الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصفر اللعب؟! والله لكأني أنظر إلى أصحابه غدا مقرنين في الحبال
…
» «1» !!
ضربة في الصميم من ضربات النفاق وهو يزحف في الظلمات بطيئا بطيئا، ليلدغ على حين غفلة، كما تلدغ العقارب والحيات «2» .
انكسر تحدي الروم المعلن للدولة الإسلامية، في أعقاب تبوك، ولم يستطيعوا ولا حلفاؤهم من نصارى العرب أن يتحركوا أو يقوموا بعمل عسكري، سيما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام- بمحالفاته ومصالحاته مع القبائل النصرانية في الشمال- جدارا يصد العدوان ويكبته.. لكن بعض أمراء العرب في الأردن وفلسطين، من أجل إرضاء سادتهم، راحوا يتحرشون بدعاة الإسلام ورجاله في المنطقة ويصدونهم عن أداء مهمتهم. وقد ذكر ابن سعد- على سبيل المثال- أن فروة بن عمرو الجذامي، عامل قيصر على عمان من أرض البلقاء، أعلن إسلامه، رغم أنه لم يتلق كتابا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه كتابا حمله رسولا من قومه يدعى مسعود بن سعد. فقرأ النبي الكتاب ورد عليه بكتاب من عنده، وأجاز المبعوث بمبلغ من الدراهم ردا على الهدية التي تلقاها من الأمير العربي «3» . ولما بلغ أمبراطور الروم إسلام عامله دعاه وقال له: ارجع عن دينك بملكك. فأجاب فروة: لا أفارق دين محمد، وإنك تعلم أن عيسى قد بشر به، ولكنك تضن بملكك. فحبسه الأمبراطور ثم أخرجه وصلبه «4» .
[7]
في الفترة التالية انهمك الرسول صلى الله عليه وسلم باستقبال الوفود القادمة إلى المدينة من كل مكان، وكان من بينها وفد نجران النصرانية «5» الذي توجه إلى المدينة في أعقاب كتاب بعثه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء فيه: «.. إني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة
(1) الواقدي 3/ 995- 996 وانظر فصل (حركة النفاق) .
(2)
عن الآيات المتعلقة بغزوة تبوك وما رافقها من مواقف (بشرية) انظر سورة التوبة: الآيات 43- 49، 52- 54، 81- 87، 90- 94، 117- 118، 120.
(3)
الطبقات الكبرى 1/ 2/ 18.
(4)
المصدر السابق 1/ 2/ 31.
(5)
انظر هامش رقم (2) ص 234 من هذا الفصل.
العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» «1» . وكانت النصرانية تسود جنوبي الجزيرة كما تسود شماليها فرأى المسلمون وهم في حرب مع دولة الروم أن يحددوا موقفهم مع نصارى الجنوب خصوصا وأن الروم كانوا يغدقون العطايا على مبشريهم هناك، ويبنون لهم الكنائس، ويشجعونهم على المضي في تنصير القبائل المتوطنة في هذه الأرجاء «2» .
كان الوفد يضم أربعة عشر رجلا من أشراف النصارى، دخلوا المسجد بأرديتهم الملونة الثمينة، فسلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فردّ عليهم السلام، ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم شيئا من القرآن، فأبوا ودخلوا معه في مناقشات عقيمة تضيع في لجتها ملامح الحق البين الذي جاء به القرآن. من ذلك قولهم له وقد عرض عليهم الإسلام: إنا قد أسلمنا قبلك! فقال مخاطبا السيد والعاقب راهبي نجران: كذبتما!! يمنعكما من الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير وعبادتكما الصليب وقولكما لله ولد. قالا: فمن أبو عيسى؟ فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء ذلك إلا أن يوقف جدلا كهذا لا يوصل إلى نتيجة، ويعرض عليهم- بدلا من ذلك- المباهلة التي حددتها آيات القرآن الكريم التي تنزلت لكي تحسم أمرا لا يحتمل مناقشة ولجاجا: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «3» .
وكانت المباهلة تقضي بأن يجتمع الطرفان على صعيد واحد ويستنزلا لعنة الله وغضبه على الفئة الكاذبة. إلا أن رجال الوفد النصراني تخوفوا عاقبة الأمر وقال زعيمهم: «إني أخاف أن يكون صادقا» . ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا عليهم آيات آل عمران القوية النافذة، وخاطبهم بما في نطاقها، ودعاهم إلى ما أمر أن يدعوهم إليه من استنزال سخط الله على الكاذبين، ومن أن يجتمع الطرفان ويعلنا معا أنهما لا يعبدون إلا الله ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دونه فإن لم
(1) اليعقوبي: تاريخ 2/ 70- 71.
(2)
الغزالي: فقه السيرة ص 458.
(3)
سورة آل عمران، الآيات: 59- 61.
يعلنوها معه فليعلنها هو، باسمه وباسم أتباعه. ومضمون الآيات «1» وروحها يلهمان أن النبي كان في موقف القوي المطمئن بقوة موقفه وصحة دعواه والمستعلي على مناظره بالحجة الدامغة والتحدي المفحم والدعوة التي لا يردها إلا الممتري. وهنالك الكثير من الإضافات المناقضة للمعقول والمنقول ترد حول مسألة المباهلة (أو الملاعنة) رغم أن ابن هشام الذي انفرد بتفصيل خبر المناظرة لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعد للمباهلة لأن أسلوب الآية لا يقتضي ذلك، وهو أسلوب تحد وإفحام «2» .
وقد ارتأى الوفد النصراني أن يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم بما يراه، فصالحهم صلى الله عليه وسلم وكتب لهم عهدا يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، لم يفرض عليهم سوى جزية عينية قدرها ألفي حلّة في السنة وقد جاء فيه «
…
ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم وصلواتهم، لا يغيروا أسقفا عن أسقفيته ولا راهبا عن رهبانيته ولا واقفا عن وقفانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير
…
ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين
…
ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم..» «3» . وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح إذ كانوا كالأتباع لهم «4» .
وبتلك المعاهدة السمحة «5» قطع الإسلام الصلة بين أولئك العرب المتنصرين وبين دولة الروم التي يشتبك معها في الحرب، بعد ما ضمن الحرية
(1) سورة آل عمران: الآيات 34- 57، 58- 64.
(2)
دروزة: سيرة الرسول 2/ 246- 248.
(3)
ابن سعد 1/ 2/ 36، 84- 85 البخاري: تجريد 2/ 97- 98 البلاذري: فتوح 1/ 76- 78، اليعقوبي: تاريخ 2/ 71- 72 وانظر دروزة 2/ 237- 238 (بالتفصيل) .
(4)
البلاذري: فتوح 1/ 78 وقد ظلوا على ذلك طيلة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر رضي الله عنه فلما استخلف عمر رضي الله عنه «أصابوا الربا- الذي منعوا من التعامل به- وكثروا فخافهم على الإسلام» فأجلاهم إلى العراق والشام (المصدر السابق 1/ 78) ويبدو أن دورهم في إسناد حركات الردة لم يكن خافيا عليه. ويتضح هذا من عبارة البلاذري الآنفة (فخافهم على الإسلام) وعند ما التمسوا من علي رضي الله عنه في خلافته إعادتهم أجابهم «أن عمر رضي الله عنه كان رشيد الأمر وأنا أكره خلافه» : المصدر السابق 1/ 80.
(5)
انظر عن نصوص المعاهدات المتعلقة بنصارى نجران: محمد حميد الله: الوثائق 175- 201.