الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن أنتم تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل: إن هذه كلمة مربحة، نعم وأبيك، لنقولنها وعشر أمثالها!! فقال الرسول: قولوا (لا إله إلا الله) !! فاشمأزوا ونفروا منها وغضبوا وقاموا وهم يقولون وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ»
«2» .
فليست الحركة الإسلامية إذن حركة طبقة ضد طبقة، فقد انتمى إليها أناس من شتى الطبقات. وسواء كانت هذه السمة (الطبقية) ناتجة عن تحرك الفقراء ضد الأغنياء، كما يرى بعض الباحثين، أو من الأغنياء لكبت ما تحسّسوا منه رائحة ثورة شاملة سيقوم بها الفقراء ضد مصالحهم ومراكزهم، كما ارتأى باحثون آخرون
«3»
، فإن هذه الافتراضات، التي ينقض بعضها بعضا، تعود لكي تنتقض نهائيا بمجرد عرضها على (الواقعة التاريخية) نفسها.. إذا ما أردنا البحث الموضوعي الجاد، وإلا فإن التخمين والاستنتاج والإسقاط المعاصر على التاريخ، دون رؤية وارتكاز على أبعاد الواقعة نفسها يقودنا ولا ريب إلى (إسرائيليات) من نوع جديد، تتدثر بدثار العلم والموضوعية وما هي منهما بشيء!!
[3]
بعد أن تم بناء القاعدة (الصلبة) للدعوة متمثلة بأولئك الرواد الأوائل من المسلمين الذين انتموا للإسلام عبر سنيه الصعبة وغربته، والذين علمتهم التجارب المقدرة على الصمود بوجه الضغوط مهما غلا الثمن، والذين أنضجتهم حشود الآيات القرآنية التي كانت تتنزل (على مكث) حينا بعد حين
…
أصدر الله أمره إلى رسوله الكريم أن يتجاوز المرحلة السريّة للدعوة صوب الجهر والإعلان
…
وهذا أمر لا بدّ منه لدعوة عالمية شاملة جاءت لكي تثبت وجودها المنظور في الأرض العربية أولا، وفي العالم المحيط ثانيا.. كل ذلك في فترة لا تعدو ما تبقى للرسول صلى الله عليه وسلم من سني عمره المحدود.
(1) سورة ص: الآية 6.
(2)
الطبقات 1/ 1/ 135 وانظر المصدر نفسه 1/ 1/ 137 والبلاذري: أنساب 1/ 126، 128، 133، 141 وابن الأثير: الكامل 2/ 65.
(3)
انظر عبد العزيز الدوري ورفاقه: تفسير التاريخ ص 15- 16.
كان اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بعشيرته الأقربين في أطراف مكة هو بداية العهد الجديد، وقد انتهى ذلك الاجتماع الحاشد بصدّ محزن عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنذاره.. ومنذ تلك اللحظة انفجر الصراع الواضح المكشوف بين المعسكرين..
المشركون الذين استخدموا كل أسلوب والتمسوا كل وسيلة لوقف حركة الإسلام إلى الأمام
…
والمسلمون الذين لم يؤمروا بالعنف- طيلة العصر المكي- لئلا يتعرضوا لعملية إبادة تحقق للوثنية ما كانت تأمله وترجوه..
وقد بدأ رجال الملأ نشاطهم المضاد في سلسلة من الاتصالات المبطنة بالوعد والوعيد مع أبي طالب ومحمد صلى الله عليه وسلم، فلما أعقبت- جميعها- فشلا، وأعلن النبي عن موقفه الذي لا مهادنة فيه ولا مساومة، في كلمته الحاسمة «والله يا عم..» وجدت الوثنية نفسها مسوقة إلى استخدام أساليب العنف والاضطهاد والحرب النفسية، لوقف الخطر الجديد، وانقضّت كل عشيرة على أبنائها وعبيدها المسلمين تعمل فيهم تعذيبا وتحطيما للمعنويات واضطهادا، ولم ينج الرسول نفسه من هذا البلاء النازل، وهو وأصحابه صامدون صابرون للمحنة، تسندهم تجارب سنين طويلة من العمل والنمو العقيدي، وتمنحهم المعنوية والثقة آيات القرآن البينات التي كانت تتنزل في قلب المحنة لكي ترفع المؤمنين إلى أفق الأمل واليقين بالنصر..
وإلى جانب هذا وذاك كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينفخ في أصحابه روح الثبات والمقاومة ويرسم لهم بذكائه الثاقب، وبالهدي الإلهي، الطرائق والأساليب التي تقترب بهم يوما بعد يوم من الهدف الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وعد أصحابه ببلوغه مهما طال الطريق وعظمت المصائب.. ولم يكن التخطيط للهجرة الموقوتة إلى الحبشة، والاتصال المستمر بالقبائل والوفود القادمة إلى مكة، والذهاب إلى الطائف، ولقاآت العقبة الثلاث إلا خطوات على الطريق..
وكلما ازدادت المحنة وعظم البلاء ساق الله إلى الدعوة رجالا كبارا لهم وزنهم في مجرى الأحداث وقدرتهم على المقاومة والتحدي والتغيير. ولم يكن إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلا أمثلة بيّنة على الإرادة المعجزة التي تسوق، وفق منطقها وقضائها الذي لا رادّ له، رجالا من قلب الجاهلية، ومن صميم زعامتها، إلى ساحة الحركة الجديدة، ليسوا أتباعا عاديين، وإنما قادة وزعماء يلعبون دورهم في إيجاد نوع من التوازن في القوى
بين الدين الجديد والجاهلية يمكّن الإسلام من أن يشق طريقه وسط ركام من العوائق والمصاعب والآلام.
وإذ شعرت قريش أنها أخفقت في كل الأساليب التي اعتمدتها لوقف انتشار النار، فقد ارتأت في أعقاب اجتماع عقده زعماؤها أن ترفع سلاح (المقاطعة الشاملة) كعقاب (جماعي) للمسلمين وحماتهم من بني هاشم وبني المطلب، علها تضعف قدرة أتباع محمد على المقاومة، وتدفع حماتهم، الذين تشدهم إليهم نخوة العصبية، إلى أن ينفضوا من حولهم ويتركوهم وحيدين، معزولين، مجردين من الحماية، وسط عاصفة الغضب الهوجاء التي اجتاحت صدور المشركين وساحات مكة.. إلا أن السلاح الجديد يثلم هو الآخر إزاء مقاومة المسلمين وقدرتهم العجيبة على التحمل، وإزاء التركيب الاجتماعي في مكة، ذلك الذي دفع عددا من أبنائها الذين تربطهم العصبية بواحد أو أكثر من المحاصرين في شعب أبي طالب إلى أن يتحركوا لوقف هذه المظلمة، وتمزيق الصحيفة التي سطرت فيها كلمات القطيعة.. ويخرج المسلمون من الأسر الصعب بعد ثلاث سنين من العزلة والجوع والحرب النفسية، وهم أصلب عودا، وأغنى تجربة، وأكثر قدرة على التحرك صوب الهدف الذي آلوا أن يسيروا إليه وراء رسولهم، حتى ولو كلّفهم ذلك أنهارا من الدماء..
وكانت الأحداث تتلاحق والاضطهاد الوثني يزداد عنفا وشراسة، ويزيده فتكا وإيلاما، وفاة سندي الرسول العاطفي والاجتماعي: الزوجة والعم، وفشل رحلته إلى الطائف، وكأن إرادة الله كانت تعد، من وراء الظلام الذي ازداد عتمة وكثافة، بالفجر القادم الذي لا ريب فيه
…
ولن يكون ذلك إلّا بالأسباب..
وهل بعد (الأسباب) التي منحها الرسول فكره وأعصابه وطاقاته وهمومه جميعا، بقادرة على أن تحقق (وعد الله) ! وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
…
«1» .
(1) سورة الأنعام: الآية 34.