الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عام الوفود وتصفية الوجود الوثني
كان سقوط مكة زعيمة الشرك بأيدي الفاتحين، وهزيمة التحالف الوثني الأخير في حنين، آخر ضربتين حاسمتين للوجود الوثني في جزيرة العرب، انهار بعدها جدار الكفر وانطلقت حركة الإسلام بخفة وسرعة، حيث أزيلت العوائق، إلى كل مكان. وأدركت القبائل العربية التي ظلت على وثنيتها ألّا مناص لها من تحديد موقفها من الإسلام ودولته المتفردة بالحكم والسلطان في الجزيرة كلها، وأن عنادها وتشبثها بمواقفها السابقة فقد مبرراته بدخول مكة في الإسلام، وانتماء هوازن، أكبر القبائل الوثنية، للدين الجديد. فراحت هذه القبائل تتسابق في إرسال وفودها إلى المدينة، قاعدة الإسلام، مبايعة على الإسلام أو مصالحة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكثرة هذه الوفود التي انهالت على المدينة في العام التالي لفتح مكة ومطلع الذي يليه، سماه المؤرخون (عام الوفود)، وكان في طليعتها وفد ثقيف الذي قدم إلى المدينة في شهر رمضان في أعقاب عودة الرسول من غزوة تبوك. قال ابن إسحاق:«وإنما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل، وقادة العرب، لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه» «1» .
وكان عروة بن مسعود، أحد زعماء ثقيف، قد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق
(1) ابن هشام ص 342.
عودته، قبل أن يصل المدينة، وأعلن إسلامه، وقفل عائدا إلى الطائف يدعو قومه إلى الإسلام متحصنا بمنزلته فيهم ومحبتهم وطاعتهم له، إلا أن حميتهم الجاهلية أنستهم ذلك كله فرموه بالنبل من كل وجه وأصابه أحدها فخرّ صريعا، وعندما سئل، وهو يتضرج بدمائه: ما ترى في دمك؟ أجاب: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم. ومرت الشهور على مصرع عروة، وبدأت ثقيف تدرك ألا طاقة لها بحرب من حولها من القبائل العربية التي بايعت وأسلمت، فاتفق زعماؤها على أن يرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يكلمه، ووقع اختيارهم على عبد ياليل بن عمرو بن عمير، أحد أشراف الطائف، إلا أنه تخوّف أن يصنعوا به، بعد عودته، ما صنعوا بعروة، وطلب منهم أن يرسلوا برفقته رجالا من شتى عشائر ثقيف، فأجابوه واختاروا له خمسة رجال اتجه بهم إلى المدينة «1» .
لقيهم المغيرة بن شعبة في أطراف المدينة فهرع ليبشر الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلما رآه أبو بكر وعرف النبأ رجاه ألا يسبقه إلى الرسول، حتى يكون الصدّيق أول من يحدثه بالنبأ، ففعل المغيرة. وعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وبدؤوا حديثهم معه سألوه أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله عليهم ذلك فما برحوا يسألونه، سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى تنازلوا إلى التماس إبقائها شهرا واحدا، والرسول يأبى أن يدعها يوما واحدا.. وكان غرضهم من ذلك أن يسلموا- بعد عودتهم- من سخط سفهائهم ونسائهم وصبيانهم، وألا يروّعوا قومهم بهدمها، حتى ينتشر الإسلام بينهم، فسألوه أن يعفيهم من تحطيم أصنامهم بأيديهم فأجابهم إلى ذلك وأرسل معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ليهدماها. وبعد أن أعلنوا إسلامهم، كتب لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص رغم حداثة سنه، لكونه أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن «2» .
عاد الوفد إلى الطائف يصحبه المغيرة وأبو سفيان، وتوجه المغيرة فور
(1) ابن هشام ص 336- 337 الطبري 3/ 96- 98 ابن سعد 1/ 2/ 52- 53 الواقدي 3/ 960- 963.
(2)
ابن هشام 337- 339 الطبري 3/ 98- 99 ابن سعد 1/ 2/ 53- 54 الواقدي 3/ 963- 969 ابن الأثير: الكامل 2/ 283- 284 ابن حزم: جوامع 255- 257.
وصوله إلى اللات وراح يعمل فيها ضربا بمعوله، وقومه يحمونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود. وخرجت نساء بني ثقيف حاسرات يبكين ويندبن إلههنّ وهو يتهاوى إلى الأرض قطعا من الحجارة الصماء. وما لبث المغيرة أن أتمّ مهمته، ومحا من الطائف ذلك المركز المهم الثالث في شمال الجزيرة، رمزها الوثني الذي حجبها عن الالتحاق بالدعوة الجديدة ردحا طويلا «1» . وغدا الطائفيون من أشد الجماعات إخلاصا للدعوة حتى أن المغيرة قال عنهم:«لا أعلم قوما من العرب ولا قبيلة كانوا أصحّ إسلاما ولا أبعد أن يوجد فيهم غش لله ولكتابه منهم» «2» .. وهكذا جاء البذار الذي زرعه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل عام واحد عند أسوار الطائف، بثماره الحلوة!!
كان الوفد الثاني الذي قدم المدينة، بني تميم، وكان يترأسه عطارد بن حاجب في عدد كبير من رجالات تميم وأشرافها. وعندما وصلوا المسجد ظهرا، نادوا رسول الله من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد! فخرج إليهم الرسول وهو غير مرتاح لأسلوبهم البدوي الخشن في ندائه، وقام زعيمهم فألقى كلمة عدّد فيها ماثر بني تميم وفضلهم في الناس. فأمر الرسول خطيبه ثابت بن قيس الخزرجي أن يرد على الرجل. فقام قيس خطيبا في المجتمعين، فبدأ كلامه بمحمد الله والثناء عليه ثم تطرق إلى نبوة الرسول وفضله وختم خطابه قائلا: «
…
واستجاب لله حين دعاهم رسول الله، نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا
…
» ، وأعقبه الزبرقان بن بدر شاعر تميم بقصيدة أكبر فيها مكانة تميم بين العرب، فأمر الرسول شاعره حسان بن ثابت أن يرد على الرجل، فأجابه بقصيدة أخرى. ولما انتهى الطرفان من إلقاء خطبهم وقصائدهم أعلن وفد بني تميم الإسلام، فمنحهم الرسول الجوائز والعطايا «3» .
(1) ابن هشام ص 339- 340 الطبري 3/ 99- 100 الواقدي 3/ 969- 973 ابن حزم: جوامع 257- 258.
(2)
ابن سعد 1/ 2/ 54.
(3)
ابن هشام ص 342- 346 الطبري 3/ 115- 120 ابن سعد 1/ 2/ 40- 41 الواقدي 3/ 975- 980.
وأرسلت بنو عبد القيس وفدها إلى المدينة برئاسة الجارود بن عمرو، فأسلم وأصحابه، كما قدم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، فتركه قومه في رحالهم وذهبوا لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أسلموا وقفلوا عائدين إلى ديارهم أعلن مسيلمة أنه قد أشرك في الأمر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وراح يتلو عليهم سجعه الذي ظن أنه إنما يضاهي به القرآن «1» .
وقدم عدي بن حاتم الذي كان قد اعتنق النصرانية ولجأ إلى الشام إثر اتساع سلطان المسلمين، وقال له الرسول:«لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف. ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيمّ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» . وما لبث عدي أن أعلن إسلامه «2» .
وراحت الوفود وزعماء القبائل تترى على المدينة: قدم فروة بن مسيك المرادي مفارقا لملوك كندة، فأعلن إسلامه، فاستعمله الرسول على قبائل مراد وزبيد ومذحج وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة. وقدم عمرو بن معد يكرب في رجال من بني زبيد فأعلنوا إسلامهم. وقدم وفد كندة، البالغ ثمانين رجلا بزعامة الأشعث بن قيس وأعلنوا إسلامهم، وقدم صرد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد وأعلنوا إسلامهم، فأمّره الرسول على قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم منهم مشركي القبائل اليمنية المجاورة. كما قدم وفد آخر يحمل كتابا من ملوك حمير يعلنون فيه إسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، فأجابهم الرسول بكتاب يبين لهم فيه بعض فرائض الإسلام ويعلمهم بأنه سيرسل إليهم عددا من خيرة أصحابه فيهم معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وغيرهم، وعليهم أن يؤدوا إليهم ما سيجبونه من صدقة وجزية، وأمّر عليهم معاذ ابن جبل «3» .
(1) ابن هشام ص 350- 352 الطبري 3/ 136- 138 ابن سعد 1/ 2/ 55- 56 وانظر البخاري: تجريد 2/ 96- 97.
(2)
ابن هشام ص 352- 356 الطبري 3/ 112- 115 ابن سعد 1/ 2/ 59- 60.
(3)
انظر: ابن هشام ص 356- 364 الطبري 3/ 120- 122، 132- 139 وانظر بالتفصيل ابن سعد 1/ 2/ 38- 86.
وقدمت كذلك وفود بلى والداريين (من لخم) وسلامان وغسان وغامد وبنو أسد وقال هؤلاء للرسول: قدمنا يا رسول الله من قبل أن ترسل إلينا رسولا فأنزل الله سبحانه فيهم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «1» ، كما قدمت وفود بهراء وبني البكاء وبني فزارة «2» . وأرسلت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله، فقدم عليه، وأناخ بعيره عند باب المسجد ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه، ووقف قريبا منه وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ أجاب الرسول: أنا. قال الرجل: يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ لك في المسألة فلا تجدنّ في نفسك. قال: لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك. قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، الله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم. قال: فأنشدك بالله.. الله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا تعبد من دونه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك بالله.... آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم. ثم جعل ضمام يذكر فرائض الإسلام واحدة واحدة، حتى إذا فرغ قال: أشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا رسول الله. وانصرف راجعا حتى إذا قدم على قومه، اجتمعوا إليه فراح يصرخ فيهم: بئست اللات والعزى قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون! قال: ويحكم، إنهما والله لا ينفعان ولا يضرّان، وإن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال ابن عباس: فو الله ما أمسى ذلك اليوم وفي حيّه رجل ولا امرأة إلا مسلما «3» . ذلك وفد- يقول الغزالي- «يمثل بساطة الأميين في منطقهم، وسلامة طريقتهم في جدلهم وخلوّ أذهانهم من العقد التي تعترض الحق في مسيله السمح. ولا نكران في أن جهاد الدعوة القديم له أثره في الوصول إلى هذه النتائج السريعة، وهذا طبيعي، فإن تغيير دين ليس كتجديد زي، وضمام كان يستحضر في ذهنه وهو يسأل النبي، ثم وهو يخطب
(1) سورة الحجرات: الآية 17، وانظر: الطبري 3/ 96، 130.
(2)
الطبري: 3/ 122.
(3)
الطبري 3/ 124- 125.
قومه، أن هذه الرسالة الجديدة مرّت بأطوار شتى من المحن والفتن ثم كشفت عن صدقها وسلامة جوهرها فليس إيمانه وإيمان قومه وليد ساعة من كلام» «1» .
وبعد قليل استقبلت المدينة عددا آخر من الوفود انهالوا عليها من كل مكان: وفد محارب ووفد الرهاويين ووفد عبس «2» ، ووفد من طيىء برئاسة الشاعر زيد الخيل «3» ، ووفد بني عامر بن صعصعة «4»
…
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث بخالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب في نجران ليدعوهم إلى الإسلام، فاستجابوا لدعوته وأرسلوا إلى المدينة وفدا أعلن إسلامه، فأمّر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قيس بن الحصين، وألحق بهم- بعد مغادرتهم المدينة- عمرا بن حزم ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومبادىء الإسلام ويجبي صدقاتهم، وسلمه كتابا يبين فيه الكثير من تعاليم الإسلام التي كلف بإبلاغها للقاطنين هناك، وختم الكاب بقوله «
…
وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم. ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يردّ عنها
…
» «5» .
وفي مقابل ذلك قام الرسول بإرسال أمرائه وعمّاله إلى المناطق التي انتشر فيها الإسلام والقبائل التي أعلنت انتماءها للدين الجديد لكي يجبوا الصدقات ويعلموا الناس أصول دينهم. فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، وزياد بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت وعدي بن حاتم إلى طيىء وبني أسد، ومالك بن نويرة إلى بني حنظلة، والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم إلى بني سعد، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى اليمن «6» .
وقد تمكن بعض أولئك الدعاة من نشر الإسلام بين عدد من القبائل اليمنية «7» . ثم
(1) فقه السيرة ص 457.
(2)
الطبري 3/ 139.
(3)
الطبري 3/ 145.
(4)
الطبري 3/ 144. وانظر عن الوفود بالتفصيل: ابن سعد 1/ 2/ 38- 86 واليعقوبي: تاريخ 2/ 68- 69 وابن كثير: البداية 5/ 40- 96 وأرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص 55- 61.
(5)
ابن هشام ص 365- 369 الطبري 3/ 126- 129 ابن سعد 2/ 1/ 122.
(6)
ابن هشام ص 370- 371 الطبري 3/ 147 وانظر اليعقوبي: تاريخ 2/ 69- 71.
(7)
الطبري 3/ 131- 132 ابن سعد 2/ 1/ 122 المسعودي: التنبيه ص 238- 239 خليفة بن خياط 1/ 58 البلاذري: فتوح 1/ 82 أنساب 1/ 384.
ما لبثت الدعوة الإسلامية أن أخذت تنتشر بسرعة في تلك الأصقاع. وشهدت السنة العاشرة إسلام عدد من الأبناء الفرس هناك وتوج ذلك بإسلام باذان حاكم اليمن الفارسي حيث أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا يعلمه فيه بإسلامه «1» .
وعندما أشرف العام التاسع للهجرة على نهايته وحان موعد الحج وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مضطرا للبقاء في المدينة كي يتفرغ للوفود القادمة إليها دونما انقطاع، وأناب عنه لإمامة المسلمين في حجهم ذاك أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وما أن غادر أبو بكر المدينة في طريقه إلى البيت الحرام حتى نزلت آيات (براءة) من سورة (التوبة) تلك التي تعلن تصفية الوجود الوثني من شبه جزيرة العرب ومنح أتباعه وقتا كافيا للتفكير في الخروج من حضيض الجاهلية الذي ظلوا يتمرغون فيه مئات السنين، وها قد آن الأوان لكي يؤوبوا إلى الحق ويلتزموا الطريق المستقيم، وإلا فإن الدين الجديد سوف لن يمنحهم فرصة أخرى بعد ما صبر عليهم وقتا طويلا بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ «2» .
وسرعان ما حمّل الرسول صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب هذه الآيات والتعليمات المرفقة بها وأمره أن ينطلق بها إلى الكعبة لكي يتلوها على جموع الحجاج هناك وفيهم الكثير من الذين لا يزالون على شركهم وجاهليتهم
…
وبينما تولى أبو بكر إمارة الحج راح علي يتلو على الناس تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم وآيات براءة في يوم الأضحى: لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر.. وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما..» «3» .
(1) الطبري 3/ 158.
(2)
سورة التوبة، الآيات: 1- 3.
(3)
الطبري 3/ 122- 123 ابن سعد 2/ 1/ 121 البلاذري: أنساب 1/ 383 المقدسي 4/ 240- 241 ابن حزم: جوامع ص 258 ابن الأثير: الكامل 2/ 291- 292 ابن كثير: البداية 4/ 26- 39 المسعودي: مروج 2/ 290، التنبيه ص 237- 238. ويذكر المسعودي- المصدر السابق- إنه لم تمض سنة على ذلك حتى دخلت العرب في الإسلام، وكانوا أكثر من مائة ألف، وتعايروا بالشرك بينهم والمقام عليه. وانظر: دروزة: سيرة الرسول 2/ 28 هامش (1) .
إن مكة قاعدة الوثنية سقطت، وأصبحت الدولة الإسلامية هي القوة السياسية المتفردة في زعامة الجزيرة، فلا بد من تحديد جميع سكانها موقفهم في الولاء. فأما أهل الذمّة فكانت الجزية رمز انتمائهم وولائهم، وأما العرب فقد أعلنت معظم قبائلهم في عام الوفود وقبله عن انتمائها للدولة والدين الجديد، ولم يتبق إلا قلة كان لا بد من توجيه نداء إليها لتحديد موقفها. ووجود فئة لا تدين بمبادىء الدولة ولا تخضع لقوانينها أمر بالغ الخطورة في كيان الدولة الداخلي، وكان لا بد أن يخضع هؤلاء الناس لنظام الدولة أو يحاربوه، بمعنى أن يوضعوا في حكم الأعداء، ولكنهم أعداء داخليون يترتب على عدوانهم خطر كبير على كيان الدولة، ومن هنا لم يقبل الإسلام منهم إلا الدخول فيه. وليس للمشركين ديانة تحترم ولا مثل تفرض هذا الاحترام كأصحاب الديانات السماوية الآخرى التي اعترف بها الإسلام واعتبر الدين وحدة واحدة «2» .
وواضح أنه لا يرد أي معنى من معاني مصادرة الحرية الدينية في هذه المقاطعة والحظر لأن البيت الحرام قد أصبح طاهرا من مظاهر الشرك،
(1) فقه السيرة ص 453- 454.
(2)
الشريف: مكة والمدينة، الصفحات 530- 536.
وأصبحت تقاليد الحج مثل ذلك وصار تحت السلطان الإسلامي، وليس من المعقول أن يسمح للمشركين بممارسة تقاليد الوثنية فيه، عدا ما له من الحق الطبيعي في سدّ بابه على أعدائه السياسيين والدينيين «1» . وقد أتي هذا البيان ثمرته، فإن النبي قد حج في العام العاشر حجته الأخيرة على النظام الإسلامي الكامل، وحج معه فيها حوالي مائة ألف من حاج العرب «2» ، لم يكن من بينهم مشرك واحد. وفي الفترة التي تقع بين إعلان براءة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم طبّق الرسول قانون براءة بحذر شديد وكياسة سياسية بارعة وتجنب الاصطدام بالقبائل وإلا جرح كبرياءها وأثار عصبيتها، ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم وانضمامهم إلى حكومته، ويرسل معهم عند عودتهم مسلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم «3» .
والواقع أن (إعلان براءة) بوقف الوثنية نهائيا، أمر لا يمكن إدراك أبعاده إلا إذا نظرنا إلى المسألة من جانبيها (الحضاري) و (الاستراتيجي) كضرورتين يرتبط بعضهما ببعض وتسوقان إلى اتخاذ إجراء حاسم كهذا. فأما أولاهما فهي أن الوثنية، على خلاف سائر الأديان الآخرى، تمثل الدرك الأسفل في موقف الإنسان الديني من الكون، موقف يشده إلى الحجارة ويصده عن التقدم إلى الأمام ويحجب عن بصيرته الرؤية الشاملة لدور الإنسان في الأرض وعلاقته بالقوى الآخرى في الوجود. ولو بقي العربي على وثنيته لظل بحكم موقفه المحدود هذا، أسير جهله وتأخره، وسجين عالم تضيق آفاقه لكي ما تلبث أن تعزله عن العالم وتحصره في قلب الصحراء «4» .
وأما ثانيتهما فتقوم على أن الدولة (العقيدية) التي أنشئت في قلب المنطقة العربية، وامتد نفوذها السياسي إلى كافة أرجاء الجزيرة، وبدأت تحشد قواها وطاقاتها الجهادية للانتقال صوب الخطوة التالية في التحرك إلى العالم المحيط كله.. هذه الدولة كان عليها أن تعتمد استراتيجية صارمة، واضحة المعالم، من أجل أن تحمي وجودها في شبه الجزيرة، من جيوب الوثنية العربية ومراكز القوى
(1) دروزة: سيرة الرسول 2/ 371.
(2)
انظر: المقريزي: إمتاع 1/ 512.
(3)
الشريف: مكة والمدينة ص 538.
(4)
انظر كتاب (تهافت العلمانية) للمؤلف، فصل (مواقع العلم والدين) .
الجاهلية، وأن تحيط مركز انطلاقها إلى العالم بسياج من الوحدة العقيدية والسياسية على السواء، لئلا تضرب من الخلف وهي تمارس صراعها مع القوى الخارجية، حاشدة له جل طاقاتها.
وعلى ضوء هذا الارتباط بين الضرورتين الحضارية والاستراتيجية يمكن أن نتفهم موقف الحركة الإسلامية، نظرية وتطبيقا، إزاء عدد من الأديان. فمهادنتها اليهودية والنصرانية في شبه الجزيرة نفسها كان ينبثق عن كون الديانتين كتابيتين متقدمتين (فكريا) على سائر الديانات الآخرى السابقة والمعاصرة للإسلام، فضلا عن كونهما لا تمثلان- من الناحية الكمية- خطرا استراتيجيا على الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة. إلا أن اليهود عندما نشطوا قبل غزوة خيبر الحاسمة وبعدها لضرب الدولة، وإجراء اتصالات عديدة مع القوى الخارجية المتربصة، صدر أمر بعدم السماح لهم بالبقاء في الجزيرة، في أقسامها الشمالية على الأقل، وقد تمثل هذا الأمر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع دينان في الجزيرة) ، كما تمثل بخطوات عمر بن الخطاب العملية لإجلاء معظم اليهود عن المنطقة.
وموقف الإسلام- كذلك- من المجوسية والبوذية، وعدم سعيه لتصفيتهما- رغم تأخرهما الحضاري- يعود إلى أنهما لا يشكلان خطرا استراتيجيا مباشرا على قاعدة انطلاقه إلى العالم، شأن الوثنية في شبه الجزيرة. وهكذا يجيء إعلان (براءة) نصرا حضاريا واستراتيجيا لدولة الإسلام، وهي تتهيأ للخطوة التالية في (تحضير) العالم و (جهاد) قياداته (الكافرة) جميعا من أجل منح حرية الاعتقاد للإنسان حيثما كان.