المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وأمره أن - دراسة في السيرة

[عماد الدين خليل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌الفصل الثالث مسائل من العصر المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌«3»

- ‌[4]

- ‌الفصل الرابع تحليل للهجرة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌الفصل الخامس دولة الإسلام في المدينة

- ‌[القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة]

- ‌أولا: المسجد:

- ‌ثانيا: الصحيفة:

- ‌ثالثا: المؤاخاة:

- ‌رابعا: الجيش:

- ‌الفصل السادس الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى)

- ‌السرايا

- ‌[منجزات السرايا]

- ‌1- الاستطلاع:

- ‌2- القتال:

- ‌3- الكتمان:

- ‌4- الحصار الاقتصادي:

- ‌معركة بدر الكبرى

- ‌[أسباب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى]

- ‌القيادة الموحدة:

- ‌التعبئة الجديدة:

- ‌العقيدة الراسخة:

- ‌المعنويات العالية:

- ‌معركة أحد

- ‌معركة الخندق

- ‌الفصل السابع الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية)

- ‌صلح الحديبية

- ‌فتح مكة

- ‌عام الوفود وتصفية الوجود الوثني

- ‌الفصل الثامن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل التاسع الصراع ضد اليهود

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌قائمة بأهم المصادر والمراجع

- ‌المصادر (القديمة)

- ‌المراجع (الحديثة)

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وأمره أن

والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وأمره أن يلحق بابن العاص وأن يعملا سوية لإنجاز المهمة التي كلفا بها. وانطلق عمرو- بعد أن وصله مدد أبي عبيدة- حتى «وطىء بلاد بلى ودوخها، حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين» . ولقي في نهاية زحفه جمعا فحمل عليهم فهربوا بين يديه وتفرقوا في البلاد، بعد أن قتل منهم عدد كبير «1» ثم قفل جيش الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا بعد أن غطى بانتصاراته الأخيرة هذه في أقصى الشمال، على مأساة مؤتة، ومكن للنفوذ الإسلامي في أقصى الشمال، وأشعر العرب الموالين للبيزنطيين بأن هزيمة المسلمين في معركة لا تعني أبدا انحسار دولتهم في أراضي الشمال.

[6]

بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في أواخر السنة الثامنة، في أعقاب دخوله مكة وانتصاره في حنين، بلغته أنباء خطيرة عن تحركات يعتزم الروم وحلفاؤهم العرب من لخم وجذام وغسان وعاملة، القيام بها ضد الدولة الإسلامية قبل أن يشتد ساعدها وتتفرد في قيادة الجزيرة العربية، وتشكل خطرا حاسما على الوجود البيزنطي في بلاد الشام، وقد قامت هذه القبائل فعلا بإرسال طلائعها إلى البلقاء.

كان الوقت صيفا، والصحراء تحترق نارا، والبلاد تعاني جدبا ومحلا، والطريق طويلا، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص لقطع آلاف الأميال عبر الصحراء، وقتال قوم هم سادة الدنيا، ومحنة مؤتة، فوق هذا كله، ليست بعيدة عن الأذهان، لكن منطق الرسول صلى الله عليه وسلم يفوق التحديات ويتجاوز المصاعب، لأن السكوت على التحرك البيزنطي معناه الاندحار، وانتظارهم لكي يوجهوا (هم) ضربتهم معناه الانتحار، فلا بد إذن من التجهز بسرعة، وتولي زمام المبادرة، والانطلاق عبر المتاعب والمصاعب للرد على تحدي سيدة العالم، وإشعار العرب الخاضعين لها أن هناك دولة ثانية وكلمة أخرى.

وفي معظم الغزوات كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحدد هدفه العسكري زيادة في الكتمان، على العكس إنه كان يعلن عن أهداف غير تلك التي يريد قصدها، أما

(1) ابن سعد 2/ 1/ 94- 95، الواقدي 2/ 770- 771، الطبري: تاريخ 3/ 29، 31- 32 البلاذري: أنساب 1/ 380- 381، اليعقوبي: تاريخ 2/ 64، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 231، ابن الأثير: الكامل 2/ 232، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 273- 275.

ص: 251

في غزوة تبوك فقد بينه للناس «لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو، ليتأهب الناس لذلك أهبته» . وأمر صلى الله عليه وسلم بالتجهز وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وحضّ الذين يملكون على النفقة في سبيل الله وتهيئة الدواب التي ستنقل المقاتلين إلى الشمال. ثم ما لبث أن انطلق في رجب بأكبر جيش عرفه تاريخ الدعوة حتى ذلك الحين، قيل إنه بلغ ثلاثين ألفا، تصحبها عشرة آلاف فرس، مستخلفا في المدينة عليا بن أبي طالب رضي الله عنه «1» ، ودافعا لواءه الأعظم إلى أبي بكر ورايته إلى الزبير رضي الله عنهما «2» .

بدأ المسلمون مسيرتهم التي قطعوا فيها آلاف الأميال، وعانوا آلام العطش والجوع والحر وقلة وسائل الركوب وبعد الطريق.. ويحدثنا عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده «3» . لقد كان جوب البادية- يقول درمنغم- صعبا، وجعل محمد صلى الله عليه وسلم وجنوده يعسكرون بعد غروب الشمس المحرقة تحت عاصفة من الرمال جياعا عطاشا، وتوارى هؤلاء الجنود خلف جمالهم، مولين الرياح ظهورهم مدثرين بأرديتهم، متشبثين بالأرض، وخرج اثنان من العسكر فاختنق أحدهما واحتملت الريح الآخر. فلما أصبح الناس بدؤوا يزحفون منهوكين محمري العيون، مفطّري الأرجل، مجمّدي الريق، مدويي الآذان، مفريي الجلود، زالقين على ألواح حجرية سود، متخرقين لصخور بادية على شكل سوق الشجر.. وبلغ بعضهم من الهذيان ما صب معه في حلوقهم ووضع على صدورهم سوائل، أخذت من كروش الإبل «4» .

انتهى المطاف بالمسلمين إلى تبوك في أقصى الشمال، ويبدو أن الروم

(1) ابن هشام ص 325، الطبري: تاريخ 3/ 1- 101، 103- 104، ابن سعد 2/ 1/ 118- 119 ويذكر الأخير أن (محمد بن مسلمة) هو الذي استخلف على المدينة، الواقدي 3/ 989- 991.

(2)

الواقدي 3/ 996. ويخطىء اليعقوبي (تاريخ 2/ 56) كشأنه مرارا في قوله متحدثا عن غزوة تبوك أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى أرض الشام «يطلب بدم جعفر بن أبي طالب» بينما يشير سياق الأحداث، وحجم التحرك العسكري، وطبيعة الظروف السياسية، إلى أن الأمر أكبر بكثير من مجرد هجمة ثأرية لمقتل رجل من المسلمين.

(3)

ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 9.

(4)

حياة محمد ص 365.

ص: 252

وحلفاءهم سمعوا أنباء هذا الجيش الكبير، وقدرته على اجتياز المصاعب، وإصراره على لقاء الأعداء فاثروا الانسحاب إلى الداخل، عبر أراضي الأردن وفلسطين، صوب حمص حيث استقر هرقل، مستهدفين- في الوقت نفسه- جر القوات الإسلامية إلى الداخل والانقضاض عليها هناك «1» . إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتح لهم تحقيق هدفهم هذا وعسكر في تبوك جاعلا إياها آخر نقطة في توغله شمالا. ويذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه في التقدم، فأجابه عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى وقد أفزعهم دنوك، فلو إنك رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله عز وجل لك في ذلك أمرا «2» .

وفي تبوك راح الرسول صلى الله عليه وسلم يراقب الروم ويتحداهم أن يبرزوا له ويقاتلوه.

ويذكر المسعودي أنه جرت خلال ذلك مراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين هرقل الذي كان يقيم آنذاك في حمص وربما في دمشق «3» . ويشير درمنغم إلى أن اتفاقا سريا تم بين محمد وهرقل يقضي بسماح الأخير لعرب الشمال باعتناق الإسلام «4» ، ويبدو أن درمنغم بنى استنتاجه هذا على رواية المسعودي آنفة الذكر وإن لم يكن من المستبعد أن يقرّ هرقل اتفاقا كهذا يخلصه من كثير من المشاكل التي بدأت دولة الإسلام تسببها لحدوده الجنوبية.

أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتصل في الوقت نفسه بزعماء القبائل النصرانية المنتشرة في المنطقة ويتلقى سفاراتهم، فيعقد معهم معاهدات الصلح والتعاون، ويقطع- بذلك- ولاءهم للدولة البيزنطية ويحولهم إلى مواطنين أو حلفاء للدولة الإسلامية، وهو الهدف الذي كان يطمح إلى تحقيقه منذ بدء صراعه مع الروم.

(1) في رواية للواقدي (3/ 1019) إن هرقل ظل في موقعه في حمص لم يتحرك ولم يزحف، وكان الذي خبر النبي من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام باطلا، ولم يرد ذلك ولم يزحف، ولم يهم به. وليس من السهل الأخذ بهذه الرواية، سيما وأن الواقدي نفسه يذكر في بدء حديثه عن غزوة تبوك أن الذي نقل أنباء احتشاد الروم وحلفائهم شهود عيان من الأقباط الذين كانوا يردون على المدينة حينا بعد حين لبيع الدقيق، والزيت (3/ 989- 990) كما أن سير الأحداث وما قدمته الروايات الآخرى من تفاصيل، لا ينسجم وما يذهب إليه الواقدي في روايته تلك. ويذكر البلاذري (أنساب 1/ 368) أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سار إلى هرقل وحلفائه «هابوا محاربته فلم يلق كيدا» .

(2)

مغازي رسول الله 3/ 1019.

(3)

التنبيه والإشراف ص 236.

(4)

حياة محمد ص 366.

ص: 253

وكان ممن جاء إلى تبوك يوحنة بن رؤبة صاحب أيلة حيث صالح الرسول صلى الله عليه وسلم ووافق على منحه الجزية. كما جاءه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية التي تعني إشعارا ماديا بانتمائهم إلى الدولة الإسلامية وقطع علاقاتهم وارتباطاتهم بمن سواها. وقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم ليوحنة عهدا يمثل (نموذجا) للعهود التي كان يكتبها للجماعات النصرانية مانحا إياهم فيها حرية الدين والمواطنة على السواء، ومؤكدا على كونهم قد غدوا مرتبطين بالدولة الإسلامية وحمايتها وسلطتها:«بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» . كما وجه صلى الله عليه وسلم خالدا بن الوليد على رأس كتيبة إلى أمير دومة النصراني المدعو أكيدر بن عبد الملك، فتمكن خالد من أسره وقتل أخيه والعودة بالأمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن الرسول دمه، وصالحه على الجزية، ثم أطلق سبيله فرجع إلى بلده «1» .

وبعد عشرين ليلة قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم وقواته في تبوك، قفل عائدا إلى المدينة بعد أن حقق بحركته الصعبة تلك انتصارا على الجبهة النصرانية- البيزنطية، لا يقل خطرا عن انتصاراته الحاسمة على جبهات الوثنية واليهودية. فقد كسب عددا من القبائل العربية القاطنة في جنوب الشام إلى جانب الدولة الإسلامية، وقطع علاقاتها بالروم، وأشعر القبائل الآخرى بمدى قوة الدولة الجديدة وامتداد نفوذها إلى قلب الديار التي كان أهلها يعملون لصالح سادتهم الروم، ويلعبون دورا خطيرا في مقاومة امتداد الإسلام صوب الشمال. ولم تكن محنة مؤتة سوى محاولة واحدة من عدد من محاولات هؤلاء العرب بوجه الإسلام. وها هم الآن- بعد تبوك- قد اقتنعوا بأن الاحتماء بالسلطة البيزنطية سوف لن ينقذهم من العقاب، فبدؤوا يتهافتون على الرسول صلى الله عليه وسلم طالبين الصلح معه ودفع الجزية له!!

(1) ابن هشام ص 332- 334، الطبري: تاريخ 3/ 108- 109، ابن سعد 1/ 2/ 28- 29، 37 و 2/ 1/ 120، الواقدي 3/ 1025- 1032، البلاذري: فتوح 1/ 71- 73، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 236، وانظر حميد الله: الوثائق ص 116- 118، 118- 119، 119- 124.

ص: 254

إلا أن الانتصار الأهم، هو أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحدي الروم، وتقدمه لقتالهم وانسحابهم من طريقه، وانتظاره إياهم قرابة عشرين يوما دون أن يحركوا ساكنا، جاء ضربة قاصمة للسيادة البيزنطية في بلاد الشام، وإضعافا لمركزها الأدبي وسطوتها على القبائل العربية، وكسرا لجدار الخوف العربي من القوة البيزنطية، وهو انتصار نفسي حاسم مكن العرب، بعد سنين معدودات، من تجاوز ولائهم القديم والانطلاق لضرب البيزنطيين وإلحاق الهزائم بهم وطردهم إلى بلادهم التي جاؤوا منها.

إن غزوة تبوك تمثل خطوة من خطوات الحركة الإسلامية المسلحة صوب الخارج، وتخطيا لنطاق العرب وجزيرتهم إلى العالم، وبادرة متقدمة لحركة الفتوحات التي شهدها عصر الراشدين.

ولقد جاءت تجربة تبوك التي سماها المسلمون (غزوة العسرة) وقالوا إنها جاءت عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة، شبيهة بمحنة (أحد) ، نارا ممحصة على حريقها ووهجها تميز المنتمون إلى معسكر الإسلام، درجات بعضها فوق بعض، وهذا شأن كل معسكر في تاريخ البشرية، فليس بنو آدم ملائكة يقفون صفا واحدا ولكنهم يتميزون في إيمانهم وإخلاصهم وانتمائهم، تميزهم الانتصارات الحاسمة والإنكسارات الخطيرة وتفرّق بينهم تجارب الراحة والسعادة وآلام المحن والنكبات. فها نحن أولاء نجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين أن يتجهزوا للرد على التحدي البيزنطي عبر المجاعة والعطش وجحيم الصحراء وطريقها الطويل، أناسا يقفون في القمة، وآخرين يتحركون صعدا في منتصف الطريق لا يقدرون على الصعود خطوات أخرى إلى أعلى، وهم مع ذلك يحاولون ويحاولون، وفئة ثالثة حرنت في مواقعها لا تريد أن تسعى ولا أن تتحرك.. وهنالك في الأسفل، عند جدار المرتفع وفي منخفضاته، طوائف كثيرة من المنافقين والمنهزمين، يتخبطون كالحشرات والديدان دوارا على أنفسهم وبقاء في الحفر الضيقة!!

أنفق عثمان بن عفان- يومها- نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، بلغت- فيما ذكره البلاذري- سبعين ألف درهم «1» ، وتصدى بماله لمشكلة النقص الخطير في

(1) أنساب الأشراف 1/ 368.

ص: 255

وسائل الركوب.. فردّد الرسول صلى الله عليه وسلم «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم» وجاء أبو بكر بماله كله: أربعة آلاف درهم فقال له صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئا؟ فأجابه: الله ورسوله أعلم. وجاء عمر بنصف ماله. يقول الواقدي: «ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف، وقووا أناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى أن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كنّ النساء ليعنّ بكل ما قدرن عليه!! قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوبا مبسوطا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه أسورة ومعاضد وخلاخل وأقرطة وخواتيم..

مما يبعث به النساء يعنّ به المسلمين في جهازهم..» «1» .

وجاء سبعة من الأنصار من فقراء بني عمرو بن عوف، وتوسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدواب، فأجابهم (لا أجد ما أحملكم عليه) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. ولقي رجل من أهل المدينة اثنين منهما يبكيان فسألهما (ما يبكيكما؟) أجابا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما جملا له يستقي عليه الماء، وزودهما بشيء من التمر، فارتحلا الجمل وخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» .

ورجع أبو خيثمة، بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما، إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في بستانه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما. فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حق ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيئا لي زادا «3» .

وأبو ذر!! لما أبطأ عليه بعيره، تعبا وإرهاقا، أخذ متاعه فحمله على ظهره وخرج يتبع أثر المسلمين ماشيا!! وفي مكان ما من الصحراء الممتدة نظر ناظر من

(1) مغازي رسول الله 3/ 991- 992.

(2)

ابن هشام ص 326- 327، الطبري: تاريخ 3/ 102، الواقدي 3/ 993- 994، البخاري 2/ 99.

(3)

ابن هشام ص 328- 329، الطبري 2/ 104- 105، الواقدي 3/ 998- 999.

ص: 256

المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا رجل يمشي على الطريق وحده، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بحدسه العميق: كن أبا ذر، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)«1» .

وهنالك من أبطأت بهم نياتهم عن الاستجابة للنداء، ولكن من وراء نياتهم وأفعالهم الظاهرة هذه قلوب يعمرها الإيمان والرغبة في العطاء والندم العميق على أي تهاون أو تفريط. ومن منا لم يسمع قصة الثلاثة المخلفين: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية؟!

قال كعب بن مالك، فيما رواه البخاري: «لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك

حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجدّ.. ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا

وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت بهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء» ..

«فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. فجئته فلما سلمت عليه تبسّم تبسم المغضب ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد

(1) ابن هشام ص 331، الطبري 3/ 107، الواقدي 3/ 1000.

ص: 257

أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» .

«فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما كنا علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ألاتكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون.. فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى كدت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا نعم، رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي» .

«ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه

حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام.. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام- ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة- يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك، فقلت لما قرأتها، وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها..» .

«حتى إذا كملت خمسين ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وصليت الفجر، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت

ص: 258

عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون.. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة.. حتى دخلت المسجد، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال:

لا بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.. فقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألاأحدث إلا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وأني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت..» «1» .

وهنالك من ظلوا يتخبطون في بدايات الطريق ولا يقدرون على الخروج من حفره الضيقة: المعذرون من الأعراب الذين جاؤا يلتمسون الأعذار من الرسول كيلا يذهبوا إلى القتال فلم يعذرهم الله، والمنافقون الذين راحوا يروجون شائعات الخوف والجبن والتردد، ويهمس بعضهم في أذن البعض الآخر: لا تنفروا في الحر!! ولقد تحدث عنهم القرآن فيما بعد، بضربات كاوية كجمرات جهنم وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «2» ، وعند ما انطلقوا مع زعيمهم عبد الله بن أبيّ، ما لبثوا أن انقلبوا عائدين في أول الطريق «3» وزعيمهم يردد «يغزو محمد بني الأصفر، مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا قبل له به، يحسب محمد أن قتال بني

(1) البخاري: التجريد: 2/ 100- 104، الواقدي 3/ 1049- 1056، ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 23- 26.

(2)

سورة التوبة، الآية:81.

(3)

ابن سعد 2/ 1/ 19.

ص: 259