الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقع فيه معظم الغربيين الذين يجدون أنفسهم ملزمين بتطبيق مقاييسهم الخاصة على تاريخنا.. وقد ناقشنا هذه المسألة في مقدمة هذه الدراسة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإلى أي دين كان ينتمي هؤلاء المترفون الأغنياء ومتوسطو الحال، الذين ينتمون إلى أشهر القبائل المكية وأعلاها سلطة ومكانة؟ إلى الدين الذي كانت حملات كتابه الكريم تتنزل منذ بداياتها الأولى (العلق، القلم وغيرهما)«1» صواعق على رؤوس الأغنياء والزعماء، تلك الآيات التي «.. نددت بالأغنياء الذين يقبضون أيديهم عن مساعدة الطبقات المعوزة وحثت على الإنفاق كثيرا، كما أنها حاربت الزعامة الطاغية الباغية المعتزة بالقوة والمتكبرة عن الحق»
«2»
. وهكذا تبدو طبيعة الدعوة الإسلامية منذ بدئها، عظيمة رائعة في حدبها على هذه الطبقة التي تتألف منها عادة أكثرية الجماهير، وتحريرها ورفع مستواها «3» .
[2]
ولن تتكامل الصورة إلّا بأن نتجاوز، في تحليلنا هذا، مرحلة الدعوة السريّة إلى المرحلة المكية عامة لنرى في الجهة المقابلة الدوافع الحقيقية التي قادت المشركين وزعماءهم إلى مقاومة الدعوة، وهي دوافع لا تنصبّ على الجانب المادي فحسب، بل تمتد إلى كل مساحات التصوّر والشعور والحياة الجاهلية، وإن كان للجانب (المادي) أهمية كبيرة بين هذه الدوافع إلا أنه لا يمكن أن يغطي المساحة كلها ويحجب الدوافع الآخرى، الدينية والنفسية والسياسية والثقافية، عن أعين الباحثين، ذلك «أن مقاومة المشركين للإسلام، رغم الجمود الظاهر لديانتهم، يمكن تعليله بأن دينهم، وإن لم يكن يلعب دورا كبيرا ظاهرا في حياتهم
(1) انظر سورة الزخرف: الآيتان 22- 23، سورة هود: الآية 116، سورة المزمل: الآيتان 11- 12، سورة الإسراء: الآية 16، سورة الواقعة: الآيات 41- 48، سورة الحاقة: الآيات 25- 29، سورة الهمزة: الآيات 1- 4، سورة سبأ: الآيات 31- 37، سورة غافر: الآيتان 47- 48، سورة إبراهيم: الآية 21، سورة الأحزاب: الآيتان 66- 67، سورة الأعراف: الآيات 36- 40، سورة الفرقان: الآية 21، سورة الأنعام: الآية 133، سورة الجاثية: الآية 31، سورة الجن: الآية 24، سورة النازعات: الآيتان 28- 29، سورة النبأ: الآيتان 21- 22، وانظر صالح أحمد العلي: محاضرات 1/ 357- 359.
(2)
محمد عزة دروزة: سيرة الرسول 1/ 165.
(3)
المرجع السابق 1/ 181- 182.
اليومية، إلا أنه كان متغلغلا ومتعمقا في اللاشعور فيهم، فهم يعيشون فيه دون أن يفهموه أو يدركوه، كما أنه لطول أمد استقراره لم تكن هناك حاجة للتحدث به أو الدفاع عنه. ولكن الإسلام بنقده لدينهم كان تحديه موجها لا إلى عقائدهم فحسب بل إلى ذاتيتهم وإلى كيانهم الروحي، فاندفعوا يدافعون عنه بقوة. ومما زاد في قوة هذه المقاومة، روح المحافظة التي تتجلى عند البدو بصورة خاصة.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تبين أثر روح المحافظة في المقاومة غير المفكرة التي واجهوا الإسلام بها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ «1» .. ومما زاد في عنف مقاومتهم أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للوحدانية كانت جديدة عليهم، فلم يكن قد أتاهم من قبله رسول» «2» .
ولا ريب أن هذا الدافع (اللاشعوري) هو الذي يفسّر لنا إصرار زعماء (الشرك) ، خلال تعذيبهم للمسلمين، وضغوطهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يدعوا سبّ آلهتهم وشتم آبائهم وأجدادهم وهو الأمر الذي كان يتكرر كثيرا في ميدان العلاقات الوثنية- الإسلامية، كما يفسّر لنا تشبث رجل عاقل كأبي طالب بدينه الوثني، رغم حمايته المعروفة لابن أخيه، بحجة أن هذا التغيير لا يليق برجل كبير موقر مثله.. فتغيير دين الآباء والأجداد (عار) لا يلائم كبار رجالات مكة وشيوخها أولئك الذين كان يقود خطاهم إحساس (رجعي) متأصل في نفوسهم، تعبر عنه الآية الكريمة، وقالوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «3» .. وغيرها كثير..
ولعل من أهم أسباب المقاومة كذلك- يقول دروزة- ما كان للزعامة الوثنية من دور خطير في المجتمع العربي حيث كان الزعماء- وخاصة الزعماء الأغنياء- يتمتعون بنفوذ السيادة.. ومنها ما كان من رسوخ عصبية التقاليد في المجتمع العربي، وما استهدفته الدعوة من هدم كثير من تقاليد العرب الأصلية والفرعية، أو تعديلها: كالشرك على أنواعه، والاستشفاع بالملائكة، وما شاب الشرك من وثنية مادية، وكالعصبية الاجتماعية الضيقة وما كانت تتشدد فيه من حزبيات عائلية
(1) سورة سبأ: الآية 43، وانظر: سورة الزخرف: الآيات 22- 24، سورة لقمان: الآية 21، سورة البقرة: الآية 170، سورة المائدة: الآية 104، سورة الصافات: الآيات 69- 71.
(2)
العلي: محاضرات 1/ 341- 342.
(3)
سورة الزخرف: الآية 23.
وقبلية «1» ، وشؤون القيان والمرأة والرقيق والتحريم والتحليل في كثير من الأمور.. وخوف الزعامة القرشية وأغنياء مكة معا على ما كان لهم ولمكة من مركز ومنافع أدبية ومادية عظيمة، بسبب وجود بيت الله في مكة وسدانتهم له..
ثم هناك ما أثاره فيهم الإنذار بالبعث والقيامة، والوصف المسهب للحياة الآخروية، الوارد في القرآن من عجب واستغراب، لا سيما أن هذا لم يكن مما هو معروف بهذه الصراحة والإسهاب عند الأمم الكتابية التي كان لها أثر في أفكار العرب ومعارفهم. ولعل في تجريد الأغنياء والأقوياء من أسباب قوتهم ومكانتهم، وتحقيرهم الدائم، إثارة للسواد على الزعماء وتحريضا على عصيانهم فيما يأمرونهم به من عدم الاستجابة إلى الدعوة. وقد كانت طبيعة النبي البشرية، من أسباب المقاومة كذلك.. إذ كان العرب يتخيّلون أن النبي لا بد أن يكون ذا قوى خارقة يفترق بها عن طبائع البشر ويستطيع أن يفعل ما لا يفعله سائر الناس من خوارق المشاهد.. فلما رأوه مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وسمعوه يعلن بلسان القرآن أنه بشر مثلهم.. جحدوا نبوته وكذبوا صلته بالله، ونعتوه بالمجنون والشاعر أو الساحر أو الكاهن «2» ..
ونمضي في تعمّق أسباب المقاومة الوثنية للدعوة، فنجد (وات) يحدثنا عن مجموعة أخرى من الأسباب، مؤكدا في الوقت نفسه دور الأسباب التي سبق ذكرها.. «إن السبب الأساسي في المعارضة كان بدون شك، أن زعماء قريش وجدوا أن إيمان محمد بأنه نبي ستكون له نتائج سياسية، وكانت السنة العربية القديمة تقول: إن الرئاسة في القبيلة يجب أن تكون من نصيب أكثر الرجال حظا من الحكمة والحذر والعقل، فلو أن أهالي مكة أخذوا يؤمنون بإنذار محمد ووعيده وجعلوا يستفسرون عن الطريقة التي يجب أن تدار بها شؤونهم، فمن ذا الذي يحق له نصحهم غير محمد نفسه؟» ويمضي وات إلى القول بأن زعماء مكة كانوا من بعد النظر بحيث أقروا بالتناقض بين تعاليم القرآن الأخلاقية ورأس المال التجاري الذي كان عماد حياتهم.. كما كان العرب بطبيعتهم، أو حسب تربيتهم محافظين.. ويقول الزهري بأن سبب المعارضة، بالإضافة إلى مهاجمة الأصنام، القول بأن مصير أجدادهم النار، ويرتبط احترام الأجداد هذا ارتباطا وثيقا بتقديس
(1) انظر تفسير ابن كثير لآيات سورة الأنعام: الآيات 33- 36.
(2)
انظر بالتفصيل: دروزة: سيرة الرسول 1/ 183- 193.
العادات والتقاليد القديمة. وبينما كان بعض المعارضين ذوي نزعة فردية قوية، فقد كان أكثرهم محافظة يعترف ببعض الولاء للجماعة، فكانوا يرون إذن في نزعة الإسلام لإحداث انقسامات حادة في العائلة دليلا آخر على أن التخلي عن الطريق الذي سلكه الأجداد يؤدي إلى نتائج وخيمة، وربما بدا لهم ذلك جديرا بتهديم المجتمع بأكمله، وكان هذا ما يحدث فعلا
…
وما يلبث (وات) أن يخلص إلى القول بأن أسباب معارضة الإسلام- إذا وضعنا جانبا كل مصلحة شخصية- كانت الخوف من نتائجه السياسية والاقتصادية والنزعة المحافظة الصرفة، وكانت المشكلة التي جابهها محمد لها جوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية، غير أن رسالته كانت في الأساس دينية بحيث أنها حاولت علاج الأسباب الدينية الكامنة لهذه المشكلة ولكنها انتهت لمعالجة الجوانب الآخرى ولهذا اتخذت المعارضة أشكالا مختلفة «1» .
إن شعار (لا إله إلا الله) الذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم برفعه في وجه الجاهلية، جاء انقلابا شاملا على كل المستويات الدينية والاجتماعية والفكرية والنفسية والأخلاقية والسياسية والسلوكية، إذ هو إشعار واضح بضرورة ردّ الأمر كله إلى الله (الحاكم) و (المشرع) وتجريد الإنسان فردا وجماعة، من الخضوع لمقاييسه الجزئية القاصرة، واتباع (الهوى) و (الظن) في كل صغيرة وكبيرة.
ولقد رأينا خلال عرضنا للطور العلني للدعوة أن جلّ كلمات القرشيين ومرتكزات حوارهم مع أبي طالب، أو مع محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، من أجل إقناعه بالعدول عن دعوته، ما كانت لتنصب على الدفاع عن مصالحهم المادية، بقدر تشبثها بمعتقداتهم وقيمهم، كما نلمح من خلالها إدراكهم الكامل لأبعاد عبارة (لا إله إلا الله) وخطورتها الشاملة إزاء وجودهم الجاهلي كله. ويمكن أن نذكر هنا- على سبيل المثال- رواية ابن سعد التي تقول إن وفدا من زعماء قريش قدموا إلى أبي طالب ليلتمسوا إليه أن يكف ابن أخيه، فاستدعاه وقال له «يا ابن أخي، هؤلاء عمومتك وأشراف قومك وقد أرادوا أن ينصفوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قولوا أسمع!! قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم. فقال رسول الله: أرأيتم إن أعطيتكم هذه، هل أنتم معطيّ كلمة
(1) محمد في مكة ص 214، 215- 216.