الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي
[1]
أخذت خلوات الرسول صلى الله عليه وسلم وانعزاله عن مجرى الحياة المكية الصاحب تزداد وتتسع وهو يقترب من الأربعين حيث أعده الله سبحانه لأول لقاء مع وحيه الأمين من أجل تكليفه مسؤولية النبوة وإخراج الناس- بها- من ظلمات الجاهلية ودنسها إلى نور الإسلام ونقائه. فكان يغادر مكة بين الحين والحين، مجتازا أسوارها الجبلية، منقلا خطواته الثابتة الواسعة عبر رمال الصحراء المترامية حتى تحجب عنه البيوت والأسواق ويغيبه الأفق وتستقبله شعاب مكة وبطون أوديتها ثم يلج بعيدا إلى جبل النور حيث ينتهي به المطاف إلى غار هناك يدعى (غار حراء) ، فيمكث فيه الأيام والأسابيع الطوال لا يعود إلى مكة إلا ريثما يتزود بالطعام والماء ثم يقفل عائدا إلى المكان الذي سيبعث فيه إلى العالم كله. وتذكر الروايات أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا فإذا قضى شهره ذاك انصرف إلى الكعبة فطاف بها سبعا ثم عاد إلى بيته «1» .
استغرق محمد صلى الله عليه وسلم في تفكير عميق مركز، كان يشغله أمدا طويلا، تفكير في حالة قومه وفي أوضاعهم وفي تقربهم من الأوثان، وفي الكون والحياة ومصير الإنسان، والموت وما بعد الموت، وفيما شاكل ذلك من أمور تطوف برأس المفكر المتبصر في هذه الحياة فتصرفه إلى النظر فيها وتبعده عن التفكير في التماس الملذات التي يقع في غرامها الإنسان في هذه السن على المعتاد. كان
(1) ابن هشام ص 45- 46 الطبري: تاريخ 2/ 300، ابن سعد 1/ 1/ 129، البلاذري: أنساب 1/ 105.
الرسول حائرا مفكرا يريد الوصول إلى شيء مقنع له مطمئن يحل له كل هذه الأسئلة والألغاز التي كانت قد تراكمت في فكره وتوالت عليه.. وتقول الأخبار إنه كان منذ صغره يحب الخلوة والانزواء.. حتى بانت عليه، إذ لم يظهر عليه ميل إلى عبث ولهو ولعب وغير ذلك مما يلهي من في سنه ويجعله يمضي وقته بها حتى يبلغ رشده. فعرف بين أهل مكة بالهدوء وبعدم الميل إلى المعاكسة..
كما عرف بالجد وبكراهيته العدوان وإهانة الناس والاستخفاف بهم ليتم وفقر وإملاق، كل ذلك حبه لأهل مكة ولقومه مما جعلهم ينظرون إليه نظرة تختلف عن نظرتهم إلى الآخرين من الشبان والرجال الطائشين النزقين «1» .
وراحت ملامح الطريق إلى النبوة تزداد ايحاء ووضوحا وتقترب بمحمد يوما بعد يوم من نداء الله. وتحدثنا عائشة رضي الله عنها أن أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده «2» .
وفي رمضان من السنة الأربعين من عمره خرج محمد صلى الله عليه وسلم كعادته إلى غار حراء متأملا متفكرا مقلبا وجهه في السموات، وفي ليلة اثنين من الليالي الأخيرة من الشهر نفسه جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. ولنستمع إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم نفسه وهو يحدثنا عن تجربة لقائه الأول الحاسم مع مبعوث الله إلى أنبيائه الكرام:
«فجائني جبريل وأنا نائم بخط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارىء. فغتني به «3» حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارىء. فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟
فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «4» فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت
(1) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، ص 144- 145.
(2)
ابن هشام ص 45، الطبري 2/ 298، ابن سعد 1/ 1/ 129، البلاذري: أنساب 1/ 105 البخاري: تجريد 1/ 5.
(3)
غتني: عصرني عصرا شديدا (عن تهذيب سيرة ابن هشام) .
(4)
سورة العلق: الآيات 1- 5.
صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل!! فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني. وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها «1» فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا ابن عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة!!» «2» .
وعن جابر قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت في حراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنودي، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر شيئا. فنظرت فإذا أنا به- يعني الملك- بين السماء والأرض، فانطلقت إلى خديجة فقلت: دثروني. فدثروني وصبوا علي ماء فأنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ «3» ..» «4» .
وقد رأى بعض الصحابة- فيما سيتلو من أيام- رسولهم صلى الله عليه وسلم وقد ظهرت وبدت عليه علائم نزول الوحي، ورأوه وقد نزل عليه الوحي واشتد به، وقد أجمعوا كلهم على أنه كان يعاني في أثنائه شدة وصعوبة، يبقى على ذلك ما شاء الله، فلا يهدأ ولا يذهب عنه الروع إلا بعد انتهاء الوحي، فيجلس عندئذ وقد تصبب عرقا، يجلس ليرتاح ويجفف عرقه، ثم يتلو على من عنده من أصحابه ما وعاه وما حفظه من الوحي. فإذا قصم عنه كان قد وعى كل ما قاله الملك له وحفظه لا يذهب عنه حرف. وقد ورد في سورة طه (المكية) ما يفيد أن
(1) مضيفا إليها: ملتصقا بها (عن تهذيب سيرة ابن هشام) .
(2)
ابن هشام ص 46- 47، الطبري: تاريخ 2/ 298- 302، وانظر البلاذري: أنساب 1/ 108- 110، البخاري: تجريد 1/ 5، المقدسي 4/ 140- 142. وفي عدد من الروايات إنها قالت له «ابشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقوي الضعيف وتعين على نوائب الحق» .
(3)
سورة المدثر: الآيتان 1- 2.
(4)
البخاري: تجريد 1/ 6، البلاذري: أنساب 1/ 109- 110.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه وذلك في الآية: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1» فحثّ على التثبيت في السماع وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقنه. وقد ورد في موضع آخر من القرآن الكريم: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
«2» .
انطلقت خديجة رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ورقة:«قدّوس، قدّوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر «3» الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت» . فرجعت خديجة وأخبرت محمدا بما قاله ورقة، فذهب بنفسه إليه وطلب ورقة منه أن يعيد حديثه، فلما أتمه صلى الله عليه وسلم قال ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذّبن ولتؤذين ولتخرجن ولتقاتلن! ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه.
ثم أدنى رأسه منه فقبّل يافوخه. ثم عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منزله «4» .
كانت خديجة رضي الله عنها أول المؤمنين بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لإيمانها ذاك أثر عميق في معنوية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجابه بالتوحيد شرك العرب جميعا، فكان كلما سمع من معارضيه ردا أو تكذيبا، شكى ما يلقى لزوجته البرّة فتثبته وتخفف عنه وتهوّن عليه أمر الناس. وكان علي رضي الله عنه أول من آمن من الذكور، ولم يتجاوز- بعد- العاشرة من عمره، حيث كان الرسول قد أخذه ليعيله في داره تخفيفا عن أبي طالب الذي لم يكن يملك ما يكفيه وأبناءه جميعا. وكان زيد بن حارثة ثالث من أسلموا، وكان هو الآخر يقطن مع الرسول
(1) سورة طه: الآية 114.
(2)
القيامة: 16- 19، وما بعدها عن جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام ص 134- 135، وانظر عن صور نزول الوحي ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 21- 22. وعن مفهوم الوحي ومداه وكيفية بدء اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم ووقت نزول القرآن وأوائل آياته وأثر الوحي لأول عهده في نفس النبي انظر: دروزة: سيرة الرسول، 1/ 121- 146 و Encyclopeadia of Islam مادتي Rasul و Nabi والفصل السادس من كتاب Tor Andrea: ومقال Bell في مجلة العالم الإسلامي) The Muslim World (عدد 24، سنة 1934.
(3)
الناموس الأكبر: الملك الذي جاءه بالوحي. وأصل الناموس صاحب سر الرجل (عن تهذيب ابن هشام) .
(4)
ابن هشام ص 48، الطبري 2/ 299- 302، ابن سعد 1/ 1/ 129- 130 وانظر البلاذري: أنساب: 1/ 111 والبخاري: تجريد 1/ 6.
صلى الله عليه وسلم في بيته، حيث كانت خديجة قد اختارته من بين عدد من العبيد الغلمان الذين استقدمهم أحد التجار من الشام فرآه الرسول فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه وتبناه قبل مبعثه. أما رابع المسلمين وأول الرجال فهو أبو بكر عتيق بن أبي قحافة الذي ما إن أسلم حتى راح يدعو إلى الله من يثق به محمد، ويتردد عليه ويجلس إليه.
وبجهوده ودأبه ومقدرته على الإقناع أسلم قادة الدعوة ورواد الحركة الإسلامية الأولى: عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله، وأعقب هؤلاء النفر التسعة مجموعة أخرى من المسلمين الأوائل وهم: أبو عبيدة بن الجراح، أبو سلمة بن عبد الأسد، الأرقم ابن أبي الأرقم، الذي اتخذ الرسول من داره الواقعة على الصفا مخبأ سريا للحركة الإسلامية، عثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، عبيدة بن الحارث، سعيد ابن زيد بن عمرو وامرأته فاطمة أخت عمر بن الخطاب، أسماء وعائشة ابنتا أبي بكر، خباب بن الأرت، عمير بن أبي وقاص، عبد الله بن مسعود، مسعود بن القارىء، سليط بن عمرو، عياش بن أبي ربيعة وامرأته أسماء بنت سلامة، خنيس ابن حذافة، عامر بن ربيعة، عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد، جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس، حاطب بن الحارث وامرأته فاطمة بنت المجلل وأخوه حطاب وامرأته فكيهة بنت يسار، معمر بن الحارث، السائب بن عثمان بن مظعون، المطلب بن أزهر وامرأته رملة بنت أبي العوف، نعيم بن عبد الله، عامر ابن فهيرة، خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف، حاطب بن عمرو، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، واقد بن عبد الله، خالد وعامر وعاقل وأياس بنو البكير بن عبد ياليل، عمار بن ياسر وأبوه وأمه، صهيب بن سنان الرومي «1» .
ويلاحظ أن أول من أسلم كان من أحداث الرجال أو من لدات الرسول صلى الله عليه وسلم أو ممن لا يكبره في السن كثيرا، أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته استكبارا وأنفة، فللسن عند العرب منزلة.. والعرف أعمق جذورا في نفوس المسنين. وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه وما ورثه عن آبائه وأجداده «2» ولم يكن عدد المسلمين قد جاوز الأربعين شخصا في هذه الفترة، هم
(1) ابن هشام ص 49- 54، الطبري: تاريخ 2/ 306- 307، 309- 318، البلاذري: أنساب 1/ 112- 113، المسعودي: مروج 2/ 276- 278، اليعقوبي 2/ 18- 19، المقدسي 4/ 143- 146، ابن الأثير: الكامل 2/ 57- 60 ابن كثير: البداية 3/ 24- 33.
(2)
جواد علي: تاريخ ص 157.
كل من أسلموا خلال هذه المدة: ثلاث أو أربع سنين، وكل ذخيرة الإسلام وعدته للمستقبل. وهي مدة طويلة كان من الممكن إسلام أضعاف أضعاف هذا العدد لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بالدعوة فيها جهارا، ولكنه لم يكن يومئذ قد كلّف وجوب الجهر بالإسلام وبالتبليغ إلا لمن وجد في قلبه ميلا للإسلام، ولهذا لم يتجاوز المسلمون يومئذ العدد المذكور القليل بالنسبة لسكان مكة- الذين كانوا عدة آلاف- والكثير في اتحاده وإيمانه وقوة عقيدته وتضحيته في سبيلها «1» .
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه بالتزام الحيطة والحذر والتخفي وعدم الإعلان عن الإسلام إلى أن يقضي الله أمره. فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا فرادى إلى الشعاب والبرية يصلون على حذر ولهم عيون ترى القادم لتنبيه المصلين عليه فلا يؤخذوا على غرة، ويظهر أمرهم للناس، وقد بقوا على ذلك طوال مدة الاستخفاء «2» . ويحدثنا ابن هشام كيف أن سعد بن أبي وقاص خرج يوما في نفر من المسلمين الأوائل إلى شعب من شعاب مكة، فإذا بجماعة من المشركين يظهرون عليهم، وهم يصلون فاستنكروا عملهم وعابوا عليهم ما يصنعون، وما لبث الطرفان أن دخلا في شجار عنيف واضطر سعد- يومئذ- أن يجرح رجلا من المشركين، فكان كما يقول ابن هشام «أول دم أهرق في الإسلام» «3» وكان سعيد ابن زيد يقول: استخفينا بالإسلام سنة، ما نصلي إلا في بيت مغلق أو شعب خال ينظر بعضنا لبعض «4» . وفي رواية للبلاذري أن النبي وأصحابه كانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فصلوا، فرادى ومثنى، فبينما رجلان من المسلمين يصليان في إحدى شعاب مكة إذ هجم عليهما رجلان من المشركين «كانا فاحشين» فناقشوهما ورموهما بالحجارة، ساعة، حتى خرجا فانصرفا «5» .
هذان الحادثان من الاعتداء على المسلمين خلال صلاتهم في الشعاب، وأمثالهما وإن بدوا وكأنهما عبث من عبث الصبيان، لكنهما تركا أثرا في نفوس جهال مكة، وحمل الرسول على نصح المسلمين بالتخفي والتزام البيوت مدة من الزمن حتى تستقر الأحوال وتهدأ الأعصاب ودخل هو وجماعة من أصحابه بيت الأرقم بن أبي الأرقم وبقي فيه مختفيا مع جماعته لا يخرج إلى أن أذن الله له
(1) جواد علي: تاريخ ص 158.
(2)
المرجع السابق ص 159.
(3)
تهذيب ص 54- 55، الطبري: تاريخ 2/ 318، البلاذري: أنساب 1/ 116.
(4)
أنساب: 1/ 116.
(5)
المصدر السابق: 1/ 117.
بالخروج. وكان بعض المسلمين الذين بقوا خارج البيت يراجعون دار الأرقم لتلقي أوامر النبي وتنفيذ ما يحتاج إليه. وفي هذه الدار أيضا أسلم بعض المسلمين
…
وليس في كتب الأخبار والسير والتواريخ تاريخ مضبوط للوقت الذي استخفى فيه الرسول والمسلمون في دار الأرقم. فالروايات في ذلك مضطربة، ولكن المرجح على ما يبدو من غربلتها أنه كان في أواخر السنة الثالثة من النبوة أو في السنة الرابعة أي في أواخر عهد الكتمان.. والروايات متضاربة في مدة الاستخفاء في دار الأرقم فهناك من يجعل مدتها شهرا فقط «1» ثم إنها متضاربة كذلك في كيفية الاستخفاء هل كان استخفاء تاما من الناس في تلك الدار فلا يخرج منها أحد؟ أو كان استخفاء في أوقات قصيرة من النهار وذلك في أوقات اجتماعهم بالنبي مثلا لأجل الصلاة وتوضيح الإسلام والتبشير به من الله وقبول أحد فيه «2» ؟
ويؤكد أرنولد أن شدة معارضة قريش (ربما) كانت السبب الذي من أجله اتخذ محمد صلى الله عليه وسلم مقره في السنة الرابعة من البعثة في دار الأرقم.. وكانت هذه الدار في مركز متوسط يؤمها الحجيج والغرباء. وقد استطاع الرسول أن يواصل فيها نشر مبادىء الإسلام بين الذين كانوا يقصدونه في هدوء وطمأنينة. وتعد الفترة التي قضاها محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدار فترة هامة في الدعاية الإسلامية بمكة حتى أن كثيرا من المسلمين يؤرخون دخولهم في الإسلام بتلك الأيام التي كان الرسول يبث فيها الدعوة بدار الأرقم «3» .
إلا أن سرية الدعوة في هذا العهد وتواصي المسلمين بالحذر والحيطة وتلافي الاصطدام المباشر مع المشركين، لا يعني أن المجابهة العقيدية بين الدين الجديد والشرك كانت صامتة، بل إننا نجدها على أعنف ما تكون في القرآن الكريم نفسه وفي آياته الأولى. ففي سورة العلق حملة عنيفة على أحد زعماء قريش، في وقت لم يكن النبي قد آمن بدعوته- بعد- سوى نفر يعدون على الأصابع، ومن ثم يتبين لنا الموقف العصيب الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم والجرأة
(1) السيرة الحلبية: 1/ 319.
(2)
جواد علي: تاريخ ص 165- 166.
(3)
الدعوة إلى الإسلام ص 38 وعن دار الأرقم: انظر Encyclopeadia of Islam vol I.p.p. 434 -53.