الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
دولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة
البربر ونصيبهم من أنقاض الخلافة. بنو مناد. الخلاف بين باديس المنصور وقومه. هجرة زاوي بن زيري إلى الأندلس. انضواؤهم تحت لواء المنصور. اشتراك البربر في معركة الخلافة. محاصرتهم لقرطبة وظفر مرشحهم سليمان بالخلافة. تفريق سليمان لهم. نزول زاوي وقومه بالبيرة. إنشاء مدينة غرناطة ونزولهم بها. الحرب بين المرتضى وصنهاجة. هزيمة أهل الأندلس ومصرع المرتضى. توجس زيري من البقاء في الأندلس. رحيله إلى إفريقية. استيلاء حبوس بن ماكسن على غرناطة. حكمه وصفاته. ولده باديس يخلفه. ائتمار ابن عمه يدير به. فشل المؤامرة. الخلاف بين باديس وزهير العامري. مسير زهير إلى غرناطة. الحرب بينه وبين باديس. هزيمته ومصرعه. مصرع وزيره ابن عباس. استيلاء باديس على جيان. الحرب بين باديس وابن عباد. تدخل باديس في شئون مالقة ثم استيلاؤه عليها. مهاجمة ابن عباد لمالقة وفشله. استيلاؤه على أركش. الوزير اسماعيل بن نغرالة اليهودي. صفاته وكفاياته. ولده يوسف. بغض بلقين ولد باديس له وسعيه إلى إسقاطه. يوسف يدبر مصرعه بالسم. الخصومة بين يوسف والناية. تغير باديس على يوسف. اتجاه يوسف إلى ابن صمادح. سخط صنهاجة على يوسف وسعيهم إلى إسقاطه. سخط أهل غرناطة على اليهود. قصيدة الإلبيري في التحريض على اليهود. افتضاح مؤامرة يوسف ومصرعه. مذبحة اليهود في غرناطة. استرداد باديس لوادي آش. حوادث جيان. تولي الناية الوزارة. إئتمار الوزراء به ومصرعه. وفاة باديس. أعماله ومنشآته. عمله لتوطيد زعامة البربر. النزعة العنصرية بين البربر وأهل الأندلس. صفات باديس وخلاله. ولاية حفيده عبد الله بن بلقين. استيلاء ابن عباد على جيان. إغارته على غرناطة ورده. تحالف عبد الله مع ألفونسو السادس. اتفاق ابن عباد وألفونسو على فتح غرناطة. فشل المحاولة. تعهد عبد الله بتأدية الجزية لألفونسو. عبد الله والشئون الداخلية. الخلاف بين عبد الله وأخيه تميم صاحب مالقة. الصلح بين عبد الله وابن عباد. سقوط طليطلة وتأثيره. اتفاق عبد الله مع ملوك الطوائف على استدعاء المرابطين. حملة ابن الخطيب على عبد الله.
كان انهيار الخلافة الأموية، والسلطة المركزية، وما اقترن بذلك من الفوضى الغامرة، فرصة سانحة لظهور الزعامات البربرية، في ميدان النفوذ والسلطان. وقد ظهر البربر في الواقع، منذ أيام المنصور بن أبي عامر، واحتلوا مراكز الصدارة في الجيوش الأندلسية، واتخذهم المنصور له عضداً وسنداً، وآزر المنصور القبائل الموالية في المغرب لبني أمية، ضد أولياء الدعوة الفاطمية،
وشد أزرهم بالمال والجند، واستطاع أن يجعل من المغرب ولاية أندلسية. فلما انهار صرح الخلافة الأموية، بعد انهيار صرح الدولة العامرية، وتواثب الزعماء والخوارج الطامحون، إلى انتزاع أشلائها، واقتسام سلطانها، استطاع الزعماء البربر أن يظفروا من ذلك بنصيب وافر. فقامت منهم دولة بني حمود في جنوبي الأندلس، وأنشأت خلافة جديدة، أحياناً في قرطبة، وأحياناً في إشبيلية ومالقة، وقامت خلالها ومن بعدها، عدة دول بربرية محلية، في غرناطة، وفي رندة، وفي مورور وشذونة، وفي قرمونة، وقامت دولة بني ذى النون في طليطلة، وحيناً في شرقي الأندلس، وقامت كذلك دولة بربرية صغيرة في أرض السهلة في شنتمرية الشرق، وإذا نحن اعتبرنا دولة بني الأفطس في بَطَلْيوس من الدول البربرية، وإنها لكذلك على أرجح الآراء، استطعنا أن نقدر المدى العظيم، الذي وصل إليه سلطان القبائل البربرية بالأندلس في عصر الطوائف.
وقد أتينا فيما تقدم على أخبار دولة بني حمود، وأخبار الدويلات البربربة، التي قامت في المنطقة الوسطى والجنوبية، على أنقاض دولة بني حمود، وبينا كيف استطاع المعتضد بن عباد، أن يقضي على هذه الدويلات واحدة بعد الأخرى، وأن يضمها جميعاً إلى مملكة إشبيلية الكبرى. وبقي علينا أن نتناول في هذا الفصل، أخبار دولة بني مناد في غرناطة، وقد كانت بعد دولة بني حمود، أقوى الدول البربرية في الجنوب.
- 1 -
إن بني مناد يرجعون في الأصل إلى قبيلة صَنهاجة البربرية الشهيرة، وهي بطن من بطون قبيلة البرانس الكبرى، وكان منزلهم بأواسط المغرب. فلما غلب العبيديون (الفاطميون) على إفريقية، وقامت دولتهم بها، انحاز بني مناد إليهم، وحاربوا إلى جانبهم الخوارج عليهم. وكان زعيمهم زيري بن مناد من أعظم أمراء البربر، وقد حارب قبائل المغرب المخالفة للعبيديين مع جوهر قائدهم، وقتل في بعض المعارك، فخلفه ولده بُلُكِّين. ولما سار المعز لدين الله في سنة 362 هـ إلى مصر، بعد افتتاحها على يد جوهر، اختار بلكين لولاية إفريقية، ثم خلفه على ولايتها ولده المنصور، ثم خلف المنصور ولده باديس. وفي خلال ذلك، كانت المعارك تضطرم في ربوع المغرب باستمرار، بين أمراء صنهاجة هؤلاء،
وبين خصومهم من أمراء زناتة وغيرها، من القبائل الموالية لبني أمية خلفاء قرطبة. وقد تتبعنا فيما تقدم أدوار تلك المعركة، التي نشبت في المغرب، بين الدعوة الفاطمية، وبين الخلافة الأندلسية، منذ أيام الناصر لدين الله، واستعر لظاها بالأخص أيام الحكم المستنصر، ثم المنصور بن أبي عامر، وكانت صنهاجة تحمل دائما، وعلى يد بني مناد ولاة إفريقية، علم الدعوة الفاطمية، وتحمل زناتة وحلفاؤها علم الخلافة الأندلسية. وقد انتهت هذه المعركة أيام المنصور، حسبما رأينا، إلى هزيمة صنهاجة، وتوطيد سلطان الدعوة المروانية بالمغرب.
وقد حدث أيام ولاية باديس بن المنصور على إفريقية، حادث كان له فيما بعد أكبر صدى، في حوادث الأندلس. ذلك أن باديس استبد بقومه آل مناد، ووقعت بينه وبين أعمامه وأعمام أبيه، فتن ومعارك، قتل في أثنائها، عم أبيه ماكسن بن زيري بن مناد، فاستوحش الباقون من عاديته، وعولوا على مغادرة إفريقية، وكتب شيخهم زاوي بن زيري إلى المنصور بن أبي عامر، يستأذنه الجواز بقومه إلى الأندلس، للجهاد في سبيل الله، فأذن لهم، وعبر زاوي ابن زيري ومعه أبناء أخيه ماكسن المقتول، حُباسة وحَبُّوس وماكْسَن في أهلهم وأموالهم إلى الأندلس سنة 391 هـ، فأكرمهم المنصور وأنزلهم منزلا حسناً (1)، واتخذهم له بطانة وعوناً، ونظمهم مع زناتة، وسائر بطون البربر الأخرى، وقويت شوكتهم في أواخر أيام المنصور، ثم في أيام ولديه عبد الملك، وعبد الرحمن، ورجحت كفتهم في الجيش، وغدوا للدولة عضداً. وقد كان إذن المنصور لزيري وقومه، وهم من صنهاجة ألد خصوم الدعوة المروانية والدولة العامرية، بالجواز إلى الأندلس، عملا من أعمال السياسة المستنيرة، وكان غنماً مادياً وأدبياً للدولة العامرية.
(1) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 17، وابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 157 و 158 و 159. ولكن هناك رواية أخرى تقول إن زاوي وقومه وفدوا على عبد الملك المظفر بن المنصور، وأنه هو الذي أذن لهم بالجواز. وهذه هي رواية ابن حيان التي أوردها صاحب الذخيرة (المجلد الأول القسم الرابع ص 61)، ويتابعه فيها صاحب البيان المغرب (ج 3 ص 263) وكذلك ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة) ج 1 ص 440 و 521. وقد أخذنا نحن بالرواية الأولى، أولا لأنها رواية عبد الله بن بلكين، وهو حفيد ماكسن أخى زاوي، وأدرى بتاريخ أسرته، وثانياً لأن ابن خلدون، وهو حجتنا الأولى في تاريخ البربر، يأخذ بها، ويحدد لنا سنة الجواز في سنة 391 هـ، أعني قبل وفاة المنصور بنحو عامين.
بيد أن الدولة العامرية لم تعمر طويلا، فكان السقوط، وكان انهيار السلطة المركزية، وبداية عهد الفتنة والفوضى، وقام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، باغتصاب الخلافة من هشام المؤيد سنة 399 هـ (1009 م). ومن ذلك الحين يأخذ البربر بقسط بارز في تلك المعركة المضطرمة المشعبة، التي تدور حول عرش الخلافة. وكان أول باعث لإقحام البربر في تلك المعارك، ما خصهم به المهدي من الاضطهاد وسوء المعاملة، ثم تحريض عامة قرطبة على مطاردتهم، والتف البربر عندئذ حول سليمان بن الحكم خصم المهدي ومنافسه، وتوالت الخطوب والمعارك، وفتك أهل قرطبة خلال ذلك بحباسة بن ماكسن ابن أخى زيري، فازدادوا نقمة واضطراماً، وحاصر البربر قرطبة، وفتكوا بأهلها، ثم دخلوها في مناظر مروعة من العيث والسفك، وانتهى الأمر بجلوس مرشحهم سليمان على عرش الخلافة، وتلقب بالمستعين، وذلك في شوال سنة 403 هـ (مايو سنة 1013 م)، وقبض البربر، وهم الذين عاونوه ونصروه، على سائر السلطات في القصر وفي الحكومة.
وعندئذ رأى سليمان المستعين، أن يعمل على تفريق البربر في الكور والثغور، إرضاء لهم من جهة، وتفريقاً لشملهم وإبعاداً لهم عن قرطبة، من جهة أخرى، فأقطع قبيلة صنهاجة وزعماءها بني زيري بن مناد ولاية إلبيرة (غرناطة)، وأقطع بني برزال وبني يفرن ولاية جيَّان، وبني دمّر وإزداجة منطقة مورور وشذونة، وأقطع آل حمود الأدارسة ثغور المغرب، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في مواضعه، في أخبار سقوط الخلافة الأندلسية (1).
ويقول لنا الأمير عبد الله بن بلكين في مذكراته، إن صنهاجة حينما رأت تفكك الدولة، واستقلال كل أمير ببلده، اعتزموا الرحيل عن الأندلس، ولكن أهل إلبيرة، وقد كانت ولايتهم تتمتع بسعة الرقعة والخصب والنماء، ولم يكن لهم من يدافع عنهم، لجأوا إلى زاوي بن زيري، ودعوه وقومه إلى الإقامة بأرضهم ومشاركتهم في خيراتهم ونعائمهم، والدفاع عنهم، وقبل زيري وقومه دعوتهم، واستبشروا بالنزول في تلك الأرض، وطابت لهم ربوعها، وأجمعوا على الدفاع عنها.
(1) راجع الفصل الأول من الكتاب الرابع من " دولة الإسلام في الأندلس ".
وأنهم بعد أن نزلوا بأرض إلبيرة، رأوا أنها بموقعها لا تصلح للدفاع، واتفق رأيهم على أن يبتنوا في البسيط الواقع على مقربة منها، في وادي شَنيل المنحدر من جبل شُلَّير (1)، وهو البسيط الذي يحجبه الجبل، مدينة جديدة ينزلون بها، وتكون معقلهم، فشرعوا في بنيانها. وهكذا قامت مدينة غَرناطة، وكان قيامها نذيراً بخراب إلبيرة، فعفت منازلها بسرعة، وأسبل عليها النسيان ذيله، وأخذت غرناطة تنمو بسرعة وتحتل مكانها (2).
استقر بنو مناد إذاً في كورة غرناطة، لكنهم لم يكونوا بمعزل عن حوادث قرطبة. ذلك أن علياً بن حمود الإدريسي، لما استولى على عرش الخلافة في المحرم سنة 407 هـ (يوليه 1016 م)، وقتل سليمان آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس، نهض خيران العامري، فأعلن الخلاف، وأعاد الدعوة لبني أمية في شخص عبد الرحمن بن محمد من أحفاد الناصر، ولقبه بالمرتضى، وانضم إليه في تلك الحركة منذر بن يحيى التجيبي أمير الثغر، وعدة من ولاة شرقي الأندلس، وسار في جموع كبيرة لمقاتلة الحمّودبين، ولكنه عرج في جموعه أولا على غرناطة لمقاتلة جيش صَنهاجة القوي، فلقيه أميرها زاوي بن زيري في قواته، ونشبت بينهما معركة شديدة استمرت أياماً، وانتهت بهزيمة أهل الأندلس وتمزيق جموعهم، ومقتل خليفتهم المرتضى، وكان ذلك في سنة 409 هـ (1019 م).
على أن هذه المعركة كان لها أثر عميق في نفس زاوي، فبدلا من أن يرى في كسبها دليل التفوق والاستقرار، شعر بالعكس مما آنسه من مرارة القتال وروعته أن هذا النصر إن كان بداية طيبة، فقد تعقبه نكسات ومحن لا يستطيعون الصمود لها، وأن أهل الأندلس لن يتركوا مقارعة البربر، حتى يفوزوا بالقضاء عليهم.
وقال زيري لقومه، حسبما يروي لنا الأمير عبد الله:" وقد علمت وأيقنت أنه هذا يكون دأبهم أبداً (أي أهل الأندلس)، وإن كنا قد منحنا الظفر في أول صفقة، لم نأمنهم على أنفسنا وديارنا في كل حين، وهم إن قتل منهم واحد خلفه ألف، مع ميل جنسيتهم من الرعايا إليهم ". وهو ما يورده ابن حيان على لسان زيري على النحو الأتي: " إن انهزام من رأيتموه لم يكن عن قوة منا، إنما جره مع القضاء، غدر ملوكهم لسلطانهم ليهلكوه كما فعلوا. فإني عرفت ذلك من يوم
(1) هو بالإسبانية Sierra Nevada أو جبل الثلج.
(2)
راجع كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 18 - 22.
نزولهم، ولذلك ما كنت أقوي نفوسكم، وقد نجانا منهم برحمته، ومضى القوم ولم يعدموا إلا رئيسهم، واستخلافه هين عليهم، ولست آمن عودهم جملة إليكم فيما بعد، فلا يكون لنا قوام بهم ". هذا ومن جهة أخرى فقد كان زاوي يخشى من غدر بربر زناتة أعدائهم الحقيقيين، ويخشى بالأخص أن يتحالفوا ضدهم مع أهل الأندلس، فتكون الطامة الكبرى عليهم. وأخيراً فقد كان زاوي يرى بعد وفاة باديس بن المنصور أمير إفريقية، الذي اضطهده وقومه، وولاية ولده الطفل المعز حفيد أخيه بلكين، أن الجو قد تهيأ لعودته، واحتلال مكانته في وطنه. ومن ثم فقد اعتزم زاوي أن يغادر الأندلس إلى إفريقية، وقال لقومه: " فالرأي الخروج عن أرضهم، واغتنام السلامة مع إحراز الغنيمة، والرجوع إلى الحملة التي انفصلنا عنها" (1).
وهكذا قرر زاوي بن زيري العودة إلى إفريقية بالرغم من معارضة ولده ووجوه قومه. وخرج عن غرناطة في أهله وأمواله، مستخلفاً عليها بعض شيوخ قومه، وركب البحر من المنكب، ومعه الكثير من الأموال والذخائر. وكان خروجه من الأندلس في سنة 410 هـ (1020 م). واستقبله حفيد أخيه المعز ابن باديس صاحب إفريقية وبنو عمه أجمل استقبال، وأنزل في القيروان أجمل منزل، وكان بعد مهلك الشيخة من بني عمه وذوي قرابته زعيم القوم، وكان النساء من محارمهم نحو ألف امرأة لا يحتجبن عنه. بيد أنه لم يلق بالقيروان في ظل المعز، ما كان يؤمل من رياسة وسلطان (2).
قال ابن الخطيب: " وكان زاوي كبش الحروب، وكاشف الكروب، خدم قومه، شهير الذكر أصيل المجد، المثل المضروب في الدهاء، والرأي، والشجاعة والأنفة والحزم "(3).
وعلى أثر ارتحال زاوي سعى الفقيه ابن أبي زمنين قاضي غرناطة، في أن يعين لولايتها حبوس بن ماكسن ابن أخى زيري، فلحق به في حصن أشتر على مقربة
(1) راجع التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 24 و 25، والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 402 و 403، والبيان المغرب ج 3 ص 128، وابن خلدون ج 6 ص 180.
(2)
الذخيرة القسم الأول، المجلد الأول ص 402، والإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 525.
(3)
الإحاطة ج 1 ص 522.
من وادي آش. وكان يرابط هنالك مترقباً رحيل عمه. فبادر بالسير إلى غرناطة، ودخلها في موكبه وطبوله، واحتلها فلم يعارضه أحد من قومه، وتربع في رياستها من وقته. وقيل إن عمه زاوي اختاره ليخلفه قبل رحيله. وقيل من جهة أخرى إن نزاعاً حدث بسبب ذلك، بينه وبين ابن عمه جلالي بن زاوي، ولكنه انتهى برحيل جلالي ولحاقه بأبيه، وخلصت له الرياسة، ومن ذلك الحين تبدأ بغرناطة دولة بني زيري بن مناد (1).
وبدأت ولاية حبُّوس لغرناطة في سنة 411 هـ، حسبما تقدم في أخبار الفتنة، فسار حبوس سيرة حسنة، وضبط النظام والأمن، وقسم الأعمال بين أقاربه وبني عمه، واتسعت رقعة مملكته، فغلب على قبره ونواحيها وعلى مدينة جيان، وأتم بناء غرناطة، وحشد الجند ونظم الجيش، وكان يشرك بني عمه في الرأي، ويجري في حكمه على طريق الشورى. ووطد حبوس ملك قومه بغرناطة، وأقام له بلاطاً فخماً، وعقد علائق المودة والتحالف مع سائر جيرانه من رؤساء البربر وفي مقدمتهم بني حمود أصحاب مالقة، وعقد الصداقة أيضاً مع زهير الفتى العامري صاحب ألمرية. ولما قتل يحيى بن حمود (المعتلي) أمام أسوار قرمونة سنة 427 هـ على يد القاضي ابن عباد، وخلفه في الملك ولده إدريس المتأيد بالله، كان حبوس وحليفه زهير العامري من المعترفين ببيعته، وقد سارا لمعاونته على محاربة ابن عباد، وسار معهما البرزالي صاحب قرمونة في قواته، وزحفت القوات المتحدة على إشبيلية، وعاثت في بسائطها، ثم عاد كل إلى قواعده، وذلك في أواخر سنة 427 هـ (1036 م). وفي العام التالي (428 هـ) توفي حبوس بن ماكسن، وخلفه في حكم غرناطة ولده باديس (2).
ويشيد ابن حيان، وقد عاصر هذا العهد، بخلال حبوس، فيقول لنا إنه كان أحد نائبي برابرة الأندلس الذين يعتد بهم، وإنه كان على قسوته " يصغي إلى الأدب، وينتمي في العرب، للأثر المقفو في قومه صنهاجة. وكان وقوراً حليماً فظاً مهيباً، نزر الكلام، قليل الضحك، كثير الفكر، شديد الغضب،
(1) الذخيرة المجلد الأول القسم الأول ص 403، والإحاطة ج 1 ص 485.
(2)
راجع في أخبار حبوس بن ماكسن: البيان ص 25 و 26، والإحاطة ج 1 ص 485 والبيان المغرب ج 3 ص 264.
شجاعاً، حسن الفروسية، جباراً متكبراً، داهية واسع الحيلة، كامل الرجولة، له في كل ذلك أخبار مأثورة " (1).
- 2 -
فخلفه في حكم غرناطة ولده باديس، الذي قدر له أن يكون أقوى ملوك البربر في جنوبي الأندلس، وأعظمهم شأناً، في تلك الفترة التي كثرت فيها الممالك والرياسات، ولم ينازعه في الملك أخوه بُلُقِّين بن حبوس، ولكن كان له في الملك منافس من قومه، هو ابن عمه يدِّير بن حُباسة بن ماكسن. وكان يدير ومن ورائه بعض شيوخ غرناطة يحاول منذ أيام عمه حبوس، أن ينتزع السلطة لنفسه، فلما فشل أيام حبوس، حاول أن يعيد الكرة في أوائل عهد باديس.
وكان من مشجعيه ومحرضيه الكاتب أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، وهو من علماء المشرق الذين وفدوا على الأندلس أيام الفتنة، ولحق بغرناطة. وكان فضلا عن أدبه الغزير، يعني بدراسة الفلك والحكمة، ويلقي بنبوءاته في روع يدير، أنه سوف يظفر بعرش غرناطة، ويحكمها ثلاثين عاماً (2).
وكان لأبي العباس كاتب حبوس، مساعد من اليهود يدعى أبو إبراهيم يوسف ابن اسماعيل بن نغرالة كان يتولى جمع المال، وكان رجلا متواضعاً حسن السيرة، فلما توفي أبو العباس تقدم مكانه، وعلت منزلته، ولما ولي باديس زادت حظوته وظهرت همته في جمع الأموال. فلما دبر القوم مؤامرتهم لانتزاع السلطة من باديس وإجلاس يدير مكانه، لجأوا إلى أبي إبراهيم، وحاولوا ضمه إليهم، فتظاهر بالقبول، وأخطر مولاه باديس ودبر اجتماعهم بمنزله، وحضور باديس ليسمع بنفسه مشاوراتهم من مكان معين، ومن ذلك الحين غدا ذلك اليهودي أثيراً عند باديس، وصار ناصحه الأول، لا يبرم أمراً دون رأيه.
وكان المتآمرون قد اعتزموا أمرهم لقتل باديس، أثناء تنزهه، بمكان بالضاحية يعرف بالرملة، وكان ممن رشوه لذلك شيخ من صنهاجة يدعى فرقان. فأفضى بالأمر لباديس وحذره في الوقت المناسب، وعلم المتآمرون بافتضاح تدبيرهم، ففروا إلى خارج غرناطة، وفي مقدمتهم يدير بن حباسة والكاتب أبو الفتوح
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 404.
(2)
الإحاطة ج 1 ص 463 و 465.
الجرجاني، وقد فرا معاً إلى إشبيلية. ووقف باديس على أسماء كثير ممن شاركوا في المؤامرة من شيوخ صنهاجة ورجالها، وهم بقتلهم جميعاً، فرده أبو إبراهيم عن عزمه، وحذره من اتساع نطاق الفتنة، لأنهم رجاله وجنده وأولى أن يلاينهم وأن يغمرهم بالعطايا، وأن يضرب بعضهم ببعض، فنزل عند نصحه، واستتب له الأمر دون منازع (1).
وكان أول حادث خطير واجه باديس، هو حربه مع زهير العامري صاحب ألمرية. وكان زهير من أخص الفتيان العامريين الذين تفرقوا عقب الفتنة، واحتلوا معظم القواعد الشرقية، وكان قد ولي حكم ألمرية بعد وفاة صاحبها الفتى خيران في سنة 419 هـ (1028 م)، وامتد سلطانه شرقاً حتى شاطبة، وشمالا حتى بيّاسة وقرطبة. وكان يرتبط بعلائق المودة بجيرانه الأقربين بني حمود أصحاب مالقة، وبني زيري أصحاب غرناطة. وقد رأينا كيف تحالف زهير مع حبوس ابن ماكسن على قتال ابن عباد، فلما توفي حبوس وخلفه باديس، بدأت العلائق بين زهير وباديس في الفتور، وذلك لما عمد إليه زهير من إيواء عدو باديس الألد محمد بن عبد الله زعيم زناتة وحمايته، وأرسل باديس إلى زهير رسوله يعاتبه، ويطلب إليه تجديد المحالفة التي كانت بينه وبين أبيه حبوس (2)، ولم يمض قليل على ذلك، حتى خرج زهير من ألمرية في قواته ومعه كاتبه ومستشاره الأثير أحمد ابن عباس، وسار متجهاً صوب غرناطة. ولم توضح لنا الرواية غرض زهير من تلك الحركة. ولكن الأمير عبد الله بن بلقين حفيد باديس، يقول لنا في مذكراته، إن زهيراً " أدركه الطمع في غرناطة عقب موت حبوس "(3) وإذاً فقد كان زهير يرمي إلى غزو غرناطة، وافتتاحها. وعلى أي حال فقد استمر زهير في السير بقواته، واختراق أراضي غرناطة من شرقها حتى وصل إلى قرية ألفنت (4) الواقعة على مقربة من شمال غرناطة. وكان باديس في أثناء ذلك قد عبأ قواته وقد ملأته الدهشة والريب، لاقتحام زهير أراضيه على هذا النحو، وشعر أنه قد غدا
(1) فصل لنا الأمير عبد الله أدوار هذه المؤامرة بإفاضة (التبيان ص 31 - 34).
(2)
ابن حيان في الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 166، ونقلها البيان المغرب ج 3 ص 169.
(3)
كتاب التبيان ص 34.
(4)
هي بالإسبانية Daifontes وهي تقع على قيد عشرين كيلوا متراً شمالي غرناطة.
في قبضته وتحت رحمته. ولكنه بدأه بالجميل والمودة، وزوده هو ورجاله بالصلات والقِرى، ثم لقيه ووقعت بينهما المناظرة، ومن حول كل رجال دولته، فاشتط زهير، وأغلظ لباديس في القول، وكان كاتبه أحمد بن عباس هو الذي أشار عليه بهذا المسلك، فغادره باديس مقضباً، وقد عول على الحرب، ووافقه قومه شيوخ صنهاجة. وكان باديس قد حشد قواته ورتبها ترتيباً محكماً، وهدم رجاله قنطرة في مؤخرة القوات المهاجمة، قطعاً لخط رجعتها، ورتب من ورائها الكمائن في المفاوز المستترة. كل ذلك وزهير في غروره وعجبه، لا يشعر بما يدبره خصومه. وفي صباح اليوم التالي، فاجأت قوات صنهاجة جيش زهير بهجومها العنيف، وكان يقودها بلقين بن ماكسن أخو باديس، فلقيها زهير بعزم وثبات، ودفع لردها قائده هذيلا الصقلبي في خيرة قواته من الفتيان العامريين والصقالبة، ووقعت بين الفريقين معركة هائلة، صدمت فيها قوات الصقالبة وأسر قائدهم هذيل، وقتل في الحال بأمر باديس، فدب الخلل في قوات زهير، ونكصت على أعقابها، والبربر من ورائها يحصدونها حصداً، وفر زهير فيمن فر من أصحابه إلى شعب الجبال المجاورة، ولكنه أخذ وقتل، ولم يعثر بجثته، وأبيد معظم قواته قتلا وأسراً، وظفر البربر بغنائم هائلة من المال والسلاح والعدة والغلمان والخيام، وأمر باديس بقتل القواد والفرسان من الأسرى، وكان من بين الأسرى عدة من الكتاب في مقدمتهم أحمد بن عباس وابن حزم والد الفيلسوف وأبو عمر الباجي وغيرهم، فأطلق باديس سراحهم جميعاً ما عدا ابن عباس وعدة آخرين من الأسرى، فقد زجهم في الأصفاد إلى المعتقل. وتمت هذه الوقيعة الساحقة على زهير العامري وأصحابه، في آخر يوم من شوال سنة 429 هـ (1038 م)(1) ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى قتل ابن عباس في معتقله بالقصبة.
قتله باديس بيده تشفياً منه، لتيقنه من أنه هو ناصح زهير والمحرض له على غزوه.
ولم ينقذه ما عرضه لافتداء نفسه من المبالغ الضخمة. ولم تنجح شفاعة الوزير ابن جهور عميد قرطبة لدى باديس للإبقاء على حياته. وكان ابن عباس من أعلام كتاب عصره، وافر المعرفة والأدب، عظيم الوجاهة، والسراوة،
(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 166 - 169، والبيان المغرب ج 3 عى 169 173، والإحاطة ج 1 ص 526 - 528، والتبيان ص 34 و 35.
وكان له في حكومة ألمرية، في ظل صاحبها زهير، أعظم نفوذ وسلطان (1).
وكان من أثر مصرع زهير، وانهيار حكومته على هذا النحو، أن استولى باديس على القسم الغربي من أراضي مملكة ألمرية المتاخمة لمملكته، وهي تشمل مدينة جيان وأعمالها، وكذلك جزءاً من أراضي ولاية قرطبة الجنوبية.
* * *
وكان لهذا النصر الباهر الذي أحرزه باديس في بداية حكمه، أعظم أثر في توطيد سلطانه وإذاعة ذكره. وكان باديس، مثل معظم أمراء البربر في جنوبي الأندلس، يتوجس من أطماع القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية ومشاريعه.
وكانت المعركة الحقيقية، تدور في هذا القسم من اسبانيا المسلمة، بين بني عباد والبربر، وقد بدأت منذ الساعة الأولى بين بني عباد وبني حمود، الذين يمثلون زعامة البربر. ومن ثم فقد كان باديس، ومن قبله والده حبوس، ينضوي تحت لواء الحموديين، ويشد أزرهم كلما دعت الظروف، وقد أشرنا من قبل إلى ما كان من مسير حبوس في قوات صنهاجة لمعاونة إدريس المتأيد بالله على محاربة ْابن عباد (427 هـ). ولما سير القاضي ابن عباد قواته تحت إمرة ولده إسماعيل لغزو مدينة قرمونة، وانتزاعها من يد صاحبها محمد بن عبد الله البرزالي، استعان البرزالي بإدريس المتأيد وباديس، فهرعا إلى إنجاده، وكانت قرمونة قد سقطت بالفعل في يد إسماعيل بن عباد، ونشبت بين قوى العباديين وبين البربر على مقربة من إستجة معارك شديدة انتهت بهزيمة جيش ابن عباد، ومقتل قائدهم إسماعيل، وذلك في المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م)(2). وهكذا أكد باديس مرة أخرى تفوقه وتفوق قومه صنهاجة على قوات الأندلس المناوئة للبربر.
ومما هو جدير بالذكر أنه على أثر انتهاء المعركة، ووجود باديس تحت أسوار إستجة، وفد على مخيمه فجأة الكاتب أبو الفتوح الجرجاني، وكان قد فر حسبما تقدم عند اتهامه بالتآمر مع يدِّير على إشبيلية، وهنالك علم أن باديس أمر بالقبض
(1) راجع في ترجمة أحمد بن عباس: الإحاطة ج 1 ص 267 - 270، والذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 175 - 180.
(2)
البيان المغرب ج 3 عى 199، وابن خلدون ج 6 ص 180، والمعجب للمراكشي ص 50.
على زوجه وأولاده ونفيهم إلى المنكب. وكانت زوجه أندلسية بارعة الحسن، وله منها ولدان، وكان يعبدها حباً. فلما اقترب باديس من إشبيلية هرع أبو الفتوح إليه يستأمنه ويستجير به. ولكن باديس استقبله بجفاء، وبعث به مخفوراً إلى غرناطة، وهناك شُهر وعذب ثم اعتقل أياماً، دخل من بعدها باديس إلى مطبقه، وأخذ في تأنيبه وسبه، ثم قتله بيده، واحتز رأسه (آخر المحرم سنة 431 هـ)(1).
ولما اضمحل شأن بني حمود وافترقت كلمتهم، بدأ باديس بالتدخل في شئون مملكة مالقة، تحيناً للفرصة في أخذها. ومن ذلك أنه حينما ثار على إدريس ابن يحيى العالي، ابن عمه محمد بن إدريس في سنة 438 هـ (1046 م)، واستطاع أن ينتزع منه الملك، تقدم باديس لمعاونة الملك المخلوع، وسار معه في بعض قواته إلى مالقة، ولكنهما لم يفوزا بطائل، فلجأ إدريس عندئذ إلى سبتة، وبويع محمد بن إدريس وتلقب بالمهدي، ولكنه لم يفز عندئذ بإجماع الزعماء البربر على مبايعته، وكان باديس أشدهم معارضة في إقامته، ذلك لأنه كان يشعر عندئذ، وبعد أن ضعف شأن بني حمود، أنه أحق برياسة البربر في الأندلس، وأخذ من ذلك الحين يتحين الفرصة لتسديد الضربة القاضية لرياسة بني حمود، وذلك بانتزاع مالقة مقر سلطانهم.
وتم له ذلك في سنة 449 هـ (1057 م)، وذلك بعد أن ارتقى عرش مالقة، بعد محمد بن إدريس المهدي، ثلاثة أخر من بني حمود، وهم إدريس ابن يحيى الملقب بالسامي، ثم إدريس بن يحيى العالي، ثم ولده محمد المستعلي.
فلما تولى المستعلي نكل الزعماء البربر عن مبايعته، وفي الحال سار باديس في قواته إلى مالقة واستولى عليها، وضمها إلى إمارته، وغادرها المستعلي وعبر البحر إلى المغرب، وانتهت بذلك مملكة بني حمود في مالقة، وبقيت بعد ذلك في الجزيرة الخضراء فترة قصيرة أخرى، حتى بعث ابن عباد قواته إلى الجزيرة فطوقتها، من البر والبحر، واضطر صاحبها القاسم بن حمود أن يغادرها بالأمان مع أهله وصحبه، وذلك في سنة 446 هـ (1055 م)، وبذلك انتهت دولة بني حمود في الجزيرة أيضاً، وطويت صفحتهم بالأندلس.
ولما استولى باديس على مالقة، عنى بتحصينها، وشيد قصبتها على أجمل
(1) الإحاطة ج 1 ص 465 و 466، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 96.
طراز وأمنعه، حماية لها من أطماع الطامعين من أمراء الأندلس، ولاسيما بني عباد. وقد كان أهل مالقة بالفعل قد سئموا حكم البربر، وتاقت نفوسهم للتخلص منه، فبعثوا إلى المعتضد بن عباد رسلهم سراً يستحثونه على افتتاح مالقة، واستجاب المعتضد لدعوتهم، وسير إليها حملة بقيادة ولديه جابر والمعتمد، فزحفت على مالقة وطوقتها، وكادت المدينة تسقط في أيديهم، لولا أن اعتصمت حاميتها من البربر والسود بقصبتها المنيعة، ودافعت دفاعاً شديداً، بقيادة قائدها الشجاع مخلوف بن ملول، وهرع باديس في قواته إليها، ونشبت بينه وبين المهاجمين معركة شديدة مزق فيها جند إشبيلية، وقتل وأسر منهم عدد جم، وأسرع جابر والمعتمد ابنا عباد بالفرار في فل جندهما إلى رندة (1).
وكان ذلك في سنة 458 هـ (1066 م). وبعث محمد بن عباد (المعتمد) إلى والده المعتضد من رندة، قصيدته الشهيرة، يستعطفه فيها ويعزيه في مصابه وهذا مطلعها:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
…
ماذا يعيد عليك البثُّ والحذر
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها
…
واصبر فقد كنت عند الخطب تصبر
فإن يكن قَدَرٌ قد عاق عن وطر
…
فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة
…
فكم غزوت ومن أشياعك الظفر (2)
وكان من مظاهر هذه المعركة، التي اضطرمت بين باديس وبني عباد، ما حدث في نفس هذا العام، من التجاء بني بزنيان وأميرهم محمد بن خزرون أصحاب أركش، حينما أرهقهم ابن عباد بغاراته، إلى باديس ليتسلم هو قاعدة أركش، ويعطيهم بدلا منها، مكاناً ينزلون به في أراضي غرناطة، وقد استجاب باديس لرغبتهم وتسلم منهم أركش، وخرجوا عنها بأهلهم وأموالهم ومتاعهم، فدهمتهم قوات ابن عباد في الطريق ومزقتهم، وانتزعت حصن أركش من يد قائد باديس، وسيطر ابن عباد بذلك على سائر منطقة شذونة، وكانت من قبل تحت سيطرة البربر (3).
(1) البيان المغرب ج 3 ص 274 و 275. وراجع كتاب التبيان ص 43.
(2)
وهي طويلة. وقد أوردها ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 56 - 58.
(3)
البيان المغرب ج 3 ص 272 و 273.
- 3 -
وكان باديس قد قطع إلى ذلك الحين ثلاثين عاماً في الحكم، وكانت مملكته تمتد يومئذ من بسطة شرقاً، حتى رندة غرباً، ومن جيّان شمالا إلى البحر جنوباً، وكان قد شاخ وأخلد إلى الراحة، وانهمك في الشراب، وترك مقاليد الأمور كلها لوزيره اليهودي يوسف بن نغرالة (1)، وكان يوسف قد حل في المنصب مكان أبيه اسماعيل بن نغرالة وزير حبوس ثم باديس، وكان هذا الوزير اليهودي قد استأثر بعطف باديس وثقته، فرفعه فوق سائر كتابه ووزرائه، وفوضه في جميع أموره، وعين معظم المتصرفين والعمال من اليهود، واستطاع بمهارته وحنكته أن يملأ خزائن باديس بالمال، وأن يمكنه من الإنفاق على جيشه، ومن تحقيق مشاريعه الإنشائية. وكان اسماعيل فوق ذلك من أهل الأدب والشعر، وكان حسن السيرة رضي الأخلاق، وافر الأناة والحلم، فلم يثر من حوله خصومة ولا منافسة. ويقدم إلينا ابن حيان، وهو المؤرخ المعاصر عن ابن نغرالة، الصورة الآتية:" وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علماً وحلماً وفهماً، وذكاء ودماثة، ورصانة ودهاء، ومكراً وملكاً لنفسه، وبسطاً من خلقه، ومعرفة بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالا لحقودهم بحلمه ". ثم يقول لنا إنه كان بارعاً في الآداب العبرية والعربية، وإنه شغف بالعربية ونظر فيها، وقرأ كتبها، وألف فيها، وكتب رسائل يشيد فيها بالإسلام وفضائله، ودرس الرياضة والفلك والهندسة والمنطق، وكتب كتاب " السجيح في علوم الأوائل الرياضية ". وأخيراً إنه كان بارعاً في الجدل يتفوق فيه على سائر الناس، قليل الكلام، ماقتاً للسباب، دائم التفكر، جماعة للكتب (2). وقد ساعدته هذه الصفات كلها، بلا ريب، على الاستئثار بعطف الأمير وإعجابه وثقته وخلقت من حوله جواً من العطف بين سائر ممن يتصلون به أو يتعامل معهم.
واستمر ابن نغرالة عن مكانته حتى توفي، فندب باديس ولده يوسف للاضطلاع بمنصبه. وكان يوسف فتى جميلا غض الإهاب، وافر الذكاء والبراعة، فقام بالأعمال خير قيام، واستعمل اليهود كذلك على الأعمال، وأبدى في جمع المال همة مضاعفة، فتمكنت منزلته لدى باديس، واجتمعت في يده السلطات شيئاً فشيئاً
(1) كتاب التبيان ص 42.
(2)
الإحاطة عن ابن حيان ج 1 ص 446 و 447.
حتى غدا كأبيه من قبل، أول رجل في الدولة، وأمضاهم تصرفاً في شئونها.
وكان بُلُقِّين ولد باديس الأكبر الملقب بسيف الدولة، والمرشح من بعده لولاية عهده، ينظر إلى استئثار الوزير اليهودي بزمام الأمور، واستئثار بني جنسه بالتصرف في الأعمال، وسيطرتهم التامة على الدولة، ينظر إلى ذلك كله بعين السخط والحسد، وكان يجاهر ببغضه لابن نغرالة، وسعيه إلى إسقاطه، ويفضي أحياناً إلى خاصته برغبته في إزالته وقتله، وكان يذكي فيه هذا الشعور تحريض وزراء الدولة، ولاسيما علي وعبد الله ابنا إبراهيم الشيخ، وإلقاؤهم في روعه أنه أحق بهذا النفوذ، وهذه الأموال التي يتمتع بها اليهود، وأنه قد أخمله وأخمل سائر رجال الدولة بسيطرته عليها (1).
وكان يوسف من جانبه، يضع عيونه وجواسيسه من خاصة باديس في القصر وفي الحريم، فلا يكاد باديس يأتي بحركة أو تصدر عنه كلمة، حتى يقف عليها لفوره، وكان في نفس الوقت يحيط بلقين بعيونه، ويتقصى سائر حركاته وسكناته، ويقف على نياته نحوه. وكان بلقين مع بغضه ليوسف، يبدي له المودة ويتردد على داره، ويشاطره الشراب، وكان منهمكاً مدمناً. فاعتزم يوسف أن يتخلص من بلقين، قبل أن يقضي هو عليه، ودعاه ذات يوم مع خاصته وصحبه، إلى مجلس شراب حافل، ودس له السم في كأسه، فما كاد يغادر مجلسه حتى ملكه قىء شديد، وما كاد يصل إلى داره، حتى لزم فراشه، ثم توفي بعد يومين. فروع باديس لمهلك ولده، على هذا النحو المفاجىء، واستطاع يوسف أن يقنعه باتهام بعض فتيان ولده وجواريه وقرابته، فقتل منهم باديس عدة، وفر الباقون. وكان مصرع بلقين بن باديس في سنة 456 هـ (1064 م)(2).
ْوكان هذا الحادث مقدمة لحادث أخطر وأوسع مدى، وهو الذي اتسم به عهد باديس قبل كل شىء. ذلك أن باديس ترك المجال لوزيره يوسف، وزاد بفقد ولده انطواؤه على نفسه، وزاد يوسف بذلك استئثاراً وسيطرة على الدولة، وبُسط على غرناطة وأعمالها نوع من الطغيان اليهودي المرهق، واستسلم سائر الوزراء والشيوخ إلى هذا السلطان. ولم يكن يناوىء يوسف ويحاول مقاومته سوى " الناية " وهو شخصية غامضة، وأصله من عبيد المعتضد بن عباد،
(1) التبيان ص 39.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 265، والتبيان ص 40، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 231.
وكان متهماً في المؤامرة التي دبرها ضده ولده اسماعيل، ففر من إشبيلية، والتجأ إلى باديس وخدمه وحظى عنده، وعهد إليه ببعض المهام الخطيرة. ثم وقع التنافس بينه وبين يوسف، وكان الناية يحرض على قتله، ويفضي إلى الأمير بذلك كلما سنحت الفرص. وشعر يوسف بتغير الأمير عليه، وبأن منزلته أخذت في الضعف، ففكر في التفاهم مع أبي يحيى بن صمادح صاحب ألمرية، واستدعائه للاستيلاء على غرناطة. وكانت تربط ابن صمادح وباديس علائق مودة قديمة، إذ كان باديس قد وقف إلى جانبه حينما أراد ابن أبي عامر محاربته واسترداد ألمرية منه، ومهد يوسف لمشروعه بأن عمل على تعيين زعماء صِنهاجة، الذين يخشى بأسهم، في الأعمال البعيدة، واستطاع ابن صمادح بالفعل أن ينتزع وادي آش، الواقعة شمال شرقي غرناطة، وأن يشحنها برجاله، ومضى يوسف في مفاوضته وهو محجم متهيب من تنفيذ المشروع. كل ذلك وباديس غارق في لهوه، منكب على لذاته (1)، وخصوم يوسف من صنهاجة، وسائر أهل غرناطة، يضطرمون سخطاً على الطاغية اليهودي، ويترقبون الفرص لإسقاطه. ولقي سخط الشعب الغرناطي على اليهود في تلك الآونة، متنفسه في الشعر، ونظم الفقيه الورع الزاهد أبو إسحاق الإلبيري (2) قصيدته الشهيرة في التحريض على سحق اليهود، والتخلص من طغيانهم، وإليك بعض ما ورد في تلك القصيدة التي ذاعت يومئذ ذيوع النار في الهشيم، وألهبت مشاعر الشعب الغرناطي، وكانت كالشرارة التي أضرمت الحريق، وأثارت الانفجار:
ألا قل لصنهاجة أجمعين
…
بدور الزمان وأسد العرين
لقد زل سيدكم زلة
…
تقرب بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً
…
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا
…
وتاهوا وكانوا من الأرذلين
(1) راجع كتاب التبيان ص 46 و 47 و 50 - 53.
(2)
هو أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الإلبيري. كان فقيهاً ومحدثاً وأديباً وشاعراً. سعى به الوزير يوسف بن نغرالة لأمور نقمها منه لدى سلطانه باديس، فأبعده عن غرناطة فسكن إلبيرة القريبة منها، وانقطع إلى العبادة والزهد. ولكنه لبث يحرض صنهاجة على اليهود في شعره ووعظه، حتى وقع الانفجار، وتم الفتك بهم. وتوفي الإلبيري في أواخر سنة 459، بعد أن شهد آثار تحريضه في بطش صنهاجة باليهود.
ونالوا مناهم وحازوا المدى
…
وقد جاز ذاك وما يشعرون
ومنها:.
أباديس أنت امرء حاذق
…
تصيب بظنك مرمى اليقين
فكيف تحب فراخ الزنا
…
وقد بغضوك إلى العالمين
وكيف استنمت إلى فاسق ..
. وقارنته وهو بئس القرين
وقد أنزل الله في وحيه
…
يحذر من صحبة الفاسقين
فلا تتخذ منهم خادماً
…
وذرهم إلى لعنة اللاعنين
فقد ضجت الأرض من فسقهم
…
وكادت تميد بنا أجمعين
وكيف انفردت بتقريبهم
…
وهم في البلاد من المبعدين
وإني احتللت بغرناطة
…
فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها
…
فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها
…
وهم يخصمون وهم يقصمون
وهم يلبسون رفيع الكسا ..
. وأنتم لأوضاعها لابسون
وهم أمناكم في سركم
…
وكيف يكون أميناً خؤون
وقد لابسوكم بأسحارهم ..
. فما تسمعون ولا تبصرون
ومنها في التحريض على ابن نغرالة وقومه:
فبادر إلى ذبحه قربة
…
وضح به فهو كبش سمين
ولا ترفع الضغط عن رهطه
…
فقد كنزوا كل علق ثمين
وفرق عراهم وخذ مالهم
…
فأنتم أحق بما يجمعون
ولا تحسبن قتلهم غدرة
…
بل الغدر في تركهم يعبثون
فقد نكثوا عهدنا عندهم
…
فكيف تلام على الناكثين
فلا ترض فينا بأفعالهم
…
فأنت رهين بما يفعلون
وراقب إلهك في حزبه
…
فحزب الإله هم المفلحون (1)
ووقع الانفجار في مساء يوم السبت العاشر من شهر صفر سنة 459 هـ
(1) نشر ابن الخطيب في أعمال الأعلام هذه القصيدة بأكملها وهي في ثلاثة وأربعين بيتاً ص 231 - 233، ونشرها دوزي في كتابه Recherches; V،I.App.XXVI
(30 ديسمبر 1066 م). ففي تلك الليلة اجتمع يوسف بن نغرالة بالقصبة على الشراب مع طائفة من صحبه من الضالعين معه من عبيد باديس وخاصته. والظاهر أن مشروعه لاستدعاء ابن صمادح إلى غرناطة كان قد نضج، وأن ابن صمادح كان يكمن مع نفر من صحبه في مكان قريب من المدينة، ينتظر النذير باستدعائه. وكان ثمة في نفس الوقت جماعة من صنهاجة، ممن يرتابون في مشاريع يوسف ونياته، وينقمون على أميرهم تهاونه وتخاذله، يرقبون حركات اليهودي وسكناته.
فحدث والمتآمرون في مجلسهم، أن وقعت مشادة بين عبد من الحضور، وبين حاشية اليهودي، فانطلق العبد إلى خارج القصبة، وهو يصيح: لقد غدر اليهودي ودخل ابن صمادح البلدة. وفي الحال هرع الناس وهم يتصايحون، وفي مقدمتهم رهط صنهاجة المناوئين لليهودي، واقتحموا القصبة، فاستغاث يوسف لفوره بباديس، وحاول الأمير عبثاً أن يهدىء الهاجمين، فهرب يوسف إلى داخل القصر، ومن ورائه مطاردوه، حتى عثروا به في بعض خزائن الفحم وقد تنكر وصبغ وجهه بالسواد فعرفوه وقتلوه، وأخذوه وصلبوه على باب غرناطة.
وكان الجند والمدينة بأسرها، قد ماجت عندئذ، وتخاطف الناس السلاح، وهجموا على بيوت اليهود في كل مكان، وأمعنوا فيهم تقتيلا وتعذيباً، ونهبوا دار يوسف، وكانت غاصة بالنفائس والذخائر، ووجدت له فيما وجد خزانة جليلة من كتب العلوم الإسلامية، ونهبوا سائر دور اليهود وحوانيتهم، وطاردوهم وفتكوا بهم في كل مكان، واستولوا من أموالهم على مقادير هائلة. وهلك من اليهود أكثر من ثلاثة آلاف أو أكثر من أربعة آلاف على قول آخر، في تلك المذبحة التي يصفها ابن بسام بأنها، " ملحمة من ملاحم بني اسرائيل، باءوا بذلها، وطال عهدهم بمثلها " وعاد ابن صمادح أدراجه بعد أن انهار مشروعه (1).
قال ابن الخطيب: " وقبره اليوم (أي قبر يوسف) وقبر أبيه يعرف أصلا من اليهود، ينقلونه بتواتر عندهم أمام باب إلبيرة، على غلوة يعترض الطريق،
(1) راجع أخبار هذه المذبحة في التبيان ص 54، وفي الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 271 و 272، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 447 و 448، وفي أعمال الأعلام ص 233، والييان المغرب ج 3 ص 266 و 275 و 276 وقد اتبعنا ما ورد من التفاصيل في التبيان والذخيرة.
وجاء في المصادر الأخرى أن اجتماع ابن نغرالة في أصحابه كان في داره، وأنه هوجم وقتل بها.
ومكانه من الترفه والترف، والظرف والأدب، معروف " (1).
- 4 -
وأفاق باديس بعد هذا الحادث من خموله وتهاونه، ونهض لاسترداد وادي آش من يد ابن صمادح، فسار إليها في قواته، واستنصر بالمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، فوافاه في بعض قواته على مقربة منها. وضرب باديس الحصار حول وادي آش، وشدد في إرهاقها، وكان بها فضلا عن الحامية، بعض وزراء ابن صمادح وأكابر دولته، ولما اشتد الضيق بالمحصورين بعث زعماؤهم إلى المأمون يرجونه أن يتوسط لهم لدى باديس في تسليم المدينة، والخروج بالأمان، ففعل وأخلى جند ابن صمادح المدينة، وسلمت إلى باديس، واقتطع المأمون من باديس مدينة بسطة ثمناً لمؤازرته، وبعث ابن صمادح إلى باديس يستسمحه ويعتذر عن تصرفه، ثم وافاه إلى غرناطة، وعاد الوئام بين الرجلين (2).
وكانت مدينة جيان قد خرجت عن الطاعة، وكان قد لجأ إليها ماكْسَن الابن الأصغر لباديس حينما سخط عليه أبوه ونفاه من غرناطة، لارتيابه في ولائه وتوجسه من مشاريعه (3). فنزل في جيان في كنف حاكمها مسكن بن حبوس، واستبد مسكن بحكم المدينة، ولم يجد ماكسن سبيلا إلى منافسته، وقنع بالسلامة والدعة، وأخيراً تمكن باديس من إغراء الحامية بالمال والوعود، فثارت على مسكن وماكسن معاً، ونادت بالطاعة لباديس، ففر كلاهما من المدينة ناجياً بنفسه، وقصد ماكسن إلى طليطلة، حيث لجأ إلى ابن ذى النون وخدم في جيشه، وعادت جيان بذلك إلى سلطان باديس.
وكان باديس بعد مقتل وزيره ابن نغرالة، قد استوزر الناية، فعلا سلطانه بسرعة، وانتهى إلى الاستئثار بالأمور على نحو ما كان ابن نغرالة. وقدّم الناية بني برزال، وأخر صنهاجة وأهلهم، فسخطوا عليه، وأخذوا يترقبون الفرص لإهلاكه. وكان من مشاريع الناية أن يفتتح مدينة بياسة القريبة من جيان، وكانت عندئذ من أملاك إقبال الدولة علي بن مجاهد العامري، ووافق باديس على مشروع
(1) الإحاطة ج 1 ص 448، وباب إلبيرة ما يزال إلى اليوم قائماً بمدينة غرناطة.
(2)
التبيان ص 55 - 57.
(3)
التبيان ص 49.
وزيره كارهاً، وانتهى الناية بالاستيلاء على بياسة بعد جهود ونفقات طائلة، وازدادت بذلك مكانته لدى باديس توطداً. وهنا شعر وزراء الدولة، وحكام المدن، أن سلطان الناية يكاد يحجب سلطان باديس ذاته. وخشوا عاقبة تمكنه، وأذاعوا أنه طامع في الرياسة بالائتمار مع بني برزال، ودبروا مؤامرة لقتله والتخلص منه، واتفق على أن يقوم واصل حاكم وادي آش وهو صديق الناية وموضع ثقته بتنفيذ الجريمة، ووعدوه بالوزارة. ولم يمض سوى قليل، حتى وفد الناية على وادي آش لتحقيق بعض الأمور السلطانية، ونزل عند واصل، فانتهز واصل الفرصة السانحة. وقتل ضيفه بالليل وهو سكران. وطار الخبر إلى غرناطة، فانزعج باديس، وأوضح له رجال الدولة أن الجريمة تمت لخيره، وإنقاذه من استبداد وزيره. فتظاهر بالاقتناع مرغماً، وعهد إلى واصل بمنصب قائد الفرسان.
واستطال حكم باديس بضعة أعوام أخرى، وتوفي في العشرين من شوال سنة 465 هـ (يونيه 1073 م)(1) بعد حكم دام سبعاً وثلاثين سنة.
وكان باديس بن حبوس أعظم ملوك البربر في عصر الطوائف وأقواهم جانباً، وكانت مملكته من أكبر ممالك الطوائف رقعة، إذ كانت تمتد من بسطة شرقاً حتى إستجة ورندة غرباً، وبياسة وجيان شمالا حتى البحر جنوباً. وباديس هو الذي مصّر مدينة غرناطة، وغدت منذ عهده من أهم قواعد الأندلس الجنوبية، وأنشأ قصبة غرناطة فوق أنقاض قلعتها القديمة، وسميت باسمها القديم " القلعة الحمراء " وهو الاسم الذي خلد على كر العصور، وغدا فيما بعد علماً على حمراء غرناطة، وأقام داخل القصبة قصره ومسجده الذي دفن فيه، وأنشأ سوراً ضخماً حول الربوة التي تقع عليها القصبة (2). وأنشأ حسبما قدمنا قصبة مالقة المنيعة، التي ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، وأنشأ له جيشاً قوياً مرابطاً من قومه صنهاجة وغيرهم، وبذل له المال الوفير، ووطد الدولة، ونظم مراتبها وعمالاتها. بيد أن بلاطه لم يسطع كما سطعت قصور ملوك الطوائف الأخرى، ولم يسطع بالأخص، كما سطعت دولة بني ذى النون البربرية في الشمال، ولم يجتمع حوله
(1) الإحاطة ج 1 ص 450. وفي ابن خلدون أنه توفي سنة 467 هـ (ج 4 ص 161).
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 180. وراجع كتابي " نهاية الأندلس " الطبعة الثالثة ص 289.
الكتاب والشعراء كما اجتمعوا في قصور الطوائف الأخرى، ذلك أن بلاط غرناطة البربري. لبث محتفظاً بطابع البداوة والخشونة، الذي كان يغلب على دولة آل زيري، ولم تعرف دولتهم تلك الخواص الحضارية والأدبية الرفيعة، التي امتازت بها دول الطوائف الأخرى.
ومما هو جدير بالذكر أن سياسة باديس، كانت متأثرة بالروح العنصري، وكانت ترمي قبل كل شىء إلى تأييد زعامة البربر وسلطانهم، في جنوبي الأندلس.
وكان يقابل هذا الاتجاه لدى الأمراء الأندلسيين اتجاه مماثل، فقد كانوا جميعاً يداً واحدة ضد البربر، في تلك المعركة التي اضطرمت زهاء نصف قرن، منذ استطاع بنو حمود أن يقيموا سلطانهم وخلافتهم في جنوبي الأندلس. ولما تضاءل سلطان بني حمود، تولى باديس زعامة البربر، وأخذ يقود نفس المعركة القديمة ضد أمراء الأندلس. وقد كان هؤلاء الأندلسيون، على قول ابن حيان، معاصر هذه الأحداث، " نمطاً واحداً متظاهرين على عظيم البرابرة يومئذ باديس ابن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة، ومن تميز معه من البربر، وكانوا متعاضدين متناصرين على من يباينهم من الأمراء سواهم، على اختلافهم في الرأي والدعوة ". ويسوق لنا ابن حيان دليل هذا التحزب في موقف الأندلسيين والبربر من الخلاف، فقد كان أمراء الأندلس يدعون للخليفة هشام الذي نصبه ابن عباد في إشبيلية، وكان باديس ومن والاه من أمراء البربر يدعون لإمامهم بمالقة، وهو إدريس بن يحيى بن حمود.
وكانت هذه النزعة العنصرية تحمل باديس في بعض الأحيان، على أخطر القرارات والمشاريع. ومن ذلك ما حدث حينما قام أحد الفرسان باغتيال أمير رندة البربري أبي نصر بن أبي نور وذلك بتحريض من المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية.
فقد ثار باديس لذلك الحادث أيما ثورة، وجال بخاطره أن يفتك برعاياه الأندلسيين في غرناطة، وأن يزهقهم جميعاً تخلصاً من شرهم ومؤامراتهم، ورتب الخطة لتنفيذ هذا العزم الدموي، وذلك حين اجتماع الغرناطيين بالمسجد الجامع يوم الجمعة، ولم يقتنع بنصح وزيره اليهودي اسماعيل بن نغرالة وتحذيره من عواقب عمله، وحشد الجند للتنفيذ، ولكن ابن نغرالة سبقه، فدس بعض النساء إلى دور زعماء الأندلسيين وغيرهم، لتحذيرهم من الحضور إلى المسجد، وهكذا
فشل تدبيره، ثم عدل عنه بعد ذلك حينما أيد نصح وزيره بعض شيوخ صنهاجة (1).
وتشيد الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، بما كان عليه باديس من القوة والطغيان والجبروت. فيقول لنا عنه معاصره ابن حيان:" إنه أرفع أملاك البرابرة في هذا الوقت شأناً، وأشدهم سلطاناً، وأكثرهم رجالا، وأوسعهم أعمالا أملى النصر العزيز علي الأعداء إملاء واختياراً، فلبسه بغياً واستكباراً، وأساء الانتقام، ولم يقل العثرة، وأخذ بالظنة، وأسرف في العقوبة، وشدّ يداً بالعصبية وتقلد الحمية الجاهلية، واستأثر بالقسوة والجبرية، فأسلف في ذلك كله أخباراً مأثورة "(2). ويقول لنا الفتح في القلائد بعبارته المسجعة المنمقة: " كان باديس ابن حبوس بغرناطة، عاتياً في فريقه، عادلا عن سنن العدل طريقه، يجتري على الله غير مراقب، ويسري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولم يشرب الماء إلا من قلب دم. أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، وما زال متقداً في مناحيه، مفتقداً لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل "(3).
ويقدم إلينا عنه ابن الخطيب تلك الصورة القوية الجامعة: " كان رئيساً يبساً، طاغية جباراً شجاعاً، داهية، حازماً، جلداً شديد الأمر، سديد الرأي، بعيد الهمة، مأثور الإقدام، شره السيف، واري زناد الشر، جماعة للمال، ضخمت به الدولة، ونبهت الألقاب، وأمنت لحمايته الرعايا، وطم تحت جناح سيفه العمران، واتسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر، وانفسخ الملك، وكان ميمون الطائر، مطعم الظفر، مصنوعاً له في الأعداء، يقنع أقتاله بسلمه، ولا يطمع أعداؤه في حربة "(4).
على أن حفيده الأمير عبد الله بن بلقين، يحاول أن يقدمه إلينا في صورة أقل جفاء، وأكثر إشراقاً حين يقول: " وكان باديس بن حبوس - جدنا رحمه الله، كبير النفس، عالي الهمة، حاد المزاج، لا يستطيع أحد أن يمخرق عليه في أمر
(1) الإحاطة ج 1 ص 445 و 446، والبيان المغرب ج 3 ص 314.
(2)
نقله أعمال الأعلام ص 230.
(3)
قلائد العقيان ص 18.
(4)
الإحاطة ج 1 ص 443.
من الأمور، ولا ينكسر لأحد من بني عمه، ثقة منه بسعادته، وأن الانخضاع والتمريض في القول لا يعنيه، ولا يزيد في أيامه. وكان ذلك كله منه في حزم وروية، لا يفسد جانباً حتى يصلح آخر، ويضرب بعضهم ببعض، فوجست أنفس البعض منه، وأشربوا هيبته ومخافته " (1).
والخلاصة أن باديس كان طاغية من أقوى الطغاة البربر، الذين عرفتهم الأندلس، ومن أشدهم دهاء وقسوة وإقداماً، ومن أكثرهم ظفراً في الحروب.
وكان أسوة بسائر ملوك الطوائف، قد اتخذ ألقاب الملك، وتلقب بالمظفر بالله، الناصر لدين الله.
- 5 -
ولما توفي باديس المظفر بالله، اتفق رجال الدولة وشيوخ صنهاجة على تولية حفيده عبد الله بن بُلُقِّين مكانه، وكان صبياً حدثاً. وكان أخوه الأكبر تميماً يتولى حكم مالقة منذ أيام جده. أما ماكسن ولد باديس، فقد كان خارجاً على أبيه حسبما ذكرنا من قبل، وكان قد عاد إلى مدينة جيان، وامتنع بها، وكان سيىء الخلال والسيرة، فلم يلتفت إليه، ولم يقم أحد بدعوته، وتولى تدبير الدولة ورعاية الملك الصبي، الوزير سماجة أحد شيوخ صنهاجة، وكان هذا الوزير رجلا حازماً، قوي العزم، شديد السطوة، مرهوب الجانب، فضبط الدولة، واستأثر بالسلطة، وأحسن السيرة.
وكان المعتمد بن عباد يرقب سير الحوادث في غرناطة. فلما توفي باديس، وخلفه حفيده الصبي، أدرك أن الفرصة قد سنحت لتحقيق مشاريعه، فسار في قواته إلى مدينة جيان، أهم قواعد مملكة غرناطة الشمالية، واستولى عليها (466 هـ - 1074 م). ثم سار بعد ذلك إلى غرناطة في قوات كبيرة، وابتنى بعض الحصون على مقربة منها، لكي يستطيع بواسطتها إرهاق المدينة. فحشد الوزير سماجة قوات صنهاجة، وأبدى منتهى العزم في مقاومة المغيرين، فاضطر ابن عباد أن يعود أدراجه دون طائل (2). ورأى الأمير عبد الله بتوجيه وزيره سماجة، أن يعقد مع ألفونسو السادس ملك قشتالة، على نسق معظم أمراء الطوائف، معاهدة
(1) كتاب التبيان ص 27.
(2)
أعمال الأعلام ص 234.
حلف وصداقة، يتعهد فيها بتأدية جزية قدرها عشرون ألف دينار. وعلى أثر ذلك سار عبد الله في قوات صنهاجة، ومعها سرية من الجند النصارى أمده بها ألفونسو السادس، وأغار على أراضي إشبيلية المجاورة، واستطاع أن يسترد حصن قبرة الواقع في جنوب غربي جيان.
وفي العام التالي سار ألفونسو إلى إشبيلية وغرناطة، ومعه وزيره ومستشاره النصراني المستعرب الكونت سسنندو (ششنند)، وهو الذي سبق ذكره في حوادث سقوط طليطلة، ليطالب بأداء الجزية المفروضة. ويقول لنا الأمير عبد الله في مذكراته، إنه أبى أن يدفع تلك الجزية، وإنه لم يخش يومئذ ضراً من ألفونسو، وذلك أسوة بما فعل غيره من ملوك الطوائف (1). وهنا يقوم المعتمد بن عباد بدوره المأثور في انتهاز الفرصة، وفي استعداء ملك قشتالة. ذلك ْأنه بعث وزيره ابن عمار إلى ألفونسو السادس، فعقد معه اتفاقاً وحلفاً، خلاصته أن يتعاون الفريقان في افتتاح غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها لابن عباد، وأن يكون سائر ما فيها من الأموال لملك قشتالة، وأن يؤدي ابن عباد إليه فوق ذلك جزية قدرها خمسون ألف دينار (2).
وأمد ملك قشتالة ابن عمار بسرية من جنده. وبدأ بتنفيذ الخطة بإنشاء حصن على مقربة من غرناطة، شحنه بالجند لإرهاق المدينة. وحاول ابن عباد أن يؤثر بواسطة هذا الحصن في أهل المدينة، ولكنه لم ينل منها مأرباً بالرغم مما أحاق بها من الضيق. ولما منى ابن عباد بالهزيمة في قرطبة على يد ابن ذى النون (467 هـ) اضطر أن يخلي الحصن، فاحتلته جنود غرناطة.
ثم عاد ابن عمار فحرض ألفونسو السادس على غزو أراضي غرناطة، وزين له سهولة افتتاحها، وعندئذ رأى عبد الله بن بلقين أن يتفاهم مع الملك النصراني، فسار إليه بنفسه، وأسفرت المفاوضات بينهما عن تعهد عبد الله بأن يؤدي جزية سنوية قدرها عشرة آلاف مثقال من الذهب، وأن يسلم بعض الحصون الواقعة جنوب غربي جيان، وهذه باعها الملك النصراني إلى ابن عباد.
وينقل إلينا الأمير عبد الله بهذه المناسبة، ما سمعه من أقوال الكونت سسنندو (ويسميه ششلاند) مستشار ألفونسو، شرحاً لسياسة مليكه في الاستيلاء
(1) كتاب التبيان ص 69.
(2)
التبيان ص 70.
على الأندلس، على النحو الآتي، قال:" وإنما كانت الأندلس للروم في أول الأمر، حتى غلب عليهم العرب، وألحقوهم بأنحس البقاع، جليقية، فهم الآن عند التمكن طامعين بأخذ ظلاماتهم، فلا يصح ذلك إلا بضعف الحال والمطاولة، حتى إذا لم يبق مال ولا رجال، أخذناها بلا تكلف "(1).
والتفت عبد الله للشئون الداخلية، فعمل أولا على إزالة وزيره سماجة، وكان هذا الوزير قد غلا في الاستئثار بالسلطة، والاستبداد بالأمور، حتى شعر عبد الله بأنه لم يبق له سلطان إلى جانبه. ومن جهة أخرى، فقد كان هذا الاستبداد يثير سخط رجال الدولة وطوائف الشعب عليه، حسبما يحدثنا بذلك الأمير في مذكراته، ومن ثم فقد عمل عبد الله على إقالة وزيره بالحسنى، وسمح له أن يسير في أهله وأمواله الطائلة إلى ألمرية، حيث نزل بها في كنف صاحبها ابن صمادح، واستقر هناك بحال ثروة وغناء (2).
وحاول عبد الله أن يعمل في نفس الوقت على تنظيم الإدارة، وعزل الحكام الظلمة، وبدأ في ذلك بوادي آش، فعزل حاكمها ابن أبي جوش واعتقله، ثم عزل حاكم المنكب وعين حكاماً آخرين يظن فيهم العدل وحسن السيرة.
وعقد الصلح والمودة مع ابن صمادح صاحب ألمرية، بعد أن سوى النزاع بينهما على حصون الحدود مما يلي فنيانه (3).
وكان تميم بن بلقين أخو عبد الله، قد استقل في تلك الأثناء بحكم مالقة وأعمالها، وتلقب بالمنتصر بالله، واستبد وأساء في حكمه السيرة، وأخذ يغير على نواحي المنكب وغيرها مما هو واقع تحت حكم أخيه. فسار إليه عبد الله في بعض قواته، واستولى على بعض حصون مالقة الأمامية، ثم وقع القتال بين قوات الأخوين أمام مالقة وهزم عبد الله أولا، ولكنه عاد فهزم جند مالقة، وضيق على المدينة، فبعث إليه أخوه يستعطفه، وتدخلت والدتهما في الأمر، وخشي عبد الله من جهة أخرى أن يتحول أخوه إذا اشتد عليه، إلى محالفة ابن عباد، فمال إلى مهادنته، وترك له حكم مالقة ونواحي الغربية أي غربي مالقة.
(1) كتاب التبيان ص 73.
(2)
كتاب التبيان ص 87 و 88، وأعمال الأعلام ص 235.
(3)
كتاب التبيان ص 89 و 90.
وثار في نفس الوقت كباب بن تميت حاكم أرشدونة (أرجدونة) وأنتقيرة وعاث فساداً في تلك المنطقة، فسار إليه عبد الله، وضيق عليه، حتى خضع، وأخرج بالأمان.
وأخيراً تم عقد الصلح والمهادنة بين عبد الله بن بلقين والمعتمد بن عباد، ولم يتيسر ذلك إلا بعد مصرع ابن عمار وزير المعتمد، وهو الذي يصفه عبد الله " بالفاسق " وبأنه كان أس الفتنة، وسويت بين الفريقين سائر وجوه النزاع، من حدود وغيرها (أواخر سنة 477 هـ).
ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك، حتى وقع الحادث بسقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، وذلك في فاتحة صفر سنة 478 هـ (24 مايو سنة 1085 م) ، فاهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وأفاق ملوك الطوائف لأول مرة من تلك الغمرة التي خدرت مشاعرهم، وأعمت بصائرهم مدى نصف قرن، سادت فيه بينهم الفتن والحروب الأهلية، ولبثوا يمزقون بعضهم بعضاً، والعدو الخالد يضرب بينهم، ويؤلب بعضهم على بعض ويتربص الفرصة لانتزاع كل ما يمكن انتزاعه من أراضي ذلك الوطن الذي نسوا قضيته، وضحوا بمصلحته العليا، استبقاء لمصالحهم الخاصة، وأطماعهم الدنيا.
كان سقوط الحاضرة الأندلسية الكبرى - طليطلة - إذن نذير الخطر العام فنهض المعتمد بن عباد - وقد كان يحمل في وقوع تلك المحنة أكبر الأوزار - ونهض زملاؤه أمراء الطوائف، يحاولون جمع الكلمة، ويزمعون الاستنجاد بإخوانهم فيما وراء البحر، ويبعثون بصريخهم، إلى عاهل المرابطين الأمير يوسف ابن تاشفين، حسبما فصلنا ذلك من قبل في أخبار مملكة إشبيلية.
ويقول لنا الأمير عبد الله في مذكراته، إن أول من خطر له الاستنصار بالمرابطين من أمراء الأندلس، هو أخوه الأمير تميم والي مالقة، وأنه أراد أن يستعين بهم ضده ليستدرك ما فاته من مملكة جده باديس، ولكن أمير المسلمين لم يلتفت إلى دعوته (1).
وقد كان عبد الله على اتفاق مع زملائه أمراء الطوائف في استدعاء المرابطين، وقد أرسل رسله مع رسل ابن عباد إلى أمير المسلمين، وتم الاتفاق فيما بين
(1) كتاب التبيان ص 102.
أمراء الأندلس، وبين أمير المسلمين على أن يتحدوا جميعاً بمعونته على غزو قشتالة، وعلى أنه لا يعرض لأحدهم في بلده، ولا يشجع أحداً ممن يروم الخروج عليه (1).
ويحمل ابن الخطيب على الأمير عبد الله، ويقول إنه كان جباناً مغتمد السيف متكاسلا عن الخيل، زاهداً في النساء، موصوفاً بالضعف، لكنه يكتب ويشعر ويتحدث فيما يتحدث فيه الطلبة، ثم يقول لنا إنه وقف خلال زيارته لبلده أغمات على ديوان لعبد الله بخطه " ألفه بعد خلعه، وقرر فيه أحواله والحادثة عليه، مما يستظرف من مثله " مشيراً بذلك إلى مذكراته، وهي التي رجعنا إليها في مختلف المواطن (2).
ونستطيع أن نستشف من هذه المذكرات التي تركها لنا الأمير عبد الله بعنوان " كتاب التبيان " والتي كتبها فيما بعد خلال إقامته في منفاه بأغمات، وسرد فيها تاريخ آبائه، وأحوال حكمه، وحوادث الأندلس في عصره: نستطيع أن نستشف منها ما يؤيد قول ابن الخطيب في جنوح الأمير عبد الله إلى السلم والملاينة والدعة، وفي مجانبته للإقدام، وتخوفه من الحروب وعواقب النضال، وحبه للسلامة والعافية، وإنه ليشكر الله في آخر مذكراته أن نجا من المصير الذي حل بابن الأفطس، حيث فقد حياته مدافعاً عن نفسه ضد المرابطين (3).
(1) التبيان ص 103.
(2)
راجع أعمال الأعلام ص 235.
(3)
كتاب التبيان ص 176.