الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[4]
كان أول صدام مبكر بين الإسلام واليهود هو ذلك الذي حدث في أعقاب معركة بدر.. بدأ اليهود الذين صدمتهم نتيجة المعركة التي لم يكونوا يتوقعوها يروجون الشائعات ضد المسلمين ويشنون حربا نفسية ضد رسوله ودعاته، ويمارسون التجسس على المسلمين لصالح المشركين حيث نقلوا كافة المعلومات عن نوايا المسلمين وحركاتهم إلى قريش «1» ، كما أنهم كانوا قد تلقوا رسالة من قريش تحرضهم فيها على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم «2» ، وأظهروا للرسول، كما يقول الطبري، الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمد من يحسن القتال، ولو لقينا لاقى عندنا قتالا لا يشبهه قتال أحد، وأظهروا نقض العهد «3» فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود، احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا مثل قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن إنا نحن الناس «4» .
وازداد الموقف توترا في أعقاب الحادثة التي شهدها سوق بني قينقاع، حيث كانت امرأة عربية قد قدمت السوق ببضاعة تريد بيعها فيه، وجلست إلى صائغ هناك، فتقدم إليها عدد من اليهود وطلبوا منها أن تكشف عن وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى التحرش بها، مما أضحك اليهود المتجمعين حولها، فصاحت المرأة فما وسع رجل من المسلمين إلا أن وثب على الصائغ اليهودي فقتله، فشدّ اليهود على المسلم فقتلوه، واستصرخ أهل المسلم أتباعهم، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع «5» .
وفي رواية للزهري، يوردها الطبري، أن جبريل نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه
(1) شيت خطاب: الرسول القائد، ص 92.
(2)
محمد حميد الله: الوثائق، ص 66.
(3)
الطبري: تاريخ 2/ 479، البلاذري: أنساب 1/ 308 الواقدي 1/ 176.
(4)
المصادر السابقة، نفس الصفحات.
(5)
ابن هشام، ص 171، الواقدي 1/ 176، البلاذري: أنساب 1/ 309، جوامع السيرة ص 154، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 197- 198، ابن الأثير: الكامل 2/ 137- 139، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 3- 4.
الآية وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «1» ، فلما فرغ جبريل من تلاوة الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إني أخاف بني قينقاع، وسار لقتالهم «2» . ومهما كان الأمر فإن يهود بني قينقاع قد تحدوه صراحة سواء في أقوالهم وحربهم النفسية، أم في مواقفهم وأعمالهم، حتى أن الواقدي يذكر أن بني قينقاع اجتمعوا على الرجل فقتلوه «ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاربوا وتحصنوا في حصنهم» «3» . ومن ثم يبدو تهافت ما ذكره ولفنسون من أن الأسباب التي حملت النبي على البدء بمحاربة بني قينقاع- من بين جميع اليهود- ترجع إلى أن بني قينقاع كانوا يسكنون داخل المدينة، في حي واحد من أحياء الأقوام العربية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهر المدينة وأحياء الأنصار من المشركين ومن جميع من يخالفون دينه، وغني عن البيان أن بني قينقاع كانوا أغنى طوائف اليهود في يثرب.. ثم كان عددهم غير كثير، فكان من السهل مقاتلتهم واستئصال شأفتهم «4» .
لم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ساكتا إزاء تحدي بني قينقاع، وهم ينقضون صراحة بنود الدستور، ويثيرون فتنة كان الدستور قد أكد على معاقبة مرتكبيها واعتبارهم ناقضين للعهد، ومن ثم فرض الحصار على حصونهم الواقعة داخل المدينة، في شوال من السنة الثانية للهجرة، وقد استمر الحصار خمس عشرة ليلة وانتهى بنزول اليهود على حكم الرسول الذي قضى بإجلائهم عن يثرب إلى أي مكان يشاؤون «5» ، دون أن ينزل أية عقوبة- أخرى- بهم، كي يجيء حكمه بمستوى الجرم الذي اقترفوه. وبخروجهم إلى أذرعات من بلاد الشام تخلص المسلمون من واحدة من القبائل اليهودية الرئيسية الثلاث المنتشرة- منذ زمان بعيد- داخل المدينة وخارجها، فازدادت وحدة المدينة تماسكا، وازداد اليهود ضعفا. ويظهر أن إجلاء بني قينقاع كان له وقع عظيم في نفوس اليهود، فقد امتنعوا في أعقاب ذلك عن المجادلة الدينية، وكفوا عن رمي المسلمين بقوارص الكلم، ودخلت
(1) سورة الأنفال: الآية 58.
(2)
الطبري: تاريخ 2/ 480، ابن سعد: طبقات 2/ 1/ 19.
(3)
المغازي: 1/ 177.
(4)
تاريخ اليهود: ص 128.
(5)
ابن هشام ص 171- 172، ابن سعد 2/ 1/ 19- 20، الواقدي 1/ 177- 180، البلاذري: أنساب 1/ 309، ابن الأثير: الكامل 2/ 138- 139.
هيبة المسلمين في قلوب البطون العربية التي لم تكن قد دخلت في الإسلام، وانفسح المجال أمام النبي صلى الله عليه وسلم لنشر دعوته «1» .
ولم يمض على ذلك كبير وقت حتى سدد الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود ضربة أخرى بقتل كعب بن الأشرف، أحد كبار زعمائهم، في ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة. وكان كعب قد صعّد نشاطه ضد الإسلام في اللحظة التي قدم فيها إلى المدينة مبعوثا الرسول صلى الله عليه وسلم من معركة بدر، زيد بن حارثة وعبد الله ابن رواحة، لإعلان بشرى انتصار المسلمين في لقائهم الحاسم مع المشركين.
فقال كعب: ويلكم أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس؟ والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.. هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا. قال: وما أنتم وقد وطىء قومه وأصابهم، ولكني أخرج إلى قريش فأحضهم وأبكي قتلاهم فلعلهم ينتدبون فأخرج معهم. وبعد أن تيقن من صحة الخبر غادر كعب المدينة متوجها إلى مكة ونزل هناك على أحد زعمائها، وراح يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار في هجائه ويبكي أصحاب القليب من قادة قريش الذين صرعوا في بدر، وقفل عائدا إلى المدينة لكي ينشد قصيدة يشبب فيها بامرأة مسلمة تدعى أم الفضل بنت الحارث:
إحدى بني عامر جنّ الفؤاد بها
…
ولو تشاء شفت كعبا من السقم
لم أر شمسا بليل قبلها طلعت
…
حتى تجلت لنا في ليلة الظلم!!
وتحول من أم الفضل إلى نساء مسلمات أخريات مشببا بهن حتى آذاهن.
وعند ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لي من ابن الأشرف؟ فقال رجل من الأنصار يدعى محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فافعل إن قدرت على ذلك!!
توجه محمد بن مسلمة إلى دار ابن الأشرف، في بني النضير، يصحبه أربعة من رفاقه. وعندما اقتربوا من داره بعثوا إليه أحدهم، أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعرا، ثم قال أبو نائلة: ويحك يا ابن الأشرف! إني قد جئتك
(1) ولفنسون: تاريخ اليهود ص 131.
بحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. أجاب كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل (يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بلاء علينا، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهدت عيالنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول. فقال أبو نائلة: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. وطلب كعب أن يرهنوه أبناءهم فأقنعه أبو نائلة أن ذلك مما لا ترضاه العرب وأن من الأفضل لو يجعل الرهن سلاحا- وكان هدفه ألا ينكر كعب وجماعته السلام إذا جاءهم به- فوافق كعب على ذلك. وفي بقيع الغرقد اجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وتلقوا منه التعليمات وقال لهم: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصن كعب وناداه أبو نائلة، فنزل إليهم وتحدث معهم ساعة، حتى إذا توغلوا بعيدا عن مساكن اليهود أخذ أبو نائلة برأسه وصاح: اضربوا عدو الله، فصرخ كعب صرخة لم يبق من جرائها حصن يهودي إلا أوقدت عليه النار، وما لبثت سيوف المسلمين أن تناوشته وأجهزت عليه، وقفلوا عائدين بعد أن أصيب أحدهم بجرح. وسرعان ما تبدت ردود فعل اليهود إزاء مقتل فارسهم وشاعرهم خوفا وجبنا «فليس في المدينة يهودي إلا وهو يخاف على نفسه» «1» . ودفعهم الفزع إلى مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قالوا له: قد طرق صاحبنا الليلة، وهو سيد من ساداتنا، قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه.
فأجابهم الرسول: إنه لو قرّ كما قرّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف.
ثم ما لبث أن عرض عليهم أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه، فأجابوه إلى ذلك حيث أصابهم الخوف والذل «2» .
(1) الطبري: تاريخ 2/ 487- 491، ابن سعد 2/ 1/ 21- 23، البخاري: التجريد 2/ 79- 80، الواقدي 1/ 121- 122، 184- 193، ابن حزم: جوامع السيرة ص 154- 156، ابن الأثير: الكامل 2/ 143- 144، المقدسي 4/ 197، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 5- 9.
(2)
الواقدي: 1/ 192.