الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
بنو عباد ومملكة إشبيلية
القسم الأول
ظهور القاضي ابن عباد في إشبيلية. بنو عباد وأصلهم ونشأتهم. القاضي اسماعيل بن عباد ينتزع الرياسة في إشبيلية. بنو حمود وسلطانهم على إشبيلية. صد المستعلي بن حمود عن دخولها. تقديم القاضي ابن عباد عليها. حكمه وأهباته. ولده أبو القاسم محمد. الخلاف بين أبي القاسم بن عباد وابن الأفطس والحرب بينهما. البرزالي صاحب قرمونة. تعليق ابن حيان على عصابات البربر. استيلاء المعتلي ابن حمود على قرمونة. إعلان القاسم بن عباد ظهور هشام المؤيد. قصة هشام والغموض حول مصيره. استرداد ابن عباد لقرمونة ومصرع المعتلي. استيلاؤه عليها وعلى إستجه. الحرب بين ابن عباد والبربر. هزيمة جند ابن عباد ومصرع ولده اسماعيل. وفاة أبي القاسم محمد بن عباد، وقيام ولده المعتمد مكانه. المعتضد بن عباد حسبما يصوره ابن حيان. حملة ابن بسام عليه. قسوته وصرامته. إمارات الطوائف في غربي الأندلس. إمارة لبلة ومهاجمة المعتضد لها. تدخل ابن الأفطس والحرب بينه وبين المعتضد. استيلاء المعتضد على لبلة. لبلة وأسوارها الأندلسية. إمارة ولبة وجزيرة شلطيش. استيلاء المعتضد عليها. استيلاؤه على شنتمرية الغرب. استيلاؤه على باجة. إمارة شلب واستيلاؤه عليها. الإمارات البربرية. خطة ابن عباد في الاستيلاء عليها. كمين المعتضد للأمراء البربر وإهلاكهم. استيلاؤه عل أركش ومورور. استيلاؤه على رندة ثم قرمونة. استيلاؤه على الجزيرة الخضراء. اتساع مملكة إشبيلية. ضغط ملك قشتالة على الطوائف. المعتضد وزملاؤه يؤدون له الجزية. خروج اسماعيل بن المعتضد على أبيه. اعتقاله وإعدامه. رسالة المعتضد عن الحادث لرؤساء الأندلس. قطع المعتضد الدعوة لهشام المؤيد. تهكم ابن حيان على قصة هشام. شخصية المعتضد وخلاله وسياسته. قسوته المروعة. قصة الرؤوس المحنطة. قصور بني عباد. صفة المعتضد. شغفه بالنساء. أدبه وشاعريته. وزراؤه وكتابه الأعلام. ابن زيدون وابن عبد البر والبزلياني. وزيره ششقند.
كانت مملكة إشبيلية أو غربي الأندلس، من حيث الرقعة الإقليمية، والزعامة السياسية، والقوة العسكرية، أهم دول الطوائف وأعظمها شأناً، وفضلا عن هذا التفوق الإقليمي والسياسيي، فقد سطعت مملكة إشبيلية بين دول الطوائف زهاء نصف قرن، بفخامة بلاطها، وروعة رسومها، وكان للأدب والشعر بها دولة زاهرة، طبعت هذه الحقبة القصيرة من تاريخها، بطابعها الخالد.
وإذا كنا سوف نخص مملكة إشبيلية بالحديث فيما يلي، فإن هذا الحديث سوف يكون مشعباً متعدد النواحي، وسوف يمتد إلى إمارات ودول أخرى، ليس فقط داخل منطقة الغرب أو غربي الأندلس، التي كانت تسيطر عليها مملكة إشبيلية، ولكن إلى مناطق وممالك رئيسية أخرى.
- 1 -
بدأت جذور مملكة إشبيلية مبكرة، منذ انهيار الدولة العامرية في نهاية المائة الرابعة. وفي الوقت الذي كانت تضطرم فيه عاصمة الخلافة قرطبة، بالفتن والانقلابات المتعاقبة، كان قاضي إشبيلية أبو الوليد اسماعيل بن عباد، يعمل في هدوء وصمت، على جمع خيوط الرياسة في يده، وعلى الاستئثار بحكم المدينة العظيمة، التي تركت كباقي القواعد الأخرى لمصيرها.
كان اسماعيل بن عباد يتولى خطة القضاء بإشبيلية منذ أيام المنصور بن أبي عامر، وكان فضلا عما يمتاز به من العلم والحكمة والورع، ينتمي إلى بيت من أعظم البيوتات العربية الأندلسية. فلما وقعت الفتنة وسادت الفوضى كل ناحية من نواحي الأندلس، استمر إسماعيل في خطة القضاء، وأخذ في نفس الوقت يعمل على حفظ النظام، وضبط الأمور في المدينة. وكان علي بن حمود حينما دخل قرطبة وتولي الحكم بها سنة 407 هـ، تولي أخوه القاسم حكم إشبيلية، وبقي ابن عباد على حاله في منصب القضاء. ولما قتل علي بن حمود، تولي أخوه القاسم مكانه في الخلافة في قرطبة، وخلا الجو ثانية لابن عباد. وكان في خلال الفترة التي كانت فيها خلافة الحموديين تتردد بين قرطبة وإشبيلية، وما تخللها من الأحداث المتوالية، يعمل على توطيد مركزه وتدعيم رياسته، ويعمل بالأخص على حماية المدينة من أطماع البربر وعيثهم، ويجمع حوله كلمة الزعماء حتى لا تغدو إشبيلية كما غدت قرطبة مسرحاً للفتنة، ومرتعاً لأطماع البربر. وقد وفق في خطته كما سنرى أعظم توفيق.
ويجدر بنا قبل أن نتحدث عن عهد بني عباد أمراء إشبيلية، أن نذكر كلمة عن أصلهم، وأوّليتهم.
كان بنو عباد، وفقاً لأقوال علماء النسب، ينتمون إلى لخم. ومؤسس دولتهم ومنشىء مجدهم، هو القاضي أبو القاسم محمد بن اسماعيل بن قريش بن عباد
ابن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عِطاف بن نعيم. وعطاف هو جدهم الداخل إلى الأندلس في طالعة بَلْج بن بشر القشيري. وأصله من أهل حمص الشام، لخمي النسب صريحاً. ولما دخل إلى الأندلس نزل بقرية "يومين" بقرب بلدة طشانة Tocina من أعمال إشبيلية، وهي واقعة على ضفة نهر الوادي الكبير. ونحن نعرف أن جند الشام قد نزلوا لأول الفتح بإشبيلية أو حمص كما سموها يومئذ، نظراً لما بينها وبين حمص الشام من شبه قوي في الطبيعة والإقليم. وفي رواية أخرى أن بني عباد هم من ولد النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وبذلك كانوا يفخرون ويمدحون، وهذا ما يؤيده قول شاعرهم ابن اللبانة:
من بني المنذر بن ما السماء وهو انتساب زاد في فخره بنو عباد
نبتة لم تلد سواها المعالي
…
والمعالي قليلة الأولاد
وتألق نجم بني عباد، في أعقاب الفتنة، على يد جدهم أبي الوليد اسماعيل قاضي إشبيلية، وكان قد تقلب قبل انهيارالخلافة في عدة من الوظائف الكبرى، فولى الشرطة لهشام المؤيد، ثم ولي خطة الإمامة والخطابة بالجامع الأعظم، ثم ولي قضاء إشبيلية. ولما اضطرمت الفتنة، وتجهمت الظروف، استطاع بحزمه ودهائه، ووجاهته وبذله، أن يستغل ظروف الفتنة على أكمل وجه، وأن يجمع في يده أزمة الرياسة والحكم شيئاً فشيئاً، معتمداً في ذلك على عراقة بيته، ورفيع مكانته، وواسع ثرائه، ومعاونة الزعماء والأكابر الذين استمالهم إلى جانبه، بلينه وجوده ولباقته؛ ويصفه ابن حيان بأنه " رجل الغرب (أي غربي الأندلس) قاطبة، المتصل الرياسة في الجماعة والفتنة "، وينوه بوفور عقله وسبوغ علمه، وركانته ودهائه وبعد نظره، ويقول لنا إنه كان " أيسر من بالأندلس وقته، ينفق من ماله وغلاته، لم يجمع درهماً قط من مال السلطان ولا خدمه ".
ولما شعر القاضي ابن عباد بأنه حقق بغيته، من توطيد قدمه في الرياسة، وأثقلته السنون، وكف بصره أو كاد، ندب ولده أبا القاسم محمد ليشغل مكانه خطة القضاء. وكان سلطان بني حمود ما يزال ثمة يتردد بين قرطبة وإشبيلية، ويخفق علم خلافتهم هنا وهناك. وقد رأينا أن القاسم بن حمود قد تولى الخلافة في قرطبة عقب مقتل أخيه علي (أواخر سنة 408 هـ). وفي أوائل سنة 412 هـ، ثار عليه ابن أخيه يحيى بن علي، وزحف بقواته على قرطبة، فغادرها القاسم في نفر من صحبه، وقصد إلى إشبيلية، وهناك تسمى بالخلافة وتلقب بالمستعلي.
بيد أنه ما لبث أن استدعى ثانية إلى قرطبة، على أثر خلع ابن أخيه يحيى، وهنالك جددت له البيعة (ذو الحجة سنة 413 هـ). وكان المستعلي حينما استقر بإشبيلية قد اصطنع أبا القاسم بن عباد بعد موت أبيه اسماعيل، وقربه إليه، وأقره في ولاية القضاء. وكان أبو القاسم يشعر من جانبه أن استمرار سلطان الحمّوديين، يهدد رياستهم وينذر بالقضاء عليها. فلما استدعى المستعلي ليتولى الخلافة ثانية في قرطبة، اجتمع رأي أهل إشبيلية على ثلاثة من الزعماء هم القاضي اسماعيل بن عباد، والفقيه أبو عبد الله الزبيدي، والوزير أبو محمد عبد الله بن مريم، يتولون حكمها وضبط الشئون فيها، فكانوا يحكمون بالنهار في القصر، وتنفذ الكتب تحت أختامهم الثلاثة، ومع ذلك فقد كان القاضي ابن عباد، بمركزه ووفرة ثرائه ووجاهته، أقواهم سلطاناً، وأعلاهم يداً. فعكف على العمل على توطيد سلطانه، وعلى إضعاف سلطة البربر في المدينة. ولما عاد المستعلي بعد قليل لاجئاً مع فلوله إلى إشبيلية، بعد أن خلعه القرطبيون، وطلب أن تخلي له ولأصحابه الدور، اتفق زعماء المدينة، وعلى رأسهم أبو القاسم على إغلاق أبوابها، وصد المستعلي وصحبه البربر عن الدخول إليها، وأخرج من كان بها من ولد المستعلي وأهله، ومن زعماء البربر وأكابرهم. واتفق أهل إشبيلية، اتقاء لعدوان المستعلي وأشياعه من البربر، على أن يؤدوا له قدراً من المال، وينصرف عنهم، وتكون له الخطبة والدعوة، ولا يدخل بلدهم، ولكن يقدم عليهم من حكمهم ويفصل بينهم، فقدم عليهم القاضي أبا القاسم بن عباد، ورضى به الناس، وبذا انفرد ابن عباد أيضاً بالرياسة الشرعية، وقد كان منفرداً بها من الناحية الفعلية؛ وكان ذلك في أواخر سنة 414 هـ (1023 م) وبذلك انتهت رياسة البربر في إشبيلية، كما انتهت من قبل في قرطبة (1).
(1) راجع في أصل بني عباد وظهورهم: ابن الأبار في الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال رقم 1654) لوحة 65 أ، ونقله دوزي في كتابه: Scriptorum Arabum Loci de Abbaditis ( الكتابات العربية المتعلقة ببني عباد)، والمسمى أيضاً Historia Abbadidarum ( تاريخ بني عباد)(ليدن سنة 1846 - 1863 في ثلاثة مجلدات) ج 1 ص 220 و 221. وراجع الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 34 - 38. وراجع أيضاً جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 398، والبيان المغرب ج 3 ص 194 - 196 و 314 و 315، وأعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع بيروت) ص 152 و 153.
ونود أن نلاحظ بهذه المناسبة أن العلامة رينهارت دوزي قد عمد إلى تمزيق كتاب "الحلة السيراء"، فاستخرج منه تراجم عديدة نشرها في كتابه Hist. Abbadidarum ( تاريخ بني عباد)، ونشر بعضها في كتابه: Recherches، ثم نشر معظم ما تبقى بعد ذلك من التراجم في مجلد =
ونظم ذو الوزارتين أبو القاسم بن عباد حكم المدينة، بعد أن غدا قاضيها وحاكمها السياسي معاً، معتمداً في ذلك على تأييد زعماء البيوتات العربية ومعاونتهم، وعلى تأييد الشعب والتفافه من حوله. وكان بالرغم من استئثاره بالسلطة، يبدي في أحكامه وتصرفاته كثيراً من اللين والرفق، وكان يعمل في هدوء وأناة على التخلص من سائر منافسيه، والقضاء عليهم واحداً بعد الآخر. وعمد في نفس الوقت إلى شراء العبيد، وحشد الرجال، واقتناء السلاح، ولم يكن يخفي عليه أن الحموديين، وشيعتهم من البربر يتربصون به، ويطمحون إلى امتلاك إشبيلية.
وكان بنو حمود من جانبهم يخشون بأسه وأطماعه على مملكتهم، ومن جهة أخرى فإن أطماع ابن عباد لم تكن تقف عند حكم إشبيلية وحدها، بل كانت تتجه إلى التوسع، ولاسيما في ناحية الغرب، التي كانت بطبيعتها الإقليمية تتبع إشبيلية، وكانت من جهة أخرى خالية من المنافسين الأقوياء.
وكان أول صدام عسكري خطير اشترك فيه أبو القاسم بن عباد، قتاله مع
بني الأفطس أصحاب بَطَلْيوس، وهم جيرانه من الشمال. ومما يجدر ذكره أن ابن
عباد مع خصومته للبربر، كان يعتمد على محالفة محمد بن عبد الله البرزالي البربري
صاحب قرمونة، أولا لأن قرمونة كانت حصن إشبيلية من الشرق، وثانياً
لأن البرزالي كان يخشى سطوة بني حمود وأطماعهم في المدينة، ومن ثم فقد
كانت تجمعه مع ابن عباد مصلحة جوهرية مشتركة؛ ولما وقعت الخصومة بن ابن عباد، والمنصور بن الأفطس صاحب بطليوس، بشأن الاستيلاء على مدينة باجة، التي وقع الخلاف بين أهلها على الرياسة، بعث ابن عباد لقتاله ولده اسماعيل
= بعنوان: Extraits de l'Ouvrage intitulé Al - Hollato، S'Syiara. " نبذ من الكتاب المسمى الحلة السيراء "(ليدن 1847 - 1851) باعتباره يضم تراجم " الإسبانيين " أي الأندلسيين وليس المغاربة. ولم يكتف دوزي بذلك، بل عمد إلى تمزيق كثير من التراجم، فنشر أقساماً منها في Hist. Abbad. وكذلك في Recherches، ونشر باقيها في المجموعة المشار إليها. وفي اعتقادنا أن ذلك لم يكن عملا سليماً من الناحية العلمية، إذ ترتب عليه تمزيق الكتاب وبعثرة محتوياته ومن ثم فقد اضطررنا في الطبعة الأولى أن نرجع أحياناً إلى الأصل المخطوط، وأحياناً إلى أجزائه المطبوعة المبعثرة هنا وهناك.
هذا ومما يدعو إلى الغبطة أن كتاب الحلة السيراء قد صدر أخيراً في طبعة كاملة محققة في مجلدين كبيرين (القاهرة سنة 1964) بعناية الدكتور حسين مؤنس مدير معهد الدراسات الإسلامية بمدريد. ومن ثم فقد رأينا أن نرد المراجع التي أثبتناها مخطوطة في الطبعة الأولى، خلال الكتاب، إلى هذه الطبعة الجديدة المطبوعة.
على رأس نخبة من جنده، واشترك معه البرزالي بقواته، وحاصرت القوات المشتركة مدينة باجة التي احتلتها قوات ابن الأفطس، وقتلت وأسرت معظمهم، وكان بين الأسرى ولد ابن الأفطس، فاعتقل لدى البرزالي حيناً بقرمونة ثم أطلق سراحه، وكذلك كان منهم أخ لابن طيفور صاحب ميرتُلَة وقد صلب بإشبيلية (421 هـ).
ثم عادت الحرب فاضطرمت بين الفريقين بعد ذلك بأربعة أعوام. وكان ابن الأفطس وهو من الأصول البربرية، يعتمد أيضاً في جيشه على فريق من البربر؛ وسارت قوات إشبيلية بقيادة إسماعيل بن عباد شمالا إلى أراضي ابن الأفطس وتوغلت فيها، ولكنه حين العودة فاجأته قوات كثيفة لابن الأفطس، ومزقت عسكره، ففر مع فلوله إلى مدينة أشبونة، وامتنع بها حيناً، وكانت هزيمة ساحقة لبني عباد (425 هـ - 1034 م).
وكان محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، من أكبر محرضي ابن عباد ومعاونيه في تلك المعارك. ويصفه ابن حيان "بقطب رحي الفتنة" وينوه بفتكه وعيثه وقبح آثاره في تلك المنطقة، وأنه كان من خصوم الخلافة، لا يروم قيامها بقرطبة بأي وجه "رسوخاً في الخارجية ودفعاً لأمر الله"، وأنه كان يقطع السبل على قرطبة، ويضيق عليها الحصار، حتى اضطر وزراء قرطبة إلى الاستعانة ضده بفريق من بربر بني برزال بشذونة، واعتضدوا بهم مدة. واعتضد ابن الأفطس بطائفة أخرى منهم. ويقول ابن حيان معلقاً على تلك الحالة في تسرب البربر إلى سائر الجهات:"فكان في كل بلد جملة منها، سالت عن أهل البلاد سيول بها، وخلطوا الشر بين رؤسائها، واستخرجوا بذلك، ما أظهروه من دنانيرهم وخلعهم، وجاحوا ذات أيديهم وعلموهم كيف يوكل الكتف، فطال العجب عندنا بقرطبة وغيرها من صعاليك، قليل عددهم، منقطع مددهم، اقتسموا قواعد الأرض في وقت معاً، مضربين بين ملوكها، راتعين في كلاها، باقرين على فلذتها، حلوا محل الملح في الطعام ببأسهم الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد، فلا يقتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض إلا في جوارهم، فطائفة عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا بقرطبة تحيز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم، ومكن في الأرض لهم، إلى وقت وميعاد "(1).
(1) نقلها دوزي عن الذخيرة: راجع: Historia Abbadidarum V. I. p. 221.
وكان من أشهر أعمال القاضي ابن عباد في تلك الفترة، إعلانه لظهور هشام ْالمؤيد، وإقامته خليفة بإشبيلية، وكان يحيى بن حمود الملقب بالمعتلي، قد استقر في مالقة حسبما أسلفنا، وجعلها مقر ملكه، وبسط حكمه على معظم قواعد الأندلس الغربية الجنوبية. وكان يخشى مشاريع ابن عباد، ويرى فيه خصمه الحقيقي. فلما توثقت عري التحالف بين البرزالي صاحب قرمونة وابن عباد، أخذ يتوجس شراً، ومن ثم فقد انتهز أول فرصة، وسار إلى قَرْمونة، وانتزعها من يد صاحبها محمد بن عبد الله البرزالي، فلجأ محمد إلى إشبيلية واستغاث بحليفه ابن عباد. ولما شعر ابن عباد بخطورة الموقف، وأخذ يحيى المعتلي يرهقه بغاراته المتوالية على أراضي إشبيلية، ويردد النذير بوجوب استردادها باعتبارها من أملاك الحمّوديين، أعلن ذات يوم أن هشاماً المؤيد قد ظهر، وأنه كان مختفياً ولم يمت (أواخر 426 هـ - 1035 م)، وذلك لكي يدحض دعوى الحموديين في الخلافة بظهور الخليفة الشرعي. وقد ساقت إلينا التواريخ المعاصرة تفاصيل هذه القصة أو بالحري هذه الأسطورة. ونحن نعرف مما تقدم أن سليمان المستعين حينما دخل قصر قرطبة في أواخر سنة 403 هـ، قبض على هشام المؤيد وأخفاه.
وأن الرواية تختلف بعد ذلك في مصيره، فيقال إنه قتل بعد ذلك بيد محمد بن سليمان، ويقال من جهة أخرى، إنه فر من محبسه، وعاش حيناً في ألمرية حتى توفي. وعلى أي حال فقد استمر هذا الغموض الذي يحيط بمصير هشام مدة طويلة، ومختلف الروايات والقصص تنسج من حوله، يذيعها بنو عمه المروانية، وفتيان القصر وجواريه السابقين، ومؤداها أن هشاماً لم يمت، وأنه مختف وسوف يظهر في الوقت المناسب. وعلى أساس هذه الروايات، أظهر ابن عباد شخصاً زعم أنه هشام المؤيد، وجمع حوله نفراً من خدم القصر السابقين، فأيدوا روايته وشهدوا بصدق زعمه، ويقال إن هذا الشخص كان بالفعل يشبه هشاماً شبهاً كبيراً. وكان هذا الرجل يعمل مؤذناً بمسجد في قرية من قرى إشبيلية، فاستقبل عند خروجه من المسجد، وألبس الثياب الخلافية، وقبل ابن عباد وولده وصحبه الأرض بين يديه، وخوطب بألقاب الخلافة، ثم أخذ إلى القصر، حيث أقبل الناس أفواجاً لبيعته، وهو يخاطبهم من وراء حجاب، ويخبرهم بأنه قد عهد بحجابته إلى إسماعيل بن عباد. ويقول لنا ابن القطان إن هذا الدعي كان يسمي خلف الحصري، وإنه كان يشبه هشاماً، وإنه حينما أتى به إلى إشبيلية، نودي في
الناس، أن اشكروا الله على ما أنعم عليكم به، فهذا مولاكم أمير المؤمنين هشام قد صرفه الله عليكم، وجعل الخلافة ببلدكم لمكانه فيكم، ونقلها من قرطبة إليكم، فاشكروا الله على ذلك (1).
وذاعت قصة ظهور هشام في سائر الأنحاء، وبعث ابن عباد بكتبه إلى سائر قواعد الأندلس، يطلب من رؤسائها الاعتراف والبيعة لهشام المؤيد. فلم يعترف بها سوى بعض الفتيان العامريين السابقين، واعترف بها الوزير أبو الحزم بن جهور لنفس البواعث، التي حملت ابن عباد على اختراعها، وهو العمل على دفع دعاوي الحموديين ومطامعهم حسبما سبقت الإشارة إليه.
ويندد الفيلسوف ابن حزم بقصة هذا الخليفة المزعوم، ويصفها بأنها "أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها". ثم يقول إنها لفضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها، أن يقوم أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بإمرة أمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، وهم: خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام بن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة، ومحمد بن إدريس بن علي بن حمود بمالقة، وإدريس بن يحيى بن حمود بببشتر (2).
وعلى إثر ذلك استعد ابن عباد لاسترداد قَرْمونة من يد يحيى المعتلي، فسير بعض قواته مع ولده إسماعيل، ومعها طائفة من البربر المتحالفين معه. فطوق قسم منها المدينة ليلا، وكمن القسم الثاني في أماكن مستترة. وكان يحيى المعتلي داخل المدينة، وهو عاكف على لهوه وشرابه، فلما وقف على الخبر. خرج مع قواته وهو ثمل، واشتبك مع المهاجمين في معركة حامية، وعندئذ ظهرت قوات ابن عباد من مكمنها وأطبقت عليه، فمزقت قواته وقتل خلال المعركة، واحتز رأسه وحمل إلى القاضي ابن عباد (المحرم سنة 427 هـ) ورد ابن عباد قرمونة إلى صاحبها السابق، حليفه محمد بن عبد الله البرزالي.
بيد أنه لم تمض على ذلك أعوام قلائل حتى ساء التفاهم بين ابن عباد والبرزالي.
وكان ابن عباد يرى أن قرمونة، وهي حصن إشبيلية من الشرق يجب أن تكون في حوزته، فسير ولده إسماعيل في حملة قوية إلى قرمونة فاستولى عليها. ثم استولى بعد ذلك على مدينة إستجة الواقعة في شرقها وكذلك على مدينة أشونة الواقعة
(1) البيان المغرب ج 3 ص 199 و 200، وأعمال الأعلام ص 154.
(2)
نقط العروس لابن حزم (المنشور بمجلة كلية الآداب ديسمبر 1951) ص 83 و 84.
جنوبي إستجة، فاستغاث البرزالي بزملائه من الزعماء البربر، وهرع إلى نصرته إدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، وكان كلاهما يتوجس من مشاريع ابن عباد وأطماعه، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية عدة معارك عنيفة، واستطاع البربر أن يخترقوا أراضي إشبيلية حتى قلعة جابر (1) حصنها من الشرق، وانتهى الأمر بأن هزم الإشبيليون، وقتل أميرهم إسماعيل ابن عباد، واحتز رأسه وحمل إلى باديس، وذلك أسوة بما حدث ليحيى المعتلي، وكان ذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م)(2).
فكان لتلك النكبة أسوأ وقع في نفس القاضي ابن عباد، فندب ولده الثاني عباداً لتدبير الشئون، وقيادة الجيش، فأبدى قوة وحزماً، ولبث زهاء عامين مضطلعاً بمهمته، حتى توفي أبوه في نهاية جمادى الأولى سنة 433 هـ (يناير 1042 م).
وكان القاضي ابن عباد عالماً أديباً، وشاعراً مطبوعاً، ومن قوله في الفخر:
ولابد يوماً أن أسود على الوري
…
ولو رد عمرو للزمان وعامر
فما المجد إلا في ضلوعي كامن
…
ولا الجود إلا في يميني ثابر
يجيش العلي بين جنبي جايل
…
وبحر الندى أسير كفي زاخر
ويمكننا أن نعتبر القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، مؤسس دولة بني عباد الحقيقي، ومنشىء ملكهم ورسوم مملكتهم، وعلى يده اتخذ سلطان بني عباد ألوانه الملوكية المدعمة بالقوى العسكرية، وإن لم يصل بعد إلى غايته من الروعة والضخامة، وأصبح ملوكية وراثية راسخة، بعد أن كان يتخذ فقط صورة الزعامة، والرياسة القبلية.
- 2 -
فولى الأمر من بعده ولده أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل، وتلقب أولا بفخر الدولة، ثم بالمعتضد بالله، وكان يوم ولايته فتى في السادسة والعشرين، وكان مولده في صفر سنة 407 هـ (1016 م). وقد أجمعت الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، على الإشادة بخلال المعتضد الباهرة، وصفاته المثيرة معاً. ويصفه ابن حيان، وهو معاصره، ومتتبع لأحداث حياته وحروبه، بأنه "زعيم جماعة أمراء الأندلس في وقته، أسد الملوك، وشهاب الفتنة، وداحض العار، ومدرك الأوتار،
(1) هي بالإسبانية Alcalà de Guadaira، وما تزال أطلالها قائمة حتى اليوم.
(2)
جذوة المقتبس ص 29 و 30.
وذو الأنباء البديعة، والجرائر الشنيعة، والوقائع المثيرة، والهمم العلية، والسطوة الأبية". وابن حيان أميل إلى تزكية المعتضد منه إلى الحكم عليه، حسبما يبدو ذلك من قوله "فلقد حمل عليه على ممر الأيام في باب فرط القسوة، وتجاوز الحدود والابلاغ في المثلة، والأخذ بالظنة، والإحتقار للذمة، حكايات شنيعة لم يبد في أكثرها للعالم بصدقها دليل يقوم عليها، فالقول ينساق في ذكرها، ومهما برىء من مغيبها فلم يبرأ من فظاعة السطوة، وشدة القسوة، وسوء الاتهام على الطاعة، سجايا من جبلَّته لم يحاش فيهن ذو رحم واشجة". بيد أن ابن بسام، وقد عاش قريباً من عصر المعتضد، يبدو أشد قسوة في الحكم عليه إذ يصفه فيما يلى: "قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم عليه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض، وأسد فرس الطلى وهو رابض، متهور تتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة، متعسف اهتدى، ومنبت قطع فما أبقى، ثار والناس حرب، وكل شىء عليه ألب، فكفى أقرانه وهم غير واحد، وضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، حربه سم لا يبطىء، وسهم لا يخطىء، وسلمه شر غير مأمون، ومتاع إلى أدنى حين " (1).
وافتتح المعتضد عهده بأمور كشفت عن صرامته وعنف وسائله، منها قتل حبيب وزير أبيه، ومنها اضطهاد الزعماء القدماء ونكبتهم، وقد كان في مقدمة هؤلاء الفقيه أبو عبد الله الزبيدي، وأبو محمد عبد الله بن مريم زميلا جده القاضي ابن عباد في الرياسة، وذلك حتى لا يقوم لأحد من ذوي العصبيات القوية قائمة.
ثم وضع خطته الشاملة للاستيلاء على قواعد الغرب من أمرائها الأصاغر، حتى يخلص الغرب كله من الوادي الكبير إلى المحيط لسلطان بني عباد.
إمارات غربي الأندلس
وكانت أولى هذه القواعد مدينة لبلة الواقعة غربي إشبيلية، وشمال شرقي ثغر ولبة، وكان قد ثار بها أيام الفتنة، أبو العباس أحمد بن يحيى اليحصبي المعروف باللبلي، أحد كبرائها، وضبطها، وبايعه أهلها (سنة 414 هـ) وبسط سلطانه
(1) أورده ابن بسام في ترجمة المعتضد في الذخيرة، وأورده دوزي في Historia Abbadidarum، V.I.p. 241 & 242. وأورده ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 40 و 41.
على ما حولها من الأراضي ومنها "جبل العيون"(1)، واستمر في حكم دولته الصغيرة زهاء عشرين عاماً، ثم توفي سنة 434 هـ، وأوصى بالحكم من بعده لأخيه أبي عبد الله محمد بن يحيى اليحصبي الملقب بعز الدولة، فمضى في حكمها على ما كان عليه من النظام والرخاء والأمن، حتى بدأ المعتضد بن عباد يرهقه بمطالبه وغاراته، ثم كشف المعتضد القناع، وهاجم لَبلة بقواته. فاستغاث ابن يحيى بصديقه المظفر ابن الأفطس صاحب بطليوس، فلبى نداءه وسار إلى نجدته بقواته، وحرك في نفس الوقت بعض حلفائه البربر إلى مهاجمة إشبيلية. ولما وقف الوزير أبو الوليد بن جهور على تلك الحركة أهمته، وتوجس من عواقبها، فأرسل إلى الزعماء المتخاصمين رسله ينصحهم بوجوب التريث، والتمسك بأهداب التفاهم والسلم، ويحذرهم من عواقب الفتنة، فلم يصغ إليه أحد منهم، وبادر المعتضد، في الوقت الذي سارت فيه قوات ابن الأفطس إلى إنجاد ابن يحيى، فأرسل قواته لمهاجمة أراضي ابن الأفطس، فعاثت فيها وخربتها، ثم سار المعتضد بنفسه إلى لبلة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، هزم فيها ابن الأفطس أولا، ثم دارت الدائرة بعد ذلك على المعتضد، وقتل عدد كبير من جنده (439 هـ - 1047 م). وسارت بعض طوائف البربر في نفس الوقت، وعاثت في شرقي إشبيلية، وقطعت الطرق، وفتكت بالسابلة، وساءت الأحوال في المنطقة كلها.
والظاهر أن ابن يحيى رأى في النهاية أن يتفاهم مع المعتضد بعد الذي نزل ببلاده من الخراب والعيث، فعقد معه الصلح. ولكن ذلك لم يرض المظفر بن الأفطس، فأبى أن يرد إلى ابن يحيى ودائعه وأمواله، التي أودعها عنده حينما هاجمه المعتضد، ثم أرسل قواته لمهاجمة لبلة، فاستغاث ابن يحيى بالمعتضد فأرسل إليه الأمداد، واستمرت المعارك بين الفريقين حيناً.
تم عادت الحرب فاضطرمت بين المعتضد وابن الأفطس في سنة 442 هـ (1050 م) وعاث المعتضد في أراضي ابن الأفطس، وافتتح منها عدة حصون ضمها إلى مملكته، وأتلف الزروع وخرب كثيراً من القرى، وقتل الكثير من جند ابن الأفطس، ونضبت موارده، فانتهى إلى الاعتصام بحاضرته بطليوس وذلك على ما نفصله فيما بعد في أخبار مملكة بطليوس. وأخيراً تدخل الوزير
(1) وهي بالإسبانية Gibraléon
ابن جهور بين الفريقين، واستمر في مساعيه الحثيثة حتى عقد الصلح بين المعتضد وابن الأفطس في ربيع الأول سنة 443 هـ (1051 م).
والتفت المعتضد بعد ذلك إلى لَبلة فضيق الخناق عليها، وفي النهاية اضطر
أميرها عز الدولة أن يتنازل عن حكمها لابن أخيه أبي نصر فتح بن خلف اليحصبي الملقب بناصر الدولة، على أن يعقد السلم مع المعتضد، وأن يؤدي له جزية سنوية.
وانتقل بأهله وأمواله إلى قرطبة، ليعيش هناك في كنف الوزير أبي الوليد بن جهور وذلك في أواخر سنة 443 هـ.
على أن المعتضد لم يقنع بهذا الحل، ولم يمض سوى القليل حتى نقض السلم المعقود، وبعث قواته فهاجمت لبلة، واضطر ناصر الدولة أن يدافع عن نفسه، واستمرت الحرب بينهما حيناً، حتى خربت بسائط لبلة وقتل كثير من جندها، وسبى كثير من أهلها، وذلك بالرغم مما بذله ناصر الدولة من جهود يائسة للدفاع عن ملكه، وما قام به من غارات متعددة على أراضي إشبيلية. وفي النهاية اضطر ناصر الدولة أن ينزل على حكم القوة القاهرة، وأن يسلم لبلة إلى خصمه القوى، وأن يغادرها إلى قرطبة، ليعيش هناك إلى جانب عمه. وكان سقوط لبلة في يد المعتضد بن عباد سنة 445 هـ (1053 م)(1).
هذا وربما كانت لبلة هي الوحيدة بين مدن الأندلس المسلمة، التي ما زالت
تحتفظ حتى اليوم بأسوارها الأندلسية كاملة. وقد زرناها وشهدنا أسوارها العتيقة
الضخمة التي تحيط بها من كل ناحية إلا من ناحيتها الشرقية على النهر المسمى "النهر
الأحمر" Rio Tinto. وتمثل هذه الأسوار، التي جددها الموحدون في القرن الثاني عشر، منعة لبلة الأندلسية وموقعها الحصين فوق الربوة العالية التي تحتلها، وهو منظر رائع حقاً لا يدانيه في روعته سوى أسوار مدينة آبلة الرومانية العربية.
وثمة خاصة أخرى تمتاز بها لبلة، وهي أنه لم يطرأ علي خططها الأندلسية القديمة كثير من التغيير، فهي ما زالت تحتفظ داخل الأسوار بطابعها الأندلسي المحض.
وعنى المعتضد في الوقت نفسه بالاستيلاء على إمارتين صغيرتين أخريين من
(1) راجع ما نقله ابن بسام في الذخيرة (عن ابن حيان) في دوزي: Historia Abbadi- darum V.I.p. 244-252. ، والبيان المغرب ج 3 ص 209 و 210 و 211 و 234 و 240 و299 و 300 و 301، وأعمال الأعلام ص 156، وابن حيان (نقله ابن بسام في الذخيرة) القسم الأول المجلد الأول ص 360.
إمارات ولاية الغرب، أولهما إمارة ولبة وجزيرة شلطيش، الواقعة جنوب غربي لبلة، وإمارة شنتمرية الغرب في غربها.
فأما إمارة ولبة وجزيرة شلطيش الواقعة تجاهها في المحيط في مصب نهر أوديل فقد آلت في أعقاب الفتنة إلى أبي زيد عبد العزيز البكري - كبير زعمائها - وبويع بها في سنة 403 هـ، واستمر مضطلعاً بحكمها مدة طويلة، والسلام يرفرف على أرجائها. فلما قوي سلطان بني عباد بإشبيلية، واتجهت أطماعهم إلى الاستيلاء على إمارات الغرب، أخذ المعتضد يضيق الخناق على ثغر ولبة، ويرهقه بغاراته، ويقطع السبل إليه. فساءت أحوال الإمارة الصغيرة، ولم يجد البكري سبيلا إلا مفاوضة ابن عباد في عقد الصلح على أن يسلم إليه ثغر ولبة، ويكتفي هو بجزيرة شلطيش، فوافق ابن عباد على ذلك، ولكنه ما لبث أن أخذ في مضايقة البكري في جزيرته، وفرض عليه نوعاً من الحصار. وعندئذ اضطر البكري أن يفاوضه مرة أخرى في التنازل عن جزيرة شلطيش، وانتهى إلى أن باعه أملاكه وسفنه وأثقاله بعشرة آلاف مثقال من الذهب، وغادر الجزيرة، بأهله وأمواله، إلى قرطبة ليعيش هناك في كنف ابن جهور أسوة بزميله ابن يحيى أمير لبلة (443 هـ 1051 م). وفي رواية أخرى أن البكري سار إلى إشبيلية وعاش بها في كنف ابن عباد إلى أن توفي بها في سنة 450 هـ. بيد أننا نؤثر الرواية الأولى وهي رواية ابن حيان، معاصر هذه الحوادث ومدونها بطريق العلم والتحقيق (1).
هذا وقد اختفت جزيرة شلطيش من مصب نهر أوديل ولم يبق لها اليوم وجود.
وأما إمارة شنتمرية الغرب الصغيرة الواقعة على المحيط في جنوبي البرتغال، فقد بويع بها أبو عبد الله محمد بن سعيد بن هارون سنة 433 هـ خلفاً لأبيه سعيد ابن هارون، ولبث في حكمها بضعة أعوام إلى أن بدأ المعتضد في مضايقته ومحاربته.
وألفى ابن هارون أن لا قبل له بمقاومة هذا الأمير الباغي، فنزل له عن ثغره، وخرج بأهله وصحبه إلى إشبيلية (443 هـ - 1051 م) وهناك توفي بعد أشهر قلائل. وقيل إن خروج ابن هارون من شنتمرية كان في سنة 449 هـ (2). وتقوم اليوم مدينة فارو البرتغالية فوق موقع شنتمرية الأندلسية.
ولم يبق من إمارات الغرب بعد ذلك سوى إمارة شلب، وكانت في الواقع
(1) ابن حيان، ونقله دوزي في: Hist.Abbadidarum V.I.p. 252-253
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 205 و 298، 299.
أهم إمارات الغرب بعد إشبيلية، وكانت تشمل فضلا عن كورة شِلْب (1)، وهي الواقعة في قاصية جنوبي البرتغال، كورة باجة. وكان الحاجب عيسى بن محمد قد تغلب في أعقاب الفتنة على هذه المنطقة النائية، وأقام بها دولة، واستمر مسيطراً عليها حتى توفي في سنة 432 هـ. فخلفه في حكمها ولده محمد بن عيسى الملقب بعميد الدولة، واضطر اتقاء لعدوان ابن عباد أن ينزل له عند مدينة باجة وأن يكتفي بحكم شلب. وكان ابن عباد قد استولى قبل ذلك على ميرتلة قاعدتها الجنوبية من يد صاحبها ابن طيفور في سنة 436 هـ، وأصبحت باجة تحت رحمته.
واستمر عميد الدولة في حكم شلب حتى توفي سنة 440 هـ. وعندئذ ثار بها القاضي عيسى بن أبي بكر بن مُزَين فبايعه أهلها، وبسط حكمه عليها، وتلقب بالمظفر واستمر حكمه خمسة أعوام، وابن عباد دائب على مهاجمته وشن الغارات عليه، وهو يرده ما استطاع، حتى قتل في أواخر سنة 445 هـ، مدافعاً عن مدينته.
فخلفه ولده محمد بن عيسى وتلقب بالناصر، وحكم حتى توفي سنة 450 هـ، فخلفه ولده عيسى وتلقب بالمظفر، وسار في الحكم على نهج أبيه وجده، من ضبط الأمور، وإقامة العدل. بيد أن المعتضد ما لبث أن كرر حملاته على شلب، ثم ضرب الحصار حولها، وقطع عنها سائر الأمداد، حتى اشتد الأمر على أهلها، وانتهى بأن اقتحمها بعد أن هدم أسوارها، ودخل القصر وقتل عيسى المظفر، وذلك في شوال سنة 455 هـ (1063 م)، وبذلك انتهت دولة بني مُزَين (2).
الإمارات البربرية
وهكذا استطاع المعتضد بن عباد، في نحو عشرين عاماً، أن يقضي على سائر إمارات الغرب الصغيرة، وأن يبسط سلطانه عليها، وأصبحت مملكة بني عباد، تشمل سائر الأراضي الممتدة من شاطىء نهر الوادي الكبير غرباً حتى المحيط الأطلنطي، هذا عدا رقعة تقع شرقي الوادي الكبير. على أن المعتضد لم يقنع بهذا التوسع الكبير في اتجاه الغرب، وإنما كان يضع الخطط في نفس الوقت للقضاء على الإمارات البربرية الصغيرة القائمة في شرقي الوادي الكبير في جنوبي الأندلس، حتى يقضي على خططهم وأطماعهم، وحتى يؤمن جناحه الدفاعي في تلك الناحية، ويغدو حراً في العمل والحركة في اتجاه الشمال والشرق.
(1) وهي بالبرتغالية Silves
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 192 و 296 - 298. والحلة السيراء لابن الأبار ص 186.
وكانت هذه الإمارات البربرية التي استولى عليها وضبطها الزعماء البربر، المتخلفون من عصبة المنصور بن أبي عامر، فضلا عن مملكة بني حمود في مالقة والجزيرة، ومملكة باديس بن حبوس في غرناطة، تنحصر في أربعة وهي إمارة بني يفرن في رندة، وإمارة بني دمَّر في مورور، وإمارة بني خزرون في شذونة وأركش، وإمارة بني برزال في قرمونة. وكان بنو عباد في بداية أمرهم، يخطبون ود هؤلاء الزعماء البربر، ويعتمدون أحياناً على محالفتهم كما حدث عندما تحالف القاضي ابن عباد مع أمير قرمونة على قتال بني الأفطس، ثم على قتال يحيى بن حمود فيما بعد. ثم كان بين أبي نور هلال بن أبي قرة اليفرني صاحب رندة، وبين المعتضد بن عباد صداقة ومودة وثيقة العري، وكان المعتضد يبعث إليه، وإلى باقي الأمراء البربر، بالهدايا والصلات الجزيلة، وكل ذلك لكي يكسب حيادهم ومودتهم، وهو في أعماق نفسه يضمر لهم غاية الكيد والشر، ويتحين الفرص للإيقاع بهم.
وفي سنة 445 هـ، دبر المعتضد كمينه لأولئك الأمراء، فدعاهم إلى زيارته يإشبيلية، فلبى الدعوة ثلاثة منهم هم أبو نور بن أبي قرة صاحب رندة، ومحمد بن نوح الدمَّري صاحب مورور، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، وقد ساروا إلى إشبيلية في أحسن زي، وأفخم مظهر، ومعهم نحو مائتي فارس من رؤساء قبائلهم. فاستقبلهم المعتضد أحسن استقبال، وأنزل الأمراء بقصر من قصوره، وفي اليوم الثالث استدعاهم إلى مجلسه، وأخذت يؤنبهم على تقصيرهم في محاربة أعدائه، ولما هموا بالرد أمر بالقبض عليهم، وتكبيلهم بالأغلال، ووضعهم في السجن فرادى، واستولى على سائر متاعهم وخيلهم وسلاحهم؛ وبعد مدة من اعتقالهم، أمر بادخالهم في الحمام، وبناء منافذه، وإضرام النار فيه حتى هلكوا، ويقال إنه أطلق ابن أبي قرة، وهلك صاحباه فقط في الحمام، وهما محمد بن نوح، وعبدون بن خزرون. وكان لغدر ابن عباد بالزعماء البربر على هذا النحو، أسوأ وقع في القبائل البربرية، وفي إذكاء سخطها على ابن عباد وتوجسها منه ومن مشاريعه.
واستمر المعتضد بعد ذلك في سعيه للاستيلاء على أملاك أولئك الأمراء؛ فأما أركش فقد حل في حكمها محمد بن خزرون مكان أخيه عبدون، فابتنى
ابن عباد قلعة حصينة على مقربة منها، وأخذ رجاله يغيرون منها على أركش ويرهقون أهلها، فسار بنو يرنِّيان، وهو اسم قبيلة البربر النازلة بها، إلى كبيرهم باديس في غرناطة، واتفقوا معه على أن يسلموه أركش على أن يفسح لهم مقاماً في مملكته ينزلون به، وخرجوا من أركش بأموالهم ومتاعهم وحريمهم، وسلموها إلى جند باديس، فلما بعدوا عنها بمسافة نحو عشرين ميلا، تعرضت لهم جند ابن عباد ووقع القتال بينهم وبينه، ودافع البربر عن أنفسهم دفاعاً شديداً، حتى أبيد أكثرهم، وقتل زعيمهم محمد بن خزرون، وقتل قائد باديس الذي كان معهم، وملك ابن عباد أركش وشذونة وسائر هذه المنطقة، وكان ذلك في أواخرسنة 458 هـ (1066 م)(1).
وأما مورور أو مورون، وهي منزل بني دمَّر، فإنه بعد أن هلك أميرها محمد بن نوح في سنة 445 هـ، أو على قول آخر في سنة 449 هـ، في حبس ابن عباد، خلفه ولده مناد بن محمد بن نوح الملقب بعماد الدولة، وضبط مورور وحسنت سيرته، وقصد إليه البربر من إشبيلية ومن إستجة وغيرهما، فكثر جمعه، هذا والمعتضد يتربص الفرصة للإيقاع به، ويرسل جنده للإغارة عليه، وانتساف زروعه، وحرق قراه، وأخيراً حاصرت جند ابن عباد مورور حصاراً شديداً، وضيقت عليها المسالك، حتى اضطر عماد الدولة أن يذعن إلى التسليم، على أن يعيش في إشبيلية، في كنف المعتمد وتحت حمايته، فأجابه المعتضد إلى طلبه، وسلم إليه المدينة (458 هـ) وقصد إلى إشبيلية بأهله وماله، وعاش بها حتى توفي في سنة 468 هـ (2).
وأما رندة، وهي أهم هذه الإمارات الجنوبية وأمنعها، فكانت منزل بني
يفرن. ولما وقع أميرها أبو نور هلال بن أبي قرة اليفرني في اعتقال المعتضد سنة 445 هـ، قام ولده باديس مكانه في رندة، ولكنه كان فاجراً سفاكاً، فسطا على الأموال والأعراض، وعاث رجاله في المدينة سبياً ونهباً، ولم يعف عن الاعتداء على أقرب الناس إليه. فلما أفرج عن أبيه، عاد إلى رندة، وقتل ولده الفاسق (449 هـ)، ولكنه لم يعش بعده سوى أشهر قلائل وتوفي في نفس العام، فخلفه ولده أبو نصر فتوح، وبويع له في رندة، وفي سائر بلاد ريُّه، وكان
(1) البيان المغرب ج 3 ص 294.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 295 و 296.
محسناً عادلا، ولكنه كان شغوفاً بالشراب، مخلداً إلى الراحة، فدس عليه المعتضد رجلا من أقرب صحبه يدعى ابن يعقوب، فهجم عليه في أصحابه ذات يوم، وهو يصيح بشعار ابن عباد، فألقى أبو نصر نفسه من أعلى القصبة فمات، ولم يبد أهل المدينة أية مقاومة، وخلصت رندة وأعمالها على هذا النحو، إلى المعتضد، وذلك في سنة 457 هـ (1065 م)(1).
وأما قَرْمونة فكانت حسبما تقدم في يد بني برزال. وتقع قرمونة على مقربة من شمالي شرقي إشبيلية، وتعتبر لمنعتها الفائقة حصن إشبيلية من الشرق، وما يزال يقوم بها حتى اليوم، بابها الغربي المواجه لطريق إشبيلية، والمسمى حتى اليوم باسمه الأندلسي باب إشبيلية، وهو يعتبر بعقده الشاهق وواجهته العظيمة، من أمنع الأبواب الأندلسية الباقية. وكان أمير قرمونة أيام القاضي ابن عباد، محمد بن عبد الله البرزالي، الذي سبق أن أشرنا إلى قصة تحالفه مع ابن عباد ضد بني الأفطس وضد يحيى بن حمود. واستمر في حكم قرمونة وأعمالها مثل إستجة ومرشانة حتى توفي سنة 434 هـ، فخلفه ولده عزيز الملقب بالمستظهر، وانتظمت الأحوال وعم السلم والرخاء في عهده، إلى أن بدأ المعتضد في مضايقته وغزو أراضيه. ولم تزل الحرب بينهما بضعة أعوام حتى خربت البلاد، وفنى كثير من البربر، واضطر المستظهر أن يذعن إلى التسليم، فخرج من قرمونة وسلمها إلى ابن عباد، وذلك في سنة 459 هـ (1067 م)، وتوفي بعد قليل في إشبيلية (2).
هذا وسوف نعود إلى تناول هذه الإمارات البربرية في فصل خاص بها.
وكان المعتضد قد استولى قبل ذلك على الجزيرة الخضراء. وكان أميرها القاسم بن محمد بن حمود، قد خلف أباه في حكمها في سنة 440 هـ، وكان المعتضد يسعى إلى القضاء على سلطان الحمُّوديين وخلافتهم. ومن جهة أخرى فقد كان يهمه الاستيلاء على الجزيرة، وهي باب الأندلس من الجنوب، فبعث قواته إليها فطوقتها من البر والبحر، وضيقت عليها الحصار، حتى اضطر القاسم إلى طلب الأمان والتسليم إلى قائد المعتضد عبد الله بن سلام، فأجابه إلى مطلبه. وخرج
(1) البيان المغرب ج 3 ص 208 و 312 و 313.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 312.
القاسم بأهله وأمواله في مركب أعده له ابن سلام، وسار إلى ألمرية حيث التجأ إلى أميرها المعتصم بن صمادح، وعاش بها حتى توفي. وكان استيلاء ابن عباد على الجزيرة الخضراء في سنة 446 هـ (1054 م)(1).
وهكذا أضحت مملكة إشبيلية أو مملكة بني عباد تضم من أراضي الأندلس القديمة رقعة شاسعة تشمل المثلث الجنوبي من شبه الجزيرة، وأرض الفرنتيرة شمالا حتى شواطىء الوادي الكبير، ثم تمتد بعد ذلك من عند منحنى الوادي الكبير، غرباً حتى جنوبي البرتغال وشاطىء المحيط الأطلنطي، وبذلك أضحت أعظم ممالك الطوائف، وأغناها من حيث الموارد الطبيعية، وأقواها من حيث الطاقة الحربية.
ولم يكن يغشى هذه المكانة التي بلغتها إشبيلية من الضخامة والقوة والغنى، سوى ناحية قاتمة واحدة، هي موقفها من ملك قشتالة فرناندو الأول (2). ذلك أن هذا الملك القوي كان يطمح إلى أن يبسط سيادته على اسبانيا كلها، وكان يرى في ممالك الطوائف، وما يسودها من الخلاف والتفرق، فرائس هينة. ففي سنة 1062 م (454 هـ)، خرج من قشتالة بجيش كبير من الفرسان والرماة، وغزا مملكة طليطلة، وعاث فيها وخرب سهولها وزورعها، حتى اضطر ملكها المأمون ابن ذى النون، أن يطلب الصلح، وأن يتعهد بدفع الجزية. وفي العام التالي، سنة 1063 م (455 هـ) عاد فغزا أراضي مملكتي بطليوس وإشبيلية، واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون، في طلب الصلح والتعهد بدفع الجزية، وقصد المعتضد بنفسه إلى معسكر ملك قشتالة، وقدم إليه عهوده شخصياً، وطلب إليه ملك قشتالة بهذه المناسبة أن يسلمه رفات القديسة "خوستا" شهيدة إشبيلية، فوعده بتحقيق رغبته. ولما توفي فرناندو بعد ذلك بثلاثة أعوام وخلفه ولده سانشو (شانجه) في حكم مملكة جليقية، كان المعتضد يؤدي إليه الجزية أسوة بأبيه، واستمر في تأديتها حتى وفاته (3).
- 3 -
وحدثت خلال هذه الفترة التي قضاها المعتضد بن عباد في افتتاح الإمارات
(1) البيان المغرب ج 3 ص 242 و243.
(2)
ويسمى في الرواية العربية فرذلند أو فرانده.
(3)
راجع: R. Menendez Pidal: La Espana del Cid، p. 135 & 140.
الغربية، والإمارات البربرية، عدة حوادث داخلية هامة، كان في مقدمتها بطش المعتضد بولده اسماعيل.
وقد ساق إلينا ابن حيان قصة هذه المأساة، وكان معاصراً لها، متتبعاً لحوادثها، في خبر طويل، خلاصته أنه في سنة 450 هـ، تواترت الأنباء في قرطبة بأن المعتضد قد دبر نزول قواته بمدينة الزهراء ضاحية قرطبة الغربية تمهيداً لافتتاحها، وندب ولده وولي عهده إسماعيل الملقب بالمنصور للقيام بهذه المهمة. ولكن إسماعيل لم يشأ أن يقوم بهذه المهمة، لأنه وفقاً لبعض الروايات كان يحقد على أبيه ويستوحش منه لأسباب خاصة، أو لأنه وفقاً لرواية أخرى كان يرى أن مهاجمة قرطبة على هذا النحو مغامرة خطيرة يرجح فشلها، ولاسيما لما كان بين آل جهور سادة قرطبة، وبين باديس أمير غرناطة من محالفة وثيقة العرى. ومن ثم فقد راجع إسماعيل أباه وحذره من العواقب، فأغلظ له أبوه في القول، وألزمه المسير، وأنذره بالقتل إذا نكل، فعندئذ ثارت نفس إسماعيل، وعول على الفرار مع بعض خواصه. ويقال إن الذي شجعه على ذلك وزير أبيه وكاتبه، أبو عبد الله محمد بن أحمد البزلياني، حينما شكا إليه ما يلقاه من غلظة والده وقسوته، فحسن له العقوق والعصيان، والسير إلى أطراف المملكة، حيث ينفرد بنفسه، وعندئذ دبر إسماعيل أمره، وانتهز فرصة غياب أبيه إلى مكان متنزهه في حصن الزاهر، في الضفة الأخرى من النهر، فحزم قدراً كبيراً من المال والذخائر والمتاع، وأخذ أمه وحرمه، وخرج من إشبيلية تحت جنح الليل، ومعه الوزير البزلياني، وثلة من نحو ثلاثين فارساً، وسار في طريق الجزيرة الخضراء، وعلم أبوه بالخبر بعد وقت، فبادر بإخراج عدة من فرسانه في أثره، وبعث ينذر قواد الحصون.
وكان إسماعيل قد وصل خلال ذلك إلى قلعة من قلاع كورة شذونة، وطلب إلى حاكمها ابن أبي حصاد، أن يجيره، فاستقبله وأنزله بالقلعة هو ومن معه، وبادر فكتب إلى المعتضد بحصول إسماعيل في يده، وأنه نادم على ما فعل، ورجاه في العفو عنه، فسر المعتضد، واستجاب إسماعيل لدعوة أبيه إليه بالعودة، ودخل إشبيلية بسائر ماله ومتاعه، فاعتقله أبوه في بعض الدور، واسترد المال والمتاع، وعجل بإعدام الوزير البزلياني لفرط حنقه عليه، وقتل معه نفراً من خواص إسماعيل، فلم يشك إسماعيل عندئذ في مصيره. ودبر مع بعض الموكلين به مؤامرة لدخول القصر والفتك بأبيه والجلوس مكانه، واستطاع بالفعل أن يدخل
القصر ليلا مع بعض أعوانه، ولكنه سقط مرة أخرى في يد أبيه الساهر الحذر.
وعندئذ قرر المعتضد قتل ولده، وقتله بنفسه، وأخفى جثته، فلم يقف أحد على أثره، وعذب شركاءه أشنع عذاب، وقطع أطرافهم، ثم أعدمهم، وأعدم كذلك نفراً من حرمه ونسائه، حتى قطع دابر كل من كانت له بولده علاقة أو صلة، وكانت مأساة مروعة، وكان لها في قواعد الأندلس أعمق صدى (1).
وقد أورد لنا ابن بسام في الذخيرة صورة كتاب أمر المعتضد بكتابته عن المأساة إلى رؤساء الأندلس يصف فيه أطوار الحادث ويبرر تصرفه في إزهاق ولده "الخائن الغادر" حسبما يصفه. وقام بإنشاء هذه الرسالة ابن عبد البر كاتب المعتضد، وذلك ارتجالا، بين يدي المعتضد، وبمحضر من الوزراء والكتاب، فجاءت قطعة من البلاغة الرفيعة، وإليك بعض ما ورد فيها:
" إن الغوى اللعين، العاق الشاق، إسماعيل ابنى بالولاد، لا بالوداد، ونجلى بالمناسب لا بالمذاهب، كنت قد ملت بهواى إليه، وقدمته على من هو أسنى منه، وحبك الشىء يعمي ويصم، والهوا يطمس عين الرائي، إذ يلم، فآثرته بأرفع الأسماء والأحوال، ووسعت عليه في خطيرات الذخائر والأموال، وأخضعت له أكابر رقاب الجند ووجوه الرجال، ودربته في مباشرة الحروب، وأجريته على مقارعة الخطوب، ولم يكن مما أحسبه أني إنما أشحذ على نفسي منه الشفرة، وأوفد بالتدريب والتخريج تحت حصى الجمرة، وما كنت خصصته بالإيثار، واستعملته بالمكافحة والقرار، إلا لجزالة كنت أتوسمها فيه، كانت عيني بها قريرة، وشهامة كنت أتوهمها فيه كانت نفسي بها مسرورة، فإذا الجزالة جهالة، والشهامة شرة وكهامة، وقد تفتن الآباء بالأبناء، وينطوي عنهم ما ينطوون عليه من الأسواء، مع أن الآراء قد تنشأ وتحدث، والنفوس قد تطيب وتخبث، بقرين يصلح أو يفسد، وخليط يغوي أو يرشد، كما أن داء العر قد يعدي، كذلك قرين السوء قد يردي، ومن اتخذ الغاوي خديناً، عاد غاوياً ظنيناً، ومن يكن الشيطان له قريناً، فساء قرينا".
ويصف الكتاب بعد ذلك أدوار المؤامرة التي دبرها إسماعيل منذ فراره وعوده،
وعفو والده عنه، ويقول "فإذا به كالحية لا تغنى مداراتها، والعقرب لا تسالم
(1) راجع رواية ابن حيان في دوزي Historia Abbadidarum، V.I.p. 256-259 وكذلك البيان المغرب ج 3 ص 244 و 248 و 249.
شباتها، وكأنه قد استصغر ما أتى، واستحقر ما جنى، فزرا وسرا ما صارت به الصغرى، التي كانت العظمى". ثم يصف ائتماره بأبيه وتسوره القصر ليلا، وفشل المؤامرة، والقبض على المتآمرين، "حتى أظفر الله بهم، وأقيمت حدود الله تعالى على الجميع منهم، وأنفذت حكم العدل فيهم ".
ثم يحاول أن يبرر تصرفه فيما يلي: "فاعجب يا سيدي لأبناء الزمن، وأنباء الفتن، وانقلاب عين الإبن المقرب الودود، إلى حال الواتر المحسود، والثائر الحقود، واعتبر في ورد المساءة، من موطن المسرة، وطلوع المحنة. وقد أربت هذه الحال على كل ما جر عليه عقوق من الأبناء والبنين، من السلف المتقدمين، فلم يكن أكثر مما وجدناه من ذلك في الأخبار والآثار، استيحاشاً وشروداً، ونبوا ونددوا، إلا ما شذ لأحد ملوك الفرس، وآخر من بني العباس. وجمع هذا اللعين في إرادته ومحاولته، بين الشاذ والنادر، والمنكر الدائر، وزاد إلى استيحاشه الذم، التعرض لإباحة الحرم، وإلى ما رام من إتلاف المهجات، السافح فيها كان يجري على العورات المصونات، وهو زمان فتنة، وشمول إحنة ودمنة، والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وأصدق من هذا قوله تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، فاحذروهم " نفثت يا سيدي نفثة مصدور، وأطلت في الشرح والتفسير، خروجاً إليك عن هذا الخطب الخطير، والملم الكبير، وهو خبر فيه معتبر "(1).
ونحن نعرف أن فتك المعتضد بن عباد بولده لم يكن هو أول مثل من نوعه في تاريخ الأندلس. فقبل سبعين عاماً، قتل المنصور بن أبي عامر ولده عبد الله، ومن قبل ذلك قتل الناصر لدين الله ولده عبد الله أيضاً، وكلاهما في مثل هذه الظروف، ولمثل هذه الأسباب، أعني لتطلعه إلى انتزاع السلطان من يد أبيه، وائتماره بحياته. بيد أن المعتضد هو أول أمير من هؤلاء يعني بشرح موقفه وظروفه، وتبرير تصرفه الدموي، في هذه الوثيقة أو هذه الرسالة، التي وجهها إلى زملائه أمراء الأندلس. وقد كان من الطبيعي أن يتوجس أمير مستبد، صارم عنيف الأهواء، مثل المعتضد بن عباد،
(1) راجع دوزي Historia Abbadidarum، V.I.p. 253-256 ، والبيان المغرب ج 3 ص 245 و 248.
من تصرف ولده الحاقد الناقم، المتربص به، ولاسيما إذا صحت الوقائع التي تسوقها إلينا الرواية المعاصرة عن ائتماره بأبيه، وتسوره القصر ليلا للفتك به، وهي رواية مؤرخ معاصر محايد معاً، هو ابن حيان القرطبي.
وفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، قطع المعتضد بن عباد الدعوة لهشام المؤيد في سائر أنحاء مملكة إشبيلية، وقد كان يدعي له بها منذ نحو خمسة وعشرين عاماً، أعني منذ زعم القاضي ابن عباد في سنة 426 هـ، أنه عثر بهشام المؤيد حياً، وبايعه ودعا له. وقيل في ذلك إن المعتضد دعا وجوه دولته إلى مجلسه، ونعى لهم هشاماً، وأنه قد مات بالفعل قبل ذلك من علة مزمنة، ولكن لم يعلن وفاته يومئذ، لاشتداد الفتنة، واضطرام النضال بينه وبين الأمراء المتألبين عليه، فلما سكنت الفتنة وجب التصريح بالحق. ومن ذلك الحين يصبح هشام في ذمة التاريخ، وينقطع ذكره بصفة نهائية. ويعلق ابن حيان على ذلك متهكماً في قوله:"وصارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها أن تكون إن شاء الله الصادقة، فكم قتل وكم مات، ثم انتفض من التراب، ومزق الكفن قبل نفخة الصور ".
وقد قال بعضم في ذلك:
ذاك الذي مات مراراً ودفن
…
فانتفض الترب ومُزق الكفن
فقد أعلنت وفاته لأول مرة على يد منتزع عرشه محمد بن هشام المهدي، ودفن بمحضر من العلماء والفقهاء في شعبان سنة 399 هـ، ونشر بعد نحو عام على يد الفتى واضح، وتولى الخلافة؛ وتوفي للمرة الثانية قتيلا بيد سليمان المستعين أو ولده محمد بن سليمان في سنة 403 هـ، ودفن خفية؛ ولما دخل علي بن حمود قرطبة، وكان الاعتقاد سائداً بأن هشاماً لم يمت وأنه قد اختفى، ولم يجد هشاماً بعد البحث عنه، أعلن وفاته ودعا لنفسه بالخلافة (407 هـ). ثم جاء القاضي ابن عباد بعد ذلك في سنة 426 هـ، فأعلن ظهور هشام، ودعا له، احتماء بظل الخلافة، ودفعاً لدعاوي بني حمود (1).
- 4 -
وقد أشرنا من قبل في بداية حديثنا عن المعتضد بن عباد إلى ما نسب إليه من
(1) راجع رواية ابن حيان وتعليقاته على ذلك في دوزي: Historia Abbadidarum V.I.p، 250 ، والبيان المغرب ج 3 ص 249.
الصفات الباهرة المثيرة معاً، ونود هنا أن نستعرض في شىء من التفصيل خواص هذه الشخصية القوية العنيفة.
كان المعتضد بن عباد، بلا مراء، أعظم ملوك الطوائف في عصره، وأوفرهم عزماً ودهاء، وأبعدهم مطامع. وتقدمه إلينا الروايات المعاصرة في صور قاتمة، يتجلى فيها عنفه، وقسوته وغدره، والتجاؤه إلى أي الوسائل لتحقيق غاياته، مهما كانت مجافية لمبادىء الأخلاق والشهامة والفروسية. وقد رأينا فيما تقدم في تطبيق سياسته، وفي حروبه، وفي تصرفاته، ما يؤيد هذه الصفات المثيرة.
ويقول لنا ابن حيان إن المعتضد كان يتخذ سيرة سميه الخليفة المعتضد بالله العباسي قدوة له (1)، ويهتدي بأخباره السياسية "التي أضحت عند أهل النظر أمثلة هادية إلى الاحتواء على أمد الرياسة، في صلابة العصا، وشناعة السطا، فجاء منها بمهولات تذعر من سمع بها، فضلا عمن عاينها". ثم يستدرك فيقول: "نسبوا إلى هذا الأمير الشهم عباد أمثالها من غير دلالة"(2). وقد رأينا فيما تقدم أن ابن حيان يميل أحياناً إلى الدفاع عن المعتضد، بالرغم مما يقصه من أخبار بطشه وقسوته المروعة.
وقد أنفق المعتضد بن عباد معظم حكمه في محاربة جيرانه من أمراء الطوائف، وكشف في محاربتهم عن قوة عزمه، وضخامة عدته، وإحكام خططه، ولكنه كشف في نفس الوقت عن قسوته وغدره، وروعة وسائله، وعلى أي حال فقد استطاع المعتضد بهذه الوسائل المثيرة أن يحقق أطماعه، وأن ينشىء مملكة إشبيلية الكبرى، أعظم ممالك الطوائف، وأن يوطد بها ملك أسرته، وأن يسبغ عليها نوعاً من الزعامة السياسية والأدبية لاسبانيا المسلمة كلها.
ويبدي ابن حيان حماسة في وصف سياسة المعتضد إذ يقول: "وسياسته أعيت على أنداده من أملاك الأندلس، فخرج منهم رجالا مساعير حرب أباد بهم أقتاله، ومن نادر أخباره المتناهية الغرابة، أن نال بغيته، وأهلك تلك الأمم العاتية، وإنه لغائب عن مشاهدتها، مترفه عن مكابدتها، مدبر فوق أريكته، منفذ
(1) قال ابن الأثير في وصف الخليفة المعتضد العباسي ما يأتي: " وكان شهماً شجاعاً مقداماً ذا عزم، وكان فيه شح، وكان مهيباً عند أصحابه، يتقون سطوته، ويكفون عن الظلم خوفاً منه "(ج 7 ص 169 و 170).
(2)
ابن حيان، ونقله دوزي في Hist. Abbadidarum V.I.p، 243
لحيلها، من جوف قصره، ما مشى إلى عدو أو مغلوب من أقتاله غير مرة أو مرتين، ثم لزم عريسته يدبر داخلها أموره، جرد نهاره لإبرام التدبير، وأخلص ليله لتملي السرور،
…
وهو واصل نعم ليله، بإجابة كيده، ومبتدع نشاط لهوه بقوة أيده، له في كل شىء شوين، وعلى كل قلب سمع وعين.
ما أن سبر أحد من دهاة رجاله غوره، ولا أدرك قعره، ولا أمن مكره، لم يزل هذا دأبه منذ ابتدائه إلى انتهائه" (1).
وقال ابن القطان: "كان ذا سطوة كالمعتضد العباسي ببغداد، وكان ذا سياسة ورأي يدبر ملكه من داره. وكان يغلب عليه الجود، فلم يعلم في نظرائه أبذل منه للمال"(2).
ووصفه ابن الخطيب بأنه: "كان شديد الجرأة، قوي المنة، عظيم الجلادة، مستهيناً بالدماء"(3).
وقد انتهت إلينا عن قسوة المعتضد بن عباد قصة مروعة، هي قصة حديقة الرؤوس المحنطة، رؤوس أعدائه الذين سقطوا في ساحة الحرب، أو قتلوا غيلة، وحملت إليه رؤوسهم. ويقول لنا ابن حيان، إن المعتضد كان له بهذه الحديقة التي تملأ قلوب البشر ذعراً، مباهاة أكرم لديه من خزانة جواهر مكنونة، وقد أودعها هام الملوك الذين أبادهم بسيفه، منها رأس محمد بن عبد الله البرزالي، ورؤوس الحجاب ابن خزرون، وابن نوح، وغيرهم ممن قرن رؤوسهم برأس إمامهم الخليفة يحيى بن علي بن حمود، فخص رؤوسهم بالصون بعد إزالة جسومهم الممزقة، وبالغ في تطييبها وتنظيفها، وأودعها المصاون الحافظة لها، فبقيت عنده ثارية تجيب سائلها اعتباراً. ثم يقول لنا إن هذه الرؤوس الفانية كانت تحمل إلى المعتضد في ليالي أنسه وسروره، يشاهدها وهو يترع كؤوس الزاح، فترتاح نفسه لمعاينتها، والخلق يذعرون من التماحها (4). ويضيف
(1) ابن حيان، ونقله دوزي في: Hist. Abbad. V.I.p. 243-244
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 284.
(3)
أعمال الأعلام ص 156.
(4)
ابن حيان ونقله دوزي في Hist، Abbadidarum، V.I، p. 243-244 ، والبيان المغرب ج 3 ص 205 و 256.
ابن بسام إلى ذلك أنه لما افتتحت اشبيلية، وخلع المعتمد بن عباد، عثر المرابطون بهذه الرؤوس في جوالق وأوعية، ظن في البداية أن بها أموال أو جواهر، فهالهم الأمر، وسلم كل رأس منها لمن بقي من عقب أصحابها (1).
على أن هذه النواحي القاتمة لم تكن كل شىء في شخصية المعتضد، فقد كانت ثمة في هذه الشخصية نواح أخرى لامعة عنى ابن حيان أيضاً بالإشارة إليها. من ذلك ما سمت إليه همته من إنشاء القصور الباذخة، والرباع العظيمة المغلة، وما عنى به من تنظيم بلاط بني عباد، وتجهيزه بالعدد والمظاهر الملوكية الفخمة، ونفيس المتاع والرياش، حتى غدا أعظم وأفخم بلاط بين قصور الطوائف.
وقد اشتهرت قصور بني عباد في التاريخ والشعر، وقد كانت منها بمدينة إشبيلية قاعدة ملكهم عدة، منها قصر الإمارة وهو "القصر المبارك"، وقد كان يقع في شرقي نهر الوادي الكبير، في المكان الذي يشغله اليوم قصر إشبيلية الشهير El Alcàzar. والظاهر أنه كان من إنشاء المعتضد بن عباد، أو أنه هو الذي زاد فيه وأسبغ عليه رونقه وفخامته التي اشتهر بها. وقد كان ثمة أيضاً قصر الزاهي، وهو القصر الذي كان يتخذه المعتضد، ومن بعده ولده المعتمد، مكاناً للهو والقصف، وقد كان يقع على الضفة الأخرى من النهر، وتحيط به حدائق غناء (2). وقد ذكر لنا ابن زيدون في شعره، وذكر لنا المقري أسماء قصور أخرى تتصل بعصر المعتضد، وهي على الأغلب من إنشائه، ومن ثم فإنا نرجىء ذكرها إلى موضعها. وقد اقتنى المعتضد كثيراً من الجياد الصافنات، والغلمان والحشم، وأنشأ له جيشاً منتخباً من أبرع الفرسان والمقاتلة، وبذل لهم الصلات الوفيرة، فكان له ما شاء من التفوق العسكري على أنداده وخصومه، وكان جواداً "يباري جوده السحاب".
وأما عن شخص المعتضد، فقد ترك لنا عنه معاصره ابن حيان تلك الصورة الرائعة، قال: " وكان عباد قد أوتي من جمال الصورة، وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة، وسباطة البيان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، ما فاق
(1) ابن بسام في الذخيرة ونقله نفس المصدر ص 240. والبيان المغرب ج 3 ص 205 و206.
(2)
قلائد العقيان ص 24.
به أيضاً على نظرائه ". وقد اشتهر المعتضد بشغفه بالنساء، فكان إلى جانب زوجه الحسناء الأثيرة لديه، إبنة مجاهد العامري، وأخت ولده على إقبال الدولة صاحب دانية، يقتني في قصوره الفخمة، عدداً كبيراً من الجواري البارعات في الحسن والسحر، من سائر الأجناس والملل، بلغ عددهن حسبما قيل، نحواً من السبعين، وكان له من الولد الذكور نحو العشرين، وكذلك مثلهم من الإناث (1).
بقيت من صفات المعتضد، خلة لامعة، تبعث إلى الإعجاب والعطف في تلك الشخصية التي لا توحي معظم صفاتها إلا شعور المقت والروع، تلك هي أدبه الرفيع ونظمه الرائق. وهنا أيضاً نستعير قلم ابن حيان إذ يقول:"ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان، أدنى نظر، بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه، على قطعة وافرة علقها من غير تعهد لها، ولا إمعان في غمارها، ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام، وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة، في معان أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واقتبسها الأدباء للبراعة"(2).
وقال الحميدي: "كان أبو عمرو بن عباد صاحب إشبيلية، من أهل الأدب البارع، والشعر الرائع، والمحبة لذوي المعارف. وقد رأيت له سفراً صغيراً في نحو ستين ورقة من شعر نفسه"(3).
وقال ابن القطان: "وكان لأهل الأدب عنده سوق نافقة، وله في ذلك همة عالية، ألف له الأعلم أديب عصره، ولغوي زمانه، شرح الأشعار الستة، وشرح الحماسة، وألف له غيره دواوين وتصانيف لم تخرج إلى الناس"(4).
والأدب والشعر من محاسن الأسرة العبادية ومآثرها العريقة، فقد نبغ معظم رجالاتها في النثر والنظم، ولم تكن براعة المعتضد في الشعر إلا قبساً من تراث أسرته؛ ولقد بلغ ولده المعتمد، فيما بعد، في عالم الشعر أسمى مراتبه، وكان من أعظم شعراء الأندلس في عصره. وذكر لنا ابن بسام أن شعر المعتضد قد جمع بعناية ولد أخيه اسماعيل في ديوان أطلع عليه (5)، واختار منه ما اختار في الذخيرة
(1) ابن حيان، ونقله دوزي في المصدر السابق ص 245. وفي الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43.
(2)
ابن حيان، ونقله دوزي في المصدر السابق ص 245. وفي الحلة السيراء ج 2 ص 42.
(3)
في جذوة المقتبس رقم 672. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 285.
(4)
البيان المغرب ج 3 ص 284.
(5)
وهذا ما ذكره أيضاً ابن الأبار في الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43.
من المقطوعات. وهذه المقطوعات منوعة بين الفخر والغزل والوصف وغيرها، وكلها تدل على افتنان المعتضد، ومقدرته الشعرية الممتازة. فمن قوله في الفخر:
حميت ذمار المجد بالبيض والسمر
…
وقصرت أعمار العداة على قسر
ووسعت سبل الجود طبعاً وصنعة
…
لأشياء في العلياء ضاق بها صدري
فلا مجد للإنسان ما كان ضده
…
يشاركه في الدهر بالنهي والأمر
ومن قوله حين استولى على رندة، وهو مما يتفق مع عنفه وصرامته:
لقد حصلت يا رندة
…
فصرت لملكنا عقدة
سأفني مدة الأعداء
…
إن طالت بي المدة
وتبلى بي ضلالتهم
…
ليزداد الهوى جدة
فكم من عدة قتلـ
…
ـت منهم بعدها عدة
نظمت رؤسهم عقدا
…
فحلت لبة السدة (1)
وربما كان لهذه السجية الأدبية أكبر أثر في أن المعتضد قد نظم في سلك وزرائه جماعة من أعظم شعراء العصر وكتابه. وكان في مقدمة هؤلاء أبو الوليد بن زيدون إمام الشعر وقطبه، وكان قد انتظم من قبل في وزارة بني جهور بقرطبة، ثم ساءت أحواله فغادر قرطبة إلى إشبيلية في سنة 441 هـ، فأكرم المعتضد وفادته، وعينه في وزارته، وغمره بثقته وعطفه، وما زال متمتعاً برفيع مكانه ونفوذه حتى وفاة المعتضد. بيد أنه يبدو أنه لم يكن مطمئناً على نفسه في خدمة هذا الطاغية الخطر، حتى أنه لما توفي المعتضد نظم هذين البيتين ابتهاجاً بذهابه، ولم يظهرهما يومئذ "لأنه كان غير مأمون على الدماء، ولا حافظاً لحرية الأولياء".
ْلقد سرني أن النعي موكل
…
بطاغية قد حم منه حمام
تجانب صوب الغيث عن ذلك الصدا
…
ومر عليه المزن وهو جهام (2)
ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد البر ولد أبي عمر، صاحب كتاب "بهجة الجالس وأنس المجالس". نظمه المعتضد في سلك وزرائه، وكان كاتبه
(1) تراجع مقطوعات أخرى من شعر المعتضد فيما أورده ابن بسام في الذخيرة ونقله دوزي في: Hist. Abbadidarum V.II.p. 48-60. وكذلك في الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43 - 49.
(2)
راجع ما أورده ابن بسام، ونقله دوزي في Hist. Abbadidarum، V.II.p. 48 وراجع قلائد العقيان ص 71.
ولسانه لدى الرؤساء، وقد اشتهر برائق نثره وروعة أسلوبه. وقد رأينا نموذجاً من نثره فيما اخترناه من مقتطفات رسالته، عن مصرع إسماعيل ابن المعتضد. بيد أنه لم يكن أيضاً سعيداً ولامطمئناً، لخوفه المستمر من أن يبطش به المعتضد، ومن ثم فقد عول في النهاية على الفرار، وغادر إشبيلية ناجياً بنفسه (1).
ومنهم أيضاً الكاتب البارع أبو عبد الله البزلياني الذي يصفه ابن بسام بأنه "أحد شيوخ الكتاب، وجهابذة أهل الأدب". وقد رأينا كيف ساق سوء الطالع هذا الوزير الكاتب إلى الاشتراك مع إسماعيل ولد المعتضد في مؤامرته وفراره، وكيف قبض عليه المعتضد وأعدمه لفوره.
ومما هو جدير بالذكر أنه كان بين وزراء المعتضد أو معاونيه، رجل من النصارى المستعربين، هو سسنندو دافيدس (أوششنند) الذي اشتهر فيما بعد في قصور الطوائف. وأصله من مقاطعة بيرة في شمالي البرتغال، وأسر حدثاً في غارة قام بها القاضي ابن عباد في منطقة قُلُمرية، ثم أخذ إلى إشبيلية وربى مع "فتيان" القصر، واشتغل في شئون الخاص. ولما تولى المعتضد، قدر مواهبه، ومعرفته بشئون الجزيرة، فنظمه بين وزرائه أو معاونيه، فنال ثقته، وتمكن نفوذه، وعلت مكانته في البلاط العبادي بسرعة. ولكنه لم يلبث أن تعرض لخصومة بعض رجال البلاط وسعايتهم، فخشى العاقبة، وفر من إشبيلية إلى الشمال، ولجأ إلى بلاط فرناندو ملك قشتالة، فرحب به، ونظمه بين مستشاريه، وكان له فيما بعد أكبر أثر في تكييف سياسته نحو ملوك الطوائف (2).
وتوفي المعتضد بن عباد في الثاني من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة (مارس 1069 م). ويقول لنا ابن حيان إن وفاته كانت بسبب ذبحة قصيرة الأمد، ترتبت على الإجهاد، وكانت شبه البغت. وكانت ولايته زهاء ثمانية وعشرين عاماً.
(1) راجع قلائد العقيان ص 181 و 183.
(2)
الذخيرة، القسم الرابع المجلد الأول ص 129 وكذلك: Isidro de las Cagigas Los Mozarabes (Madrid 1947) p. 456-456.