البريطانية أو الفرنسية ولا نتمثله قط- بهذه العقلية والطباع التي ألصقت به- يحدّث عربا باللغة العربية» ، وينتهي المستشرق الفرنسي- الذي أعلن إسلامه- إلى القول «إن صورة نبيّنا الجليلة التي خلفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصور المصطنعة الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد» «1» .
ويحدثنا المستشرق البريطاني المعاصر (مونتكمري وات) في كتابه (محمد في مكة) كيف «إن عزيمة محمد في تحمّل الاضطهاد من أجل عقيدته، والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به، وكان لهم بمثابة القائد، وأخيرا عظمة عمله في منجزاته الأخيرة، كل ذلك يشهد باستقامته التي لا تتزعزع؛ فاتهام محمد بأنه دجّال Imposteur يثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حطّ من قدرها في الغرب كمحمد. فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد. وكلما ظهر أي تفسر نقدي لواقعة من الوقائع ممكنا قبلوه» . ثم يقدم (وات) قاعدة منهجية تكاد تكون بديهة من بداهات المنهج الأساسية، إلا أنها في موقف الغربيين إزاء شخصية محمد تضيع ويوقف العمل بها.. «فإذا أردنا أن نصحح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدده، فيجب علينا في كل حالة من الحالات، لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها، أن نتمسك بصلابة بصدقه، ويجب علينا ألا ننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه» «2» .
وفي مكان آخر يضرب (وات) بالمستشرق الفرنسي (لامانس) مثلا على الانحرافات المنهجية التي يمارسها كثير من المستشرقين، وبخاصة ذلك (الخطأ) الذي سبق أن ذكرناه والذي يقوم على جعل الوقائع التاريخية مجالا انتقائيا للتدليل على فكرة مسبقة أو اتجاه محدّد سلفا. إن لامانس «للأسف!! يتجاوز الأدلة كثيرا في ناحية أخرى، إذ أن طريقته العابثة (!!) في المعالجة ليست طريقة علمية (!!) ، فهو يرفض هذا الرأي ويقبل الآخر حسب أفكاره الخاصة ومعتقداته، دون أن يعبأ بالموضوعية. ففي عبارة (الأحابيش وعبيد أهل مكة) نجد أن (الواو)
(1) دينيه: محمد، المقدمة ص 43- 44.
(2)
محمد في مكة ص 94.
تفسيرية تشير إلى أن الأحابيش من ضمن العبيد، بينما نجد في عبارة (الأحابيش ومن أطاعهم- أي القرشيين- من قبائل كنانة وأهل تهامة) أن (الواو) تدل على تمييز تام. ولكن لماذا يفعل لامانس ذلك؟ يبدو أنه يؤكد تحقيق النظرية التي يحاول التدليل عليها» «1» .
ونحن نستطيع أن نحصل على عشرات، بل مئات، من هذا (الانتقاء الكيفي) أو التفسير (الاختياري) للنصوص التاريخية في كثير من كتب المستشرقين وبخاصة أجيالهم الأولى. فبروكلمان- على سبيل المثال- لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة، ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أشد ساعات محنته، ولكنه يقول «ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضا على كل حال» «2» . ويتغاضى (إسرائيل ولفنسون) عن حادثة نعيم ابن مسعود في معركة الخندق كسبب في انعدام الثقة بين المشركين واليهود «3» ، ولعله يريد أن يوحي بذلك أن اليهود لا يمكن أن يخدعوا!!
ودرمنغم يشير هو الآخر، وبوضوح أشد، إلى الأزمة المنهجية التي تعرّض معظم البحاث الغربيين عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأخطاء لن يغفرها العلم، وكيف أنها في العقود الأخيرة- بدأت تخف تدريجيا. إن سيرته- يقول درمنغم- «تحاط في زماننا بكثير من التحفظات، ولا ريب في مجاوزة النقد للحد أحيانا على وجوه مختلفة مع الأسف، ولكن من المؤكد أنه لا يحدث اليوم عن حياة محمد بتعابير ووجهات نظر كالتي جاءت في كتب التراجم الأخيرة التي ظهرت في المكتبة الفرنسية منذ خمسين سنة ككتاب واشنطن أرفنج» ، ويمضي درمنغم إلى القول بأنه «جد في البحث العلمي بعض العلماء في القرن التاسع عشر ومنهم كوسان دوبرسفال وموير وفيسل ومرغليوث ونولدكه وشپرنجر وهورغرنجه ودوزي، ثم تناوله- أي النبي صلى الله عليه وسلم مؤخرا كايتاني ولا مانس وماسنيون ومونته وكازانوفا وبيل وهوار وهوداس وأرنولد ومارسيه وغريم وغولدسيهر وغودفروا ومونبيه وغيرهم.
ومن المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصصين في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص.. ومن المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها
(1) محمد في مكة ص 242- 243.
(2)
تاريخ الشعوب الإسلامية ص 53- 54.
(3)
تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 145- 146.
المستشرقون سلبية ناقصة، ولن تقوم سيرة على النفي، وليس من مقاصد كتابي أن يقوم على سلسلة من المجادلات المتناقضة
…
ومن دواعي الأسف أن كان الأب لامانس، الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين، ومن أشدهم تعصبا، وأنه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام فعند هذا العالم اليسوعي أن الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن، فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلا أن يؤيد أحدهما الآخر؟» «1» .
وهذا يقودنا إلى موقف بعض المستشرقين من القرآن، كمصدر أساسي من مصادر السيرة، ذلك أن اعتماد القرآن في هذا المجال يمكن أن يعتبر سلاحا ذا حدين، اعتمد جانبه الإيجابي مؤرخون كجواد علي وصالح أحمد العلي ومحمد عزة دروزة، واعتمد الجانب السلبي مستشرقون كوات وشپرنجر، وولفنسون، وغيرهم، وذلك بنفي الكثير من أحداث السيرة، ما دامت لم ترد في القرآن الكريم؛ وكأن القرآن كتاب تاريخي خاص بتفاصيل حياة محمد صلى الله عليه وسلم!! وهذا مكنهم من عملية انتقاء مغرضة ذات طابع سلبي معاكس، وهي التشكيك ورفض كل رواية لا ترد مؤيداتها في القرآن، إذا كان في هذه الرواية تمجيد للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إذا كان في نفيها تأكيد لأحدى وجهات النظر الاستشراقية.
فمثلا نجد Sprenger يرى أن اسم النبي ورد في أربع سور من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمد والفتح، وكلها سور مدنية، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم للرسول قبل الهجرة، وإنما اتخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتصاله بالنصارى «2» !! وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد التقط اسم (محمد) من خلال قراآته لنبوآت الإنجيل فأين ذهب إذن (محمد) الحقيقي الذي بشر به العهدان القديم والجديد؟
وهنالك مثل آخر، إن إسرائيل ولفنسون يشير، بصدد مهاجمة يهود بني النضير، إلى أن مؤرخي العرب يذكرون سببا آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهودية ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم «لكن المستشرقين- يقول ولفنسون ينكرون صحة هذه الرواية ويستدلون على كذبها بعدم وجود ذكر لها في سورة
(1) حياة محمد: المقدمة ص 8، 10- 11.
(2)
انظر جواد علي: تاريخ 1/ 78 وهوامشها.
الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير.. والذي يظهر لكل ذي عينين (!!) أن بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبي واغتياله على مثل هذه الصورة لأنهم كانوا يخشون عاقبة فعلتهم هذه من أنصاره «1» ولو أنهم كانوا ينوون اغتياله غدرا لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أن يفاجئوه وهو يحادثهم إذ لم يكن معه غير قليل من أصحابه «2» » ، ويبدو أن ولفنسون يغافل هنا مسألة التركيب النفسي (لليهودي) وتجنّبه المعروف لأيّة مجابهة حقيقية!!
إننا في مجال الانتقاء والتفسير والنفي الاعتباطي هذا، نرجع- مرة أخرى- إلى عبارة (وات) الذكية والتي قالها في هذا الصدد، لكنه لم يلتزم العمل بها دائما!! .. «.. إذا أردنا أن نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد محمد، فيجب علينا في كل حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدها أن نتمسك بصلابة بصدقه، ويجب ألا ننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وإنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه» «3» .
وفضلا عن هذا، نجد أن الطابع العلماني، الوضعي، للمناهج الغربية في تعاملها مع تاريخنا، أوقع عددا من المستشرقين في خطأ آخر مفاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم مسبقا ما الذي يليها!! أي إن نشاطه كانت توحي به الظروف (الراهنة) ومتطلباتها ولوازمها. وأبرز مثل في هذا المجال ما ذكره (فلهاوزن) وعدد من رفاقه حول قومية الحركة الإسلامية في عصرها المكي، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة العالمية- في العصر المدني- إلا بعد أن أتاحت لها (الظروف) ذلك، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليفكر بذلك من قبل، وما قالوه حول اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب (اللاعنف) في العصر المكي وتحوله إلى القوة بعد أن شكل دولة في المدينة وتجمع حوله المقاتلون «لقد كان في وسع محمد- يقول فلها وزن- من طريق عقيدة تتجاوز دائرة معتنقيها الدائرة التي ترسمها رابطة الدم، أن يحطم رابطة الدم هذه لأنها لم تكن بريئة من العصبية وضيقها، ولا كانت ذات صبغة خارجية عارضة، هذا هو الذي جعلها لا تتسع لقبول عنصر غريب عنها، ولكن محمدا لم يرد ذلك. ومن الجائز أيضا أنه لم يكن يستطيع أن
(1) وهل كانت سايكولوجية الاغتيال ترتكز دائما على حسابات عقلية؟
(2)
تاريخ اليهود ص 135- 137.
(3)
محمد في مكة ص 94.
يتصور إمكان رابطة دينية في حدود غير حدود رابطة الدم» «1» .
ويرفض (سير توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) هذه الرؤية الخاطئة فيقول «من الغريب أن ينكر بعض المؤرخين أن الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادىء الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البيّنات «3» .. ومن بينهم السير وليم موير إذ يقول (إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد، وأن هذه الفكرة، على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنه فكر فيها، فقد كانت الفكرة غامضة، فإن عالمه الذي كان يفكر فيه إنما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيّأ إلا لها. وأن محمدا لم يوجه دعوته، منذ بعث إلى أن مات، إلا للعرب دون غيرهم) . وهكذا نرى أن نواة عالمية الإسلام قد غرست، ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فإنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج» «4» .
وفي مكان آخر يقول أرنولد «لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب بل إن للعالم أجمع نصيبا فيها، ولم يكن هناك غير إله واحد، كذلك لا يكون هناك غير دين واحد يدعى إليه الناس كافة» «5» .
ولم يقف أرنولد وحده؛ بمواجهة هذا الخطأ الواضح إنما هناك كولدزيهر «6»
(1) الدولة العربية وسقوطها ص 4.
(2)
المصدر السابق ص 22.
(3)
يستشهد أرنولد بالآيات التالية: سورة 36 آية 69- 70، سورة 21 آية 107، سورة 25 آية 1، سورة 24 آية 7، سورة 61 آية 9
…
الخ.
.44 -34 The Caliphate:pp. (4) وكايتاني آخر من يؤكد هذا الرأي 324 -323 Annali dell Islam:vol ،V.pp.: عن أرنولد: الدعوة إلى الإسلام هامش 2 ص 49- 50.
(5)
المصدر السابق ص 48.
(6)
عن أرنولد: الدعوة، هامش 1 ص 8452.vorles ungen uber den Islam ،P ،
ونولدكه «1» وسخاو «2» الذي يؤكد «أن الرسالة الإلهية ليست مقصورة على العرب، بل إن إرادة الله تشمل جميع المخلوقات، ومعنى ذلك خضوع الإنسانية كلها خضوعا مطلقا. وقد كان لمحمد بوصفه رسولا من الله، حق المطالبة بهذه الطاعة، وقد كان عليه أن يطالب بها، وهذا ما ظهر من أول الأمر جزء لا ينفصل من جملة ما أراد تحقيقه من مبادىء
…
» «3» .
ويرفض أرنولد الخطأ الآخر الذي يرى أن محمدا قد تحوّل إلى القوة بمجرد أن واتته الظروف، وهو رأي قد صرّح به- نقلا عن فلهاوزن- بعض الباحثين ولاسيما ميور عندما تحدث عن مذبحة بني قريظة فقال «إن الدعائم التي سار عليها محمد قدما كانت سياسية محضة، إذ أنه لم يكن قد أقر حتى ذلك الحين طريقة إكراه الناس على اعتناق الإسلام أو معاقبتهم على رفضه..» «4» .. إذ يقول أرنولد «إنما المهم أن نتبين كيف أن محمدا، عندما رأى أنه على رأس جماعة مسلّحة من أتباعه لم يتحوّل دفعه واحدة، كما قد يريدنا البعض على الاعتقاد، من داعية مسالم إلى متعصّب يحمل سيفه بيده ويفرض دينه على كل من استطاع، وقد أكّد الكتّاب الأوروبيون على ذلك مرارا» «5» .
إلا أن أرنولد لم ينج من الوقوع في الخطأ نفسه عند ما يقول «كانت رغبة محمد ترمي إلى تأسيس دين جديد، وقد نجح في هذا السبيل، ولكنه في الوقت نفسه أقام نظاما سياسيا له صفة جديدة متميزة تميزا تاما. وكانت رغبته بادىء الأمر مقصورة على توجيه بني وطنه إلى الاعتقاد بوحدانية الله» «6» .
غير أن أسوأ نموذج يمكن أن نجده لهذه الانحراف المنهجي، حول مسألة تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم بالظروف الراهنة، وتحركه وفق مستلزماتها، ما ذكره بندلي جوزي، أحد رواد التفسير المادّي للتاريخ الإسلامي، في كتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) حيث يقول «إن سياسة النبي مع المكيين قد تغيّرت كثيرا في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة ولأسباب عديدة أوجدتها الظروف وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه إلى غير ذلك من
(1) عن المصدر السابق، نفس الصفحة والهامش308 -307.WZKM ،vol.XXi ،pp..
(2)
عن المصدر السابق، نفس الصفحة والهامش.
(3)
أرنولد: الدعوة، هامش 1 ص 48.
(4)
المصدر السابق، هامش 1 ص 54.
(5)
المصدر السابق، ص 53- 54.
(6)
المصدر السابق، ص 52.
الانفعالات النفسية والعوامل السياسية التي ظهرت بعد موقعتي بدر وأحد وحصار المدينة، وكان من نتائجها أن النبي أخذ يلطّف من سياسته نحو إخوانه المكيين، كما أن أصحاب السلطة في مكة رأوا- بعد ما أصابهم في موقعة بدر، وبعد ما لحق بتجارهم من الخسائر- أن يتساهلوا في أمور كثيرة مع النبي على شروط تضمن لهم بقاء الكعبة والحج وعكاظ على ما كانت عليه قبل الإسلام، وأن يشملهم بالعفو- إلا بعض أشخاص- ويشركهم في عمله الجديد الذي أخذوا يتوقعون منه خيرا لأنفسهم. وربما كان من شروط التفاهم «1» أن يبقى النبي في المدينة وألايتعرض في كلامه لأمورهم المالية، فكانت الحديبية، وسياسة (تأليف القلوب) أو بعبارة أخرى سياسة التسامح والتساهل المتبادل) Compromis (فصار الناس (يدخلون في دين الله أفواجا) لا عن اعتقاد بصحة الدين الجديد الذي لم يكونوا يعرفون عنه إلا الشيء القليل، بل عن رغبة في التقرب من أصحاب السلطة الجدد، وحفظا لمراكزهم القديمة وثروتهم المجموعة في أجيال. يخيل لي- يقول جوزي- إن من جملة الشروط التي اتفق عليها الطرفان في الحديبية أو في زمان ومكان آخرين، أن يكفّ النبي عن الطعن في الملأ المكي، وأن لا يحرّض صعاليك العاصمة الحجازية وأرقاءها عليه، وهذا- على ما يظهر لي- أحد أهم أسباب خلو السور المدنية، ولاسيما تلك التي نزلت في الدور الأخير، من العبارات القارصة والطعن في سكان مكة «2» . وهناك سبب آخر لا يقل خطورة عن الذي ذكرناه الآن، وهو أن حالة النبي الاجتماعية في المدينة تغيرت- كما هو معلوم- تغيرا ظاهرا أدى إلى تغيير نفسيته. فكان من نتائج هذا التغيير ومن الأسباب التي ذكرنا بعضها وغيرها مما لم نذكر (؟) أن بعض إصلاحات النبي الاجتماعية والدينية جاءت مبتورة، وفيها شيء مما يدعوه الأوروبيون:
التساهل» «3» .
ويمضي بندلي جوزي إلى القول بأن «الدور المكي كان دور تمهيد
(1) أي تفاهم هذا؟ وفي أي مكان وزمان تم؟ وأية رواية أوردته؟ وفي أي مصدر على الإطلاق؟
(2)
هذه غاية ما يمكن أن يصل إليه مؤرخ من خروج على مستلزمات البحث العلمي، وعبث صريح بالوقائع التاريخية، وإلا ففي أي زمان ومكان وضعت هذه الشروط؟ وأين هي من شروط صلح الحديبية التي تواترت بنصوصها الحرفية في كافة المصادر والمراجع؟
(3)
من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ص 49- 50.
واستعداد، دور بثّ دعوة جديدة بين طبقات الأمة، دور حرب ونزاع كلامي بين رجل ثابت في مبادئه، مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها في البلاد، فهبّت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه، دور جهود وأحلام لو تحققت كلها لقلبت البلاد رأسا على عقب. ما أجمل هذا الدور وما أعظمه وما أحلى تلك الأحلام والمساعي التي بذلت في تحقيقها!! وأما الدور الثاني فكان دور عمل وتنظيم، ودور حروب وافتتاحات، ودور سياسة ومكاشفات أدّت إلى تساهل من الطرفين. ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض مطالب أو مبادىء، أو التلطّف في الطلب، والرجوع عن بعض الأفكار، أو وضعها في قالب يرضاه الفريقان. وهذا ما كان من أمر النبي العربي، ورئيس جمهورية مكة (أبو سفيان) الخبير المحنك الذي كان يتكلم بلسان الملأ المكي، هذا يعترف بسيادة النبي الروحية والعالمية، ويهجر الأوثان، ويؤدي الزكاة ويقيم الصلاة، وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني وأن يجعل لأعيان مكة وقادة أفكارها حظا في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة، وأن يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون. أما الفريق الثالث (أي الفقراء) ، وهو الطرف الذي استعرّت الحرب لأجله، وظهرت الدعوة لتحسين أحواله، فقد أرضوه في بادىء الأمر بشيء من الصدقات والزكاة ثم نسوه أو تناسوه بعد وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ منها» «1» .
إن فهم السيرة لا يمكن أن يتم إلا وفق نظرة شمولية تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدّد في قرآنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيته وذكائه وإمكاناته الفذة في التخطيط والتنفيذ.. ورغم أن القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس الأحداث وتعلق عليها (بعد وقوعها) إلا أنه بمجموعه كمبدأ (أيديولوجية) لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله. ومن ثم فإن (الظروف الراهنة) ليست هي الحتمية المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام وخطى
(1) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ص 51- 53.
رسوله إنما هناك (الهدف) الذي يفرض أحيانا (وقفة) ضد الأعراف والظروف و (تمردا) عليها و (انقلابا) شاملا على مواضعاتها، وهذا ما يبدو واضحا منذ أول لحظة، في الشعار الحاسم الذي طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بوجه الجاهلية (لا إله إلا الله!!) ، فأي ظرف راهن، موقوت، أوحى بهذا الشعار الانقلابي الشامل الذي جاء يدمر على الوجود الجاهلي جلّ قيمه وأهدافه ومعالمه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده؟!
إن توماس أرنولد يشير إلى ذلك بوضوح عندما يقول «لا يعزب عن البال كيف ظهر جليا أن الإسلام حركة حديثة العهد في بلاد العرب الوثنية، وكيف كانت تتعارض والمثل العليا في هذين المجتمعين تعارضا تاما. ذلك أن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب وإنما كان انقلابا كاملا لمثل الحياة التي كانت من قبل
…
والواقع أن المبادىء الأساسية في دعوة محمد كانت تعارض كثيرا ما كان ينظر إليه العرب نظرة ملؤها التقدير والإجلال حتى ذلك الحين، كما أنها كانت تعلّم حديثي العهد بالإسلام أن يعدوا من الفضائل صفات كانوا قبل إسلامهم ينظرون إليها نظرة الاحتقار» «1» .
إن القرآن الكريم كان قضية فوقية جاءت آياته لتقود الإنسان في كل زمان ومكان إلى عصر جديد، ولم يكن (ينفعل) انفعالا مؤقتا بالوضع السائد، سلبا وإيجابا، كما يتصور معظم المستشرقين مسيحيين وماركسيين، وإنما كان ينظر نظرة شمولية بعيدة كل البعد عن ردّ الفعل المباشر، وهذا هو الذي يفسر لنا الكثير من الأخطاء التي مارستها مناهج البحث الغربية.
ونحن لا نطلب من الغربيين هنا أن يؤمنوا أن القرآن منزل من السماء وأن محمدا رسول.. وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرّدا وموضوعية فينظروا إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كوحدة عضوية متكاملة، وإلى القرآن الكريم كبرنامج Ideology مترابط، تعلو معطياته على الظروف الموقوتة زمانا ومكانا، رغم ملامساتها اليومية المباشرة للوقائع الزمانية والمكانية، ولكنها الملامسة التي تنبثق عنها قيم ودلالات
(1) الدعوة إلى الإسلام ص 61- 62، وانظر بالتفصيل غولدتسيهر في مؤلفه Muhammedanis che Studien ،Vol.i.:
ذات طابع شمولي ما كان للمستشرقين أن يغافلوا عن أبعادها!!
وكما كشف المستشرقون، بتعمقهم ونفاذهم وإحاطتهم، النقاب عن الكثير من الجوانب المضطربة الغامضة في تاريخنا الإسلامي عامة، بما فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم- بأخطائهم المنهجية آنفة الذكر- طرحوا الكثير من النتائج والمعطيات الموضوعية الخاطئة، وهذا أمر طبيعي، فالخطأ لا ينتج إلّا الخطأ، والبعد عن الموضوعية، لا يقود إلا إلى نتائج لا تحمل من روح العلم والجدية إلا قليلا.
وليس هنا مجال عرض هذه المعطيات والنتائج، ومناقشتها، فلهذا مجال آخر كما سبق وأن ذكرنا
…
إلّا أننا نطرح فيما يلي نماذج محدودة فحسب من حصاد ضخم يمكن أن يجنيه كل دارس بتأن ورويّة، لما كتبوه عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حصاد يحمل في ثناياه عناصر تناقضه واضطرابه وخروجه عن البحث المنهجي الدقيق.
«وقد حالت الظروف بين الرسول وبين الشروع في شن حملة نظامية مباشرة على المشركين. فقد كانت فكرة الشرف العربية القديمة تمسك المهاجرين عن محاربة إخوانهم من قريش في حين كان المدنيون غير شديدي الميل إلى تعكير صفو السلم مع جيرانهم الأقوياء.. حتى إذا كان شهر رجب الحرام وجه جماعة من الغزاة بأوامر سرّية، فوفقت إلى مباغتة قافلة بالعروض، كانت حاميتها
(1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 44.
العسكرية تتقدمها مطمئنة إلى حرمة الشهر، فأصابت غنائم عظيمة عادت بها إلى المدينة. ولكن هذا النقض للقانون الخلقي القبلي لم يلبث أن أثار عاصفة من الاستنكار في المدينة نفسها، فما كان من محمد إلا أن أنكر صنيع أتباعه، الذي تم وفقا لرغباته بلا خلاف، وعزاه إلى سوء فهم لأوامره. ولم يجرؤ على إعلان شرعية الحرب ضد المشركين، وتوزيع الغنائم حتى في الشهر الحرام، إلا في آيات متأخرة، بعد أن كانت الغنائم العظيمة قد أثارت مطامعه إثارة كافية» «1» .
(1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 48- 49.
(2)
المصدر السابق ص 47، ولا بد من الإشارة هنا إلى تعليق لمترجمي الكتاب: البعلبكي وفارس، ورد بصدد هذه العبارة، ومفاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم أن التوراة مبدلة لأن فرق اليهود كانت مختلفة، وإن السامريين (اليهود الذين يسكنون اليوم في نابلس- قبل قيام إسرائيل-) يقولون إن لديهم توراة هي الصحيحة، بينما التوراة التي يملكها سائر اليهود غير صحيحة. ثم أن في العهد القديم أساطير كثيرة، فإذا كان محمد قد رفضها فإنه قد فعل ذلك على أساس علمي و (رفض الخطأ ليس جهلا) : المترجمان، حاشية 1 ص 47.
(3)
المصدر السابق ص 52.
(4)
المصدر السابق ص 56، وما لبث بروكلمان أن ذكر في نفس الصفحة أن المستقبل ما عتم أن برر موقف النبي في الحديبية؟!
«وطال أمد النضال بينهم وبين مشركي مكة حتى استغرق ثماني سنوات نشرت خلالها جيوش المسلمين الرعب في شتى بقاع شبه الجزيرة مما حمل كثيرا من القبائل على اعتناق الدين الجديد
…
وانتهى الأمر أخيرا بفتح مكة، الذي يصوّر الذروة التي آلت إليها قوة محمد. ففي هذا اليوم تطلّع أهل المدينة للأخذ بثأرهم من هؤلاء التجار المتكبرين الساخرين بهم.. غير أن أحلامهم تلاشت إذ أمر الرسول قواده باصطناع الرأفة البالغة، وساعده المكيون- صامتين- في تحطيم أصنامهم المنصوبة في الكعبة.. تعبدها شتى القبائل التي اعترفت بمحمد رسولا لله، والغيظ يملأ قلبها، وكتمت في نفسها الانتقام إلى يوم تسنح لها فيه الفرصة من هؤلاء الأجلاف: يهود المدينة (!!) الذين دنسوا الشرف بغزوهم لبلدهم.
وبعد أن تم فتح مكة رأت القبائل الباقية على شركها عدم جدوى المقاومة واعتنقت الإسلام، تحت عامل الخوف من حرب مهلكة، إذ كان قواد محمد يدعون للدين حاملين القرآن في يد والسيف في أخرى» «2» .
فلهاوزن: «ولم يبق الإسلام على تسامحه- بعد بدر- بل شرع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحول.. أما اليهود فقد حاول أن يظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد. وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات اليهودية، أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد
(1) تاريخ مسلمي الأندلس 1/ 27.
(2)
المصدر السابق 1/ 27- 28.
التمس لذلك أسبابا واهية
…
» «1» .
مركوليوث: «عاش محمد هذه السنين الست، بعد هجرته إلى المدينة على التلصص والسلب والنهب، ولكن نهب أهل مكة قد يبرّره طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة. فقد كان هناك على أي حال سبب ما- حقيقيا كان أم مصطنعا- يدعو إلى انتقامه منهم، إلا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد لم يرتكب أهلها في حقه ولا في حق أتباعه خطأ يعتبر تعديا منهم جميعا، لأن قتل أحدهم رسول محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام.. وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي طرأ على سياسة محمد، ففي أيامه الأولى في المدينة أعلن معاملة اليهود كمعاملة المسلمين، لكنه الآن (بعد سنة 6 هـ) أصبح يخالف تماما موقفه ذاك. فقد أصبح مجرد القول بأن جماعة ما غير مسلمة يعتبر كافيا لشن الغارة عليها
…
وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي سيطرت على نفس محمد، والتي دفعته إلى شن غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من قبل ونابليون من بعد
…
إن استيلاء محمد على خيبر يبين لنا إلى أي حد قد أصبح الإسلام خطرا على العالم» «2» .
بندلي جوزي «5» : «لا شك أن النبي العربي لم يقصد بأقواله وأفعاله في مكة
(1) الدولة العربية وسقوطها ص 15- 16.
(2)
مرغوليوث: محمد وقيام الإسلام ص 262- 263 عن فتحي عثمان: أضواء على التاريخ الإسلامي ص 169- 170.
(3)
تاريخ العالم للمؤرخين 8/ 11 عن فتحي عثمان: أضواء ص 170.
(4)
عن فتحي عمثان: أضواء ص 171- 172.
(5)
بندلي جوزي (1871- 1942) من أهل القدس، تخصص في قازان باللغات السامية والدراسات الشرقية، وتولى التدريس في معهد الرهبان ثم في جامعة قازان ثم في جامعة باو إلى أن توفي، وقد عده المستشرقون الروس مرجعا من مراجعهم: عن كتاب نجيب العقيقي: المستشرقون، جزء 3 ص 931.
والمدينة إلى أن يستأصل أسباب الشر الاجتماعي، ويقتل جميع جراثيمه، كما يحاول أن يفعل اليوم جماعة الاشتراكيين على اختلاف أسمائهم ونزعاتهم، بل كانت غايته الكبرى أن يخفف من وطأة تلك الأمراض على بعض طبقات الناس ممن خلقوا بعد قسمة الأرزاق أو وقعوا في الفقر والرق لأسباب لم يقو على مقاومتها، وإلا فلو أراد أن يقتل جراثيم الأمراض الاجتماعية كلها لكان لجأ بعد أن أصبح صاحب الأمر والنهي في جزيرة العرب، إلى وسائل غير تلك التي ذكرناها. وما مثل النبي من هذا الوجه إلا كمثل سائر الأنبياء الذين سبقوه، ولا سيما أنبياء بني إسرائيل، أي أنه فضّل استعمال الوسائل الأدبية- إلا فيما ندر من الظروف- على غيرها من الطرق التي لجأ إليها بعصرنا بعض مصلحي وسياسيي أوروبا كلينين وموسوليني وغيرهما.. وعليه يمكننا أن نقول إن محمدا أجاد في وصف الأمراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في علاجها واستئصال جراثيمها..» «1» .
وفي مكان آخر من كتاب وات نقرأ هذه العبارات «ادعى كايتاني أن سكان المدينة رضوا بمحمد ككاهن أعلى فقط لأنهم كانوا بحاجة إلى الاستقرار الداخلي
(1) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ص 44- 45.
(2)
محمد في مكة ص 81.
(3)
المصدر السابق ص 92- 93.
في المدينة، وليس لأنهم يقبلون تعاليم القرآن بأكملها. وبعضهم كانوا مسلمين حقا.. ومن الممكن أيضا أن يكون محمد، نوعا ما، حاملا للأفكار اليهودية المسيحية في القرآن، بألفاظ عربية جاهلية، ولهذا أساء فهمها- كما يقول كايتاني ولكن المدنيين الذين كانوا يدافعون عن محمد كانوا يفهمون مبادىء الإسلام الأساسية ويؤمنون بها. فالله خالق الكون وسيّد العالم، وهو الحكم في اليوم الأخير، ومحمد حامل رسالة الله إلى العرب. وكان المسلمون يقيمون مجتمعا جديدا في المدينة، وكان هذا المجتمع يتطلب أساسا فكريا واضحا ومحددا. ومن الممكن أن يكون القليل من المسلمين في المدينة يدفعه حماس ديني قوي ولكنهم كانوا جميعا مؤمنين بالروابط الدينية ليشاركوا في بناء مجتمع يقوم على هذه الروابط بدلا من روابط النسب» «1» .
ويحضرنا، ونحن نعرض لتناقض المستشرقين في مسألة الأخذ عن الصحف القديمة، قول جواد علي بهذا الصدد «لا أهمية ولا معنى لقول شپرنكر أن محمدا قرأ وأخذ من مصدر آخر هو (صحف إبراهيم) المذكورة في القرآن الكريم. وقد ردّ على هذا الرأي نولدكه بقوله (لو فرضنا أن محمدا أخذ من هذه الصحف ونسبه لنفسه وادعاه على أنه وحي أوحى الله به إليه، لو فرضنا ذلك، فإن من غير المعقول عندئذ ذكر محمد لتلك الصحف في القرآن، لأن ذكرها فيه معناه إرشاد الناس إلى المورد الذي أخذ منه واتهام نفسه، ولهذا لا يعقل الأخذ بكلام شپرنكر) » «2» .
ونمضي مع وات لنراه يقول في مكان آخر «لم يكن الإسلام.. حركة رجال من طبقة مستضعفة من حثالة الناس أو من طفيليين صعاليك حطوا رحالهم في مكة، ولم يستمد الإسلام قوته من رجال الدرجة السفلى من السلم الاجتماعي، بل من أولئك الذين كانوا في الوسط وأدركوا الفرق بينهم وبين أصحاب الامتيازات في الذروة، فأخذوا يقنعون أنفسهم بأنهم أقل امتيازا منهم، فنشأ صراع ليس بين الملاكين والمعوزين، بل بين الملاكين والذين هم أقل منهم» «3» .
(1) محمد في مكة ص 234- 235.
(2)
تاريخ العرب في الإسلام 1/ 142- 143، وليس شپرنكر أول من صرح بهذا القول، بل قالت به قريش أيضا في مبدأ نزول الوحي. المصدر السابق ص 143، وانظر حول مسألة (أمية) الرسول صلى الله عليه وسلم وما دار حولها من مناقشات: جواد علي: المصدر السابق ص 136- 143.
(3)
محمد في مكة ص 159- 160.
ونتوقف عن سرد هذه (النماذج) للأخطاء (الموضوعية) التي قادت إليها الثغرات العديدة في (مناهج) البحث الاستشراقية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة لا يحصيها عدّ.. وننتقل- من ثمّ- لكي نعرض لهذه السيرة نفسها، وفق (منهج) أقرب ما يكون (لروح) هذه السيرة و (بنيتها) و (معطياتها) و (أرضيتها التاريخية) و (مصادرها الأساسية) .
أستميح القارىء عذرا إن قصّرت أو أخطأت، وأنتظر الفرصة التي يتيحها لي لتلافي التقصير وتسديد الخطأ.. فكل بنى آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. وصدق رسول الله.
عماد الدين خليل
(1) محمد في مكة ص 221 عن لامانس: الطائف ص 212، 217.