الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[5]
وما لبثت هزيمة أحد أن أفسحت لليهود مجالا ينفسون فيه عن أحقادهم ويظهرون ضغائنهم على الإسلام ونبيه، وراحوا يطلقون الأقوال السيئة ويقولون: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه، حتى أن ذلك استفز عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستأذنه في قتل الرؤوس اليهودية التي نفثت سمومها في قلب المحنة فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عمر إن الله مظهر دينه ومعزّ نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم «1» . ولم يقف اليهود عند حدود الحرب النفسية بل إنهم مضوا إلى أبعد من ذلك مستغلين فرصة ضعف المسلمين ومأساتي الرجيع وبئر معونة وتألب الأعراب الوثنيين ضدهم فقرر زعماء بني النضير «2» التامر على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة.
ذلك أنه ذهب إلى حصونهم، بصحبة عدد من كبار أصحابه، يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، كان أحد أصحابه قد قتلهما خطأ في أعقاب نجاته من مجزرة بئر معونة، وفق ما تقضي به المواثيق التي كان اليهود قد أمضوها مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعندما عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجله، قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- وكان صلى الله عليه وسلم قد جلس يستريح أسفل جدار بيت من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا لذلك، وصعد لتنفيذ المهمة، فنزل الوحي الأمين لكي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أراد القوم، فما لبث أن غادر المكان عائدا إلى المدينة، ولما انتظره أصحابه طويلا ولم يعد، قاموا في طلبه، وفي الطريق لقوا رجلا مقبلا من المدينة أعلمهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم داخلا، ولما التقوا به أخبرهم بما اعتزمه اليهود من الغدر به. وأرسل إلى بني النضير ينذرهم بضرورة مغادرة المدينة خلال عشرة
(1) الواقدي: 1/ 317- 318، المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 165.
(2)
عن أصل بني النضير وبني قريظة انظر Margoliuth:The Relations between Arabs Israelites ،Lec ،3.:
أيام وإن من شوهد منهم بعد انتهاء المدة ضربت عنقه. لكن اليهود لم يستجيبوا للإنذار وراحوا يهيئون أنفسهم لحصار طويل، وحينذاك أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره بالتهيؤ للمسير إلى حصون بني النضير وقتالهم.
ما إن علم بنو النضير بتحرك المسلمين حتى لجؤوا إلى حصونهم يحتمون بها، ففرض المسلمون الحصار عليهم، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وتحريقها لإرغامهم على التسليم وهم الحريصون على المال والمتاع، فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهي عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها؟
فلم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لمثالياتهم التي يعرف جيدا أنهم أول الناس بتخطيها إذا ما تعارضت ومصالحهم، فشدد الحصار عليهم. وراح بنو النضير يقاومون بانتظار النجدة التي وعدهم بها عبد الله بن أبيّ زعيم المنافقين، دون جدوى، وبدأ الرعب يدب في نفوسهم، ثم ما لبثوا أن أعلنوا عن استسلامهم، بعد خمسة عشر يوما من الحصار، وموافقتهم على الجلاء أسوة برفاقهم من بني قينقاع، على أن يحقن الرسول صلى الله عليه وسلم دماءهم ويسمح لهم بحمل ما تقدر إبلهم على حمله فيما عدا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، فحملوا إبلهم الكثير من الأموال والمتاع وانطلقوا شمالا حيث استقر بعضهم في خيبر وعلى رأسهم زعماء بني النضير: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب حيث دان لهم أهلها بالطاعة، واستمرت طائفة أخرى في مسيرها صوب الشام. ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه على ما تركوه من أموال، فقسمها على المهاجرين الأولين الذين كانوا يعانون الفقر والجوع ولم يمنح للأنصار شيئا سوى رجلين فقيرين منهم، رغبة منه صلى الله عليه وسلم في إعادة التوازن الاجتماعي بين أصحابه، وهي سابقة عملية أخرى، لا تقل خطورة عن تجربة (المؤاخاة) في دلالتها الاجتماعية على رغبة الإسلام العميقة في تنفيذ التوازن الاجتماعي وتذويب الفروق الطبقية بين فئات المجتمع الواحد، وإحلال التعاون والوفاق محل التقاتل والتحاقد والصراع «1» .
ولم يفلت عمرو بن جحاش من طائلة العقاب إذ سرعان ما أمر الرسول ابن يامين بن عمير- الذي أعلن إسلامه خلال فترة الحصار- أن يدبر أمر اغتياله
(1) ابن هشام ص 202- 205: الطبري: تاريخ 2/ 550- 555، ابن سعد 2/ 1/ 40- 42، الواقدي 1/ 363- 380، اليعقوبي 2/ 40، ابن الأثير: الكامل 2/ 173، البلاذري: فتوح البلدان 1/ 18- 19، أنساب 1/ 339، ابن حزم: جوامع السيرة ص 181- 182، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 74- 80، المقدسي 4/ 212- 213.