الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكلاهما كان نقيبا- فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه وأوثقوه رباطا ثم اقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه من شعره الكث»
…
لكنه سرعان ما تذكر اثنين من تجار المشركين، كان يجيرهما لدى مرورهما بيثرب ويمنعهما ممن كان يريد ظلمهما هناك، فاستجار بهما فهرعا إليه وخلصاه من أيدي القرشيين، فانطلق إلى يثرب ليلحق برفاقه الذين سبقوه إليها «1» ، وراحت قريش تشدد قبضتها على المسلمين في مكة وتزيد من اضطهادهم، بعدما رأت من تجاوب أهل يثرب معهم «فأصاب المسلمين جهد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، وكانت فتنتين، فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة.. وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة»
«2»
.
[2]
أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره إلى أصحابه بأن يبدأوا هجرتهم، مختفين، متفرقين قدر الإمكان.. وبدأت طرقات مكة وبيوتها وأزقتها ونواديها تشهد يوما بعد يوم غيابا مستمرا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أما هو صلى الله عليه وسلم فكان ينتظر تأمين هجرة أصحابه.. ثم يبدأ هو ومن سيختارهم للبقاء معه، خطواته صوب المدينة ريثما يتلقى إشارة الوحي الأمين بالتحرك.
وفتح القرشيون يوما أعينهم على مكة وقد أقفرت من المسلمين!! لقد غادروها صوب المهمة التي تنتظرهم مخلفين وراءهم أموالا وبيوتا ونساء وأطفالا وشيوخا ومتاعا كثيرا
…
إن الهدف الذي تحركوا من أجله أغلى وأثمن من الأموال والبيوت والمتاع، وأكثر إلحاحا من تلبية مطالب جسدية أو حياتية أو اجتماعية.. إنهم مستعدون لأن يبذلوا أرواحهم ودماءهم في سبيل هذا الهدف الذي ينتظرهم هناك في نهاية الهجرة، فكيف لا يتخلون عن الأموال والنساء والمتاع؟
وها هي رؤوس قريش تجتمع في (دار الندوة) قبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ولات حين مندم.. وطرحت آراء باعتقال الرسول صلى الله عليه وسلم وتكبيله بالأغلال أو
(1) ابن هشام ص 114- 115 الطبري: تاريخ 2/ 365، 367- 368 ابن سعد 1/ 1/ 150 البلاذري: أنساب 1/ 254.
(2)
الطبري: تاريخ 2/ 366 البلاذري: أنساب 1/ 257.
بنفيه بعيدا في منقطع الصحراء، وفي الحالتين كان صوته سيصل، مجتازا الحواجز والعوائق، ومن ثم فإن رأيا بقتله وتفريق دمه بين القبائل هو الذي حاز الموافقة والإعجاب. إنهم إن استطاعوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استطاعوا قتل الدعوة التي لم تستكمل أسبابها بعد.. وإن طالبتهم بنو هاشم بدمه فسيشيرون إلى العشائر جميعا وإلى سيوف أبنائها حيث تقطر دماء الرسول!!
ويجيء أمر الله يحمله الوحي إلى الرسول: تحرك يا محمد. كانت تلك هي الإشارة التي ينتظرها الرسول صلى الله عليه وسلم بفارغ الصبر، لكن شوقه للهجرة، وتحرقه لأن يضع خطواته على الأرض الموعودة حيث أصحابه القدامى والجدد ينتظرونه على أحرّ من الجمر.. ورغم يقينه الكامل بأن الله معه يرعاه، ويسدّد خطاه، فإنه لم يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات. كان عليه أن يخطط للهجرة، مستخدما كل ما وهب من إمكانات الفكر والبصيرة والإرادة.. لأنه بهذا وحده يستحق نصر الله ووعده.. وإلا فلأي شيء منحنا الله بصائر وعقولا وحرية وقدرة على التحرك والتخطيط؟ وما أبرع البرنامج الذي رسمه رسولنا صلى الله عليه وسلم من أجل أن يصل إلى الهدف بأكبر قدر ممكن من الضمانات!!
انتقى من بين أصحابه أول اثنين أسلما في تاريخ الدعوة: أبا بكر وعليا رضي الله عنهما، واستبقاهما لكي يؤديا الأدوار التي رسمت لهما في حركة الهجرة. أما علي فلكي يؤدي مهمة مزدوجة.. الإيهام ورد الأمانات إلى أهلها، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم «نم على فراشي، وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» «1» . ورب قائل يقول: إن وراء الهجرة هدفا أكبر بكثير من التمسك بجزئيات أخلاقية قد يسمح الظرف الخطير بتجاوزها. لكن منطق رسول الإسلام شيء آخر.. ما الفرق بين الإسلام وبين المبادىء الآخرى إذا كان هو متأسيا بها في تخليه عن أخلاقياته في ساعات المحنة والخطر؟ وماذا سيقول المشركون لو غادر (الأمين) مكة دون أن يردّ إليهم أمانتهم،؟ ما أسرع ما يمكن أن يتهموه، حيث يأكلهم الغيظ: الأمين تحول إلى سارق، وضاعت الأمانة.. وحاشاه!
أما أبو بكر فقد اختير ليكون رفيق النبي وأخاه في هجرته.. تسلل إليه
(1) ابن هشام ص 121 الطبري: تاريخ 2/ 372.
الرسول في ضحى أحد الأيام، على غير عادته في التردد على داره صباحا أو مساء.. خطوة من خطوات الإيهام والتدبير بأولئك الذين يريدون أن يمكروا به..
ودهش أهل الدار لمجيء الرسول في وقت لم يعتادوه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إلى دهشتهم، بل يتجه إلى رفيقه فورا ويطلب منه أن يخرج ابنتيه من المكان، فيطمئن أبو بكر الرسول بأنه ليس ثمة ما يخشى، ويتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم:
«إن الله أذن لي في الخروج والهجرة» فيرد عليه الصديق وهو يهتز فرحا: «الصحبة يا رسول الله؟» فيجيبه الرسول: «الصحبة» . وتقول عائشة: «فو الله ما شعرت قط، قبل ذلك اليوم، أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذ» !!
ومعا استكملا الخطة ووضعا الأسباب، وتركا- من ثم- مصيرهما ومصير الدعوة لله، صانع المصائر ومقدر الأقدار
…
التسلل من شباك خلفي على غفلة من قريش.. التوجّه جنوبا على طريق اليمن واللجوء إلى إحدى مغارات جبل ثور هناك.. التوقف عن السير ثلاثة أيام ريثما تخف محاولات القرشيين المستميتة في البحث عن الرسول، ثم الانطلاق- بعد ذلك- صوب يثرب في طريق وعر غير مطروق، يعينهما في ذلك دليل ماهر من المشركين أنفسهم، اختير اعتمادا على كفاءته العالية كدليل، وعلى أمانته التي لا بد وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبر أغوارها، أما أنباء تحركات القرشيين ومطارداتهم فسيأتيهما بها عبد الله بن أبي بكر، وأما توفير الطعام فسيقوم به راعي أبي بكر، عامر بن فهيرة، الذي كلّف بإراحة الأغنام عند الغار مساء كل يوم كي يحتلبها المهاجران ويشربا من لبنها..
كما كلفت أسماء بتوفير الطعام في المرحلة التالية من الهجرة، وأما آثار الأقدام الذي سيخلفها عبد الله بن أبي بكر لدى ذهابه وإيابه، والتي تقود إلى الغار مباشرة فإن هناك راعي أبي بكر يعود في الأمسيات في أعقاب عبد الله لكي تطمس حوافر الأغنام على خطوات الرجال!!
خطة محكمة ورائعة.. ولا يبقى إلا أن يتنزل نصر الله على قادة استكملوا كل الأسباب التي منحهم الله إياها.. إنه التوافق المنغم الرائع، الذي تحدثنا عنه، بين مشيئة الله وإرادة الإنسان، وبين هدي الله وخطوات عباده الأبرار..