المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الرابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

‌الفصل الرّابع

بنو الأفطس ومملكة بطليوس

مملكة بطليوس. الفتى سابور الفارسي وتغلبه على تلك المنطقة. وزيره عبد الله بن مسلمة يخلفه في الحكم. بنو الأفطس وأصلهم. ابن الأفطس وابن عباد. الحرب بينهما حول باجة وبعدها. انشغال ابن عباد بقتال البربر. الثورة في أشبونة وإخمادها. المظفر بن الأفطس. حروبه مع المعتضد بن عباد. موقعة يابرة وهزيمة المظفر. توسط ابن جهور وعقد الصلح بين الفريقين. غزو ملك قشتالة لشمالي مملكة بطليوس. استيلاؤه على بازو ومليقة. غزوه لمدينة شنترين. إذعان المظفر لدفع الجزية. مسير فرناندو لفتح قلمرية. اقتحامها وأسر حاميتها. وفاة فرناندو ملك قشتالة. وفاة المظفر. مقدرته الشعرية والأدبية. المنصور بن الأفطس. وفاته وقيام أخيه عمر المتوكل مكانه. المتوكل وشهرته في عالم الشعر والأدب. وزراؤه الشعراء. سيادة الأمن والرخاء في عهده. وزيره ابن الحضرمي. طغيانه وعزله. حوادث مملكة طليطلة. اضطلاع المتوكل بحكمها. محاولة المتوكل إنجاد طليطلة. سقوط طليطلة. تجبر ألفونسو ووعيده. رد المتوكل عليه. اتفاق ملوك الطوائف على استدعاء المرابطين.

كان يجاور مملكة إشبيلية من الشمال، مملكة بطليوس، تفصلها عنها جبال الشارّات الكبرى (سيرّا مورينا). وكانت مملكة بَطَلْيوس، تشمل رقعة كبيرة تمتد من غرب مملكة طليطلة، عند مثلث نهر وادي يانة، غرباً حتى المحيط الأطلنطي، وتشمل أراضي البرتغال (1) كلها تقريباً حتى مدينة باجة في الجنوب، وكانت العاصمة بطليوس تتوسط هذه الرقعة الكبيرة التي تشمل عدا العاصمة، عدة مدن هامة أخرى مثل ماردة، ويابرة، وأشبونة، وشنترين، وشنترة، وقُلُمرية، وبازو، وغيرها.

كان بنو مسلمة، أو بنو الأفطس، كما اشتهر اسمهم، سادة هذه المملكة الشاسعة، حكموها نيفاً وسبعين عاماً، وسطع بلاطهم أيام الطوائف. وكان استيلاؤهم على حكمها من المصادفات المحضة. ذلك أن هذه المنطقة، وهي النصف الشمالي، من ولاية الغرب الأندلسية، كان يحكمها عند اضطرام الفتنة، واليها الفتى سابور الفارسي، أحد صبيان فائق الخادم مولى الحكم المستنصر، وقد استبد بحكمها

(1) ويسميها ابن الخطيب أرض "برتقال"(أعمال الأعلام ص 183).

ص: 81

منذ انهيار الخلافة، واستمر قائماً بأمرها ثلاث عشرة عاماً. وكان فارساً شجاعاً، ولكن عاطلا عن المعرفة والخبرة بشئون الحكم، فكان يعاونه في تدبير الشئون وزيره عبد الله بن محمد بن مسلمة، وكان من قبل والياً لماردة، وكان هو الحاكم الحقيقي. وتوفي سابور في سنة 413 هـ (1022 م)، وترك ولدين حدثين هما عبد الملك وعبد العزيز، وأوصى أن يستمر وزيره في الحكم، حتى يبلغا أشدهما.

فاستولى عبد الله على الأمور وضبط المملكة، واحتوى على تراث سابور لنفسه، وتلقب بالمنصور، وأضحى سيد المملكة الحقيقي.

وينتمي أبو محمد عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، إلى قبيلة من قبائل مكناسة المغربية، وأصله من بلدة فحص البلوط من ولاية قرطبة، من أسرة متواضعة لم يكن لها نصيب في النباهة والمعرفة. بيد أن بني الأفطس كانوا بالرغم من ذلك يرجعون نسبتهم إلى تجيب، وقد مدحتهم الشعراء بهذا الصفة، وهذا ما يثير تعجب ابن حيان، وما يصفه " بالغريب النادر "(1).

وكان عبد الله بن الأفطس مع ذلك رجلا كثير المعرفة والدهاء، بعيد النظر، وافر الحزم والسياسة، فلما استولى على حكم هذه المنطقة الشاسعة بعد وفاة سابور، أبدى في ضبطها وإدارتها مقدرة وبراعة. بيد أنه كان يرقب حركات جاره من الجنوب القاضي أبى القاسم بن عباد ونمو قوته، في حذر وتوجس. ذلك أنه كان بالرغم من مناعة حاضرته بطليوس، ومناعة أسوارها وقصبتها الضخمة، فإن اتساع رقعة مملكته، وتباعد قواعدها الأخرى في الجنوب والشرق، كان يجعل من الصعب عليه الدفاع عنها إزاء أطماع جاره القوي. وسرعان ما بدأت تتحقق مخاوفه. ذلك أن القاضي ابن عباد انتهز قيام ثورة محلية في مدينة باجة، وقعت بين أهلها بسبب الرياسة، وسير إليها حملة بقيادة ولده إسماعيل، ومعه قوة من جند حليفه البرزالي صاحب قرمونة. وكان ابن الأفطس قد استطاع خلال تلك الفترة أن يحتل باجة بجنده، إذ هي أقرب إليه، وأكثر اتصالا بمنطقته من منطقة بني عباد، فهاجمت قوات إشبيلية المشتركة مدينة باجة، وحاصرت قوات ابن الأفطس، ووقع بينهما قتال عنيف انتهى بتمزيق قوات ابن الأفطس وأسر معظمها، وكان محمد بن الأفطس ولد المنصور بين الأسرى، فاعتقل حيناً لدى

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء (المخطوط) لوحة 85 أ. وفي المطبوع ج 2 ص 97.

ص: 82

البرزالي في قرمونة حتى أطلق سراحه (سنة 421 هـ)، وعاد إلى بطليوس وقد صقلته المحنة، وشحذت عزمه، لمقاومة بني عباد ومحاربتهم.

ثم عادت الحرب فاضطرمت بعد ذلك ببضعة أعوام بين ابن عباد وابن الأفطس، ذلك أن حملة جديدة بقيادة إسماعيل بن عباد، توغلت شمالا في أراضي ابن الأفطس وعاثت فيها، وعندما سار في طريق العودة، خرج عليه ابن الأفطس في قوة كثيفة، وطارده بشدة، ففر إسماعيل في قلة من فلوله، وأسر معظم عسكره، وفتك ابن الأفطس بهم كما فتك النصارى بكثير منهم، وكانت محنة شنيعة لبني عباد (425 هـ - 1034 م).

وشغل أبو القاسم بن عباد في الأعوام التالية، عن محاربة الأفطس بمحاربة البربر، فاشتبك أولا مع يحيى المعتلي، وانتزع منه قرمونة (427 هـ)، ليردها إلى صاحبها حليفه محمد بن عبد الله البرزالي. بيد أنه عاد فسير قواته إلى قرمونة واستولى عليها. وعندئذ هرع البربر لنصرة البرزالي، وفي مقدمتهم إدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية موقعة دموية، هزم فيها الإشبيليون وقتل أميرهم إسماعيل بن عباد (431 هـ) وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في أخبار الدولة العبادية.

وأما ابن الأفطس، فقد شغل بقيام الثورة في أشبونة. أقصى ثغور مملكته.

ذلك أن عبد الملك وعبد العزيز ابنى سابور، حينما توفي والدهما، واستولى ابن الأفطس على تراثه، غادرا بطليوس ولجآ إلى ثغر أشبونة، ثم ثار عبد العزيز واستولى على حكم المدينة، واستمر في حكمها بضعة أعوام. ولما توفي حل أخوه عبد الملك مكانه، ولكنه كان سيىء الحكم والإدارة، فاختل النظام، وغلبت الفوضى، وكتب أهل أشبونة سراً إلى ابن الأفطس، أن يرسل إليهم والياً من عنده، فسير إليهم ولده محمداً في قوة كثيفة، ودخل محمد أشبونة دون صعوبة، ورأى عبد الملك بن سابور أن يذعن إلى التسليم، على أن يؤمن في نفسه وأهله وماله؛ فمنح ما طلب، وسمح له بأن يسير إلى حيث شاء، فقصد إلى مدينة قرطبة، واستأذن الوزير ابن جهور في الالتجاء إليها، فأذن له ودخلها بأهله وأمواله، ونزل دار أبيه سابور، وعاش هناك حتى توفي (1).

(1) البيان المغرب ج 3 ص 237.

ص: 83

وكان عبد الله بن الأفطس المنصور، خلال ذلك يمضي في تنظيم مملكته الشاسعة وفي تحصينها، وفي تقوية جيوشه وأهباته، وذلك كله توقعاً لعدوان بني عباد، ولاسيما بعد أن خلف المعتضد بن عباد أباه القاضي أبا القاسم في الحكم، وظهرت إمارات توثبه ونياته العدوانية. ثم توفي المنصور في جمادى الأولى سنة 437 هـ (1045 م).

فخلفه ولده محمد بن عبد الله بن الأفطس وتلقب بالمظفر. وكان عالماً وفارساً شجاعاً، وقد عركته خطوب الحرب والأسر الذي عاناه. فسار في الحكم سيرة أبيه من العمل على ضبط النظام، والدفاع عن الثغور. وكان مثل أبيه يرى في بني عباد خصومه الأوائل، ويعمل على تقوية أهباته الدفاعية لاتقاء عدوانهم. وقد رأينا فيما تقدم، كيف دبر المعتضد بن عباد خطته للاستيلاء على إمارات الغرب الصغرى، وبدأ في ذلك بمهاجمة مدينة لبلة، وكيف أن المظفر بن الأفطس هرع إلى نجدة صاحبها ابن يحيى، وبعث بعض قواته من البربر لمهاجمة إشبيلية، وكيف حاول الوزير ابن جهور عبثاً أن يحول بتدخله، ونصحه للفريقين، دون نشوب الحرب بينهما. وهكذا اضطرم القتال بين المعتضد وابن الأفطس، وعاث كل منهما في أراضي الآخر، وهزم ابن الأفطس أولا، ولكنه استأنف الكرة، واستطاع أن يوقع بالمعتضد هزيمة شديدة قتل فيها كثير من جنده (439 هـ - 1047 م).

ثم تطورت الحوادث وساء التفاهم بين ابن عباد وابن الأفطس، حيث أبى أن يرد إلى حليفه القديم، ما ائتمنه عليه من أمواله وذخائره أيام الحرب، ولم يكتف ابن الأفطس بذلك بل أرسل قواته من الفرسان لمهاجمة لبلة، فاستغاث ابن يحيى بالمعتضد، فلبى دعوته وأرسل قواته، فاشتبكت مع خيل ابن الأفطس فمزقتهم وأفنتهم، واحتزت من رؤوسهم، نحو مائة وخمسين. وجهز المعتضد بعد ذلك قوة كبيرة على رأسها ولده إسماعيل ووزيره ابن سلام، وعبرت القوات العبادية نهر وادي يانة، وتوغلت في أراضي ابن الأفطس شمالا، حتى مدينة يابُرة، وحشد ابن الأفطس في الوقت نفسه سائر قواته، واستعان بقوة بعثها إليه حليفه إسحق بن عبد الله البرزالي تحت قيادة ولده المعز، والتقى الفريقان دون أهبة ولا نظام على مقربة من يابرة، فهزم ابن الأفطس وفشا القتل في جنده، وقتل المعز بن إسحق، وحز رأسه وأرسل إلى إشبيلية، وقتل عم لابن الأفطس

ص: 84

وأرسل رأسه كذلك، ولجأ ابن الأفطس في بقية فرسانه إلى يابرة، تحت كنف صاحبها عبيد الله الخراز. وكانت موقعة دموية شنيعة قدر فيها عدد القتلى بأكثر من ثلاثة آلاف، وكان وقوعها في سنة 442 هـ (1050 م).

واستمرت الحرب بين الفريقين بعد ذلك عدة شهور أخرى، استطاع المعتضد خلالها أن يوقع بقوات ابن الأفطس غير مرة وأن يعيث في أراضيه، وأن يفتح منها عدة حصون. وتفاقمت الحال، بما أصاب مملكة بطليوس من تخريب الزروع، وهلاك الأقوات ونضوب الموارد، ووقوع القحط، واضطر المظفر بن الأفطس في النهاية، أن يعتصم بقاعدته بطليوس، بعد ما نكل سائر أصدقائه عن معونته. ولم ينقذه من عدوان المعتضد سوى تدخل الوزير أبى الوليد ابن جهور، حيث لبث موالياً لسعيه في درء الفتنة، وحقن الدماء، حتى كلل سعيه في النهاية بالنجاح، وعقد الصلح بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس في ربيع الأول سنة 443 هـ (1051 م)(1).

وكان المظفر في نفس الوقت عرضة لمضايقة المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة وعدوانه. وقد أغار المأمون مراراً على أراضي ابن الأفطس، ووقعت بينهما معارك محلية كثيرة. ولم نعثر على تاريخ هذه المعارك بطريقة قاطعة. ولكن الظاهر أنها وقعت بعد الصلح بين ابن عباد وابن الأفطس، أعني بعد سنة 443 هـ (2).

على أن المظفر ما كاد يفيق من تلك الحروب المدمرة، حتى بدأت الحوادث والأزمات الخطيرة في أطراف مملكته الغربية والشمالية. وكان خصومه في تلك المرة هم النصارى، جيرانه من الشمال. وكان فرناندو الأول (فرديناند أو فرذلند) ولد سانشو الكبير، بعد أن استتب له ملك قشتالة وليون، يرقب تطور الحوادث لدى جيرانه المسلمين باهتمام، ويتحين فرص العمل، وكانت أطراف مملكة بطليوس الشمالية الواقعة فيما بين نهر التاجُه ونهر دويرة، تشمل منطقة نائية مجردة من وسائل الدفاع القوية، وتكاد تكون قواعدها المنعزلة المستقلة معتمدة في الدفاع على نفسها. فاتجهت أنظار فرناندو، إلى تلك المنطقة، ولم يلبث أن اخترقها بقواته وذلك في سنة 449 هـ (1057 م) واستولى أولا على مدينتي لاميجو (مليقة)

(1) راجع ما نقل في الذخيرة عن ابن حيان، المجلد الأول القسم الأول ص 361 - 365، والبيان المغرب ج 3 ص 211 - 213 و 334 و 235.

(2)

راجع البيان المغرب ج 3 ص 282 و 283.

ص: 85

وبازو الواقعتين في شمال البرتغال، واللتين عمرهما المسلمون منذ أيام المنصور؛ ولم يلق الغزاة دفاعاً يذكر، ولم يتحرك ابن الأفطس ليقينه من عقم المحاولة.

واسترق فرناندو، سكان المدينتين الإسلاميتين، وأسكن بهما النصارى.

ولم تمض بضعة أعوام أخرى حتى بعث فرناندو بحملة قوية إلى تلك المنطقة تقدر بعشرة آلاف فارس، وكان ابن الأفطس قد رفض أداء الجزية لملك قشتالة، فسارت قوة من الفرسان النصارى جنوباً، صوب مدينة شنترين الواقعة على نهر التاجُه، وهي من أهم قواعد مملكة بطليوس البرتغالية، وكان ابن الأفطس على علم بتحرك النصارى، فهرعت قواته إلى شنترين قبل أن يصلوا إليها. ولما أشرف عليها النصارى بعث قائدهم " القومس " إلى ابن الأفطس للمفاوضة، فاجتمع الاثنان في نهر التاجُه، وانتهت المفاوضة بينهما على عقد الهدنة، وعلى أن يدفع ابن الأفطس لملك قشتالة جزية سنوية مقدارها خمسة ألاف دينار.

على أن أعظم خطب نزل بالمسلمين وبمملكة بطليوس يومئذ، هو فقد مدينة قُلُمرية أعظم مدن البرتغال الشمالية، وكان قد افتتحها المنصور بن أبي عامر منذ ثمانين عاماً في سنة 375 هـ. وكانت يومئذ تحت حكم مولى من موالي ابن الأفطس يدعى راندة، ولديه للدفاع عن المدينة نحو خمسة آلاف جندي. ويقال إن الذي أشار على فرناندو بغزو قلمرية هو مستشاره المستعرب سسنندو الذي سبق ذكره، وكان في الأصل من أهل هذه الناحية. وسار فرناندو بنفسه إلى قلمرية في قوات كثيفة وضرب حولها الحصار، واستمر الحصار زهاء ستة أشهر، والضيق يشتد بالمدينة المحصورة يوماً عن يوم. وفي النهاية تفاهم راندة مع فرناندو سراً على أن يخرج من المدينة آمناً على نفسه وأهله، وأصبح أهل المدينة فلم يجدوا قائدهم، فعرضوا التسليم على أن يمنحوا الأمان، فرفض فرناندو واستمر في الحصار، حتى فتك الضيق ونفاد الأقوات بالحامية وأهل المدينة، وأخيراً اقتحم النصارى المدينة عنوة، فسلمت الحامية، واعتبر جنودها أسرى، وسبى الكثير من أهلها نساء ورجالا. وخرج منها من استطاع منهم تاركين متاعهم وأموالم، ووقعت هذه الحادثة بالمسلمين في سنة 456 هـ (1064 م). وعين فرناندو مستشاره سسنندو حاكماً لقلمرية وأعمالها، ومنحه عندئذ لقب " الكونت " أو " الوزير ".

ثم عمد فرناندو بعد ذلك إلى إخراج السكان المسلمين من سائر الأراضي الواقعة

ص: 86

بين نهري دويرة ومنيو (منديجو) وذلك تنفيذاً لخطته في إجلاء المسلمين عن الأراضي المتاخمة لمملكته شيئاً فشيئاً.

ولما سقطت قلمرية في يد العدو، قصد واليها السابق راندة إلى بطليوس، وكان قد لجأ إلى المعسكر النصراني، ثم غادره طمعاً في عفو سيده، فاستقبله ابن الأفطس بجفاء وأنبه على شنيع مسلكه، ثم أمر بضرب عنقه جزاء خيانته (1).

هذا وسوف نعود إلى تفصيل حوادث سقوط قلمرية في أخبار فرناندو ملك قشتالة.

وهدأ ضغط النصارى على أراضي ابن الأفطس بوفاة فرناندو ملك قشتالة بعد ذلك بنحو عامين في سنة 1065 م. ووقعت بين أبنائه الثلاثة حرب استمرت بضعة أعوام، شغل خلالها النصارى عن عدوانهم على أراضي المسلمين. ولما خلص عرش قشتالة وليون بعد ذلك إلى ولده ألفونسو، تحولت دفة هذا العدوان إلى مملكتي طليطلة، وإشبيلية، حسبما نفصل بعد.

وتوفي المظفر بن الأفطس في سنة 461 هـ (1068 م)، فخلفه ولده يحيى الملقب بالمنصور.

ولابد لنا قبل أن نترك الكلام على المظفر بن الأفطس، أن نذكر ذلك الجانب اللامع الوضاء في حياته، ونعني الناحية الفكرية. فقد كان المظفر من أعلم أهل عصره، وكان شغوفاً بالشعر والأدب، وكان ينكر الشعر على قائله في زمانه، ويقول:" من لم يكن شعره مثل شعر المتنبي أو المعري فليسكت "، ولا يرضى بدون ذلك. وقد اشتهر في عالم الأدب بكتابه الضخم الموسوم "بالمظفري" نسبة إلى اسمه، وهو موسوعة أدبية وتاريخية عظيمة تحتوي على كثير من الأخبار والسير والنبذ المختارة، والطرائف المستملحة، والغرائب الملوكية، والنوادر اللغوية. وأنفق المظفر في تصنيفه أعواماً، وانتفع في تصنيفه بسائر ما تحتويه خزائنه الزاخرة بنفائس الكتب، ولم يستعن في وضعه إلا بكاتبه أبي عثمان سعيد بن خيره. وقيل إن "المظفري" كان يحتوي على خمسين مجلداً، وقيل بل على عشرة أجزاء ضخمة وقد لبث هذا المصنف الكبير عصوراً، معروفاً متداولا، تذكره التواريخ

(1) راجع في سقوط قلمريه وما تقدمه من حوادث: البيان المغرب ج 3 ص 238 و 239، وأعمال الأعلام ص 184، ودوزي في Hist. des Musulmans d'Espagne، V. III. p. 67-77

ص: 87

الأندلسية، بيد أنه قد غاض ودثر في النهاية، ولم تصل إلينا منه سوى شذور قليلة (1).

وما كاد المنصور بن الأفطس يبدأ حكمه حتى ثار به أخوه عمر، وكان يرى نفسه أحق منه بالملك والحكم. وكان عند وفاة والده المظفر حاكماً لمدينة يابرة وما إليها، فنهض لمناوأة أخيه. واستمر النزاع بينهما بضعة أعوام حتى تفاقم.

ولجأ عمر إلى معاونة المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة، واتجه المنصور إلى معاونة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، واضطرمت الفتنة، وكادت تدمر كل شىء، لولا أن توفي يحيى المنصور فجأة سنة 464 هـ (1072 م)، فخمدت الفتنة ودخل عمر بطليوس، وتولى الحكم مكان أخيه دون منازع، وتلقب بالمتوكل على الله، وندب ابنه العباس حاكماً ليابرة.

وكان المتوكل بن الأفطس من أشهر ملوك الطوائف وأبقاهم ذكراً، وهو لم يشتهر بحروبه وأعماله السياسية، وإنما اشتهر بعلمه وأدبه وشعره، وبلاطه الزاهر، الذي كان جامعة أدبية أكثر منه قصراً ملوكياً. وقد وصفه لنا معاصره الفتح بن خاقان في تلك العبارات الشعرية:" ملك جند الكتائب والجنود، وعقد الألوية والبنود، وأمر الأيام فائتمرت، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت إلى لسن وفصاحة، ورحب جناب للوافد وساحة، ونظم يزري بالدر النظيم، ونثر تسري رقته سري النسيم، وأيام كأنها من حسنها جمع، وليال كان فيها على الأنس حضور مجتمع، راقت إشراقاً وتبلجاً، وسالت مكارمه أنهاراً وخلجاً "(2).

وقال ابن الخطيب: " وكان المتوكل ملكاً عالي القدر، مشهور الفضل، مثلا في الجلالة والسرو، من أهل الرأي والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بطليوس في مدته دار أدب وشعر ونحو وعلم ".

ونقل إلينا ابن الخطيب تلك التحفة الأدبية من نظم المتوكل، رواها وزيره أبو طالب ابن غانم قال: كتب إلى المتوكل بهذين البيتين في ورقة كرنب من بعض البساتين:

انهض أبا طالب إلينا

واسقط سقوط الندى علينا

فنحن عقد بغير وسطى

ما لم تكن حاضراً لدينا (3)

(1) البيان المغرب ج 3 ص 236، 237، وأعمال الأعلام ص 183، 184 والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 41، 42.

(2)

قلائد العقيان ص 36.

(3)

أعمال الأعلام ص 185.

ص: 88

وحسبك أن تعلم أنه كان من بين وزراء المتوكل، الكاتب والشاعر الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون "عظيم ملكهم، ونظيم سلكهم" حسبما يصفه صاحب القلائد، وصاحب مرثيتهم الرائعة التي نشير إليها فيما بعد، وهو من أبناء مدينة يابرة، وبنو القبطرنة وهم الشاعر المبدع أبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، وأخواه أبو محمد وأبو الحسن، وكلاهما أيضاً شاعر رائق النظم.

وفي عهد المتوكل على الله تمتعت مملكة بطليوس بفترة من السلام والأمن والرخاء، وسطع بلاطها في ظل أميرها الحكيم العالم. والواقع أن مملكة بطليوس كانت بالرغم مما نزل بها من الأحداث والخطوب، في عهد المظفر بن الأفطس، تتفوق من حيث انتظام الأحوال وسيادة الأمن والرخاء، على كثير من دول الطوائف الأخرى. وفي ذلك يقول المؤرخ " وكانت أيام بني المظفر (يقصد بني الأفطس) بمغرب الأندلس أعياداً ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الأدب، خلدت فيهم، ولهم قصائد شادت مآثرهم، وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم "(1).

وكان معاونه في الحكم الوزير ابن الحضرمي، قد أساء السيرة، وتجبر وطغى وتعسف في معاملة الناس فأقاله، وأبعده عن خدمته. فكتب إليه الوزير يستعطفه فراجعه المتوكل بخطاب جاء فيه: " ياسيدي وأكرم عددي، الشاكي ما جنته يده لا يدي، ومن أسأل الله التوفيق في ذاته إذ حرمه في ذاتي

نعم فإني رأيت الأمر قد ضاع، والإهمال قد انتشر وذاع، فأشفقت من التلف، وعدلت إلى ما يعقب إن شاء الله الخلف، وأقبلت استدفع من مواقع أنسي، وأشاهد ما ضيعته بنفسي، فم أر إلا لججاً قد توسطتها، وغمرات قد تورطتها، فشمرت عن الساق للجتها، وخدمت النفس بمهجتها، حتى خضت البحر الذي أدخلني فيه رأيك، ووطئت الساحل الذي كان يبعدني عنه سعيك .... وقد أطمعت في العدو لبست لأهل دهري الاستكبار والعتو، واستهنت بجيرانك، وتوهمت أن المروءة في التزام زهوك، وتعظيم شأنك، حتى أخرجت النفوس علي وعليك، فانجذب مكروه ذلك إليك، ومع ذلك فليس لك عندي إلا حفظ الحاشية وإكرام الغاشية " (2).

ووقعت أيام المتوكل في جارته مملكة طليطلة أحداث كان لها صدى في مملكته.

(1) المراكشي في المعجب ص 42.

(2)

قلائد العقيان ص 41.

ص: 89

ذلك أن يحيى بن ذى النون صاحب طليطلة الملقب بالقادر بالله، كان أميراً ضعيفاً سيىء الخلال، وكانت تناهضه عصبة قوية من الأعيان. وفي سنة 472 هـ ْقامت ثورة في طليطلة أضرمها أولئك الخصوم الناقمون، وحاولوا الاعتداء عليه، ففر من المدينة ناجياً بنفسه، ولجأ إلى بعض حصونه الخارجية، وخشي أعيان المدينة انهيار النظام، وذيوع الفوضى، فاتجهوا إلى المتوكل، واستدعوه لضبط المدينة، فأجابهم كارهاً، وغادر بطليوس إلى طليطلة، وأقام بها زهاء عشرة أشهر يدبر شئونها، حتى تهيأت لأميرها المنفي سبل العودة، فغادرها المتوكل، وقد حصل من أسلاب ابن ذى النون وذخائره على قسط وافر (1).

وكان ألفونسو السادس خلال ذلك يشدد الضغط على مملكة طليطلة، ويرهقها بغاراته المتوالية، وينتسف زروعها وأقواتها، تمهيداً لمشروعه الضخم في الاستيلاء عليها. وكان القادر بن ذى النون يدافع العدو ما استطاع، ويتطلع حوله للاستنجاد بجيرانه المسلمين، فلا يجد سميعاً أو منجداً. ولم يتقدم لإغاثته سوى المتوكل بن الأفطس، فقد سار بجنده لمدافعة جند قشتالة. بيد أن ألفونسو السادس لم يشأ الدخول في معارك عقيمة، وآثر الانسحاب مؤقتاً، حتى تحين الفرصة المنشودة.

بيد أنه لم تمض على ذلك بضعة أعوام، حتى حلت النكبة بمملكة بني ذى النون، واستولى ألفونسو السادس ملك قشتالة على طليطلة، وذلك في المحرم من سنة 478 هـ (1085 م) حسبما نفصل في موضعه. وشعر ملك قشتالة على أثر إنزال هذه الضربة الفادحة بالمسلمين، أنه أضحى قادراً على تحدي دول الطوائف جميعاً، والقضاء عليها، واحدة بعد أخرى. وكان من أثر ذلك أن أرسل إلى المتوكل يطلب إليه تسليم بعض قلاعه وحصونه، وأن يؤدي الجزية، ويتوعده بشر العواقب إذا رفض، ولم يك ثمة شك في خطورة هذا الوعيد، بعد أن سقطت طليطلة حصن الأندلس على نهر التاجُه، وعبر النصارى نهر التاجُه لأول مرة، ومع ذلك أبي المتوكل أن يستجيب إلى الوعيد، ورد على ملك قشتالة برسالة قوية حازمة، تفيض شجاعة وإباء ونبلا يقول فيها:

" وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد

(1) أعمال الأعلام ص 180.

ص: 90

ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويلدد بجنوده الوافرة، وأحواله المتظافرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا محمد عليه السلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون

أما تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك، علمت أي مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك تتجرعه، فلم نزل نذيقها من الحمام ضروب الآلام شؤماً تراه وتسمعه، وإذا المال تتورعه. وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد كل عام عليه، وأما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، إلا السيوف تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ويومك، وبالله تعالى وملائكته المسومين، فنقوى عليك ونستعين

وما تتربصون بنا إحدي الحسنيين، نصر عليكم فيالها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله، فيالها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفتر بما مددت، ويقطع بك فيما أعددت " (1).

وندب المتوكل قاضيه العلامة والفقيه الأجل، أبا الوليد الباجي، ليطوف بحواضر الأندلس، ويتصل بالرؤساء، ويدعوهم إلى لم الشعث، وتوحيد الكلمة ومدافعة العدو، فقام بالمهمة، واتصل بسائر الرؤساء، ولم يدخر وسعاً في نصحهم ووعظهم (2).

ومع ذلك فإن المتوكل لم يجد من زملائه المسلمين من يستنصر به، وقد روعهم جميعاً ما حل في طليطلة، وكان ملك قشتالة قد استولى منذ سنة 1080 م (473 هـ) على مدينة قورية وقلاعها، وهي من أطراف مملكة بطليوس الشمالية وحصنها على ْنهر التاجه، وأضحى السبيل بذلك أمامه ممهداً لكي يجتاح أراضيها بسهولة. وكان المعتمد بن عباد قد تلقى منه مثل المطالب والنذر التي تلقاها المتوكل، ورد عليه بمثل رد المتوكل أو أشد. وكان أن تطورت الحوادث بسرعة، واعتبر ملوك الطوائف بالخطب الداهم، وانتهى بهم الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء القدر أن يكون نقطة تحول في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين.

(1) تراجع هذه الرسالة في الحلل الموشية (تونس 1329 هـ) ص 20 - 22.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 98.

ص: 91

وقد كان عمر المتوكل، إلى جانب زميله المعتمد بن عباد، وكلاهما يومئذ هدف لأخطر عدوان مباشر من جانب ملك قشتالة، في مقدمة المؤيدين لهذه الخطوة، وقد كتب إلى أمير المسلمين، كما كتب المعتمد، يلتمس عونه وغوثه.

والظاهر أن المتوكل وجه صريخه لأمير المسلمين قبل سقوط طليطلة، حسبما يبدو ذلك من رواية صاحب الحلل الموشية (1)، وقد انتهت إلينا من قلم هذ الأمير العالم تلك الرسالة البليغة المؤثرة يصف فيها لأمير المسلمين محنة الأندلس، وما دهاها من التفرق والانحلال، ويستنصره إلى الجهاد، والإنجاد العاجل:

" لما كان نور الهدى، أيدك الله، دليلك، وسبيل الخير سبيلك، ووضحت في الصلاح معالمك، ووقفت على الجهاد عزائمك، وصح العلم بأنك لدعوة الإسلام أعز ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، وجب أن تستدعي، لما أعضل الداء، وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها "أهلكهم الله" (2)، عند إفراط تسلطها واعتدائها (3)، وشدة كلبها واستشرائها، تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها عن كل ذخيرة، وتسترضى بكل خطيرة (4)، ولم يزل دأبها التشطط والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى نفد (5) الطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، واضطرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم، فإنما هم بأيديهم أسارا وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، وقد هموا بما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب، فيالله وياللمسلمين، أبسطوا هكذا بالحق الإفك، ويغلب التوحيد الشرك، ويظهر على الإيمان الكفر، ولا يكشف هذه البلية النصر، ألا ناصر لهذا الدين المهتضم، ألا حامي لما استبيح من الحرم، وأنا لله على ما لحق عرشه من ثل، وعزه من ذل، فإنها الرزية التي ليس فيها عزاء، والبلية التي ليس مثلها بلاء. ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك، أعزك الله، بالنازلة في مدينة قورية، أعادها الله، وأنها مؤذنة للجزيرة بالخلا، ومن فيها من المسلمين بالجلا، ثم مازال ذلك التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند، حتى تخلصت

(1) الحلل الموشية ص 20.

(2)

الزيادة من البيان المغرب (الأوراق المخطوطة).

(3)

البيان المغرب "واعتزازها".

(4)

البيان المغرب "نفيسة".

(5)

البيان المغرب "استصفى".

ص: 92

القضية، وتضاعفت البلية، وتحصلت في يد العدو مدينة سُرية، وعليها قلعة تجاوزت حد القلاع، في الحصانة والامتناع، وهي من المدينة كنقطة الدائرة "وواسطة القلادة" تدركها من جميع نواحيها، ويستوي في الأرض بها قاصيها ودانيها، وما هو إلا نفس خافت، وزمر داهق، استولى عليه عدو مشرك، وطاغية منافق، إن لم تبادروا بجماعتكم عجالا، وتتداركوها ركباناً ورجالا، وتنفروا نحوها خفافاً وثقالا، وما أحضكم على الجهاد بما في كتاب الله، فإنكم له أتلى، ولا بما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم إلى معرفته أهدى، وكتابي إليكم هذا يحمله الشيخ الفقيه الواعظ، يفصلها ويشرحها، ومشتمل على نكتة هو يبينها ويوضحها، فإنه لما توجه نحوك احتساباً، وتكلف المشقة إليك طالباً ثواباً، عولت على بيانه، ووثقت بفصاحة لسانه والسلام " (1).

والظاهر أن المتوكل، تلقى كما تلقى ابن عباد من أمير المسلمين، كتاباً يعده فيه بالجواز والإنجاد.

ونحن نقف في سرد أخبار المتوكل ومملكة بطليوس عند ذلك الحد، إذ هي تندمج عندئذ في تيار الحوادث العامة، الذي جرف الأندلس وملوك الطوائف جميعاً، وهو ما سنعني بتفصيله في موضعه.

(1) البيان المغرب - في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها في مكتبة القرويين.

ص: 93