المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

العظيمة التي واجه بها هذا الموقف بأمر ربه، بما كان - دراسة في السيرة

[عماد الدين خليل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌الفصل الثالث مسائل من العصر المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌«3»

- ‌[4]

- ‌الفصل الرابع تحليل للهجرة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌الفصل الخامس دولة الإسلام في المدينة

- ‌[القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة]

- ‌أولا: المسجد:

- ‌ثانيا: الصحيفة:

- ‌ثالثا: المؤاخاة:

- ‌رابعا: الجيش:

- ‌الفصل السادس الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى)

- ‌السرايا

- ‌[منجزات السرايا]

- ‌1- الاستطلاع:

- ‌2- القتال:

- ‌3- الكتمان:

- ‌4- الحصار الاقتصادي:

- ‌معركة بدر الكبرى

- ‌[أسباب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى]

- ‌القيادة الموحدة:

- ‌التعبئة الجديدة:

- ‌العقيدة الراسخة:

- ‌المعنويات العالية:

- ‌معركة أحد

- ‌معركة الخندق

- ‌الفصل السابع الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية)

- ‌صلح الحديبية

- ‌فتح مكة

- ‌عام الوفود وتصفية الوجود الوثني

- ‌الفصل الثامن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل التاسع الصراع ضد اليهود

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌قائمة بأهم المصادر والمراجع

- ‌المصادر (القديمة)

- ‌المراجع (الحديثة)

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: العظيمة التي واجه بها هذا الموقف بأمر ربه، بما كان

العظيمة التي واجه بها هذا الموقف بأمر ربه، بما كان يوجهه إلى الزعيم القوي الغني الطاغي: المغيرة بن هشام المخزومي، مما يوحي إليه من آيات فيها الصفعات الداميات والشرر المحرق: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ. كَلَّا لا تُطِعْهُ

«1» . ثم بما كان من تثبيت القرآن له على دعوته وعبادته وثباته فيهما فعلا، تبين لنا العظمة الخلقية والإيمان العميق والجرأة الشديدة في الحق على كل باغ مهما كان قويا عاتيا. ولقد كان هذا دأبه في كل المواقف التالية لهذا الموقف العصيب سواء كانت في الخطوات الأولى أو ما بعدها، وفي هذا سر من أسرار اصطفائه للرسالة العظمى من دون ريب ‌

«2»

.

[2]

وما لبث الوقت أن حان لإعلان الدعوة، وأصدر الله سبحانه أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن (يصدع) بما جاءه منه وأن يتجاوز الطور السري للدعوة الذي استغرق ما يزيد على الثلاث سنوات إلى الجهر والعلن تنفيذا لأمر الله فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «3» ولقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «4» وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «5» .

وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدور الجديد للدعوة بأن صعد إلى الصفا ودعا بني المطلب أن يجتمعوا إليه، فاجتمع إليه منهم حوالي الأربعين، فيهم عدد من أعمامه، وبدأ حديثه معهم: يا بني فلان، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقاطعه أبو لهب ساخرا: تبا لك!! ما جمعتنا إلا لهذا. ثم انصرف بنو عبد المطلب في أعقابه «6» .

ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته

(1) سورة العلق: الآيات 15- 19.

(2)

دروزة: سيرة الرسول 1/ 162.

(3)

سورة الحجر: الآية 94.

(4)

سورة الشعراء: الآيتان 214- 215.

(5)

سورة الحجر: الآية 89.

(6)

الطبري: تاريخ 2/ 319، البلاذري: أنساب 1/ 119- 121، ابن سعد 1/ 1/ 133، ابن الأثير: الكامل 2/ 60- 63، ابن كثير: 3/ 38- 41.

ص: 54

وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد وأن يكون له وقع كبير على بقية القبائل.. على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش كخطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. والواقع أن كثيرا من الآيات المكية كانت تنص على أن القرآن ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «1» الأمر الذي يدل على أن فكرة الدعوة العالمية كانت قائمة منذ هذا الوقت المبكر «2» .

ما لبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن جوبه بمعارضة شديدة من قومه، وبإجماع منهم على مقاومته وصدّه، سيما بعد الحملات الشديدة التي راح يشنها على آلهتهم وأصنامهم «3» ووقف عمه أبو طالب ينافح عنده ضد قريش، فرأى زعماؤها أن يبعثوا إليه وفدا من أشرافهم علهم يقنعونه بوقف ابن أخيه عن المضي في دعوته، أو- على الأقل- بالتخلي عن إسناده وحمايته. والتقى رجالات الوفد بأبي طالب وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلّي بيننا وبينه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه «4» .

مضى الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه، يظهر دين الله ويدعو إليه، بينما ظل بعض كبار أصحابه كأبي بكر وسعيد بن زيد وعثمان على سريتهم وكتمانهم، زيادة في الحيطة، أما حمزة وأبو عبيدة وعمر- فيما بعد- فقد راحوا يجهرون «5» . واشتد العداء بين محمد والوثنية عمقا، وامتلأت صدور المشركين حقدا عليه وهم يرونه يعلن حربه التي لا هوادة فيها ضد قيمهم وآلهتهم، وراحوا يكثرون الحديث في

(1) سورة يوسف: الآية 104، وانظر: سورة الأنعام: الآية 90، سورة القلم: الآية 52، سورة التكوير: الآية 27.

(2)

صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب 1/ 328- 329. وعن الدائرة الواسعة لعشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي وسعتها علاقات الزواج والمصاهرة انظر بالتفصيل المصدر السابق 1/ 329- 333، وعن أسماء المسلمين في العصر المكي انظر القوائم الدقيقة التي ثبتها العلي في كتابه آنف الذكر ص 381- 390 والملحق الأخير لكتاب مونتكمري وات: محمد في مكة وقوائم كايتاني في كتابه (حوليات الإسلام) وانظر كذلك: وات، المرجع السابق ص 144- 147.

(3)

انظر البلاذري: أنساب 1/ 115- 116.

(4)

ابن هشام ص 54- 55، الطبري: تاريخ 2/ 322- 323، اليعقوبي 2/ 19- 20.

(5)

البلاذري: أنساب 1/ 123.

ص: 55

أمره، ويتامرون ضده، ويحضّ بعضهم بعضا عليه. ثم ارتأوا أن يقابلوا أبا طالب مرة أخرى وقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.

فبعث أبو طالب إلى ابن أخيه وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فابق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق «1» .

ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أن عمه قد ضعف عن نصرته، وأنه ربما خذله وأسلمه لأعدائه فقال:«يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه» فما كان جواب عمه إلا أن قال: «اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا» «2» .

وعندما أدركت قريش إصرار أبي طالب على حماية ابن أخيه، ساروا إليه ثالثة، ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وقالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولدا، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل. فأجابهم أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا «3» .

ويورد ابن سعد رواية لا نجدها في المصادر الآخرى، ولا ندري مدى صحتها، تشير إلى محاولة مبكرة من زعماء قريش لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم بعد فشل مفاوضاتهم مع أبي طالب وعجزهم عن إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا:

«ما خير من أن يغتال محمد» . فلما كان مساء تلك الليلة، فقد الرسول صلى الله عليه وسلم، فبحث عنه أبو طالب فلم يجده فظن أنه قد أصيب بمكروه، فجمع فتيانا من بني هاشم وبني المطلب وأمر كلا منهم أن يحمل حديدة صارمة لقتال زعماء القوم إذا ثبت قتلهم لمحمد صلى الله عليه وسلم. إلا أن أبا طالب سرعان ما أبلغ أن محمدا يجلس الآن في داره بالصفا بمنأى عن الشر. وفي اليوم التالي صحب أبو طالب ابن أخيه إلى

(1) ابن هشام ص 55- 56، الطبري 2/ 323.

(2)

ابن هشام ص 65، الطبري: تاريخ 2/ 326، ابن الأثير 2/ 64.

(3)

ابن هشام ص 56- 57، الطبري 2/ 326- 327، ابن سعد 1/ 1/ 134- 135، ابن الأثير: الكامل: 2/ 64- 65.

ص: 56

أندية القرشيين ومعه فتيان بني هاشم والمطلب، و؟؟ راح يقول لهم: «يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر وقال للفتيان:

اكشفوا عما في أيديكم، فكشفوا فإذا كل رجل منهم يحمل حديدة صارمة. فقال:

والله لو قتلتموه ما بقيت ومنكم أحدا حتى نتفانى نحن وأنتم. فانكسر القوم، وكان أبو جهل أشدهم انكسارا «1» . ولعل هذه الرواية تفسّر لنا لماذا سكت القرشيون في السنين التالية عن وقف خطر انتشار الدعوة بقتل الرسول، واكتفائهم بفتنة ضعاف المسلمين، وأنهم لم يعودوا إلى اعتماد أسلوب الاغتيال إلا بعد أن حزب الأمر، وامتد نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خارج مكة وبدأ المسلمون هجرتهم صوب يثرب لتأسيس دولتهم هناك.

أدركت قريش ألا جدوى من أية محاولة تبذل لاستمالة أبي طالب ووقف حمايته للرسول صلى الله عليه وسلم، فقررت أن تدع أسلوب المفاوضة والحوار إلى العنف والقوة، وأن تعلن حربها ضد الدعوة الجديدة والمنتمين إليها، وأن تدفع كل قبيلة منها إلى أن تنقضّ على المسلمين من أبنائها فتعمل فيهم تعذيبا وتفتنهم عن دينهم، فنفذت القبائل تعليمات الزعامة الوثنية وصبّت على رؤوس المسلمين عذابها ومطارداتها وأذاها، وأغرت سفهاءها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكذبوه وأذوه واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، ومحمد ماض في هجومه على دينهم واعتزال أوثانهم ورفض قيمهم وأعرافهم.

وكانوا يجتمعون قريبا من الكعبة حتى إذا طاف بها الرسول صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول فكان يرد عليهم «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح» «2» وعندما كانوا يأخذون بمجامع ردائه ويقولون له أنت الذي تقول كذا وكذا في عيب آلهتنا وديننا، كان يجيبهم بصراحة لا التواء فيها «نعم أنا الذي أقول ذلك» . وسعى أحدهم- مرة- إلى إلحاق الأذى به فلوى ثوبه في عنقه وخنقه خنقا شديدا، فنافح أبو بكر دونه وهو يقول «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» «3» . وقال أبو جهل، وقد أغاظه ازدياد أتباع النبي يوما بعد يوم: والله لئن رأيت محمدا يصلي، لأطأن رقبته. فبلغه أنه يصلي فأقبل مسرعا فقال: ألم أنهك

(1) الطبقات 1/ 1/ 135.

(2)

كناية عن الهلاك إن لم يؤمنوا (عن تهذيب سيرة ابن هشام) .

(3)

ابن هشام ص 57- 60، الطبري: تاريخ 2/ 332- 333.

ص: 57

يا محمد عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب: أتنتهرني وتتهددني وأنا أعز أهل البطحاء؟ «1» .

وعندما اقترب موسم الحج خاف زعماء قريش أن يفيد الرسول صلى الله عليه وسلم من فرصة التجمع البشري هذه فيتصل بوفود العرب وقبائلها ويعرض عليها الإسلام فدعا أحد كبارهم وهو الوليد بن المغيرة قومه إلى أن يجتمعوا إليه وأعلمهم أن الموسم قد حضر وأن وفود العرب قادمة إلى مكة، وأن عليهم أن يصدروا في أمر الرسول عن رأي واحد كيلا يختلفوا ويكذب بعضهم بعضا. فقال بعضهم: نقول إنه كاهن، فأجاب الوليد: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. فقال آخرون: نقول مجنون. أجاب: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا وسوسته. قالت فئة ثالثة: نقول شاعر.

فأجاب الوليد: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قال بعضهم: فنقول ساحر. أجاب الوليد:

ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول أنت؟ قال: «والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق «2» وإن فرعه لجناة «3» ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل. وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته. وتفرق القوم على هذا الرأي وانتشروا في مداخل مكة ومسالكها حيث تمر الوفود لأداء مناسك الحج، فكلما مرّ بهم وفد حذروه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واتهموه بالسحر. وجاءت محاولتهم هذه بعكس النتائج التي توقعوها، ذلك أن العرب صدروا ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها، فكأن قريشا سعت- من حيث لم تشعر ولم ترد- إلى نشر الدعوة الناشئة في الآفاق «4» .

مضت الدعوة تشق طريقها الصعب في مكة بين قبائل قريش رجالا ونساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين وأسلم حمزة بن عبد المطلب غضبا لابن أخيه من أبي جهل الذي آذاه وشتمه

(1) البلاذري: أنساب 1/ 126.

(2)

العذق: النخلة (عن تهذيب سيرة ابن هشام) .

(3)

الجناة: ما يجنى (المصدر السابق) .

(4)

ابن هشام: ص 57- 58، البلاذري: أنساب 1/ 123.

ص: 58

ونال منه، ورأت قريش أن تعود- ثانية- حيث لم تجد الفتنة والاضطهاد، إلى أسلوب المفاوضة والإغراء، فاجتمع أشرافها من كل قبيلة: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، النضر بن الحارث، أبو البختري بن هشام، الأسود بن عبد المطلب، زمعة بن الأسود، الوليد بن المغيرة، أبو جهل بن هشام، عبد الله بن أبي أمية، العاص بن وائل، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف اجتمعوا بعد غروب الشمس قريبا من الكعبة وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا، فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فأجابهم رسول الله: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم.

حينذاك طلب زعماء قريش منه أن يأتيهم بمعجزة ما، أن يوسع عليهم وادي مكة، أو يفجر فيه الأنهار، أو يبعث أحد آبائهم حيا كي يخبرهم عن صدق نبوته، أو يجعل لهم جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، أو يسقط السماء عليهم كسفا، أو يسأل ربه أن يبعث معه ملكا يصدقه بما يقول «فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا فيما تزعم. فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل» . فما كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن ظلّ يردد عليهم «ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» «1» .

(1) ابن هشام: ص 64- 67.

ص: 59

وخلال ذلك كان أتباع الدين الجديد يقاسون شتى أنواع العذاب والاضطهاد وكانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحرارا وعبيدا، فتحبسهم وتعذبهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي ينصب عليهم ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وقد روى مجاهد أن المستضعفين من المسلمين ألبسوا دروع الحديد، وصهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم «1» .

كان بلال بن رباح مؤمنا صادق الإيمان، طاهر القلب، وكان سيده أمية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء:

أحد أحد

فيضع أمية في عنقه حبلا ويأمر الصبيان فيجرونه. وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب ويصرخ أحد أحد، فيقول أحد أحد والله يا بلال. وظل بلال على هذه الحال إلى أن أعتقه أبو بكر وأعتق معه ست رقاب أخرى من ضعفاء مكة من الرجال والنساء، وعندما قال له أبوه، يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، لو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك. أجاب أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد الله عز وجل «2» .

يقول عمرو بن العاص: مررت ببلال وهو يعذب في الرمضاء، لو أن بضعة لحم وضعت لنضجت، وهو يقول: أنا كافر باللات والعزى، وأمية بن خلف مغتاظ عليه فيزيده عذابا فيغشى عليه ثم يفيق.. ويقول حسان بن ثابت:

اعتمرت، فرأيت بلالا في حبل طويل، تمده الصبيان، ومعه فيه عامر بن فهيرة وهو يقول: أحد أحد، أنا كافر باللات والعزى، فأضجعه أمية على الرمضاء.

ويقول مجاهد: جعلوا في عنق بلال حبلا وأمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين جبلي مكة، ففعلوا ذلك وهو يقول: أحد أحد.. ويقول عروة: كان بلال من المستضعفين من المؤمنين وكان يضرب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون

ويقول بلال نفسه: أعطشوني يوما وليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار «3» .

(1) البلاذري: أنساب 1/ 158.

(2)

المصدر السابق 1/ 184- 185، ابن هشام ص 69- 71.

(3)

البلاذري: أنساب 1/ 185- 186.

ص: 60

وكان أبو فكيهة المسمى (أفلح) عبدا لصفوان بن أمية، فمر به أبو بكر وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلا وأمر به فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء..

وجعل يغلظ عليه ويخنقه ومعه أخوه أبيّ بن خلف يقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق فاشتراه أبو بكر وأعتقه «1» .

وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت وهي لا تبصره: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء.. فاشتراها أبو بكر وأعتقها. وكانت النهدية أمة لامرأة من بني عبد الدار وكانت تعذبها وتقول: والله لا أقلعت عنك أو يعتقك بعض من صباتك فابتاعها أبو بكر وأعتقها. وكانت أم عنيس أمة لبني زهرة فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها أبو بكر وأعتقها «2» .

وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم في رمضاء مكة، فيمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة!! وقتلت أمه وهي تأبى إلا الإسلام فكانت أول شهيدة في الإسلام، ويقال إنها أغلظت لأبي جهل في القول فطعنها في بطنها.. وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول «3» .. وجيىء بخباب بن الأرت فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف حتى ذهب ماء متنه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوما يشكو ما أصابه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد كان الرجل من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد حتى يخلص إلى ما دون عظمه من لحم وعصب، ويشق بالمناشير، فلا يرده ذلك عن دينه وأنتم تعجلون. والله ليمضين هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله وحده، والذئب على غنمه «4» . ويحدثنا خباب نفسه فيقول: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما أتيت الأرض إلا بظهري (ثم كشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص)، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا يتمنين أحدكم الموت) لتمنيته «5» !!.

(1) البلاذري: أنساب 1/ 194- 195.

(2)

المصدر السابق 1/ 196.

(3)

المصدر السابق 1/ 158- 159.

(4)

المصدر السابق 1/ 176.

(5)

المصدر السابق 1/ 178.

ص: 61

وكان صهيب بن سنان الرومي من المؤمنين المستضعفين الذين يعذبون في الله، وكان يمر بقريش يصحبه خباب وعمار، فكانوا يقولون: هؤلاء جلساء محمد ويهزؤون

فيرد صهيب: نحن جلساء نبي الله، آمنا وكفرتم وصدقناه وكذبتموه، ولا خسيسة مع الإسلام ولا عز مع الشرك. فجعلوا يعذبونه ويضربونه وهم يقولون: أنتم الذين منّ الله عليكم من بيننا «1» ؟

وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنّبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك. لنسفهن حلمك ولنقبحن رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا أغرى به «2» .

واجتمع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا: والله ما سمعت قريش بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا! قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.

فقال: دعوني فإن الله سيمنعني. وانطلق إلى الكعبة، وقريش في أنديتها، وراح يتلو هناك بصوت عال الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ

«3» فتأمل القرشيون فيه وجعلوا يتسائلون: ما يقول ابن أم عبد؟ أجاب بعضهم إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه وجعلوا يضربون في وجهه وهو ماض في تلاوة السورة، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وآثار اللطمات على وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك؟ قال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، لئن شئتم لأغادينهم غدا بمثلها! قالوا: لا.

حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون «4» . وروى الطبري في سياق تفسير آيات سورة العنكبوت (8- 9) أن سعد بن أبي وقاص كان يقول لأمه التي أخذت تلح عليه بالارتداد «يا أمه، والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني» «5» !

ويظهر أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يطيقوا تحمل الأذى والاضطهاد، وأنهم أبدوا شكهم في نصر الله الموعود للمسلمين فنزلت

(1) البلاذري: أنساب 1/ 184.

(2)

المصدر السابق 1/ 198. ابن هشام ص 71- 72.

(3)

سورة الرحمن: الآيات 1- 4.

(4)

الطبري: تاريخ 2/ 234- 235.

(5)

دروزة: سيرة الرسول 1/ 280.

ص: 62

الآيات (11- 15) من سورة الحج تحمل على هذا النوع من الناس بأسلوب عام حملة لاذعة في سياق وبيان مراتب الناس من عبادة الله والاعتراف به والإخلاص له، فالمخلص يجب أن يؤمل في رحمة الله ونصره وإن تأخرا، وإذا لم ينلهما في الدنيا فهو نائلهما في الآخرة، والإيمان المشروط بألّا ينال صاحبه إلا النفع، لا يليق بمؤمن صادق لأن الإيمان مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراف الدنيا المتقلبة على الناس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ «1» «2» .

عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به «3» !!

ومن جهة أخرى، لنا أن نتساءل فيما إذا كان من المسلمين من كان يقابل الأذى والعدوان بمثله في مكة، أو همّ بذلك؟ فنقول إن في بعض الآيات ما يلهم بالإيجاب الذي نعتقد أنه مما يتّسق مع طبيعة الأمور، إذ لا يصح أن يفترض خضوع المسلمين كافة للأذى وصبرهم عليه، وكان فيهم الأقوياء في أشخاصهم أمثال عمر وحمزة، كما كان فيهم الأقوياء بعصبياتهم أيضا وخاصة في بيئة مثل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره قويت فيهما العصبية الاجتماعية وكانت ناظما مهما في علاقات الناس بعضهم ببعض. إلا أن القرآن أمرهم أن يكفوا أيديهم لأن وقت المجابهة لم يحن بعد. وهنالك من الآيات «4» ما يلهم بقوة أن بعض المسلمين كانوا أحيانا يوجهون الشتائم إلى الكفار بسبيل التنديد بهم وبعقائدهم مواجهة، وهذا لا يكون إلا من أناس أقوياء الشخصية جرآء على الباطل مهما قوي أصحابه وبالتالي تلهم بقوة أن من المسلمين من كانوا كذلك وكانوا لا يرون أن يسكتوا على الكفار وفجارهم «5» . وفي تفسير الطبري لآيات سورة النحل (125- 128) عن بعض التابعين أن بعض المسلمين في مكة قالوا: يا رسول الله لو أذن لنا الله

(1) سورة الحج: الآيتان 11- 12.

(2)

دروزة: سيرة الرسول 1/ 283- 284.

(3)

ابن هشام ص 72. البلاذري: أنساب 1/ 197.

(4)

سورة الأنعام: الآية 108.

(5)

دروزة: سيرة الرسول 1/ 309- 310.

ص: 63