الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذا الموضوع!! وسيؤكد سياق الأحداث هذا الذي نذهب إليه.
ومن هذا الخطأ يجد ولفنسون وعدد من المستشرقين أنفسهم مسوقين إلى خطأ آخر، وهو أنه ما دام القتال قد نشب بين المسلمين واليهود في أعقاب بدر فإن معنى هذا أن اليهود كان عليهم أن يندمجوا في الدين الجديد أو أن يجابهوا (بحرب دموية) حتى يفنوا أو يجلوا إلى مكان بعيد.. وأنه ما دام قد وقع قتال بين الطرفين فإن معنى هذا «أن المهاجرين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر نتيجة مقاومة اليهود في يثرب لأن حالتهم كانت سيئة جدا، إذ لم يكن لهم مال ولا مزارع ولا منازل بل كانوا يسكنون مع الأنصار من الأوس والخزرج» «1» .
وفات هؤلاء المؤرخين أن طبيعة التعارض العقائدي بين الدينين اللذين يقوم أحدهما على (الانفتاح الكامل) والآخر على (الانغلاق الكامل) كان لا بد وأن يؤول إلى صراع حاسم من أجل انفراد أحدهما بالكلمة العليا، حتى لو كان المهاجرون يسكنون القصور الفخمة ويأكلون أحسن الطعام!! وهل بالإمكان- فوق هذا كله- أن يتناسى المؤرخ الجاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يشن حربا إلا ضد الفئة اليهودية التي تبدأ بالعدوان، أو أن يتجاهل مغزى إصدار الدستور الذي منح اليهود حريتهم الدينية والمدنية الكاملتين دون قيد زمني مشروط؟
[3]
بدأ النزاع بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود بالمناقشة الدينية المتبادلة بين الطرفين، فكان أحبار اليهود يوجهون الأسئلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلون فيها إلى حد التعنت، وكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه، وكانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتي إليهم بالمعجزات. ثم انتقلت المناقشة إلى مخاصمة كلامية فجعل التنزيل يلوم اليهود ويعنفهم وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ «2» . ثم ظهرت العداوة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يطعن في يهود يثرب، وأخذ اليهود يرمون الأنصار بقوارص الكلم.. وهكذا اشتد النفور حتى كانت المخاصمات تقع بين اليهود
(1) إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود ص 126- 127.
(2)
سورة البقرة: الآية 101.
والأنصار في الشوارع. ولم يمض ثمانية عشر شهرا على قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب حتى تليد الجو بالغيوم الكثيفة وجعل كل فريق يتواصى بالحذر والنفور من الفريق الآخر «1» .
وزاد الأمر توترا انضمام المنافقين إلى اليهود في حربهم النفسية مع المسلمين. ولقد جاء في الآيات الأولى من سورة البقرة، التي هي أول السور المدنية في ترتيب النزول وبصدد الحديث عن المنافقين وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، فقد قال جمهور المفسرين إن شياطينهم هم اليهود، ويدل هذا على أن اليهود هم الذين أغروا المنافقين بالنفاق أو شجعوهم في مواقف الخداع، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يغب عنهم ذلك «2» .
وبلغ الجدل بين محمد صلى الله عليه وسلم واليهود مبلغا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه، فقد نزل إحدى وثمانون آية من سورة البقرة، وقسم كبير من سورة النساء وكله يذكر هؤلاء اليهود وإنكارهم لما في كتابهم ويلعنهم، لكفرهم وإنكارهم، أشد اللعنة «3» .
ولم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، ولم يكفهم فتنة الناس عن دينهم، ومحاولة ردهم إلى الشرك، دون تهويدهم، وصدهم من يريد الإسلام من المشركين، بل حاولوا فتنة محمد صلى الله عليه وسلم كما رأينا- بإلقاء أسئلة محرجة عليه- مستعينين بما عندهم من علم الكتاب- كان القرآن يتصدى لدحضها أو الإجابة عليها، أو فضح نواياها «4» .
وحين ضاق اليهود ذرعا بمحمد فكروا في أن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلته قريش عن مكة، فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا إلى بيت المقدس وكان مقامهم به.. لكن محمدا أدرك ما يرمون إليه، وأوحى الله إليه على رأس سبعة عشر شهرا من مقامه بالمدينة أن يجعل قبلته المسجد الحرام،
(1) تاريخ اليهود، ص 123- 125.
(2)
سورة البقرة، الآية:14. دروزة: سيرة الرسول 2/ 121.
(3)
انظر: سورة البقرة: الآيات 87- 89، تفسير الطبري 2/ 333.
(4)
الشريف: مكة والمدينة ص 474- 479.
بيت إبراهيم وإسماعيل «1» ، فأنكر اليهود ذلك وأدركوا مدى خطورته، إذ أنه بادرة لتوحيد العرب وتجميعهم حول الدين الجديد، وفرض مزيد من العزلة على اليهود، لذلك أنكروا هذا وحاولوا فتنة النبي مرة أخرى بقولهم: إنهم يتبعونه إن هو رجع إلى قبلته الأولى «2» . ويوما بعد يوم اشتد النفور بين الطرفين، وكثرت بينهم المخاصمات، وبدت الكراهية والبغضاء، حتى نزل القرآن ينهى عن الاختلاط باليهود واتخاذ بطانة للمسلمين منهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «3» .
ورغم هذه المواقف العدائية العامة التي صدرت عن الأكثرية الساحقة من اليهود فإننا نجد ثمة آيات تضمنت استثناء لبعضهم وتنويها بسلامة مواقفهم واعتدالهم ومنها ما تضمن إشارة إلى إيمانهم وإخلاصهم، مما يدل- من جهة- على أن فئة من اليهود- وفيها فريق من العلماء- قد استطاعوا أن يفلتوا من المؤثرات العنصرية والاقتصادية والنفسية والأنانية التي خضع لها اليهود، فلم يسعهم إلا أن يصدقوا بالنبي ويؤمنوا بالتنزيل
…
ومن جهة أخرى على أن الدعوة النبوية قد قوبلت باستجابة حرة لا إكراه فيها من بعض اليهود في العهد المدني، بل عن إقبال قد يؤدي إلى أذى المقبلين كما كان في العهد المكي.. وعلى أن مواقف الكيد والتامر إنما كانت لأسباب لا تمت إلى الحق والإنصاف، بل إلى هوى الأحبار والزعماء وأغراضهم. وهذا وذاك يدعم ما قلناه من أنه لم تكن هناك أية فكرة مضادة لليهود منذ البدء كعنصر ولليهودية كدين «4» . ولقد قامت علاقة طيبة بين المهاجرين وبعض اليهود حتى ليغشون مجالسهم ويذهبون إلى بيوت
(1) سورة البقرة: الآية 144.
(2)
سورة البقرة: الآيتان 142- 143.
(3)
سورة آل عمران: الآيتان 118- 119، الشريف: مكة والمدينة 479- 483. وانظر بالتفصيل عن مواقف اليهود إزاء الدعوة، ومجادلاتهم وحربهم النفسية والفكرية: دروزة: سيرة الرسول 2/ 130- 165. وعن دسائسهم وتامرهم مع المنافقين والمشركين ضد المسلمين انظر: المصدر نفسه 2/ 166- 186.
(4)
دروزة: سيرة الرسول 2/ 207- 208 وانظر: سورة البقرة: الآيات 59، 62، 66، 80، 83، وسورة آل عمران: الآيات 113- 115، 199، وسورة النساء: الآية 162.
مدارسهم، يتحدثون إليهم ويسألونهم ويسمعون منهم، ويرون التوراة تصدق القرآن والقرآن يصدق التوراة «1» . ولن ننسى هنا إسلام الحبر اليهودي المعروف عبد الله بن سلّام القينقاعي وأهل بيته «2» ، ومجابهته اليهود بإسلامه ودعوته إياهم إلى الدين الجديد «3» .
وبدأ الصراع المرير بين الإسلام وبين الوثنية العربية بقيادة قريش حروب عصابات وحصارا اقتصاديا أول الأمر، ومجابهات عسكرية نظامية حاسمة بعد ذلك.. وبدأ يتضح لليهود- بعد الانتصار الذي حققه المسلمون في بدر- أن بقاءهم ساكتين إزاء ما يجري من صراع سيمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من تصفية أعدائه وتعزيز مركز الدولة الإسلامية في الجزيرة، وسيجد اليهود أنفسهم آنذاك منفردين بمواجهة الإسلام، مرغمين على قبول سلطته السياسية بشكل نهائي، وهذا ما لا يمكن أن يتصوروه لأنه يمثل خطرا على مصالحهم وانغلاقهم وتفرّدهم التاريخي الطويل بالسلطان. ومن ثم بدؤوا يتحركون باتجاهات شتى لعرقلة الحركة الإسلامية، ووضع المصاعب في طريقها وسحقها في نهاية المطاف، ضاربين عرض الحائط بكل التزاماتهم تجاه الإسلام في الدستور الذي وقعوه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يدع اليهود، في تحركاتهم المضادة تلك، أسلوبا إلا اتبعوه تصعيدا للحرب النفسية والمطاردات الجدلية «4» ، فتنة اجتماعية، اغتيالا فرديا، تحركا عسكريا، خيانة في الأوقات الحرجة، وتأليبا للقوى المعادية للإسلام وتجميعها كي تضرب عن قوس واحدة، إلا أن من سوء حظ اليهود أنهم لم يتحركوا مجتمعين ويقفوا صفا واحدا بمواجهة الإسلام، الأمر الذي مكّن الرسول صلى الله عليه وسلم من التصدي لكل منهم على انفراد، وتصفيته واحدا بعد آخر. وربما فكر اليهود في هذا التحرك الجماعي المشترك لولا خوفهم العاقبة حيث سيؤدي ذلك إلى كشفهم نهائيا وهم لم يعتادوا العمل المكشوف، ومن ثم آثروا الأسلوب الآخر، وهو أن يختار كل قبيلة منهم الفرصة المناسبة لضرب الإسلام وإضعاف دولته.
(1) الشريف: مكة والمدينة ص 474 عن تفسير الطبري 2/ 381- 384.
(2)
ابن الأثير: أسد الغابة 3/ 176.
(3)
الشريف: مكة والمدينة ص 474 فما بعد وانظر السمهودي: وفاء الوفا 1/ 194- 195.
(4)
انظر: الطبري 2/ 401، 412، الواقدي 1/ 184- 185، 204، 413، البلاذري: أنساب 1/ 284- 285.