المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لها ذلك العمل خفاء أكثر ويظهر من نياتها وأعمالها ما - دراسة في السيرة

[عماد الدين خليل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌الفصل الثالث مسائل من العصر المكي

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌«3»

- ‌[4]

- ‌الفصل الرابع تحليل للهجرة

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌الفصل الخامس دولة الإسلام في المدينة

- ‌[القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة]

- ‌أولا: المسجد:

- ‌ثانيا: الصحيفة:

- ‌ثالثا: المؤاخاة:

- ‌رابعا: الجيش:

- ‌الفصل السادس الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى)

- ‌السرايا

- ‌[منجزات السرايا]

- ‌1- الاستطلاع:

- ‌2- القتال:

- ‌3- الكتمان:

- ‌4- الحصار الاقتصادي:

- ‌معركة بدر الكبرى

- ‌[أسباب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى]

- ‌القيادة الموحدة:

- ‌التعبئة الجديدة:

- ‌العقيدة الراسخة:

- ‌المعنويات العالية:

- ‌معركة أحد

- ‌معركة الخندق

- ‌الفصل السابع الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية)

- ‌صلح الحديبية

- ‌فتح مكة

- ‌عام الوفود وتصفية الوجود الوثني

- ‌الفصل الثامن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية

- ‌[1]

- ‌«2»

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل التاسع الصراع ضد اليهود

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌[6]

- ‌[7]

- ‌[8]

- ‌الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني

- ‌[1]

- ‌[2]

- ‌[3]

- ‌[4]

- ‌[5]

- ‌قائمة بأهم المصادر والمراجع

- ‌المصادر (القديمة)

- ‌المراجع (الحديثة)

- ‌المراجع الأجنبية

الفصل: لها ذلك العمل خفاء أكثر ويظهر من نياتها وأعمالها ما

لها ذلك العمل خفاء أكثر ويظهر من نياتها وأعمالها ما هو طيب مقبول، ولكنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى تمزق وانشقاق في قلب المجتمع الإسلامي، وفي أي شيء؟ في المسجد الذي هو مركز الجماعة الإسلامية ومنطلق نشاطاتها المختلفة، وقلبها الذي لا يكف عن الخفقان!!

ومن هناك، وبعد المباركة التي سيمنحها الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدهم هذا، سينطلق المنافقون، وقد أبدوا نية حسنة وبنوا مسجدا جديدا، لاستقطاب العناصر القلقة في المجتمع الإسلامي وضمها إلى صفوفهم، وتوسيع قواعدهم بين المسلمين، وإطلاق الشائعات وبذل نشاط واسع من هذا المسجد، بقيادة زعيمهم الذي كان قد لحق بالشام وتنصّر!! للاتصال بغير المسلمين كذلك لرسم الخطط وتحديد أساليب العمل، وهم في حماية من غضبة المسلمين وفي أمان من الانكشاف، ما داموا يمارسون نشاطاتهم تلك من قلب المسجد الذي باركه الرسول صلى الله عليه وسلم. والذي يؤكد هذا، أن تصاعد نشاط المنافقين في أقوالهم وأعمالهم، والذي رافق محنة تبوك- كما رأينا- جاء موازيا لبناء هذا المسجد الذي تم إنشاؤه قبيل التجهز لغزو الروم. وعندما هرع مبعوثا الرسول صلى الله عليه وسلم لتهديم بؤرة النفاق هذه وجدا في باحتها أولئك الذين أقاموها.. وربما كانوا يمارسون من هناك نشاطهم المسموم. وهذا الأسلوب في العمل التخريبي، وهو اعتماد قيم ومؤسسات مجتمع أو عقيدة ما لتخريب أسس ذلك المجتمع وعقائدياته وتدمير معنويات أصحابه، معروف على مرّ العصور، وليست هذه التجربة التي فضحها القرآن الكريم إلا علامة تحذير دفعت المسلمين إلى مزيد من الحذر واليقظة!!

[5]

وكما حدث بالنسبة لليهود، مضت المراحل الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام يزداد قوة ومنعة وانتشارا، وزعماء القبائل العربية وأمراؤها ينهالون على المدينة معلنين إسلامهم ومبايعين رسولهم الكريم. ولم يجد المنافقون منفذا يتسللون منه لتسديد ضربة مؤذية أو تنفيذ مخطط تخريبي جديد، سيما وأن زعيمهم عبد الله بن أبيّ كان قد توفي في أواخر السنة التاسعة «1» ، وكانت الآيات

(1) الطبري: تاريخ 3/ 120.

ص: 322

القرآنية قد نزلت- أخيرا- تندد بما فعل ويفعل أولئك المنافقون، وتمزق- بشكل نهائي- الأستار التي يتوارون خلفها. وكانت ألاعيبهم قبل تبوك وبعدها هي النهاية الحاسمة للسماحة التي مرحوا في سعتها طويلا ولم يقدروها حتى قدرها، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن على الناس ذبذبتهم ونكوصهم، وكلف ألا يقبل منهم ولا يصلي عليهم «1» ، بل أعلم أن استغفاره لهم لن يجاب، ثم طولب المسلمون كافة أن يقاطعوهم «2» .

إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أن توفي حتى وجد المنافقون المنسربون في حنايا المجتمع الجديد، والذين ازداد عددهم كثرة في أعقاب انتصار الإسلام الحاسم وتفرده بالسلطان، حيث انتمى إليه الكثيرون من العرب رغبا ورهبا، وهم لا يزالون يحملون عاداتهم وممارساتهم القديمة وتسيبهم وانفلاتهم الجاهلي المعروف، وجدوا فرصتهم السانحة فراحوا يتكالبون، كما تكالب غيرهم من أعداء الإسلام ضد الدولة التي مات قائدها ومؤسسها، وليس أدل في هذا المجال من حديث عائشة رضي الله عنها حيث تقول:«لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى جمعهم الله على أبي بكر» «3» . ومن ثم فإن لنا أن نتصور حجم الدور الذي مارسه المنافقون في حركات الردة والتنبؤ في عهد أبي بكر.. وفيما بعد، في الفتنة التي زعزعت أركان الخلافة الراشدة، وهو ولا ريب دور كبير وخطير بمجرد أن نطلع على التكوين القلبي للمنتمين إلى الفتنة وعلى أسماء قادتها وزعمائها!!

(1) سورة التوبة: الآية 84.

(2)

الغزالي: فقه السيرة ص 448. وانظر دروزة 2/ 82.

(3)

ابن هشام: ص 404.

ص: 323

الخاتمة

عندما حان موعد الحج من العام العاشر للهجرة، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيحج بنفسه في الناس هذا الموسم، وأمر بالتجهز للذهاب إلى مكة، ثم ما لبث أن غادر المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة. وانهال المسلمون على مكة من كل مكان لكي يشهدوا أول حجة على الطريقة الإسلامية التي لا دخل فيها من طقوس وثنية، وليلتقوا برسولهم الكريم ويقبسوا عنه مزيدا من التعاليم.

وبدأت مراسيم الحج فانطلق آلاف المسلمين، القدماء والجدد، وراء نبيهم ومعلمهم وهو يريهم مناسكهم ويعلمهم سنن حجهم. ورأى أن يفيد من فرصة التجمع الكبير هذه فيلقي في أتباعه خطابا جامعا يؤكد فيه القيم والتعاليم التي بعث من أجلها، وكأنه كان يدرك، بإحساسه العميق، أن هذه هي آخر فرصة يلتقي فيها بحشد كبير من أتباعه كهذا الذي يلتقي به اليوم، فوقف بين أيديهم في عرفات، وشفق المغيب يلقي على جبهته مزيدا من النور والمهابة والجلال، وراح يلقي كلماته التي سميت فيما بعد بخطبة الوداع، ومن ورائه رجل جهوري الصوت يصرخ بكلمات الرسول ليسمعها ألوف الحجيج:«أياه الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم- وقد بلغت- فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب «الذي قتلته هذيل» فهو أول ما أبدأ

ص: 324

به من دماء الجاهلية

أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. أيها الناس إن النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ

«1» أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، واستوصوا (بهن) خيرا فإنهن عندكم عوان (أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله.. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلّغت. وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيّنا كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن إن كل مسلم أخ للمسلم، وإن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم.

اللهم هل بلغت؟» أجابه المسلمون جميعا: اللهم نعم، فقال «اللهم اشهد» «2» .

وبعد ذلك بقليل، قال الرسول للوفود المحتشدة حوله عند جمرة العقبة، ما يشعر بحلول الأجل القريب (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا)«3» .

في مطلع ربيع الأول من العام التالي (11 هـ) خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد حيث تنتشر مقابر أهل المدينة، فناداهم واستغفر لهم (السلام عليكم أهل المقابر ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرّ من الأولى..) ورجع إلى أهله. وحينذاك بدأ وجع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي انتهى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه! فقال: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه

» وراح يدور على نسائه، وأوجاعه تزداد وطأة، حتى غلبته على نفسه فاستأذن أزواجه أن يمرّض في

(1) سورة التوبة، الآية:37.

(2)

ابن هشام ص 272- 274 الطبري 3/ 148- 152 ابن سعد 2/ 1/ 124- 136 البخاري: تجريد 2/ 98- 99، اليعقوبي: تاريخ 2/ 99- 102 المسعودي: مروج 2/ 290، التنبيه ص 239- 240 ابن الأثير: الكامل 2/ 302- 303. وعن نص الخطبة انظر: حميد الله: الوثائق ص 360- 362، ابن حزم: جوامع ص 260- 262. وعن تفاصيل حجة الوداع انظر: ابن كثير: البداية 5/ 109- 214.

(3)

الغزالي: فقه السيرة ص 490.

ص: 325

بيت عائشة رضي الله عنها فأذنّ له. وخرج يمشي بين رجلين من أهله، علي والفضل بن عباس، عاصبا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيت عائشة «1» .

أخذت الحمى تزداد شدة، حتى أن الرسول طلب من أهله أن يريقوا عليه «سبع قرب من آبار شتى» ، ولما راحوا يصبون عليه الماء طفق يقول «حسبكم حسبكم» وعندما أحسّ ببعض الارتياح خرج إلى المسجد عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فكان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال:«إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله» .

فهم أبو بكر مغزى كلام الرسول وعرف أنه يريد نفسه، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم:«على رسلك يا أبا بكر» ثم التفت إلى من حوله وقال: (انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها، إلا بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه.. ولو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده)

وعاد إلى بيته ودهمته نوبة الحمى والألم مرة أخرى «2» .

طلب الرسول- بعد أن أعجزه المرض عن أداء مهامه- أن يأمروا أبا بكر ليصلي بالناس، فقالت عائشة: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال: فمروه فليصل بالناس.. وكانت عائشة ترمي من وراء ذلك ألا يدفع أبوها إلى موقف يؤدي إلى تشاؤم الناس منه: «لأن الناس لا يحبون رجلا قام مقام نبيهم أبدا» .. فصلى أبو بكر بهم ثلاثة أيام «3» .

وفي يوم الاثنين الذي توفي في ضحاه (12 ربيع الأول) خرج صلى الله عليه وسلم لكي يلقي نظرة على أصحابه، وهم يقفون صفوفا يؤدون الصلاة، وما أن رفع الستر وأطل على المسلمين حتى كادوا يفتنون في صلاتهم برسول الله حين رأوه فرحا به، وانبسطت سرائرهم فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسّم سرورا لما رأى من هيأتهم في صلاتهم. ونكص أبو بكر إلى الوراء اعتقادا منه أن الرسول سيؤم بنفسه المسلمين في صلاتهم هذه، إلا أن الرسول تقدم إليه ودفعه في ظهره قائلا:

(1) ابن هشام ص 377- 378، 385 الطبري 3/ 188- 189 ابن سعد 2/ 2/ 9- 11 البلاذري: أنساب 1/ 543- 545.

(2)

ابن هشام ص 385- 386 الطبري 3/ 190- 191 ابن سعد 2/ 2/ 25- 26 البلاذري 1/ 546- 547.

(3)

ابن هشام ص 388 الطبري 3/ 196- 197 ابن سعد 2/ 2/ 18، 20- 21 البلاذري 1/ 554- 557.

ص: 326

صلّ بالناس، وجلس إلى جنبه، وصلى قاعدا عن يمين أبي بكر. فلما فرغوا من الصلاة راح الرسول يتحدث إليهم رافعا صوته، حتى ظن أصحابه أن قد زال ما به من وجع واستأذنه أبو بكر في الذهاب إلى أهله بالسنح، إحدى ضواحي المدينة، وسأل الناس عليا: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا «1» !!.

لكن تلك الإشراقة لم تكن سوى صحوة الموت، ولنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تحدثنا عن اللحظات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: «رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل عليّ رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر، فنظر رسول الله إليه في يده نظرة عرفت أنه يريده فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟

قال: نعم. فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه. ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت انظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول:(بل الرفيق الأعلى من الجنة)، فقلت: خيّرت فاخترت والذي بعثك بالحق! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وهو يقول:

(قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويردّد (الصلاة وما ملكت أيمانكم) حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه «3» .

انقضّ نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه المتجمهرين في الخارج انقضاض الصاعقة، وراح عمر بن الخطاب يقول: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل:

قد مات. والله ليرجعنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات» «4» .

(1) ابن هشام ص 389- 390، 391 الطبري 3/ 187، 198- 199 ابن سعد 2/ 2/ 17- 19 البلاذري: أنساب 1/ 557- 558، 561.

(2)

ابن هشام ص 391- 392 الطبري 3/ 199 ابن سعد 2/ 2/ 27- 28، 30 البلاذري: أنساب 1/ 549 البخاري: تجريد 2/ 105- 106.

(3)

ابن ماجه 2/ 155، أحمد 3/ 117 وانظر الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 346) :«اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد» . وانظر: ابن هشام ص 404 ابن سعد 2/ 2/ 47 البلاذري أنساب 1/ 551.

(4)

ابن هشام ص 392 الطبري 3/ 200 ابن سعد 2/ 2/ 53- 54، 55- 56، 57 البلاذري أنساب 1/ 565- 567.

ص: 327

وأقبل أبو بكر- حين بلغه الخبر- حتى نزل على باب المسجد، وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله مسجى في ناحية البيت.. فأقبل حتى كشف عن وجهه وقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة لتي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ الغطاء على وجه رسول الله ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، انصت!! فتجمهر حوله الناس ورنوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «1» .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فو الله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فدهشت وتحيرت، حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات «2» !!.

(1) سورة آل عمران: الآية 144.

(2)

ابن هشام ص 393 الطبري 3/ 200- 201، 202- 203 ابن سعد 2/ 2/ 52- 53، 54- 57 البلاذري: أنساب 1/ 566.

ص: 328