الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني
[1]
لا يمكن أن نتفهم حركة النفاق جيدا إلا إذا أدركنا بعديها النفسي والاجتماعي. فأما بعدها الأول فيتمثل في أن عددا من الناس، على مدار التاريخ، يسوقهم تكوينهم النفسي- الذي هو حصيلة المؤثرات البيئية والوراثية- إلى اتخاذ (موقفين) إزاء القضية الواحدة، أحدهما ظاهر والآخر باطن، فيعلنون غير ما يكتمون، ويقولون غير ما يفعلون، ويدفعهم الخوف الذي يتصورونه جاثما عليهم في كل لحظة، إلى تغطية بواطنهم بأستار ظاهرية يختبئون خلفها علّها تحميهم من الانكشاف، وهم إذا ما خلوا إلى نفوسهم، وشعروا أنهم غدوا بمنأى عما يخيفهم، دفعوا الأستار جانبا وظهروا على حقيقتهم.
ويبدأ هذا الازدواج والقلق والثنائية في اتخاذ المواقف بسيطا غير معقد هدفه تحقيق مصلحة فردية أو جماعية، أو دفع أذى، إلا أن ممارسته طويلا تقود إلى استمرائه واعتياده، وسرعان ما يغدو جزآ أصيلا من التكوين النفسي للإنسان. ويتطرف الازدواج لدى البعض أحيانا حتى يغدو ظاهرة مرضية يسميها علماء النفس (انفصام الشخصية) حيث تنقطع الخيوط كلية بين الظاهر والباطن، وتزول عوامل الارتباط في كيان الإنسان، وتتفكك الذات المتوحدة إلى شخصيتين أو أكثر، ويفقد الفرد كليّة القدرة على تحديد موقفه إزاء مجريات الأحداث التي لا تكف عن التمخض والحركة، ويغدو- بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم (أمّعة. يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤا أسأت) .
ويقودنا البعد الاجتماعي لظاهرة النفاق إلى طبيعة تكوين المجتمع العربي
في العصر الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: مجتمع قبلي لا يعرف الوحدة والتماسك والنظام، ولم يعتد الانقياد لسلطة موحدة أو الالتزام بشعائر وأخلاقيات وعلاقات ثابتة دائمة، وقد علمته تقاليد وممارسات قرون طويلة من التسيّب والانفلات التمرد على أية محاولة للضبط والتنظيم. والعربي، فضلا عن هذا، لا يعرف انتماء لغير قبيلته وخضوعا لغير مشايخها وانقيادا لغير مواقفها التي تحددها مصالحها القبلية وحرصها على السيادة والاستعلاء بين القبائل.
ولقد جاء الإسلام دعوة إلى الانضباط والالتزام والنظام بوجه الفوضى والتسيب والانفلات، التي ألفها العربي، كما أنه جاء لكي يصهر الوحدات القبلية في إطار مجتمع موحد متماسك، تذوب فيه الإحساسات القبلية والرغبات الجزئية الموقوتة في السيادة والاستعلاء. ووجد العربي في هاتين الدعوتين خروجا على تقاليده وممارساته وأعرافه، ولم يكن من السهل عليه تجاوزها جميعا إلى آفاق الإسلام ونظامه الشامل لكل فاعليات الحياة اليومية والذي يحتم عليه الانضباط والالتزام في كل خطوة يخطوها وعمل يمارسه وتجربة يعانيها، فضلا عن أنه يدعوه إلى التخلي عن إحساسه القبلي وكسر الإطار الذي اعتاد التحرك داخله إلى المجتمع الشامل الموحد الذي تتلاشى فيه الحساسيات والأعراف القبلية ويخضع فيه الجميع لسلطة واحدة ودستور واحد يصدر عن مشرّع واحد هو الله سبحانه.
إن سببا من أهم الأسباب التي جعلت الإسلام يعاني هذا العناء الصعب إزاء الجاهلية ويكافح هذا الكفاح الطويل لتطويعها وإلغائها، يعود إلى هذا البعد الاجتماعي الذي قاد إلى حركة المقاومة الوثنية الصريحة لدعوة الإسلام، كما قاد إلى حركة النفاق داخل الصفوف المسلمة وسنراه يقود- فيما بعد- إلى حركتي (الردة) و (الفتنة) في عصر الراشدين.
وهكذا كان هذا العائق الاجتماعي يقف أمام امتداد الإسلام في يثرب نفسها التي اتخذت نواة لدولته الناشئة، حيث ظل عدد كبير من العرب الوثنيين يقاومون الدين الجديد ويعلنون عن رفضهم الانتماء إليه والخضوع لسلطته التي حددها ميثاق المدينة الذي أصدره الرسول صلى الله عليه وسلم إثر دخوله يثرب. ولما لم يكن وجود المسلمين في المدينة قد تمركز بعد، سيما وأنها ملأى بالجيوب اليهودية والوثنية، ولما كان الصراع مع قريش لم تتحدد خطوطه بعد، حيث بدا أنها سوف لن تدع المسلمين يقر لهم قرار، وأنها ستظل تقاتلهم حتى تقضي على دعوتهم الجديدة،
فإن عرب المدينة الوثنيين وجدوا أنفسهم في مأمن في حالة إعلان رفضهم للإسلام وعدم قبول سلطته أسوة بقريش زعيمة الوثنية، وأغلب الظن أنهم كانوا على اتصال بقريش لتنسيق العمل بين الطرفين ووضع الإسلام في شقي الرحى، الأمر الذي دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يؤكد في ميثاقه على منع أي اتصال من قبل أحد من المدنيين بقريش أو التعاون معها في السلم والحرب. ويذكر محمد حميد الله في (مجموعة الوثائق) أن كفار قريش كتبوا إلى عبد الله بن أبيّ بن أبي سلول، ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس الخزرج، قبل وقعة بدر «إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم» .
ولكن لم يؤثر تهديد الكفار ولا ترغيب المنافقين في مسلمي الأنصار «1» .
وجاءت معركة بدر إيذانا بانتصار الدولة الناشئة على القيادة الوثنية المتمثلة بقريش. يقول الواقدي: «لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسرى أذل الله بذلك رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضد عنقه لوقعة بدر» «2» . وكان مشركو يثرب قد منّوا أنفسهم بهزيمة المسلمين، فقال رجل منهم لبعض المسلمين، وهو يرى أسامة بن زيد قادما من ساحة القتال:«قتل صاحبكم ومن معه» وقال آخر: «قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده، وقتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب» «3» .
ولكن الحقيقة سرعان ما فرضت نفسها على الجميع ووجد العرب الوثنيون في المدينة أنفسهم في وضع حرج، فهم إما أن يبقوا على كفرهم فيعرضوا أنفسهم للعقاب وإما أن ينتموا للدين الجديد، وهم لم يألفوا الانضباط والانقياد، ولا وجدوا في أنفسهم انفتاحا على تعاليم الإسلام وإلزاماته ومبادئه بدافع من تكوينهم الاجتماعي القبلي، وسرعان ما وجد زعيمهم عبد الله بن أبيّ بن أبي سلول- الذي كان قد رشح لتتويجه ملكا على عرب المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الصناع بنسج تاجه «4» - أن خير وسيلة للخروج من هذا المأزق هو أن يعلن هو وأتباعه إسلامهم ظاهرا، ويبقوا على اعتقاداتهم وعلاقاتهم
(1) محمد حميد الله: مجموعة الوثائق، ص 66.
(2)
مغازي رسول الله: 1/ 121.
(3)
البلاذري: أنساب الأشراف، 1/ 294.
(4)
انظر صحيح البخاري: 7/ 185- 186 (بشرح فتح الباري) ومسلم 5/ 182- 183، وأحمد 5/ 203.
وممارساتهم الجاهلية باطنا، وبهذا ينجون من شبح العقاب، ويحتفظون في الوقت نفسه بمعطياتهم الجاهلية، فضلا عن أن تلبّسهم بالإسلام وتسربهم في صفوف الجماعة المسلمة سيتيح لهم فرصة أوسع لتخريب المجتمع الجديد من الداخل، والتنفيس عن حقدهم وهزيمتهم، فاستجابوا لنداء زعيمهم وملكهم المنتظر الذي قال لهم في أعقاب سماع نبأ الانتصار الحاسم لجيش الإسلام في بدر:«هذا أمر توجّه فلا مطمع في إزالته» فانضووا إلى الدين الجديد.
ومنذ ذلك الحين برزت إلى الوجود قوة جديدة في مواجهة الحركة الإسلامية، سببت لها الكثير من المتاعب والمحن، ووضعت في دربها الكثير من الحواجز والعقبات، ومارست إزاءها من الداخل عمليات تخريبية لا حصر لها.
وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصارع هذه القوة فضلا عن صراعه مع القوى الخارجية: الوثنية واليهودية والنصرانية. إلا أن مشكلة هذا الصراع تكمن في أن هذه القوة المعادية غير واضحة الأبعاد، منسربة في صفوف الجماعة الإسلامية، قديرة على الاستخفاء في أعقاب أي تخريب تمارسه.. ثم، وهذا هو الأنكى، لم يكن بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاقب على التهمة ويأخذ بالظنة وينفذ أسلوبا (روبسبييريا) في حصد مئات الرؤوس التي يشك أنها تتامر على سلامة الدولة وزعيمها، وحاشا للأنبياء أن يفعلوا ذلك.
لذا نجده يرفض مرارا وتكرارا عروضا من صحابته الكرام بقتل رؤوس المنافقين وقطع رقابهم بمجرد أن يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يوافق حتى النهاية على قتل رجل يشهد في ظاهره بشهادة الإسلام. وهنالك حادثة ذات دلالة في هذا المجال: عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا أمر قادته ألا يقاتلوا.. لكنه طلب منهم في الوقت نفسه أن يقتلوا عددا من المكيين سماهم لهم، حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وجيء بأحدهم، وكان قد أسلم ثم ارتد إلى الوثنية، وبعد فتح مكة توسّط لدى عثمان بن عفان رضي الله عنه في طلب الأمان. فصمت الرسول طويلا ثم قال (نعم)، فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار:
فهلا أومأت إليّ يا رسول الله؟ قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة «1» .
(1) ابن هشام: ص 289.
(إن النبي لا يقتل بالإشارة) .. هذا إزاء رجل كان قد ارتد وجاء يطلب الأمان، فكيف برجال يشهدون خمس مرات في اليوم بشهادة الإسلام؟ إنه كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يحصدهم في غداة واحدة، إلا أن مقياسا دقيقا لمعرفة إيمان كل منهم لم يكن بيديه، وإنما توكل السرائر لله، ويحاسب الناس بأعمالهم الظاهرة..
وهؤلاء منافقون وظاهرهم المكشوف ظاهر إسلامي، على خلاف مع باطنهم، فكيف يعاقبهم؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك، فضلا عن هذا البعد الأخلاقي، أن ممارسة القتل الجماعي أو الفردي تجاه أناس من أتباعه، محسوبين على معسكره، سوف يعطي لأعدائه في الخارج سلاحا دعائيا ممتازا لمهاجمة الإسلام، وقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه معترضا على إلحاحهم عليه بممارسة هذا الأسلوب تجاه المنافقين «فكيف بالعرب إذا قالت إن محمدا يقتل أصحابه؟» ، وهذا حق، فهم على المستوى السياسي والقانوني من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام أي منهم لم يمارس عملا (جرميا) محددا فإن من الصعوبة بمكان عزله أو قتله..
وخلال العودة من تبوك، حين أراد بضعة عشر منافقا أن يمكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم ويطرحوه من عقبة في الطريق، وعرض عليه بعض أصحابه أن يقطعوا رؤوسهم، أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم: إني أكره أن يقول الناس إن محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه. وعندما قال له أسيد بن حضير: يا رسول الله فهؤلاء ليسوا بأصحاب، أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: أليسوا يظهرون شهادة ألاإله إلا الله، أليسوا يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم، قال: فإني نهيت عن قتل أولئك «1» .
وكان بديل هذا الأسلوب، شيئا نادرا في تاريخ الدعوات. تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم خطط المنافقين وتخريبهم بيقظة كاملة، ولم يحدد أسلوبا (ثابتا) في مجابهة مواقفهم (المتلونة)(المتغيّرة) ، وإنما راح يضع لكل حالة خطة تتناسب تماما وحجم المحاولة التخريبية، وتكبتها قبل أن تجيء بثمارها المرة، وقبل أن تزرع شوكها في طريق الدعاة.. ومن وراء الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن الكريم تتنزل من الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، محللة التكوين النفسي
(1) الواقدي 3/ 1042- 1044، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 236.
للمنافقين، مشخصة نماذج (منهم) نكاد نلمسها بأيدينا وهي تتلى علينا، فاضحة خططهم اللئيمة قبل أن تقع، منددة بأساليبهم المرذولة وهم يعملون في الظلام دسا ووقيعة، صابة عليهم غضبها المخيف في أعقاب أية محاولة يستهدفون من ورائها فتنة، أو خديعة أو مكرا «1» .
وهكذا نجد ظاهرة النفاق، رغم كونها ظاهرة مرضية في حدودها النفسية والاجتماعية، إلا أنها في إطار الدعوة الإسلامية تبدو ظاهرة صحة وعافية أشبه بالأمصال المخففة التي تحقن في دم الإنسان لمقاومة مرض من الأمراض وتمكينه من مجابهته وقد عرف طعمه ولونه وقدرته على الفتك واستعد لذلك كله. لقد أدى وجود المنافقين في صفوف المسلمين إلى أن يكونوا حذرين دوما، يقظين أبدا، لا يغافلون ولا ينامون ولا يلدغون من جحر مرتين. وبسبب هذا الحذر واليقظة والسهر المستمر، تمكن المعسكر الإسلامي ليس فقط من الانتصار على أعدائه في الخارج بل- وهذا هو الأهم- تعزيز وحدته الداخلية ورصّ صفوفه، وتذويب الأجسام الغريبة أو شلها وتكييسها أو طردها كي لا تدمر المجتمع الجديد وتنخره من الداخل.. إنها حكمة الله في أن يوجد في كيان المسلمين ما يتحداهم من الداخل دوما ويدفعهم إلى الاستجابة والإبداع.. وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تتسع وتتسع حتى تشمل كل حالة وتجابه كل وضع بعيدا عن الجمود على وضع واحد يصل إلى هدفه من أقصر طريق، لكنه أرخص طريق وأكثرها استحقارا للدم الإنساني، طريق الإعدام بالجملة، وحصد رؤوس مئات من الأتباع
(1) عن المواقف القرآنية إزاء المنافقين، انظر البحث القيم لمحمد عزة دروزة (سيرة الرسول) الجزء الثاني فصل (المنافقون في العصر المدني) ص 73- 120، وانظر في (صفات المنافقين وأقوالهم) سورة البقرة: الآيات 8- 16، 204- 206، سورة النساء: الآيات 137، 138، 142، 143، 145- 146، سورة التوبة: الآيات 56- 57، 61- 62، 67- 68، 73- 77، 84- 85، 97- 98، 101، سورة محمد: الآيتان 29- 30، سورة الحديد: الآيتان 13- 14، سورة المنافقون: الآيات 1- 8، وانظر في (مواقفهم الكيدية والساخرة) سورة النساء: الآيات 60- 61، 138- 139، 140- 141، سورة التوبة: الآيات 58، 61، 64- 65، 79، 80، 107- 110، 124- 127، سورة المجادلة: الآيات 8- 10، سورة البقرة: الآيات 11- 14، سورة الأنفال: الآية، 49، سورة النور: الآيتان 62- 63، سورة الأحزاب الآيات 57- 61، 69- 71، سورة محمد: الآيات 16، 25- 26، سورة المائدة: الآيات 50- 53، سورة المجادلة: الآيات 14- 16، وانظر في (مواقفهم من الجهاد ووقائعه) : سورة آل عمران: الآيات 156، 166- 168، سورة النساء: الآيات 71- 73، 77، 81، سورة التوبة: الآيات 42- 49، 50- 53، 81- 83، 86- 87، 90، 93- 96، سورة محمد: الآيات 20- 23، سورة الأحزاب: الآيات 9- 20، سورة الحشر: الآيتان 11- 12.