المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[4] في هذه الفترة، جاءت حادثة (الإسراء والمعراج) «1» تثبيتا للرسول - دراسة في السيرة

[عماد الدين خليل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌الفصل الثالث مسائل من العصر المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌«3»

- ‌[4]

- ‌الفصل الرابع تحليل للهجرة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌الفصل الخامس دولة الإسلام في المدينة

- ‌[القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة]

- ‌أولا: المسجد:

- ‌ثانيا: الصحيفة:

- ‌ثالثا: المؤاخاة:

- ‌رابعا: الجيش:

- ‌الفصل السادس الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى)

- ‌السرايا

- ‌[منجزات السرايا]

- ‌1- الاستطلاع:

- ‌2- القتال:

- ‌3- الكتمان:

- ‌4- الحصار الاقتصادي:

- ‌معركة بدر الكبرى

- ‌[أسباب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى]

- ‌القيادة الموحدة:

- ‌التعبئة الجديدة:

- ‌العقيدة الراسخة:

- ‌المعنويات العالية:

- ‌معركة أحد

- ‌معركة الخندق

- ‌الفصل السابع الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية)

- ‌صلح الحديبية

- ‌فتح مكة

- ‌عام الوفود وتصفية الوجود الوثني

- ‌الفصل الثامن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل التاسع الصراع ضد اليهود

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌قائمة بأهم المصادر والمراجع

- ‌المصادر (القديمة)

- ‌المراجع (الحديثة)

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: ‌ ‌[4] في هذه الفترة، جاءت حادثة (الإسراء والمعراج) «1» تثبيتا للرسول

[4]

في هذه الفترة، جاءت حادثة (الإسراء والمعراج)«1» تثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم على طريق المقاومة الطويل، وتكريما له في أعقاب سنين طويلة من العمل والصمود والكدح، وتتويجا لهذه السنين الصعبة، رفعه إلى قلب السماوات، وأطلعه على جوانب الإعجاز الإلهي الباهر في الكون الكبير وهي امتحان- في الوقت نفسه- لقدرات أصحابه على تصوّر المدى الذي ينافحون مع رسولهم صلى الله عليه وسلم من أجل إخراج (الإنسان) إليه، وهو مدى رحيب يتجاوز أبعاد الملموس والمسموع والمنظور، وينأى عن الأحجام المباشرة للأشياء، ويمتد بعيدا صوب الآفاق التي بإيمان الإنسان بها وحركته صوبها يغدو إنسانا وإلّا فهو كالأنعام، وأضل من الأنعام التي لا تعرف غير أن تأكل وتشرب وتنام، ولا ترى إلّا الأشياء المرئية التي تنعكس إشعاعاتها على قرنية عينيها، ولا تسمع إلا الأصوات التي تلامس طبلات أذنيها، وأمّا ما وراء ذلك فهو العدم الذي لا تحس به ولا تعرف عنه شيئا!!

ورواية الإسراء والمعراج ترد في صحيح البخاري بهذا الشكل: «عن مالك ابن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجعا إذ أتاني آت فقد قال، وسمعته يقول، فشقّ ما بين هذه إلى هذه

فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، قال الراوي وهو البراق، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال:

جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل:

مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلّم عليه، فسلمت عليه فردّ السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح

» ومن ثم تستعرض

(1) قبل الهجرة بعام وبعض عام، وكان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك- كما يروي المسعودي- إحدى وخمسين سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما (مروج 2/ 283) . ولا بد أن نشير إلى أن هنالك خلافا في زمن وقوع الحادثة حيث يذهب بعضهم إلى أنها وقعت قبيل منتصف العهد المكي: ولم يكن المهاجرون إلى الحبشة قد هاجروا إليها بعد (انظر دروزة: سيرة الرسول 1/ 222) ، ونحن نرجح الروايات التي تجعلها في أواخر العصر المكي انسجاما مع مغزاها

ص: 91

الرواية، بنفس الأسلوب، اجتياز الرسول السماوات السبع واحدة بعد واحدة ولقاآته بيحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام،، وكل منهم يستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا:(مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح) . ويستأنف الراوي حديثه «ثم رفعت- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، فإذا نبتها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال جبريل: هذه سدرة المنتهى. وإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم!! قال:

فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت..» ثم تستعرض الرواية التماسات الرسول من الله سبحانه تخفيف عدد الصلوات إلى أن أنقصها إلى خمس

«قلت

أرضى وأسلم، فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» «1» .

وفي حديث لعبد الله بن مسعود، في سيرة ابن هشام ترد الرواية التالية:

«أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها، فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يريه الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتي بثلاث آنية

إلى آخر الحديث» «2» . قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل

(1) التجريد الصريح 2/ 68- 70 وانظر حديث أنس بن مالك عن أبي ذر: نفس المصدر 1/ 38- 39، الطبري: تاريخ 2/ 307- 309 ابن سعد 1/ 1/ 132- 133.

(2)

ابن هشام ص 92.

ص: 92

والحمار في فخذيه جناحان، يحفز بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته

إلى آخر الرواية «1»

» .

وأما الآيات الكريمة التي وردت بشأن حادثتي الإسراء والمعراج فنجدها في سورتي (الإسراء) و (النجم) أولاهما سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

«2» والآخرى وَلَقَدْ رَآهُ «3» نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «4» «فتعليل الإسراء- كما نصت الآية- أن الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد بالفعل بعض هذه الآيات الكبرى.

وقد اختلف العلماء، من قديم، أكان السري الخارق بالروح وحده أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير» «5» .

في صبيحة اليوم التالي غدا الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش، فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس «هذا والله الأمر البيّن! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟» .

وذهب الناس إلى أبي بكر، رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم وأول رجل آمن بدعوته، فقالوا له:

هل لك يا أبا بكر، في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلّى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى ها هو ذاك في المسجد يحدّث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه.

وأقبل أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يا نبي الله فصفه لي،

(1) ابن هشام ص 93- 94.

(2)

سورة الإسراء: الآية 1.

(3)

يعني جبريل.

(4)

سورة النجم: الآيات 13- 18.

(5)

الغزالي: فقه السيرة ص 135 وانظر Tor Andrae:Mahomet ،p. 94 وهو من القائلين بإسراء محمد بالروح دون الجسد. وعن التأثيرات الأدبية لحادث الإسراء والمعراج والروايات التي أضيفت إليها فيما بعد، على (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي انظر:

Miguel Asin:Islam and the Divine Comedy.Tr.H.Sunderland) London 6291 (.

ص: 93

فإني قد جئته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرفع لي- أي بيت المقدس- حتى نظرت إليه» ثم راح يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله.

حتى إذا انتهى الرسول من وصفه، التفت إلى صاحبه وقال: أنت يا أبا بكر الصدّيق «1» !!

وينقل ابن إسحاق عن الحسن قوله: إن كثيرا ممن أسلم ارتد في أعقاب سماعهم الرسول يتحدث بأمر الإسراء والمعراج «2» ، ولا ريب أن في هذا التعليق مبالغة إذا ما عرضناه على المنطق الذي ناقش به أبو بكر الصديق القضية كلها: إن المسلمين الأوائل الذين انتموا للإسلام، في عهد محنته، تصديقا، بما يجيئهم من الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر السماء لا يمكن أن يهزهم نبأ الإسراء والمعراج، ويردهم إلى حظيرة الكفر.. لكن هذا لا يمنع أن (قلة) من ضعاف الإيمان، الذين يؤرجحهم التردد، ويرهقهم طغيان قريش وحربها النفسية قد يجدون في هذا النبأ مجالا للانقلاب إلى عالم الكفر الذي خرجوا منه عن غير وعي أصيل، والخلاص من الامتحان والاضطهاد اللذين أدركوا أنهما سيزدادان في أعقاب النبأ الجديد.

يؤكد هذا ما ورد في مسند أحمد «3» من حديث ابن عباس الذي قال فيه «أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره إلى بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدّق محمدا بما يقول؟ فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل» أي في معركة بدر.

هذا هو الهيكل العام لقضية الإسراء والمعراج، وردود الفعل التي أثارتها.

وقبل أن نبدأ تحليل (البعد الزمني) للقضية، وهو أخطر ما في الموضوع، لا بد أن نستعرض- أولا- القيم والمعاني التي تتبدى من خلالها.

لقد أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تأكيدا للرباط المتين الذي يشد البلدين إلى بعضهما، حيث انطلق الأنبياء على مدار القرون، يدعون إلى عبادة الله الواحد ورفض الصنميات الفانية.. في مكة حيث أقام إبراهيم أبو الأنبياء، وابنه إسماعيل أول بيت لله على الأرض.. وفي القدس حيث انبعثت نبوات متتالية تكافح من أجل تعزيز دعوة النبي الأب إبراهيم. وهناك كان الأنبياء الكرام السابقون ينتظرون (خاتمهم) لكي يؤمهم في صلاة جماعية،

(1) ابن هشام ص 94- 95 وانظر ابن سعد (1/ 1/ 144.

(2)

ابن هشام ص 94.

(3)

حديث رقم 4546.

ص: 94

تعبيرا عن الدور الواحد الذي جاؤوا إلى العالم لأدائه، واتجاها إلى الهدف الواحد الذي بعثوا لتحريك الناس إليه، وسجودا لله الواحد الذي كرم الإنسان وشرفه بالدين.. ووقوفا وراء النبي الذي جاء لكي يتمم البناء ويضع اللبنات المحكمة الأخيرة فيه.. ويمضي.. ومنذ البدء كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق النبيين وعهدهم على أن يصدق بعضهم بعضا ويتمم اللاحقون منهم الشوط الذي كان السابقون قد بلغوه وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» .

ثم تجيء التحيات المتبادلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه السابقين عليهم السلام، وهو يصعد بصحبة جبريل عبر السماوات، تأكيدا وتعزيزا لهذه (الوحدة) النبوية التي لا انفصام لها وتقديرا للمبعوث (الأخير) الذي كتب عليه شرف إتمام البناء وإكمال الدين وتحميل الإنسان مسؤوليته الكاملة، أيا كان هذا الإنسان. إن نبينا صلى الله عليه وسلم يحدثنا بنفسه فيقول:«مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين» «2» . وكان المسيح عليه السلام قد أكد لأتباعه على هذا الرجل الذي سيبعث لإتمام البناء «3» .

وفي ليلة الإسراء والمعراج، يقول محمد الغزالي «تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهي أنه دين الفطرة، ففي الحديث (.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن

) إن سلامة الفطرة لبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب. إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسوادا، وربما أخفي هذا السواد الكريه وراء الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

«2» والآخرى وَلَقَدْ رَآهُ «3» نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «4» «فتعليل الإسراء- كما نصت الآية- أن الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد بالفعل بعض هذه الآيات الكبرى.

وقد اختلف العلماء، من قديم، أكان السري الخارق بالروح وحده أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير» «5» .

في صبيحة اليوم التالي غدا الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش، فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس «هذا والله الأمر البيّن! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟» .

وذهب الناس إلى أبي بكر، رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم وأول رجل آمن بدعوته، فقالوا له:

هل لك يا أبا بكر، في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلّى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى ها هو ذاك في المسجد يحدّث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه.

وأقبل أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يا نبي الله فصفه لي،

(1) ابن هشام ص 93- 94.

(2)

سورة الإسراء: الآية 1.

(3)

يعني جبريل.

(4)

سورة النجم: الآيات 13- 18.

(5)

الغزالي: فقه السيرة ص 135 وانظر Tor Andrae:Mahomet ،p. 94 وهو من القائلين بإسراء محمد بالروح دون الجسد. وعن التأثيرات الأدبية لحادث الإسراء والمعراج والروايات التي أضيفت إليها فيما بعد، على (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي انظر:

. (1926 nodnoL) dnalrednuS.H.rT.ydemoC eniviD eht dna malsI:nisA leugiM

ص: 95

فإني قد جئته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرفع لي- أي بيت المقدس- حتى نظرت إليه» ثم راح يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله.

حتى إذا انتهى الرسول من وصفه، التفت إلى صاحبه وقال: أنت يا أبا بكر الصدّيق «1» !!

وينقل ابن إسحاق عن الحسن قوله: إن كثيرا ممن أسلم ارتد في أعقاب سماعهم الرسول يتحدث بأمر الإسراء والمعراج «2» ، ولا ريب أن في هذا التعليق مبالغة إذا ما عرضناه على المنطق الذي ناقش به أبو بكر الصديق القضية كلها: إن المسلمين الأوائل الذين انتموا للإسلام، في عهد محنته، تصديقا، بما يجيئهم من الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر السماء لا يمكن أن يهزهم نبأ الإسراء والمعراج، ويردهم إلى حظيرة الكفر.. لكن هذا لا يمنع أن (قلة) من ضعاف الإيمان، الذين يؤرجحهم التردد، ويرهقهم طغيان قريش وحربها النفسية قد يجدون في هذا النبأ مجالا للانقلاب إلى عالم الكفر الذي خرجوا منه عن غير وعي أصيل، والخلاص من الامتحان والاضطهاد اللذين أدركوا أنهما سيزدادان في أعقاب النبأ الجديد.

يؤكد هذا ما ورد في مسند أحمد «3» من حديث ابن عباس الذي قال فيه «أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره إلى بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدّق محمدا بما يقول؟ فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل» أي في معركة بدر.

هذا هو الهيكل العام لقضية الإسراء والمعراج، وردود الفعل التي أثارتها.

وقبل أن نبدأ تحليل (البعد الزمني) للقضية، وهو أخطر ما في الموضوع، لا بد أن نستعرض- أولا- القيم والمعاني التي تتبدى من خلالها.

لقد أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تأكيدا للرباط المتين الذي يشد البلدين إلى بعضهما، حيث انطلق الأنبياء على مدار القرون، يدعون إلى عبادة الله الواحد ورفض الصنميات الفانية.. في مكة حيث أقام إبراهيم أبو الأنبياء، وابنه إسماعيل أول بيت لله على الأرض.. وفي القدس حيث انبعثت نبوات متتالية تكافح من أجل تعزيز دعوة النبي الأب إبراهيم. وهناك كان الأنبياء الكرام السابقون ينتظرون (خاتمهم) لكي يؤمهم في صلاة جماعية،

(1) ابن هشام ص 94- 95 وانظر ابن سعد (1/ 1/ 144.

(2)

ابن هشام ص 94.

(3)

حديث رقم 4546.

ص: 94

تعبيرا عن الدور الواحد الذي جاؤوا إلى العالم لأدائه، واتجاها إلى الهدف الواحد الذي بعثوا لتحريك الناس إليه، وسجودا لله الواحد الذي كرم الإنسان وشرفه بالدين.. ووقوفا وراء النبي الذي جاء لكي يتمم البناء ويضع اللبنات المحكمة الأخيرة فيه.. ويمضي.. ومنذ البدء كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق النبيين وعهدهم على أن يصدق بعضهم بعضا ويتمم اللاحقون منهم الشوط الذي كان السابقون قد بلغوه وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» .

ثم تجيء التحيات المتبادلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه السابقين عليهم السلام، وهو يصعد بصحبة جبريل عبر السماوات، تأكيدا وتعزيزا لهذه (الوحدة) النبوية التي لا انفصام لها وتقديرا للمبعوث (الأخير) الذي كتب عليه شرف إتمام البناء وإكمال الدين وتحميل الإنسان مسؤوليته الكاملة، أيا كان هذا الإنسان. إن نبينا صلى الله عليه وسلم يحدثنا بنفسه فيقول:«مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين» «2» . وكان المسيح عليه السلام قد أكد لأتباعه على هذا الرجل الذي سيبعث لإتمام البناء «3» .

وفي ليلة الإسراء والمعراج، يقول محمد الغزالي «تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهي أنه دين الفطرة، ففي الحديث (.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن

) إن سلامة الفطرة لبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب. إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسوادا، وربما أخفي هذا السواد الكريه وراء

ألوان زاهية، ومظاهر مزوقة، بيد أن ما ينطلي على الناس لا يخدع به رب الناس.. وفي المعراج شرعت الصلوات الخمس، شرعت في السماء لتكون معراجا يرقى بالناس كلما تدلّت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا..» «4» .

(1) سورة آل عمران: الآية 81.

(2)

أخرجه البخاري 6/ 436 ومسلم 7/ 64- 65.

(3)

انظر فصل (الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية) في هذه الدراسة.

(4)

الغزالي: فقه السيرة ص 142- 143.

ص: 95

والنيل والفرات، ما صلتهما بالرحلة عبر السماوات؟ «لقد عرف محمد في هذه الرحلة أن رسالته ستنساح في الأرض، وتتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم، بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلا في أعقاب جيل، وهذا معنى رؤية النيل والفرات في الجنة، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة كما يظن السذّج والبله» «1» . وفي رواية أنس بن مالك التي ذكرها البخاري في صحيحه «2» ، يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «

ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان ما أدري ما هي؟ ..» .. ونحن نسمع اليوم من رواد الفضاء، عن الألوان التي تتراءى لهم عبر رحلاتهم في الفضاء وإلى القمر، لا يدرون ما هي.. وهل يضم عالمنا الأرضي كل الألوان وكل المسميات؟! وهل بمقدور لغات العالم كله ومصطلحاته أن (تعبّر) عن (موجودات) الكون الفسيح وأحداثه التي تنأى عن علمنا وبداهاتنا ومسلماتنا «3» ؟ «إن رؤية طرف من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض له أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين وتصغير جموعهم ومعرفة عقباهم.. والله عز وجل يتيح لرسله فرص الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلوبهم ثقة فيه واستنادا إليه إذ يواجهون قوى الكفار المتألبة ويهاجمون سلطانهم القائم.. لقد جاء الإسراء والمعراج قريبا من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عاما وبذلك كانا علاجا مسح متاعب الماضي، ووضع جذور النجاح للمستقبل» «4» .

ولم تكن حادثة الإسراء والمعراج معجزة قاهرة أريد منها قهر الناس على الاعتقاد بصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان يحدث للأنبياء السابقين، ذلك أن القرآن الكريم سلك أسلوبا آخر في الإقناع يقوم على التأمل والمشاهدة والتجريب والحجة والبرهان، وإلا لكانت حادثة الإسراء والمعراج قد جاءت في الأيام

(1) الغزالي: فقه السيرة ص 139.

(2)

التجريد 1/ 38- 39.

(3)

يقول م. كريسي موريسون في كتابه Man Does Not Stand Alon ص 182 «إذا كانت الروح الخالدة تستطيع رؤية الأشياء كما هي، فإنها تقدر أن تكتسب جميع الحواس المختلفة الرقيقة التي لكل الكائنات الحية، وبذا تستطيع أن تدخل في ميادين جديدة عجيبة للمعرفة والتجربة والشعور

وهناك ألوان أزهى من أن تتحملها عيون البشرية تنتظر تطور قدرتنا على الإحاطة بها

» !!

(4)

الغزالي: فقه السيرة، مقتطفات ص 138، 139.

ص: 96

الأولى للدعوة حيث ضيق المشركون الخناق عليها وطاردوا أتباعها في كل مكان «فقد تكفل القرآن الكريم بإقناع أولي النهي من أول يوم، وجاءت في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ضربا من التكريم لشخصه، والإيناس له، غير معطلة للمنهج العقلي الذي اشترعه القرآن. وقد اقترح المشركون على النبي- يوما- أن يرقى في السماء، فجاء الجواب من عند الله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا؟ «1» فلما رقي في السماء بعدئذ، لم يذكر قط أن ذلك رد على التحدي أو إجابة على الاقتراح السابق» «2» على العكس وجدنا الروايات تحدثنا عن أن صعوبة تصديق حادث غيبي كهذا دفع المشركين إلى مزيد من التحدي والاستهتار وردّ نفرا من المسلمين من ضعاف الإيمان إلى كفرهم!! ومهما يكن من أمر فإن حادث (التكريم) هذا «ترك ثماره في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم فاستراح إلى حمد الخالق وقل اكتراثه لذم الهمل من الجاحدين والجاهلين، ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقنا أن كل يوم يمر بها هو خطوة إلى النصر القريب» «3» .

تأتي بعد ذلك مسألة البعد (الزمني) لحادثة الإسراء والمعراج، هذه التي اجتاز بها الرسول في ليلة واحدة، أو جزء من ليلة، المسافات الفاصلة بين مكة والقدس، وهي المسافات التي تتضاءل وتضيع إذا ما عرضناها على الأمداء الكونية الهائلة التي قطعها الرسول صلى الله عليه وسلم عبر السماوات، في أعماق ذلك الليل!! ولنرجع إلى القرآن نفسه نتمعن في بعض آياته ونستنطقها حول هذه المسألة.

فهنالك حشد من الآيات واللمسات والإشارات منبثة في حنايا السور، نذكر منها- على سبيل المثال- هذه الآيات الموحية ذات الدلالة العميقة قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «4» وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ «5» يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا «6» قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ «7» وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ «8» ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «9» يَسْئَلُهُ مَنْ

(1) سورة الإسراء: الآية 93.

(2)

الغزالي: فقه السيرة ص 140.

(3)

المرجع السابق، مقتطفات ص 145.

(4)

سورة البقرة: الآية 259.

(5)

سورة يونس: الآية 45.

(6)

سورة الإسراء: الآية 52.

(7)

سورة المؤمنون، الآية 113.

(8)

سورة الروم: الآية 55.

(9)

سورة السجدة: الآية 5.

ص: 97

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «1» إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «2» وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «3» إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «4» ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ «5»

إن بين هذه الآيات المنبثة في حنايا القرآن، وغيرها، ترابطا وانسجاما رياضيا دقيقا، وإن فيها تأكيدا مستمرا على الحقيقة «الطبيعية» التي لم تتكشف بعض جوانبها للعلم إلا أخيرا، تلك هي أن الزمن في الأرض والزمن في أمداء الكون ليسا سواء، وأن هناك فرقا شاسعا بين الوحدة الزمنية الأرضية والوحدة الزمنية الكونية يبلغ تارة 000، 365 ضعف ويبلغ تارة أخرى 000، 250، 18 بحساب القرآن الكريم نفسه!! ومن أجل ذلك سيشده الناس يوم القيامة، وسيظنون أن حياتهم الدنيا لم تكن سوى ساعة من نهار وأنهم لم يلبثوا إلا قليلا.. ومن أجل ذلك لنا أن نتصور لا بحسابنا الأرضيّ، ولكن بحساب المطلقات القرآنية الأمداء الزمانية (للأيام الست) التي خلق فيها الله سبحانه بناء السماوات والأرض، وأعدّ كرتنا الأرضية لاستقبال الحياة وإنمائها وتطويرها على يد الإنسان خليفة الله في الأرض وسيد مخلوقاتها.

ولنتدبر- بعد ذلك- هذه الآية سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.

مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «6» . إن الملائكة والروح، وقد تجردت من عوائق الجسد والتراب التي تقيد الإنسان، وتجاوزت قوانين الزمان والمكان الأرضية النسبية، تصعد الآن في طريقها إلى بارئها عبر معارج وأمداء لا يحيطها قط خيال إنسان، لأنها ستجتاز هذه الأمداء التي تبعثرت فيها خمسمائة مليون مجرة، في كل منها آلاف المجموعات الشمسية، كمجموعتنا وأكبر، تجتازها في يوم واحد لكنه ليس كأيامنا، إنه بحساب أيامنا ثمانية عشر مليونا وربع المليون يوما.. إنه اليوم الكوني الذي أشار إليه (أينشتاين) في (نسبيته) التي قادته إلى آفاق جديدة رحبة في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية، حتى إنه ليقال إن وصول إنسان ما إلى إحدى المجرّات يحتاج إلى خمسمائة سنة ضوئية، لكن هذا

(1) سورة الرحمن: الآية 29.

(2)

سورة طه: الآية 104.

(3)

سورة الحج: الآية 47.

(4)

سورة الأعراف: الآية 54.

(5)

سورة غافر: الآية 49.

(6)

سورة المعارج: الآيات 1- 7.

ص: 98

الإنسان نفسه إذا ما تيسر له جهاز ينقله عبر الفضاء بسرعة الضوء فإنه سيختزل هذه المدة الشاسعة إلى ما يقرب من خمسين سنة فحسب!!

إن الملائكة والروح المتخفف من أعباء الجسد وشد الأعضاء لا يعجزها أن تفوق في حركتها سرعة الضوء، ومن ثم فهي تعرج الكون كله في طريقها إلى خالق الكون جلّ وعلا في يوم واحد في حساب حركتها الزمنية عبر الكون لا بحسابنا.. ومن ثم ينادي الله في علاه رسوله الكريم وهو يشقى بدعوة أناس يرون يوم الحساب بعيدا كبعد السراب فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «1» ، وهذا يقربنا بعض الشيء من فهم حادثتين زمنيتين عرضهما علينا القرآن الكريم في سيرة نبيين من أنبيائه عليهم السلام تكريما لهما وتقديرا: حادثة نقل عرش بلقيس في جزء من اللحظة وحادثة الإسراء والمعراج التي نحن بصددها.

ونحن نقرأ عن الحادثة قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.

قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ «2» .

ألا تلفتنا في هذا العرض عبارات كهذه عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها؟ ثم ألا يثير تساؤلنا تفوق (الإنسان) الذي عنده علم من الكتاب على (العفريت) وتمكنه من اختزال عملية النقل من ست ساعات إلى سدس اللحظة، وربط سليمان إتيانه العلم من قبلها بكونه مسلما، أي منقادا لأمر الله وسننه ونواميسه؟ ثم ألا يعني هذا كله إن منح (علم الكتاب) لرجل أو عفريت أو نبي أو ملك هو اطلاعه على الدستور الرياضي والطبيعي لقوانين الكون ومن ثم تسخيرها إلى أقصى مدى ممكن لتحقيق منجزات زمنية ومكانية تبدو بالمقاييس الراهنة خارقة معجزة؟

إن الناس قبل أن يسخّروا قوى البخار والكهرباء والذرة كانوا يقطعون عدة مئات من الأميال في شهرين أو ثلاثة، ولو قيل لهم آنذاك إن بإمكان الإنسان- لو

(1) سورة المعارج: الآيات 5- 7.

(2)

سورة النمل: الآية 38- 42.

ص: 99

حظي بمزيد من العلم بنواميس الطبيعة وسننها- أن يختزل هذه المدة إلى أيام وإلى ساعات فإنهم سوف لن يصدقوا وسيتهمون القائل بشطط الخيال على أقل تقدير.. ومضت القرون وسخّر البخار والكهرباء والذرة وصرنا نصل إلى أطراف الأرض في ساعات معدودة، ونجتاز عالمنا الصغير صوب القمر، ونتطلع للذهاب إلى ما هو أبعد في مجموعتنا الشمسية، ولو قال لنا قائل الآن إنه سيجيء يوم يكشف فيه العلماء عن مزيد من (السنن والقوانين) الطبيعية والرياضية وأنهم سيتمكنون بذلك من صنع أجهزة تنقل الإنسان إلى القمر في ساعتين أو ثلاث لاتهمناه هو الآخر بشطط الخيال.. لكن ذلك اليوم سيجيء، وسيجيء حتما طالما كان هنالك سعي دائب للكشف عن مزيد من جوانب العلم الذي تسير به السماوات والأرض.

وكثيرا ما يتكلم المتكلمون عن محاولات تجري لنقل الأجسام والأشياء من مكان إلى مكان بعيد، بسرعة كسرعة الضوء، بعد تفكيكها إلى تكويناتها الذرية الأولى وإعادة تركيبها من جديد في المكان الذي استقرت فيه متحدية حواجز المكان والزمان، وهذا الأمر كذلك لا يستبعد أن يتحقق في يوم قريب أو بعيد

وهل كان بإمكان أحد قبل قرنين من الزمان أن يصدق أن بإمكان قنبلة لا تتجاوز حجم الكتاب، عوملت فيها الذرات التافهة الحقيرة معاملة خاصة معقدة، أن تدمر مدينة كبيرة بأسرها وتمحقها محقا من الوجود في دقائق ولحظات؟!

إن القوانين والسنن الطبيعية التي تسير السماوات والأرض إلى غاياتها المرسومة في علم الله، والطاقات التي تحتويها هذه الكتلة الكونية هي هي في كل زمان.. والذي يتاح له الاطلاع على بعض جوانبها وفاعلياتها يستطيع أن يأتي بالعجب العجاب، وأن يتحدى الوقائع المألوفة ويتجاوز تحديات المكان والزمان

فكيف وأن هذا العلم يمنح مباشرة من الله سبحانه معززا بإراداته التي لا تغلب لذلك الرجل الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ «1» ، أو إلى نبي كسليمان عليه السلام، هل يعجزهما أن يأتيا بعرش بلقيس عبر آلاف الأميال في جزء تافه ضئيل من لحظة زمنية، أو يتحققا من إمكانية حدوث أمر كهذا؟

أما حادثة الإسراء والمعراج التي نحن بصددها، فإن ما يلفت نظرنا فيها ما

(1) سورة النمل: الآية 40.

ص: 100

ورد في البخاري عن مالك بن صعصعة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل على (براق) يضع خطوه عند أقصى طرفه انطلق به بصحبة جبريل إلى السماوات السبع

إن البراق، هذا الذي يضع خطوه عند أقصى طرفه والذي يقطع المسافات الشاسعة في لحظات، يشتق اسمه من عالم الضوء والكهرباء، وهي تسمية ذات مغزى عميق جاءت في عصر لم يكن أحد فيه يعرف شيئا عن قوانين الضوء وسرعته وطاقات الكهرباء وإمكاناتها، وهي كما يبدو رمز مدهش للتعبير عن الانسجام الكامل بين رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سنن العلوم وقوانينها، تلك الرحلة التي لم يرد لها أن تكون إعجازا يفحم المشركين بعد إذ لم تقنعهم معجزة القرآن ذاتها، بقدر ما أريد لها أن تكون رحلة تكريم يطلع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على أطراف الكون الذي أبدع الله صنعه وأتقن حبكته، وإن كان من بديهات القول أن بإمكان الله سبحانه أن يتجاوز السنن والقوانين في أية لحظة يشاء، لأنه جلت قدرته صانع السنن والقوانين. لكن هذه الحقيقة الكبيرة لا تمنعنا من القول بأن رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن تجد لها تفسيرا وتحليلا على نطاق الطبيعة والرياضيات لا يتجاوز- بطبيعة الحال- الظن والتخمين

وفي صبيحة اليوم التالي عندما تحدى مشركو مكة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس إن كان رآه حقا، طفق الرسول يصفه وكأنه معروض عليه عرضا، أزقته وأسواقه وباحاته وكنائسه وطرقاته. عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» !!

وأنا أنظر إليه!! لحظة من لحظات تجاوز الأبعاد والحواجز الزمانية والمكانية تعتمد السنن نفسها التي نقل فيها عرش بلقيس وأسري بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى القدس ثم عرج به في جزء من ليلة إلى أقصى الكون.. السنن التي جعلت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فيما بعد يصرخ وهو في مسجد المدينة (يا سارية الجبل.. الجبل) سارية الذي كان يقاتل في العراق ويتعرض وجنده لكمين قاتل.

هذا عن سنن الكون في أبعاده المادية، فماذا عن الروح وطاقاتها وأساليبها في التعامل مع النواميس؟ إن الله سبحانه الذي هو صانع السنن والقوانين يهب بعض عبادة القدرة الخارقة التي يتمكن بها العبد من طبيعته الخاصة ومما يحيط بها من أشياء وموجودات، فيصنع المستحيل. وتبدو هذه (المستحيلات) خوارق

ص: 101

بالنسبة لأناس ينظرون من الخارج، لكن القضية بالنسبة للعبد نفسه لا تعدو أن تكون قضية (علمية) تعتمد قوانين الروح وطاقاتها لتسخير الأشياء والموجودات، ولتحطيم الحواجز الخارجية للزمان والمكان..

لقد كشف العلم الطبيعي، نفسه، وفي العقود الأخيرة، ومن خلال تحليله لخواص المادة وتوغله في تركيبها الباطني، عن حقيقة خطيرة، هي أن الطاقة أو الحركة إنما هي قاعدة المادة وأساس الأشياء، وأن تركيب الذرات وما تحتويه من تكوينات أدق كالنيوترونات وما تضمه هذه من تركيبات أشد دقة وضالة يؤول في نهاية المطاف إلى طاقة حركية غير مادية هي التي تتشكل منها الذرات والجزئيات، وهي التي تصوغ في (سرعتها) و (إبطائها) وطبيعة حركتها أشكال الأشياء الصلبة والسائلة والغازية!

فإذا كانت الوحدة الأساسية للبناء الطبيعي المادي قد تكشفت عن الحركة اللامادية أفلا يمكن القول إذن بأن الطاقة الروحية التي تتميز بالوعي والانفصال والامتثال والاستشراف والإرادة يمكن أن تتعامل مع هذه الطاقة (اللامادية) بشكل من الأشكال، وتطوعها لأمرها فتذعن وتلبي؟ إن إشارة ضوئية غير ملموسة توجه مركبة فضائية في غاية التعقيد إلى أهدافها في ظروف تقرب من المستحيل لغير المتوغلين في قوانين العلوم الرياضية والطبيعية، أفلا يمكن لإشارات الروح أن تحقق في عالم الطبيعة ما هو أكثر استحالة وإعجازا لمن لم يعرف، ولن يعرف، عن الروح إلا قليلا؟

إن انهيار الأساس المادي للأشياء، الذي كشف عنه العلم أخيرا، يقربنا خطوات من فهم وإدراك طبيعة التعامل بين الروح والمادة، ولكنها خطوات نحسب أنها ستطلعنا على وحدة البناء الكوني، فوحدة خالقه جل وعلا، ولكنها لن تطلعنا بحال على كل أبعاد وخصائص الروح الإنساني، ولا على كل سننه وقوانينه. هذا الروح الذي هو نفخة الله في الطين، ومصدر الحياة والفكر والإرادة والتقدم، سيظل مستغلقا على الإدراك والتحليل الكاملين، لأن خلافتنا على الأرض لا تقتضي هذا التكشف الكامل، ولأن المقادير الضئيلة التي يمنحنا الله إياها في عالم الروح، توازي فاعليتها المقادير الضخمة التي مكننا من معرفتها في عالم الطبيعة. وهذا التوازن الحضاري الفذ بين الروح والمادة في ميدان الكشف والمعرفة، هو ما يقودنا إليه في حشد كبير من الآيات التي تدعونا إلى أن نفتح كل

ص: 102

منافذنا على الطبيعة لاستكشاف قوانينها وطاقاتها وتسخيرها لتنمية الحياة البشرية وتطويرها.. يقابل هذا الحشد آية كريمة واحدة تقول: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1» «2» .

(1) سورة الإسراء: الآية 85.

(2)

انظر عن هذا الموضوع بالتفصيل بحث (القرآن والبعد الزمني) للمؤلف: مجلة الوعي الإسلامي عدد 91 سنة 8 و (معاول في جدار العلمانية) للمؤلف، نفس المجلة عدد 55، 60 سنة 5.

ص: 103