المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والمنتمين لمجرد تهمة تدور حولهم، بمقصلة تنزل وتصعد، أو سيف - دراسة في السيرة

[عماد الدين خليل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌الفصل الثالث مسائل من العصر المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌«3»

- ‌[4]

- ‌الفصل الرابع تحليل للهجرة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌الفصل الخامس دولة الإسلام في المدينة

- ‌[القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة]

- ‌أولا: المسجد:

- ‌ثانيا: الصحيفة:

- ‌ثالثا: المؤاخاة:

- ‌رابعا: الجيش:

- ‌الفصل السادس الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى)

- ‌السرايا

- ‌[منجزات السرايا]

- ‌1- الاستطلاع:

- ‌2- القتال:

- ‌3- الكتمان:

- ‌4- الحصار الاقتصادي:

- ‌معركة بدر الكبرى

- ‌[أسباب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى]

- ‌القيادة الموحدة:

- ‌التعبئة الجديدة:

- ‌العقيدة الراسخة:

- ‌المعنويات العالية:

- ‌معركة أحد

- ‌معركة الخندق

- ‌الفصل السابع الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية)

- ‌صلح الحديبية

- ‌فتح مكة

- ‌عام الوفود وتصفية الوجود الوثني

- ‌الفصل الثامن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل التاسع الصراع ضد اليهود

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌قائمة بأهم المصادر والمراجع

- ‌المصادر (القديمة)

- ‌المراجع (الحديثة)

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: والمنتمين لمجرد تهمة تدور حولهم، بمقصلة تنزل وتصعد، أو سيف

والمنتمين لمجرد تهمة تدور حولهم، بمقصلة تنزل وتصعد، أو سيف يضرب يمينا وشمالا، أو إشارة صامتة تعقبها أنهار من الدماء.. إن (النبي) غير (الزعيم) و (المعلم) غير (الإرهابي) و (الإنقلابي) غير (الطاغية) و (محمد) غير (روبسبيير) .

[2]

كان المنافقون يتمثلون في طائفة من عرب المدينة من الأوس والخزرج ومن بعض المتهودة من رجال بعض البطون اليهودية الصغيرة، وقد التفوا حول زعيمهم عبد الله بن أبي كما التف حوله اليهود لاتفاق مصلحة الطرفين. وقد ظل خطر المنافقين على الدولة كبيرا ما ظل اليهود في المدينة، إذ أنهم كانوا على صلة دائمة بهم، بل إن اليهود هم الذين أدركوا النفاق في المدينة فلما تم تطهيرها من اليهود ضعف أمر النفاق وأصبح النبي لا يخشى خطر هذه الطائفة «1» ، حيث أخذ صوتها يخفت، ونشاطها يخمد، وعددها يقل، وتزلفها يشتد ومداراتها تزداد، وخوفها يبدو واضحا. وربما ندم كثير من المنافقين فعادوا إلى حظيرة الإسلام الصحيح فكانت هذه الظواهر مما ثبت الرسول على خطته في عدم أخذهم بالعنف، ورأى فيها الصواب والمصلحة سيما وأنهم كانوا يرتبطون مع كثير من المخلصين بروابط القربى والرحم، وإن أخذهم بالعنف- فضلا عن الأسباب التي ذكرناها- قد يفتح في صفوف المسلمين ثغرات واسعة ويثير أزمات داخلية حادة، وهو الذي كان مطمئن القلب بوعد الله بالنصر النهائي وإظهار دينه على الدين كله «2» .

ولعل من الدلائل على ارتباط حركة النفاق بالنشاط اليهودي ضد الإسلام ما ورد في الآيات الأولى من سورة البقرة، التي هي أول السور المدنية في ترتيب النزول، فقد جاء فيها بصدد المنافقين: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «3» ، فقد قال جمهور المفسرين إن شياطينهم هم اليهود، ولم يغب ذلك عن النبي والمسلمين «4» .

(1) إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، ص 415- 418.

(2)

محمد عزة دروزة: سيرة الرسول 2/ 78- 79.

(3)

سورة البقرة: الآية 14.

(4)

دروزة: المرجع السابق 2/ 121.

ص: 307

إن الآيات الواردة في حق المنافقين تلهم أن حركة النفاق إنما قام بها وتولى كبرها أفراد من البارزين في قومهم وعشائرهم قليلا أو كثيرا، بل إننا نكاد نقول إن أعظم أفراد هذه الفئة كانوا من تلك الطبقة، وإنه إذا كان اندمج فيها أناس من العامة فإنهم لم يكونوا كثيرين وإنما انساقوا فيها بتأثير أولئك من ناحية زعامتهم وعصبية الأرحام التي تربط بينهم، ومن ناحية الإغراء والمنفعة، وهذا طبيعي لأنه ليس لأفراد من العامة مناوأة حركة اندمج فيها غالب قومهم.. كما أنه قلما يكون في هؤلاء من يظن أنه أعقل من أن يندمج في حركة اندمجت فيها الكثرة الكبرى، وإن الذين اندفعوا في مناوأتها واغتاظوا منها وحقدوا عليها لا يمكن أن يكونوا إلا أفرادا من البارزين الذين يمكن أن يتوهموا فيها ضررا وخطرا على مركزهم ومصلحتهم، وأن يأنفوا هذا الحركة. فالذين أخذوا على عاتقهم مهمة تغذية هذه الحركة لا يمكن أن يتصلوا بشأنها إلا مع أمثال هؤلاء كما لا يخفى «1» .

اتخذت أساليب المنافقين أشكالا شتى، بعضها مخطط مدروس وبعضها عفوي مرتجل، وهي في كلتا الحالتين جاءت تعبيرا عن التكوين النفسي والاجتماعي لشخصية (المنافق) واستهدفت وضع الحواجز والعوائق في طريق الحركة الإسلامية.. وسنتتبع هنا أساليبهم هذه وفق مجراها الزمني منذ ظهور هذه الكتلة في أعقاب بدر حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

عندما حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع، أول قبيلة يهودية كبيرة تنقض عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلوا عند حكمه، بعد أن رأوا ألا فائدة من المقاومة، وجد عبد الله بن أبيّ أن انتصارا آخر- بعد بدر- سيحرزه المسلمون في داخل المدينة هذه المرة، وأن هذا ربما سيستفز أعداء الإسلام: عربا ويهودا، ويؤلبهم على المسلمين، وأن هؤلاء ربما وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه.. فليتحرك زعيم المنافقين بسرعة إذن وليقف إلى جانب بني قينقاع مدافعا عنهم إزاء هجوم المسلمين، علّ الدائرة تدور على هؤلاء فيكون ابن أبيّ قد أوجد لنفسه ولأتباعه ثغرة ينفذون منها بجلودهم، سيما وأن يهود بني قينقاع كانوا مواليه في الجاهلية فلا يعقل أن يسلمهم لمصيرهم دون أن (يظهر) على الأقل إسناده في محنتهم.

تقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متوسلا: يا محمد أحسن في مواليّ. فلم يجبه

(1) دروزة: سيرة الرسول: 2/ 80.

ص: 308

الرسول فأعاد: يا محمد أحسن في مواليّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع الرسول وراح يكرر توسلاته، فرد عليه الرسول، وقد كست وجهه ملامح الغضب: ويحك أرسلني، فأجاب ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليريد إنزال عقاب بهم، بل أن يغادروا حصونهم إلى حيث يشاؤون ما داموا قد نزلوا عند حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا أجاب عبد الله: هم لك! ثم التفت إلى أصحابه قائلا: خلّوهم، لعنهم الله ولعنه معهم!!

ونزلت آيات القرآن منددة بهذا الموقف المنافق، المتأرجح بين ولاية الإسلام وولاية أعدائه* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «1» .

وفي حصار بني النضير، القبيلة اليهودية الثانية التي طردت من المدينة في أعقاب تامرها على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة، أعاد ابن أبي وكبار المنافقين (تمثيل نفس الدور) الذي مثلوه مع بني قينقاع، إذ بعثوا إلى بني النضير، وهم يعانون من حصار المسلمين وقبضتهم المحكمة أن «اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم. إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم» ، إلا أن المنافقين الذين كانوا (يقولون ما لا يفعلون) مع المعسكر الإسلامي، كانوا يقولون ما لا يفعلون مع كل معسكر يظهرون له الودّ والإخلاص، ذلك إن أيّا منهم لم يكن شخصية واحدة تتخذ موقفا موحدا إزاء القضية، وإنما شخصيتين. ولقد ظل بنو النضير ينتظرون نجدة رفاقهم دونما جدوى حتى سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم الجلاء عن ديارهم، بعد أن سدّت كل المنافذ.. وبعد قليل جاءت آيات القرآن، فاضحة منددة كاشفة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ.. «2» .

(1) سورة المائدة، الآيتان: 51 و 52، ابن هشام ص 171- 172. الطبري، تاريخ 2/ 480- 481، البلاذري: أنساب، 1/ 309، الواقدي: 1/ 177- 178.

(2)

سورة الحشر، الآية 88. ابن هشام ص 204، 206، الواقدي 1/ 368- 372.

ص: 309

وعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم نبأ تحرك قريش بقواتها التي تفوق المسلمين بكثير ونزولها في أحد لقتال المسلمين انتقاما لما لحق الكفار في بدر، ومحاولة للقضاء على الدولة الجديدة، وطرح رأيه بقتال قريش في المدينة نفسها، قتال الشوارع والحارات، وافقه عبد الله بن أبيّ على رأيه هذا وألح على ضرورة تنفيذه قائلا «يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا» «1» ، ربما حرصا من زعيم المنافقين على الظهور بمظهر المتحمسين لتنفيذ رأي رسولهم، سيما بعد أن رأى أكثرية المسلمين تطالب بموقف آخر هو الخروج والقتال في الأرض المكشوفة، وهو من خلال حرصه وإصراره سيزيد- حسب اعتقاده- شقة الخلاف بين الطرفين، وليكن بعدها ما يكون.. وربما رأى- وهو الأرجح- أن قتال المسلمين لأعدائهم داخل المدينة سيمكن المنافقين من الاختباء وسيتيح لهم التسلل من سوح القتال وطلب النجاة بأنفسهم دون أن تلحظهم عين، وهم في مخابئهم تلك سيعرفون لمن سترجح الكفة، فيتسللون ثانية إلى معسكرات المنتصرين، فإن كانوا من المسلمين قالوا: ألم نكن معكم، أو لم تكن فكرتنا في القتال داخل المدينة أصوب وأحسن؟ وإن كانوا من المشركين بينوا لهم أنهم هم الذين ألجؤوا المسلمين إلى انتظار أعدائهم لكي يقضى عليهم في المدينة، وأنهم انسحبوا من القتال وفتّوا في عضد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم ستكون لهم الحظوة على أي حال سيؤول إليها القتال.

إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ إلا أن يأخذ برأي أكثرية أتباعه الراغبين في الخروج إلى القتال، ولم يتح للنقاش أن يتطور إلى انشقاق عميق بين وجهتي النظر، فدخل بيته ولبس عدة القتال وانطلق بأصحابه صوب أحد. ولم يمض على مسيرهم بعض الوقت حتى انسحب ابن أبيّ بثلث المقاتلين وقال مبررا موقفه «أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس!» ، وقد لحق به عبد الله بن عمرو بن حرام وسعى إلى إقناعه بالرجوع والانضمام إلى إخوانه، وراح يقول للمنسحبين «يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم..» فأجابوه:

(1) ابن هشام، ص 174- 175.

ص: 310

«لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال» فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف والعودة قال: «أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه» «1» .

وهذا الأسلوب الذي اتبعه المنافقون في المسير مع المسلمين ثم الانسحاب في اللحظات الحرجة يتكرر مرة أخرى في غزوة تبوك التي لا تقل خطورة عن معركة أحد، إذ انطلق ابن أبيّ في أعقاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جماعته، وما أن اجتاز المسلمون مسافة قصيرة صوب هدفهم حتى تخلف المنافقون وقفلوا عائدين إلى المدينة «2» ، وإذا كان لهم عذر في ذلك أول مرة أعلنوه تبريرا لانسحابهم، فإنهم قد افتقدوا الأعذار هذه المرة ولم يقولوا شيئا!! إلا أن الموقف في كلا الحالتين هو نفس الموقف: عدم إيمان بالهدف الذي يتحرك إليه المسلمون، وخوف من الموت في سبيل قضية لا يؤمنون بها، وتخذيل للمسلمين في اللحظات الحرجة علّهم يجابهوا بهزّة خطيرة تقضي عليهم وتعيد المنافقين إلى حياة التسيّب القديمة، ويرجع لابن أبي حلمه القديم في أن يكون ملكا على قومه!!

ولقد ورد في سيرة ابن هشام، بصدد موقف المنافقين في محنة تبوك «أن عبد الله بن أبيّ، كبير المنافقين، ضرب عسكره بأسفل عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله تخلف عنه فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب» ، فتمسك بهذه العبارة المستشرق كايتاني وأخذ يعظم من شأن وعدد المنافقين ويشكك في عدد الجيش المرويّ. غير أن هذا وذاك في غير محلهما، فالآيات القرآنية صريحة بأن المتخلفين من الأعراب والمنافقين كانوا من الأغنياء وأولي الطول، وهؤلاء دائما محدودو العدد، وعبارة ابن هشام تحمل الشك الصريح في المدى، وقد روى في الوقت نفسه أن عدد المتخلفين من المنافقين كان بضعة وثمانين رجلا، وفي سورة التوبة آيات تحكي ما كان من شدة خوف المنافقين واعتذارهم وتزلفهم وإيمانهم، بما فيه الدلالة القوية على ما صار إليه شأنهم من ضعف، وعددهم من قلة وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ «3» .

(1) ابن هشام، ص 175.

(2)

المصدر السابق، ص 327- 328، الطبري: تاريخ 3/ 103.

(3)

سورة التوبة: الآيتان 56- 57. وانظر الآيات: 62- 66، 74 من نفس السورة، دروزة 2/ 264- 265.

ص: 311

وقد وجد المنافقون في هزيمة المسلمين بأحد ميدانا فسيحا لإظهار أحقادهم وشكوكهم والكشف عن موقفهم الصريح من الأحداث. يقول الواقدي:

«جعل ابن ابيّ والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين- في أحد- ويظهرون أقبح القول. ورجع من رجع من الصحابه وعامتهم جريح، ورجع عبد الله ابن عبد الله بن أبيّ وهو جريح، فبات يكوي الجراحة بالنار حتى ذهب الليل، وجعل أبوه يقول: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي!! عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير

وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون لأصحابه: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل، حتى سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من المنافقين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله مظهر دينه ومعزّ نبيه، أليسوا يظهرون شهادة ألاإله إلا الله وأني رسول الله؟

قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لك أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يا ابن الخطاب! إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن» «1» .

ويحدثنا ابن هشام كيف أن عبد الله بن أبي كان يتمتع بشرف في نفسه وفي قومه، وكيف أنه كان يجلس على رأس قومه، كل جمعة في المسجد، وكيف كان ينتهز فرصة جلوس الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخطبتين فيقوم ويقول:«أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزّروه واسمعوا له وأطيعوا» ثم يجلس. وكيف أنه عندما أراد تمثيل نفس الدور في الجمعة التي أعقبت هزيمة أحد أخذ المسلمون بثيابه من كل مكان وصاحوا: اجلس!! أي عدوّ الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت! فيخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا «2» إن قمت أشدد أمره!! فلقيه رجل من الأنصار يردد هذه العبارة فقال له: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه عبد الله: والله ما أبتغي أن يستغفر لي «3» . وقال ابن إسحاق: «كان يوم أحد

(1) الواقدي: 1/ 317- 318.

(2)

البجر: الشر.

(3)

ابن هشام: ص 193- 194، الواقدي: 1/ 318- 319.

ص: 312

يوم بلاء ومصيبة وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحص به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه» «1» .

ومن أجل التعويض عن خوائهم الروحي وتغطية دورهم السلبي في حركة الدعوة، وملء الفراغ الذي يعانونه، كانوا يظهرون بين الحين والحين بمظهر الناصحين، الحريصين على مصير الدعوة وحياة أصحابها. قال رجال منهم، تعقيبا على مأساة الرجيع التي ذهب ضحيتها سبعة من الدعاة:«يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم» ، لكن القرآن الكريم ما لبث أن فضح ازدواجيتهم هذه، ومزّق عن وجوههم أقنعة الحرص والاهتمام وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ «2» .

في معركة الخندق حيث المحنة التي كشفت عن صفوف المنتمين إلى معسكر الإسلام وسلطت وهجها اللافح على أعماق سرائرهم، وقف المنافقون في آخر الصفوف يثيرون شائعات الخوف والهزيمة ويطلقون سخرياتهم بوجه الجد الصارم الذي كان يدفع المؤمنين إلى العمل والسهر المتواصل ليل نهار، قبل أن يفلت الزمام من أيديهم ويصبحوا خبرا من الأخبار.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجابه حملاتهم النفسية الخفية هذه بروح الأمل ينفخها في قلوب أتباعه، ويحدثهم بيقين ثابت طموح، وهم يعملون في الخنادق محاطين بالظلام من كل مكان، بأن مفاتيح الكعبة ستسلم إليه عما قريب وأن خيولهم ستطأ في السنين القادمة عواصم كسرى وقيصر، وتسقط عروشهم واحدا بعد الآخر. وكما كان المنافقون ينسحبون من المعركة قبل أن تلتمع السيوف، كما حدث في موقعتي أحد وتبوك، فإنهم الآن يظهرون للمؤمنين أنهم يعملون معهم في حفر الخندق، و (يمثلون دورهم هذا) وكلما وجدوا فرصة سانحة تسللوا من الخندق دون إذن من قائدهم، ولاذوا بأهليهم، بينما كان المؤمنون لا يغادر أحدهم موقع عمله إلا أن

(1) ابن هشام: ص 194.

(2)

سورة البقرة، الآيات: 204- 206 المصدر السابق: ص 198.

ص: 313

يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد تحدث القرآن الكريم بعد قليل عن هؤلاء وعن هؤلاء.. وشتان!! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» .

وعندما أحاطت الأحزاب بالمدينة، وانتقض يهود بني قريظة، وعظم البلاء على المسلمين واشتد الخوف، تصاعدت حملات المنافقين، وأسفر بعضهم عن شخصيته المخفية، وقد ظنوا أن الإسلام قد فقد قدرته كلية على الرد، وقال قائلهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدهم اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!! وراح آخرون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة.. ولكن المحنة انجلت، وتفتتت جيوش الأحزاب، وأعدم مجرمو الحرب من يهود بني قريظة، وعاد الإسلام أقوى مما كان، ونزلت آيات القرآن تصفع المنافقين الذين لم يكونوا بقادرين على أن يتجاوزوا رؤية الحدث إلى ما يمكن أن يتمخض عنه وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ

(1) سورة النور، الآيتان: 62، 63، ابن هشام: ص 213، الطبري: تاريخ 2/ 567.

ص: 314