الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراهم. كان يلبس الصوف- أرخص شيء وأكثره إيلاما للجسد- ويخصف النعل ويرقع القميص ويركب الحمار. وكانت له حصيرة ينام عليها، ويبسطها في النهار فيجلس عليها، ولقد نام عليها حتى أثرت في جنبه. وكانت له مخدة من جلد حشوها ليف. وأحيانا ينام على عباءة تثنى مرتين فطوتها زوجته حفصة أربع مرات، فلما نام عليها كان من لينها أن استغرق في النوم حتى فاتته صلاة الليل فنهى حفصة عن ذلك وأمرها أن تعيد العباءة إلى وضعها الأول. ورأت امرأة من الأنصار ما ينام عليه فأهدته مرتبة من الجلد حشوها صوف فأمر عائشة بأن تردها، أمرها ثلاث مرات وعائشة أم المؤمنين وزوجة رسول الله تقول: فلم أردها حتى أمرني ثلاث مرات لأنني كنت أحب أن يكون في بيتي مثل هذا. ولم يكن يحب الفقر ولا يرضى به وكان في دعائه يستعيذ منه. وكان يستطيع أن يملك ثروة جزيرة العرب كلها. وكان يعطي كما وصفه أعرابي (عطاء من لا يخشى الفقر) .
ولو احتفظ بنصيبه من الغنائم كأي فرد من جيشه لكان من أغنياء العرب.. ولكن ما دامت البشرية قد كتب عليها أن تعيش قرونا عديدة وفيها الفقر والغنى فخير نظام تصل إليه هو ذلك الذي يجعل حكامها في جانب الفقراء، فما أبشع أن تجتمع السلطة والغنى في جانب واحد.. وعشرات غير هذه الوقائع والأمثلة..
عشرات «1» .
إن تجربة المؤاخاة نجحت وكان لا بد لها أن تنجح ما دامت قد استكملت الشروط وتهيأت لها الأسباب في القيادة والقاعدة على السواء، وبغض النظر عن عدد الذين تاخوا عشرات كانوا أم مئات أم ألوفا.
وخلال ذلك أخذت الصلاة شكلها النهائي، وفرضت زكاة الفطر، وكتب الصيام، ورسمت الحدود، وفرض الحلال والحرام وحدد الأذان كنداء يدعى به المسلمون إلى الصلوات الخمس وكانوا يجتمعون لمواقيتها دونما دعوة، أما القبلة فقد كانت لأول أمرها متجهة صوب بيت المقدس ثم تحولت إلى الكعبة بعد سنة ونصف من الهجرة «2» .
رابعا: الجيش:
هنالك أسباب عديدة ومتشعبة تفسر عدم السماح للرسول
(1) انظر بالتفصيل محمد جلال كشك (الحق المر) ص 44- 48 ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 282- 284.
(2)
انظر: الطبري: تاريخ 2/ 400: 415- 418 وابن سعد 1/ 2/ 3- 5 والبلاذري: أنساب 1/ 271- 273 وابن الأثير: الكامل 2/ 115 وانظر بالتفصيل ابن كثير 2/ 231- 233، 252- 256.
صلى الله عليه وسلم بإعلان الجهاد المسلح ضد الوثنية حتى أواخر العصر المكي، وعلى وجه التحديد الأيام التي سبقت بيعة العقبة الثانية، وهذه الأسباب ترتبط ولا ريب بالإسلام كحركة، وبالأرضية أو البيئة التي يتحرك عليها. إذ لم يكن بمقدور الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمح لأصحابه بالقتال قبل أن يكتمل نموهم العقيدي ويصل مرحلة النضج، وقبل أن يزداد (عددهم) بما يمكنهم من توجيه ضرباتهم وتحمل الضربات المضادة من جهة أخرى دون أن يتعرضوا للتشتت والفناء، وقبل أن يضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى صوب بناء (الدولة) التي ستحمل العقيدة الجديدة وتحميها، منتقلا بذلك من مرحلة بناء الإنسان المسلم والجماعة المسلمة والتي استغرقت العصر المكي كله إلى هذا الطور الجديد.
وفي الجهة المقابلة كانت (البيئة) التي يتحرك فيها الإسلام بيئة قبلية تعير اهتماما كبيرا لصلات النسب والقربى، الأمر الذي مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يجد حماية (طبيعية) في عشيرته بني هاشم التي ذاقت معه- بسبب تقاليد مكة القبلية- أشد تجاربه ألما، والمتمثلة بسني الحصار الصعب في شعب أبي طالب. وكان رفع السلاح بوجه المشركين سيستفز عشيرة الرسول نفسه، ويبعدها عن نصرته فتتركه وأصحابه وحيدين ليس من يحميهم، فتحصدهم سيوف قبائل قريش جميعا. أما وهو ينشر دعوته (سلما) ويتعرض وأصحابه لذلك الاضطهاد الذي لم يصل حد محاولة القتل إلا في اللحظات الأخيرة، فإن ذلك لم يؤدّ إلى إبقاء بني هاشم وأحلافهم إلى جانب دعوته فحسب بل استفز نخوة الكثيرين من رجالات وأبناء القبائل الآخرى للظلم الذي يلحق بأبنائهم وإخوانهم ودفعهم إلى مناصرة الدعوة الجديدة أو الانتماء إليها. وما يقال عن التركيب القبلي للمجتمع المكي، يقال عن جزيرة العرب كلها حيث كانت قبائلها ستقف مرتاحة لزعيمتها قريش وهي تحصد رؤوس مجموعة من بنيها القتلة الذين حملوا السلاح ضد آبائهم وإخوانهم، ومهتاجة مغضبة إزاء الظلم والقسوة والاضطهاد الذي ينصب على الدعاة الجدد دون أن يحملوا سلاحا أو يقتلوا أحدا.. هذا فضلا عن الأمل العميق في هداية قريش وانتمائها إلى الدين الجديد واعتمادها- كأعرق قبيلة في الجزيرة- منطلقا إلى العرب جميعا.
إلا أن مرحلة بناء الإنسان والجماعة المسلمة ما كادت تشرف على نهايتها ويضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى صوب بناء الدولة الإسلامية في يثرب، وتصعّد
قريش اضطهادها ومقاومتها لأتباع الدين الجديد حتى نزل الإذن بالقتال المسلح، قبيل بيعة العقبة الثانية التي أنهت العصر المكي وفتحت الطريق إلى العصر المدني الجديد.
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
…
» «2» .
ورغم أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كان معظمهم قد مارسوا القتال في جاهليتهم وعرفوا كيف يحملون السلاح ويستخدمونه في ظروف لا (يبقى) فيها من لا يحمل سلاحا، ورغم أن الأنصار الذين قامت دولة الإسلام في المدينة على أكتافهم قد أعربوا للرسول يوم بيعتهم الأخيرة في العقبة عن قدراتهم في القتال وبأسهم في الحرب وقالوا:«نحن أبناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر» إلا أن الظروف الجديدة التي بدأ الإسلام يجتازها، وتصاعد الموقف الحربي بينه وبين القوى الوثنية وبخاصة في أعقاب الهجرة إلى المدينة، ونزول الآيات القرآنية تؤذن ببدء القتال المسلح، حتّم على الرسول أن ينمّي هذه القدرات وأن يدفع أتباعه إلى
(1) سورة الحج، الآيات: 39- 41.
(2)
سورة البقرة، الآية:139. ابن هشام ص 116- 117 البلاذري: أنساب 1/ 286 وانظر: محمد عزة دروزة: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 2/ 319.
مزيد من التدريب والمهارة العسكرية في مواجهة الأعداء الذين يحيطون بالدولة الجديدة إحاطة السوار بالمعصم. وراح الرسول القائد طيلة العصر المدني يعمل دونما وهن على تعليم أتباعه فنون القتال وتدريبهم على استعمال السلاح رافعا شعارا واضحا لا غموض فيه وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ «1» ، معتمدا في سعيه لتكوين (المقاتل المسلم) على أسلوبين متوازيين: التوجيه المعنوي والتدريب العملي، في أولاهما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المقاتلين، يمنحهم أملا يقينيا بالنصر أو الجنة. ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد ظل هذا (الأمل) يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال ويدفعه إلى بذل كل طاقاته النفسية والجسدية والفنية من أجل كسب المعارك أو الموت تحت ظلال السيوف مجتازا باستشهاده الخاطف السريع الجسر الذي يصل أرض المعركة بالجنة، حيث الخلود الدائم والنعيم المقيم ولذة القرب من الله سبحانه الذي قال مخاطبا المؤمنين وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ «2» . وهذا (البذل) الذي شهده تاريخ الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يفجر طاقات المسلم القتالية ويحيل كلا منهم إلى عشرة مقاتلين. وسنرى الرسول الآن وفيما بعد ينادي أصحابه دوما في لحظات المصير الحرجة بين النصر والهزيمة لكي يهرعوا إلى الحسنيين: النصر أو الجنة..
كان يقول لهم: (جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم) ويناديهم: (إن الله تعالى يقول: ما من عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي إلا ضمنت له أن أرجعه مأجورا غانما.. أو شهيدا أغفر له، وأرحمه، وأدخله الجنة) ويعلمهم: (من أرسل نفقة في سبيل الله فله بكل درهم سبعمائة درهم) ويبين لهم (من أعان مجاهدا في سبيل الله أظله الله يوم لا ظل إلا ظله) ، (من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمهما الله على النار) ، (من جرح في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء له نور يوم القيامة، ويأتي، جرحه له لون الزعفران وريح المسك يعرفه بها الأولون والآخرون ويقولون: فلان عليه طابع
(1) سورة الأنفال، الآية:60.
(2)
سورة آل عمران، الآيتان: 169 و 170.
الشهداء) وكان يقول لأصحابه (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، و (مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في سبيل الله ستين سنة) ، ويقول (حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله) ويقول (من مات ولم يغز أو يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة) ، ويقول (والذي جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتله حتى يقتل فذاك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة) ويناديهم مرارا (إن السيف محاء الخطايا) وإنكم (إذا تركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)«1» .
أما الأسلوب الثاني الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو التدريب العملي، فقد سعى من خلاله إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء: رجالا ونساء وصبيانا وشبابا وشيوخا، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعنا بالرمح وضربا بالسيف ورميا بالنبل ومناورة على ظهور الخيل، كما أكد على ضرورة تعلم القتال في كل ميدان برا وبحرا، تنفيذا لشعار الله وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ على إطلاق القوة.
قال (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) ، والرمي يعني إصابة الهدف.. وحتى العصر الحديث والحروب التقنية تجيء الانتصارات بالدرجة الأولى بمدى مقدرة الجندي على إصابة هدفه بالرصاصة أو القنبلة أو الصاروخ.. وقال (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) دفعا لأصحابه إلى التمرس على الفروسية وتعلّم ركوب الخيل في قتال يلعب فيه الفرسان دورا كبيرا، وقال وكأنه ينظر إلى المدى البعيد حيث ستنساح رقعة دولته إلى أطراف القارات وسواحل البحار والمحيطات، كيف لا وما هي بالدولة الإقليمية أو العنصرية وإنما هي دولة منفتحة على العالم كله، على الإنسان أيا كان هذا الإنسان:(غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر، والمائد فيه كالمتشحط في دمه، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية جميعا) وقال (من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل رقبة محررة) والأمر سواء: سهم ينطلق في سبيل الله وحده من أجل تحرير الإنسان من العبودية للعباد و (عبد) يحرر من سيده لكي يغدو إنسانا.
(1) انظر: محمد جلال كشك (الحق المر) ص 65- 67.
وقال صلى الله عليه وسلم وهو يمزج خطي التربية العسكرية المتوازيين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة، وتقديم الجهد في ساحة القتال أو في الخطوط الخلفية صنعا للسلاح أو إمدادا به (إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر، الجنة.. صانعه يحتسبه في عمل الخير والرامي به ومنبله) وشاهد رجل في أطراف المدينة عقبة بن عامر يحمل السلاح ويمارس التهديف راكضا من مكان إلى مكان فسأله (تختلف بين هذين الموضعين وأنت شيخ كبير؟) أجابه الشيخ:
(سمعته يقول: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا) بهذه اللهجة الحاسمة (ليس منا) ! ذلك أن الذي لا يعرف السلاح ابتداء والذي يعرفه حينا من الوقت ثم ينساه سواء.. على العكس أن هؤلاء الذين يذهبون إلى سوح القتال وهم يحملون سلاحا لا يعرفون كيف يضربون به، سرعان ما يتعرضون للارتباك والرعب فتحصد رؤوسهم ويكونون كارثة على رفاقهم الذين يشل الموقف قدرتهم على استخدام السلاح.
بهذه الإجراآت الأربع وضع القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة، وأخذت التشريعات المنبثقة عن هذين المصدرين تنمو وتتسع يوما بعد يوم، لا بطرائق نظرية تجريدية منفصلة عن الحياة والواقع وإنما وفق نفس الأسلوب الذي كانت الآيات المكية تتنزل فيه لكي تبني العقيدة في أذهان ونفوس الإنسان والجماعة المسلمة، وهو أسلوب يرتبط ارتباطا عضويا حيويا بالواقع الحركي والتجربة الحية المعاشة، ومن ثم تجيء معطياته أشد التصاقا بحركة المسلمين ونمو دولتهم، وأكثر التحاما بتجربتهم المحسوسة وواقعهم المعاش، وأعمق فهما وإدراكا لمتطلباتها وأبعادها القانونية والسلوكية، نظرا لمواكبتها لمشاكلهم وتجاربهم اليومية ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.
لقد بدأت مرحلة بناء الدولة الإسلامية (العقائدية) في أعقاب الهجرة، حيث كانت المرحلة السابقة، مرحلة بناء الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، قد اكتسبت ملامحها الأساسية في العصر المكي وغدا المسلمون أفرادا وجماعات على استعداد نفسي وذهني كاملين لتقبل ما سيجيء من تشريعات وما سيفرض من تنظيمات ويوضع من حدود ويرسم من علاقات، بعد أن هيأهم النضج العقيدي
لتقبل كل ما يصدر عن رسول الله و (الإسلام) لله و (الإيمان) به و (التقوى) خلال ممارسته في السر والعلن و (الإحسان) في إنجازه على أحسن ما يكون الإنجاز، دون تردد أو سلبية أو خيانة أو غش أو تملص أو رفض أو تهرب.. إنما هو الخضوع اليقيني المتبصر بأن هذا الذي يتنزل في ميدان التشريع والتقنين إنما هو الحق المطلق والخير الكامل والصواب الذي ليس بعده إلا الضلال المبين.
وقد أتاح هذا التطور المبرمج لسير الدعوة الإسلامية أن يشاد البناء الجديد على أسس متينة متوغلة في أعماق النفس المسلمة على المستوى الفردي والجماعي على السواء، فجاء متماسكا مترابطا ثابت الأركان، فضلا عن أن الإحساس الجديد (بالزمن) و (بالمسؤولية) و (يقظة الضمير) التي غرستها العقيدة الإسلامية في النفوس دفعت المسلم ليس إلى تقبل التشريعات والحدود والأوامر الجديدة وتنفيذها بدقة فحسب بل إلى كسب الوقت والمسارعة في تحويلها إلى وقائع معاشة وتجارب وترجمات يومية وصيغ منقوشة على صفحة المكان والزمان، كما دفعتهم إلى السعي (للإحسان) في الأداء والإبداع في التنفيذ من أجل بلوغ المرحلة القصوى من رضا الله وطاعته، وقد أتاح هذا كله اطرادا عجيبا في نموّ الأجهزة التشريعية للدولة الناشئة وسرعة مدهشة في نزول متطلباتها إلى الشارع والبيت والسوق والمسجد والميدان، الأمر الذي يفسر لنا على المستوى الحضاري الاختزال الزمني المدهش الذي مارسه المسلمون وهم يبنون عالمهم الجديد وحضارتهم المتوازنة.
لقد أسهم القرآن والرسول، جنبا إلى جنب، في رسم الخطط ووضع التشريعات وبناء المؤسسات وتغطية المتطلبات المتزايدة للدولة الجديدة. ولم يكن الدستور (أو الوثيقة) وحدها- رغم خطورتها في هذه المرحلة- هي كل شيء، كما يحاول الكثير من الباحثين أن يصوروا من خلال مبالغتهم «1» ، فالوثيقة
(1) نذكر هنا من بين عدد كبير من الأمثلة حول إعطاء أهمية مبالغ فيها للوثيقة (أو الدستور) ما ورد في كتاب (مكة والمدينة) للشريف (
…
يدل الدستور على مقدرة فائقة من الناحية التشريعية وعلى علم كبير بأحوال الناس وفهم الظروف
…
ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية؛ فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هجرته ينتهي حتى كتب هذه الصحيفة المهمة جدا لأنها حددت شكل الدولة الإسلامية، وكذلك هي مهمة لفهم الحوادث التي نشأت بعدها) ص 387- 388 وانظر فلهوزن الدولة العربية ص 1- 15.
ليست سوى لبنة واحدة في البناء التشريعي الكبير الذي وقع عبء إقامته على عاتق القرآن الكريم قبل كل شيء، هذا إلى أن الكثير مما ورد في الوثيقة لا يعدو أن يكون برنامجا مرحليا بالنسبة للخارطة الثابتة الدائمة لدولة الإسلام واستراتيجيتها التشريعية الشاملة، ومن ثم فإن التأكيد على أهمية الوثيقة، فضلا عن أنه يعد بحد ذاته خطأ تاريخيا وموضوعيا، فإنه يحجب في الوقت نفسه الحجم الحقيقي للتشريع القرآني الذي كان يتمخض باستمرار عن مزيد من القوانين والتشريعات ويقود الباحث بالتالي إلى الرؤية الغربية الوضعية التي تجد في (الوثيقة) محاولة بشرية أولية من المحاولات التي قام بها المشرعون على مدار التاريخ لتنظيم شؤون دولتهم الناشئة، وإنه يجب ألا يغيب عن بالنا أبدا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى وأنه كان يصدر في الخطوط العريضة للدعوة عن وحي الله وأن هذا الوحي يبدو أكمل ما يبدو في القرآن الكريم نفسه، وكل الإنجازات والأعمال الآخرى إنما هي امتداد وتوسيع وتفسير فحسب لهذا الأصل (الإلهي) الكبير.
وثمة مسألة أخرى تجدر الإشارة إليها في هذا المجال، تلك هي إطلاق اسم (دولة المدينة) أو الدولة (اليثربية) على دولة الإسلام الأولى بحكم قيامها بالمدينة المنورة، ذلك أن تعبير (دولة المدينة) قد يسوق ههنا إلى لبس يوهم أن المقصود أنها كانت دولة من النوع الذي يقوم فيه الكيان الإقليمي للدولة على (مدينة) من المدن) City -State (مثل أثينا أو إسبرطة في التاريخ القديم. والحق أن (دولة الهجرة) ارتبطت بيثرب ارتباطا عارضا، ولقد كانت دولة عقيدية عالمية من أول يوم، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان يتبنى الفكرة ويدين للعقيدة «1» ، كذلك فإن الدولة الجديدة في المدينة هي دولة الهجرة لا دولة المهاجرين. فالمهاجرون هنا لا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يصطنعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها. وهكذا لا نجد تجارب توطين الأوروبيين في أمريكا أو أستراليا أو جنوب أفريقيا على اختلاف درجات حرارتها. إنها دولة فكرية عقيدية سكانها المقيمون فيها من قبل والمهاجرون الوافدون سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.. والعقيدة معروضة على كل إنسان بحكم إنسانيته، أيا كان
(1) انظر ما سبق وأن ذكرناه لدى دراسة وتحليل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
موطنه وأيا كانت عشيرته. إنها دولة مفتوحة لا تغلق نفسها على جماعة معينة شأن أية دولة (دينية) أخرى قامت من قبل في التاريخ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» .
إن هذه الدولة فذة في تاريخ البشرية لأنها أقرت مبدأين لا وجود لهما إلا في دولة غير دينية، وأول هذين المبدأين هو حرية الأديان وهي حرية لا تقرها الدولة الإسلامية وتسمح بها فحسب بل إنها تتعهد برعايتها. وثانيهما هو مبدأ تعريف فكرة الوطن والدولة في أوسع معانيها تسامحا وإنسانية وهو مبدأ يكفل المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعاداتهم «2» .
لقد استكملت دولة الإسلام كل مستلزمات البناء القانوني للدولة والذي يقوم على أركان ثلاثة: الأمة، والسيادة الخارجية والداخلية، ثم الإقليم.. ولكنها ما أخذت مكانها ودورها في التاريخ لواحد من هذه الأركان. فلقد قامت (دولة الهجرة) على (أمة) .. ولكنها أمة تقوم على أساس الفكر والعقيدة، فهي (أمة) لا يمكن حصرها أو ضبطها لأنها لا تحدها لغة أو جنس أو وطن، فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدته على كل فرد وقبيلة ومدينة استطاع أن يعرض هذه العقيدة عليها، وترك المجال أمام (الإمكانيات الأيديولوجية) لا (الحتمية الجغرافية) . وكان (لدولة الهجرة)(سيادة) داخلية وخارجية.. ولكنها (سيادة) تحققت في واقع الأمر من أول يوم في الإطار المثالي الذي تطلعت إليه فلسفة القانون إلى وقتنا ولم تفلح في أن تجد له سبيلا إلى التنفيذ. فهي سيادة قائمة على الاختيار الحر في اعتناق الفكرة من جانب الأفراد وفي الاجتماع لإقامة الدولة من جانب المجموع، ومن
(1) سورة الحشر، الآيات 8- 10، فتحي عثمان. دولة الفكرة ص 16- 17.
(2)
الشريف: مكة والمدينة ص 383- 384.
ثم تأسست سياسة الدولة الجديدة فعلا وواقعا على تقديس الحرية الإنسانية بحيث تكون هذه الحرية هي أساس الدولة الفكري وقانونها الأعلى. وكان لدولة الهجرة (إقليم) اختارته الظروف لها وكان اختيارا موفقا
…
لكنها لم ترتبط به ولم تقتصر عليه، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان آخر يقبل الدعوة، مكة أو الطائف مثلا
…
ذلك أن الدولة الجديدة دولة (فكرة) والفكرة تجد وطنها في كل مكان يوجد فيه عقل إنسان «1» .
لقد كان من حسن حظ البشرية أن الإسلام تبرأ من أول يوم من حواجز الجنس والأرض واللسان واستهدف قيام الأخوة العالمية بين المؤمنين، «ولما كانت دعوة الإسلام لم تأت من البداية إلى بلد بعينه فإنها كانت خطوة تقدمية إلى الأمام نحو تحقيق ما بذلت المحاولات لتحقيقه من بعد وهو تدويل المجتمع الإنساني
…
وبجانب عالمية الدعوة فإن الإسلام أقام نظام (الحج) ونظام (الخلافة) من أجل تحقيق هذا الهدف» «2» .
إن دولة الإسلام هي دولة (العقيدة) التي قامت منذ البدء على أن السلطة الحاكمة العليا هي الله.. القوة المحايدة التي تقرر المبادىء والموجهات العامة، إذ هي لا تميل مع فرد أو جماعة ولا تنحاز لحاكم أو محكوم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا «3» .
لقد أعطى الإسلام بمجتمعه الأول ذلك النموذج الذي عاش مدى العصور في نفوس المسلمين وعقولهم مثلا يحتذى وصورة شامخة من صور المثل الأعلى للمجتمع الإنساني السليم المتكامل الذي يقوم على الإخاء والحب والتسامح والتكامل، وليس هذا المجتمع صورة مثالية غير واقعية ولكنه تطبيق أمين لمفهوم الإسلام ومضمونه (وأيديولوجيته) . وما تزال صورة هذا المجتمع الإسلامي الأول باتساقها وصلابتها وسلامتها في فهم مضمون الإسلام ومنهجه، تعطي علامة القوة في تطبيق الإسلام. فمن هذه الجماعة الإسلامية انطلقت (الدعوة الإسلامية) إلى العالم كله، وليس صحيحا ما يدعيه بعض المستشرقين ومن تابعهم من أن سياسة
(1) فتحي عثمان: دولة الفكرة ص 18- 22.
(2)
حميد الله الحيدر آبادي: دولة الإسلام والعالم، عن فتحي عثمان المصدر السابق ص 58- 59.
(3)
سورة النساء، الآية: 59، فتحي عثمان: المرجع السابق ص 73.
هذه الجماعة لا تلائم طبيعة العمران أو أنها توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في عصر.. ولم يكن مجتمع المدينة، كما تحاول أن تصوره مختلف كتب السيرة، مجتمع حرب وغزوات وقتال، فلو أننا أحصينا عدد الغزوات الكبرى فيه وأيامها لما تجاوز ذلك في مجموعه بضعة شهور في خلال عشر سنوات. ومن هنا فإن المجتمع الإسلامي في المدينة قد قام فعلا وبنى خلالها دعامتين واضحتين: نظام مجتمع ونظام دولة، كما بنى تشريعا وقانونا» «1» .
(1) أنور الجندي: الإسلام وحركة التاريخ ص 50- 51.