المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثبنو عباد ومملكة إشبيلية - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثالثبنو عباد ومملكة إشبيلية

‌الفصل الثالِث

بنو عباد ومملكة إشبيلية

القسم الثاني

المعتمد بن عباد. شخصيته وخلاله. ذكرياته بشلب. استيلاؤه على قرطبة. النضال بين بني عباد والبربر. عوامل الخصومة بينهما. محاربة المعتمد لغرناطة واستيلاؤه على جيان. اتفاقه مع ألفونسو السادس على فتح غرناطة. الوزير ابن عمار. نشأته وشاعريته. مقدرته ودهاؤه. سعيه إلى فتح مرسية. اتفاقه مع أمير برشلونة على غزوها. فشل هذه المحاولة. استعانته بابن رشيق في فتحها. محاولته الاستقلال بحكمها. تغلب ابن رشيق عليها. فرار ابن عمار والتجاؤه إلى بني هود. محاولته فتح حصن شقورة. سقوطه في يد صاحب الحصن. تسليمه لابن عباد. اعتماد الرميكية وابن عباد. تغدو ملكة إشبيلية. الوحشة بينها وبين ابن عمار. هجاء ابن عمار للمعتمد. والرميكية. استعطاف ابن عمار للمعتمد وشعره في ذلك. قسوة المعتمد وقتله لوزيره. تعليقات على الحادث. ابن عمار وعبقريته. مقدرته الأدبية والنثرية. غزو المعتمد لأراضي طليطلة. يؤدي الجزية لملك قشتالة. يعقد حلفاً معه. موضوع هذا الحلف. مطالبة ألفونسو للمعتمد بالجزية. والخلاف على قيمتها. تنكيل ابن عباد برسل ألفونسو. غزو ألفونسو لأراضي إشبيلية. خطته في إضعاف الطوائف والقضاء عليهم. إدراك المعتمد لخطته وتفكيره في الاستعانة بالمرابطين. وعيد ألفونسو له ورد المعتمد عليه. ذيوع فكرة استدعاء المرابطين بين أمراء الأندلس وشعوبها. سفارة أمراء الأندلس لعاهل المرابطين. الإتجاهات المختلفة والآراء المعارضة. ما ينسب لابن عباد من رسائل وجهها إلى أمير المسلمين. استجابة أمير المسلمين لنداء الأندلس. عبوره إلى شبه الجزيرة الإسبانية.

- 1 -

لما توفي المعتمد بن عباد، خلفه يوم وفاته ولده، محمد بن عباد، الملقب بالظافر، والمؤيد بالله، والمعتمد على الله، وهو اللقب الذي غلب عليه واشتهر به طول حياته.

وكان المعتمد يوم جلوسه على عرش مملكة إشبيلية، فتى في الثلاثين من عمره، وكان مولده بمدينة باجة في سنة 431 هـ (1040 م) وقيل بل في ربيع الأول سنة 432 هـ (1). وكان مثل أبيه، في حسن القوام، وروعة المظهر، وعنفوان

(1) يقول بالرواية الأولى النويري، وبالرواية الثانية ابن زيدون وابن اللبانة شاعرا المعتمد. راجع دوزي: Historia Abbadidarum V.II،p، 61 & 131 ، وكذلك ابن الأبار في الحلة السيراء ج 2 ص 53.

ص: 59

الصبا، ولكن لم يكن مثله في الصرامة والقسوة والاستهتار بالدماء، بل كان بالعكس وديعاً، يعف عن الدماء، بعيداً عن قبول السعايات.

ويقول لنا ابن الأبار في وصف المعتمد ما يأتي: " وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل مخالفاً لأبيه في القهر والسفك، والأخذ بأدنى سعاية، رد جماعة ممن نفى أبوه، وسكن وما نفر، وأحسن السيرة، وملك فأسجح، إلا أنه كان موالعاً بالخمر، منغمساً في اللذات، عاكفاً على البطالة، مخلداً إلى الراحة، فكان ذلك سبب عطبه، وأصل هلاكه "(1).

وقد خاض المعتمد مثل أبيه، سلسلة طويلة من الحروب والأحداث، وتقلب في غمار الخطوب والجدود، وكان عهده عهد الحسم في تاريخ دول الطوائف، وفي تاريخ الأندلس قاطبة؛ ولكنه لم يشتهر في ميدان الحرب والسياسة، قدر ما اشتهر في ميدان الأدب والشعر، والفروسية، والجود، ومهما كانت وجوه الضعف الشخصية التي كان ينطوي عليها، من عكوف على الشراب، وانغماس في مجالي اللهو والترف، ومهما كانت أخطاؤه السياسية الفادحة، التي ترتبت عليها محنة الأندلس، ثم محنته الخاصة: مهما كان من هذه الصفات القاتمة فإن شخصية المعتمد بن عباد، تبرز لنا من خلال هذه الغمار، ومن الناحية الأخرى، مشرقة وضاءة، تتوجها عبقريته الأدبية والشعرية، وتزينها صفاته الإنسانية الرقيقة وتطبعها محنته المؤلمة، بالرغم من كل أوزاره وأخطائه، بطابع الاستشهاد المؤثر.

وكان المعتمد أثناء حياة أبيه المعتضد، والياً لمدينة شلب، وليها عقب استيلاء بني عباد عليها في سنة 455 هـ (1063 م)، وكان يعاونه خلال تلك الفترة في إدارة ولاية شلب وزيره أو أمينه أبو بكر بن عمار، الذي تولى وزارته بإشبيلية فيما بعد، واشتهر ذكره، واضطلع له بأخطر المهام السياسية والعسكرية.

وقد تركت حياة المعتمد في شلب، تلك المدينة البرتغالية الجميلة النائية، وهو يومئذ في عنفوان فتوته، يتقلب خلالها في مجالي اللهو والأنس، في نفسه ذكريات لا تمحى، صورها لنا فيما بعد، في بعض قصائده. ومن ذلك قوله مخاطباً وزيره ابن عمار حين وجهه إلى شلب ليتفقد أعمالها:

ألا حب أوطانب بشلب أبا بكر

وسلهن هل عهد الوصال كما أدري

(1) في الحلة السيراء ج 2 ص 54.

ص: 60

وسلم على قصر الشراجيب من فتى

له أبداً شوق إلى ذلك القصر

منازل آساد وبيض نواعم

فناهيك من غيل وناهيك من خدر

فكم ليلة قد بت أنعم جنحها

بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر

وبيض وسمر فاعلات بمهجتي

فعال الصفاح البيض والأسُل السمر

وليل بسدِّ النهر لهواً قطعته

بذات سور مثل منعطف البدر

نضت بردَها عن غصن بان منعم

نضير كما انشقت الكمام عن الزهر

وباتت تسقينى المدام بلحظها

فمن كأسها حينا وحيناً من الثغر

وكان أول عمل قام به المعتمد عقب ولايته، هو تدخله في حوادث قرطبة، حينما هددها المأمون بن ذى النون بقواته، فبعث إليه عبد الملك بن جَهْور يستنجد به، فوجه إليه الأمداد مع قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، وانتهى الأمر باستيلاء قوات إشبيلية على قرطبة، وفقاً لخطة سرية وضعت من قبل، وبالقضاء على دولة بني جهور، وضم قرطبة إلى مملكة إشبيلية (462 هـ - 1070 م). وندب المعتمد ولده عباداً الملقب بسراج الدولة لحكم المدينة. وقد فصلنا عند الكلام عن دولة بني ذى النون، كيف دبر المأمون بن ذى النون استرداد قرطبة على يد ابن عكاشة، وكيف قتل سراج الدولة ولد المعتمد مدافعاً عنها، ثم دخلها المأمون في سنة 467 هـ (1075 م) ثم توفي بها بعد ذلك بأشهر قلائل، وأخيراً كيف عاد المعتمد، فسار على أثر ذلك إلى قرطبة في قواته، واستولى عليها، وقتل ابن عكاشة انتقاماً لولده، وبذلك عادت قرطبة إلى مملكة إشبيلية.

على أن أهم ما شغل به المعتمد، في تلك الفترة الأولى من ولايته، هو النضال ضد مملكة غرناطة البربرية. ونحن نعرف أن الخصومة بين بني عباد وبين الإمارات البربرية قد بدأت في عصر مبكر، وقد فصلنا من قبل كيف اشتبك القاضي ابن عباد مع يحيى بن حمود المعتلي حول قرمونة، في معركة دموية قتل فيها المعتلي، واستولى ابن عباد على قرمونة، وأعطاها لصاحبها البرزالي حليفه يومئذ، وكيف نشبت الخصومة فيما بعد بين ابن عباد والبرزالي، فلما أراد ابن عباد استرداد قرمونة باعتبارها حصن إشبيلية من الشرق، وسير إليها قواته، استغاث البرزالي بإدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية معارك طاحنة هزم فيها الإشبيليون، وقتل أميرهم إسماعيل بن عباد، وذلك في أوائل سنة 431 هـ.

ص: 61

ولما تولى المعتضد بن عباد، عقب وفاة والده القاضي محمد بن اسماعيل ابن عباد في سنة 433 هـ، كان من أبرز أعماله القضاء على مختلف الولايات البربرية الشرقية، والجنوبية الشرقية، وهي مورون وأركش ورندة. واستولى على الجزيرة الخضراء من يد أميرها القاسم بن حمود (446 هـ)، ثم استولى على قرمونة وأعمالها في سنة 459 هـ (1067 م).

وبذلك تم القضاء على سائر الإمارات البربرية المتاخمة لإشبيلية من الشرق والجنوب الشرقي، وتم تأمين جناحها الدفاعي من هذه الناحية، ولم يبق في جنوبي الأندلس من الإمارات البربرية. سوى مملكة باديس في غرناطة ومالقة.

وحاول المعتضد في نفس الوقت أن ينتزع مالقة من باديس، وسير إليها قواته بالفعل تحت إمرة ولديه جابر والمعتمد، وكادت مالقة تسقط بالفعل في أيدي المهاجمين، ولكن باديس قدم في قواته مسرعاً، فانقلبت الآية وهزم جند إشبيلية هزيمة شديدة، وفشلت المحاولة (458 هـ)(1).

وكان المعتمد بن عباد يتابع سياسة أبيه وجده في التوجس من البربر والقضاء على سلطانهم. وكان يخشى أن تغدو مملكة غرناطة البربرية، مهبطاً للقبائل والقوات البربرية، التي تفد من وراء البحر باحثة عن طالعها وأرزاقها. هذا من ناحية العوامل المادية، وأما من ناحية العوامل الأدبية، فنستطيع أن نشير بهذه المناسبة، إلى ما كان بين العرب والبربر من خصومة قديمة مؤثلة ترجع إلى عصر الفتح ذاته، وقد شرحنا عوامل هذه الخصومة في "العصر الأول" من كتابنا. ونزيد هنا أن بني عباد، كانوا حسبما أشرنا من قبل، ينتمون إلى لخم، من أكرم وأشرف القبائل العربية، وكانوا من أهل العلم والأدب المؤثل، حماة للعلوم والآداب والفنون، يغص بلاطهم بأقطاب العصر وشعرائه، وتتمتع في ظلهم مملكة إشبيلية بحضارة زاهرة، وثقافة رفيعة. أما القبائل البربرية فلم تكن راسخة في تعاليم الإسلام، وكانت بعيدة عن العربية وثقافتها وتراثها، يؤثرون التمسك بعجمتهم وبداوتهم، وكانت قصورهم عاطلة عن ذلك الجو الفكري والأدبي، الذي تزدان به قصور الأصول العربية، وكان هذا التباين يبدو بالأخص بين بلاط غرناطة البربري، وبين بلاط إشبيلية العربي.

(1) البيان المغرب ج 3 ص 274 و 275.

ص: 62

اجتمعت هذه العوامل المادية والأدبية، لتذكى ضرام النضال بين مملكة غرناطة، حصن البربر في الجنوب، وبين مملكة إشبيلية. وكانت مملكة غرناطة قد بلغت ذروة قوتها في عهد ملكها باديس بن حبوس الصِّنهاجي، وكان باديس قد رشح ولده بُلُقِّين للأمر من بعده ولقبه سيف الدولة، ولكنه توفي بالسم في حادث غامض. وفي خلال ذلك كان النضال مستمراً بين المعتضد بن عباد وبين البربر، وقوة باديس تضعف شيئاً فشيئاً. فلما توفي باديس في سنة 465 هـ (1073 م)، خلفه في حكم غرناطة حفيده عبد الله بن بُلُقِّين، وفي حكم مالقة حفيده تميم، ولم يمض على وفاته سوى عام، حتى سار المعتمد بن عباد في قواته إلى جيان، أهم قواعد مملكة غرناطة الشمالية واستولى عليها (466 هـ - 1074 م) ولم يبق من مملكة غرناطة سوى العاصمة ورباضها. وعندئذ فكر أمير غرناطة في الإستعانة بالنصارى، وتوصل بواسطة المأمون بن ذى النون، إلى أن يعقد مع ألفونسو السادس ملك قشتالة، معاهدة صداقة وتحالف، يتعهد فيها بدفع الجزية. وحدث في نفس الوقت أن ظفر المأمون بن ذى النون، بانتزاع قرطبة من ابن عباد (467 هـ)، فكانت هزيمة المعتمد، سبباً في انقشاع الخطر نوعاً عن غرناطة.

وخرج عبد الله بن بُلُقِّين بعد ذلك في قواته ومعه سرية من حلفائه النصارى، وأغار على أراضي ابن عباد، وعاث فيها، واستطاع أن يسترد حصن قبرة القريب من جيان (1).

بيد أن المعتمد لم يقف مكتوفاً إزاء هذه الحركة، فاتجه بدوره إلى النصارى، وأرسل وزيره الشهير أبا بكر بن عمار إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس، فعقد معه حلفاً دفع مقابل عقده خمسين ألف دينار. ويقضي هذا الحلف بأن يتعاون المعتمد وألفونسو السادس، على افتتاح غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها للمعتمد، وأن تكون ذخائر القلعة الحمراء لألفونسو. وظهر أثر هذه المعاهدة على الفور، إذ عمد النصارى إلى تخريب بسائط غرناطة، ولاسيما أراضي مرجها الشهير La Vega (2) .

(1) R. Menendez Pidal: La Espana del Cid، p، 257 & 260.

(2)

R. M. Pidal: ibid ; p، 257

ص: 63

ولا بد لنا قبل أن نمضي في تتبع أخبار المعتمد، أن نتحدث عن الوزير ابن عمار، وهو الذي اضطلع بأخطر دور في تنفيذ مشاريع المعتمد. فهو أبو بكر محمد بن عمار بن الحسين بن عمار المهري، وأصله من قرية من أرباض شلب تسمى "شنبوس"(1)، ولد بها سنة 422 هـ (1031 م)، في أسرة متواضعة لم يكن لها في الظهور شأن، ووفد على مدينة شلب فنشأ بها وتلقى دراسته الأولى، ثم رحل إلى قرطبة، فأكمل دراسته على جماعة من شيوخ العصر، وبرع في الأدب، ونظم الشعر فتى، واتخذه وسيلة للتكسب، فكان يمدح كل من وصله، مهما كانت مكانته أو مركزه. ثم قصد إشبيلية ومدح المعتضد، فنظمه في سلك شعرائه وأمنائه، ولما ندب المعتضد ولده المعتمد لحكم شلب على أثر افتتاحها، اتصل به ابن عمار وألفى المعتمد في صفاته وأدبه ورقيق نظمه ما حببه إليه، فعهد إليه بوزارته، وتوثقت بينهما علائق المودة والصفاء، حتى غدا أثير المعتمد، ينظمه في مجالس أنسه، ولا يصبر على فراقه، وكانت براعة ابن عمار في النظم هي أحب صفاته لأميره الشاعر. ولما توفي المعتضد، وخلفه ولده المعتمد في الملك، عين ابن عمار أولا والياً لبلده شلب، ولكن مقامه بها لم يطل، إذ لم يصبر المعتمد على فراقه، فاستدعاه إلى إشبيلية وولاه وزارته. فظهر ابن عمار يومئذ بمقدرته ودهائه، فكان المعتمد يعهد إليه بمهام الأمور ويندبه إلى سفاراته، وتنفيذ مشاريعه الخطيرة، فيؤديها ابن عمار على أحسن وجه. واستمر ابن عمار على حظوته ومكانته لدى المعتمد أعواماً طويلة، إلى أن فسد الجو بينهما، بتدخل اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، فكان ذلك إيذاناً بنكبته على ما نذكره بعد.

وكان من أهم المشاريع التي اضطلع بها ابن عمار يومئذ، استيلاؤه على مدينة مرسية باسم ابن عباد. وهنالك ما يدل على أن مملكة إشبيلية كانت تمتد في ذلك الوقت حتى لورقة وشقورة (2) على مقربة من مرسية. وكانت مرسية بعد أن غادرها خيران العامري، قد تغلب عليها أبو بكر بن طاهر، ثم ولده أبو عبد الرحمن بن طاهر من أعيانها، ولكنه لم يوفق إلى إخماد العناصر الناقمة، فكتب بعض هؤلاء إلى المعتمد بن عباد يستدعونه لفتحها، وشرحوا له ضعف ابن طاهر وقلة أهباته الدفاعية، فعهد المعتمد إلى ابن عمار بوضع الخطة اللازمة لتحقيق

(1) وهي اليوم بلدة Estombar البرتغالية الواقعة جنوبي شلب.

(2)

قلائد العقيان ص 9، ودوزي في: Hist. Abbadidarum، V، II، p، 86

ص: 64

هذه الغاية، فسار ابن عمار، وعقد مع الكونت رامون برنجار أمير برشلونة صفقة، يتعهد فيها بأن يعاونه بفرسانه على فتح مرسية، مقابل عشرة آلاف مثقال من الذهب تدفع إليه، واتفق الطرفان، أن يقدم كل منهما رهينة إلى الآخر ضماناً بالوفاء، فقدم المعتمد ولده الرشيد، وقدم الكونت ابن أخيه، وبعث المعتمد بقواته، وعلى رأسها ابن عمار. ولحقت بها قوات الكونت، وحاصرت القوات المتحالفة مدينة مرسية، ولكن ابن عباد تأخر في أداء المال، واعتقد الكونت أنه قد غرر به، فقبض على ابن عمار وعلى الرشيد، وارتد بقواته عن المدينة. وعلم ابن عباد بالأمر، وهو على رأس قواته على ضفاف نهر الوادي الكبير على مقربة من شقّورة، وبادر بأداء المال، وبعث معه رهينة الكونت، وأفرج عن الرشيد وابن عمار، وأخفقت هذه الحملة الأولى في فتح مرسية، وجهز المعتمد بإشارة وزيره حملة أخرى على رأسها ابن عمار، واتصل ابن عمار في طريقه بقائد حصن بَلج أو بُليج، Vélez Rubio وهو يومئذ عبد الرحمن بن رشيق، فسار معه، وندبه للقيادة، وحاصر ابن رشيق مرسية، واستمر في إرهاقها، وفي تحريض أهلها على القيام ضد ابن طاهر، حتى تم له الأمر، وفتحت المدينة أبوابها بطريق الخيانة، ودخلها جند ابن عباد، وقبض على ابن طاهر، واعتقل حتى أذن ابن عباد بتسريحه، فلحق ببلنسية، وكان افتتاح مرسية على هذا النحو في سنة 471 هـ (1078)(1).

على أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد. ذلك أن ابن عمار سولت له نفسه، أن يستقل بحكم هذه المدينة النائية، بعيداً عن سلطان مليكه، وعمد بالفعل إلى حكمها حكم أمير مستقل، وتجاهل أوامر ابن عباد ورغباته، وأخذ يدس الدسائس بين أمراء هذه الناحية، ولكن هذه المغامرة لم يطل أمدها؛ ذلك أن ابن رشيق، وهو فاتح المدينة الحقيقي، كان يتربص بابن عمار، ويتحين فرصته، وفي ذات يوم غادر ابن عمار مرسية لتفقد بعض الحصون الخارجية، فوثب ابن رشيق واستولى على المدينة، وأغلق أبوابها في وجه ابن عمار، فكانت تلك الضربة خير جزاء له على خيانته.

(1) راجع في فتح مرسية: أعمال الأعلام ص 160، والمراكشي في المعجب ص 65، ودوزي عن الشلبي في: Hist.Abbadidarum، V. II. p،86-87. وكذلك: R.Menendez Pidal: Piles Ibars: Murcia Arabe، V.I.p. 189-191، La Espana del Cid p. 259 & 281

ص: 65

ولم ير ابن عمار أمامه سوى الفرار، فسار صوب الشرق وقضى وقتاً قصيراً في بلاط ألفونسو السادس، فلم يلق منه عوناً، ثم قصد إلى سرقسطة، والتجأ إلى أميرها المقتدر بن هود، فأكرم وفادته، واستخدمه في شئونه، ولكنه توفي بعد قليل في سنة 475 هـ (أواخر 1081 م) وقسمت مملكته بين أولاده، فاختص المؤتمن بسرقسطة، وبقي ابن عمار معه على ما كان عليه. ولم يطل مكث ابن عمار حتى أغراه على سجيته، بفتح حصن شَقُورة، وهو يومئذ من أعمال دانية، وقصد ابن عمار إلى ذلك الحصن، في جماعة قليلة من أصحابه، وكان حاكمه رجل وافر الدهاء يدعى ابن مبارك، فدعا ابن عمار وصحبه إلى الدخول، وهش لاستقباله، فخدع ابن عمار بموقفه، وما كاد يستقر في الحصن، حتى هوجم وقبض عليه، ووضعت في يده الأغلال، وزج إلى ظلام السجن، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 477 هـ (يوليه 1084 م).

ووقف ابن عباد على ذلك الخبر، فبعث إلى ابن مبارك يطلب إليه تسليم ابن عمار وبعث إليه مالا وخيلا، فاستجاب لدعوته، وسلم ابن عمار لرسله، وعلى رأسهم ولده يزيد الراضي، فأخذ أولا إلى قرطبة حيث كان المعتمد يومئذ، وأدخل إليها مكبولا في هيئة زرية، وقده احتشد الألوف من أهلها لرؤيته، وقد كانت تهتز لموكبه حين كان يدخلها أيام عزه. ثم أخذ بعد أيام قلائل إلى إشبيلية، فأودعه المعتمد مكاناً خاملا في قصره، وكان يستحضره من آن لآخر، ويبالغ في عتبه وتأنيبه، وابن عمار يمعن في استعطافه واسترحامه. ويقال إن المعتمد تأثر في النهاية بمحنته، ووعده بصفحه، ولكن عاد فنقم عليه لأنه نقل إلى بعضهم ذلك الوعد، أو على قول راجح، لأن خصوم ابن عمار الساعين في هلاكه، وفي مقدمتهم الوزير أبو بكر بن زيدون وهو ولد الشاعر، ضاعفوا سعايتهم، وأبرزوا للمعتمد؛ أبياتاً بخط ابن عمار، نظمها أيام أن كان بمرسية، وفيها يتعرض بالهجو اللاذع لبني عباد، ولاعتماد الرُّميكية زوجة المعتمد (1).

وقد أشرنا من قبل إلى ما كان بين اعتماد الرميكية، وبين ابن عمار من

(1) راجع دوزي: Hist.Abbadidarum، V.II، p. 90،91،100-104، وابن الأبار في الحلة السيراء ج 2 ص 150 و 151، وأعمال الأعلام ص 160 و 161، والمراكشي في المعجب ص 66، وقلائد العقيان ص 83 و 90 و 91 و 97 وكذلك R. Menendez Pidal: La Espana del Cid. p. 289

ص: 66

وحشة كانت تزداد على مر الأيام. وكانت الرميكية، وهي ملكة إشبيلية الأثيرة، تحتل مكانة بارزة في حياة المعتمد، وفي بلاط إشبيلية. ولزواج المعتمد بهذه المرأة الموهوبة اللامعة، التي شاطرته أيام عزه ومجده وأيام محنته، وأنجبت له أولاده الملوك، قصة تتردد بين التاريخ والأسطورة. فأما التاريخ فتقول لنا الرواية، إن المعتمد حينما كان ولياً للعهد، أيام والده المعتضد، رأى اعتماداً ذات يوم صحبة مولاها رُميك وهو من وجهاء إشبيلية، فراقت لديه، فاشتراها منه وهام بها حباً، وتزوجها. بيد أن هناك رواية أخرى أكثر طرافة، وأقرب إلى لون الأسطورة، وهي أن المعتمد كان يتنزه ذات يوم مع وزيره ابن عمار في نهر إشبيلية، وهو نهر الوادي الكبير، وهما يتبادلان طرائف الشعر، وكانت الريح قد جعلت ماء النهر أشبه بالزرد، فنظم المعتمد هذه الشطرة:

"صنع الريح من الماء زرد"

وطلب إلى ابن عمار أن يكملها، فعجز الوزير الشاعر، وكانت ترقبهما فتاة حسناء ممن يغسلن ثيابهن في النهر، فردت على الفور:

"أي درع لقتال لو جمد"

فدهش المعتمد، وأعجب ببراعة الفتاة وسرعة خاطرها، كما أعجب بحسنها وخفة روحها، وسألها إن كان لها زوج، فأجابت بالنفي، فعندئذ استدعاها إلى قصره وتزوجها (1).

وهكذا شاء القدر أن تغدو اعتماد الرميكية زوجة للمعتمد بن عباد، وأن تغدو سيدة قصر إشبيلية. ولما تولى المعتمد الملك، كانت الرميكية تحتل مكانة بارزة في البلاط، وفي الشئون، وكانت لسمو مكانتها، وتمكن نفوذها يطلق عليها لقب "السيدة الكبرى"(2)، وكانت تشاطر زوجها هوى الشعر ونظمه، وكانت تعيش في هذا الأفق الأدبي الرفيع الذي يسيطر على بلاط إشبيلية، ويجتمع في ظله أعظم شعراء العصر، وتشترك في كثير من الأحيان في مجالس الشعر والأدب، التي كان يشغف بعقدها المعتمد، وتزدان في أحيان كثيرة بحضور زوجه الحسناء الساحرة؛ وكانت اعتماد فوق ذلك بنفوذها وحظوتها لدى المعتمد تشترك في توجيه الشئون. وكان الوزير ابن عمار، وهو يومئذ في إبان مجده

(1) نفح الطيب ج 2 ص 451.

(2)

المعجب ص 77. وكان هذا اللقب يطلق على والدة المعتمد ابنة مجاهد العامري.

ص: 67

ونفوذه، من أساطين هذه المجالس الأدبية، وكان يستأثر لدى المعتمد بثقته ويملك عليه كل حبه وعطفه، وكانت الرُّميكية تنظر إلى مكانته وتمكن نفوذه بعين السخط، وكان ابن عمار من جانبه يحقد عليها ويخشى بأسها وسعايتها؛ واستمرت معركة الدسائس والمنافسة حيناً بين اعتماد وابن عمار، لتسفر عن نتيجتها الطبيعية، وهي هزيمة الوزير وتغير مليكه عليه. ويقال إن الأبيات الطاعنة التي نسبت إلى ابن عمار، قد نظمها في ذلك الوقت سراً في هجو الرميكية، ونمى خبرها إلى المعتمد، ويقال من جهة أخرى إن ابن عمار نظمها أيام وجوده في مرسية، ونجح خصمه أبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية في الحصول على أصولها مكتوبة بخطه وبعثها إلى المعتمد.

وقد أورد لنا ابن الأبار في ترجمته لابن عمار، تلك القصيدة التي قيل إنها كانت سبباً في نكبة ابن عمار ومصرعه ومطلعها:

ألا حى بالغرب حياً حلالا

أناخوا جمالا وحازوا جمَالا

وعرِّج بيومين أم القرى

ونم فعسى أن تراها خيالا

لتسأل عن ساكنيها الرماد ..

. ولم تر للنار فيها اشتعالا

ويومين قرية من قرى إشبيلية ومنها كانت أوّلية بني عباد.

ومنها في هجو الرميكية:

تخيرتها من بنات الهجين

رميكية ما تساوي عقالا

فجاءت بكل قصير العذار

لئيم النجادين عمًّا وخالا

قصار القدود ولكنهم

أقاموا عليها قروناً طوالا

ثم يشير إلى أيام شبابه مع المعتمد إشارات بذيئة ويخاطبه بقوله:

سأكشف عرضك شيئاً فشيئاً

وأهتك سترك حالا فحالا (1)

وعلى أي حال فقد اجتمعت العوامل السياسية والشخصية، لتؤكد محنة ابن عمار. وقد وجه ابن عمار من سجنه إلى المعتمد قصائد في الاستعطاف تذيب الجماد، أو على قول ابن الخطيب "تعالج بمرامها جراح القلوب، وتُعَفِّى على هضبات الذنوب، لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب، والأجل المحسوب"، ومن أشهرها تلك القصيدة المؤثرة التي تهز أوتار القلوب، والتي مطلعها:

(1) الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال) لوحة 74 و 102، وراجع دوزي: Hist. Abbadidarum V. II. p. 117. وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 451 و 452.

ص: 68

سجاياك إن عافيت أندى وأسمح

وعذرك إن عاقبت أجلي وأوضح

وإن كان بين الخطتين مزية

فأنت إلى الأدنى من الله تجنح

حنانيك في أخذي برأيك لاتطع

عداي ولو أثنوا عليك وأفصحوا

ومنها:

أقلني بما بيني وبينك من رضى

له نحو روح الله باب مفتح

وعفِّ على آثار جرم سلكتها

بهبة رحمي منك تمحو وتصفح

ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم

كل إناء بالذي فيه يرشح

ومنها:

ْإلا إن بطشاً للمؤيد يرتمي

ولكن حلماً للمؤيد يرجح

وبين ضلوعي من هواة تميمة

ستشفع لو أن الحمام مجلح

سلام عليه كيف داربه الهوي

إلى فيدنو أو على فينزح

ليهنئه إن مت السلوُّ فإنني

أموت ولي شوق إليه مبرِّح (1)

على أن تضرع ابن عمار لم يؤثر في مليكه الصارم، ولم تجد الرحمة سبيلا إلى قلبه؛ ويقال إنه مما قضى على عطف المعتمد، وحفزه إلى التعجيل بالقضاء على وزيره، هو أن ابن عمار، حينما وعده المعتمد بصفحه، حدّث بذلك ولده الرشيد، وذاعت القصة بعد ذلك، ونقلها أبو بكر بن زيدون عدو ابن عمار الألد إلى المعتمد، فاضطرم سخطاً على ابن عمار، ونهض من فوره، وفي يده طبرزين (2) كان قد أهداه إليه ألفونسو ملك قشتالة، وذهب إلى حيث كان ابن عمار يرسف في أغلاله، ففزع ابن عمار لرؤيته، وارتمى على رجليه يقبلهما ويبللهما بدموعه، ولكن المعتمد أخذ يضربه بتلك الآلة حتى أجهز عليه، ولم يتركه إلا جثة هامدة تضرجها الدماء، ثم أمر به فغسل وكفن، ودفن في ركن من " القصر المبارك ". وكان مصرع ابن عمار على هذا النحو المؤسى في أواخر سنة 477 هـ (أوائل 1085 م)(3).

(1) وردت هذه القصيدة في قلائد العقيان ص 98، وأعمال الأعلام ص 161، وفي المعجب ص 67 و 68.

(2)

هو آلة أشبه بالبلطة.

(3)

راجع دوزي: Hist. Abbadidarum، V. II. p. 118-119. ، والمعجب ص 68 و69. ويقول لنا المراكشي إن مصرع ابن عمار وقع في سنة 479 هـ. وراجع ترجمة ابن عمار وأحداث حياته كلها مفصلة في الحلة السيراء ج 2 ص 131 - 165. ونقلها دوزي بنصها في: Hist. Abbad.. ( ص 88 - 123).

ص: 69

وهكذا قتل المعتمد بن عباد بيده، وزيره الشاعر المبرز، رفيق صباه، ويده اليمنى في كثير من المشاريع الخطيرة، في بادرة من الحقد المضطرم، والقسوة التي لا تخبو، وكانت هذه الضربة الدموية من أفدح أخطائه؛ ويقال إن المعتمد ندم فيما بعد على تسرعه، ونغصت عليه هذه الفعلة صفاء حياته. ويحاول الأمير عبد الله بن بُلُقِّين أمير غرناطة وهو معاصر للحادث وعليم بظروفه، أن يوضح لنا سبب حقد المعتمد على وزيره في الفقرة الآتية:" وكانت العداوة الواقعة بينه (أي ابن عمار) وبين المعتمد على يد الرشيد ابنه، فإنه بفسوقه كان يتكبر على أولاده، ويضيق عليهم، ويسىء الصنيعة مع من يجب عليه إكرامه من قرابة سلطانه، والمعتمد في هذا كله يصبر له، ولأنه قد استمال النصارى، واندخل معهم بحيلته، فمتى ما دهم أمر من قبلهم، وجهه إليهم، فيتجلى من أمرهم ما يضيق الصدر به، وكل ذلك بأموال رئيسه وسعادة أيامه، وهو بجهله يعتقد أن ذلك لا يتهيأ إلا بسببه، ويرد الخمس كله إلى نفسه؛ وكانت هذه المعاني مما أحنق عليه المعتمد، حتى عقب عليه بما كان جديراً به، وأمكنه الله منه، وجازاه بما لم يكن له منه بد، ولا رآه لغيره أهلا "(1).

ويعلق ابن الخطيب، على ذلك وقد كان أيضاً من الوزراء الذين عرفوا نزعات الملوك ونقمتهم بقوله:"وسبحان الذي جعل نفوس أكثر الملوك تنقاد في أزمة حب التشقي، وطلب الإنصاف، فلا تتوقف في مطاوعته، وذلك لأنها نفوس غير مقهورة بالرياضة والملكات، ولا مرغمة بفراق الشهوات، إلا القليل النادر، ممن كانت نفسه متصفة بالرحمة في أصل جبلتها، فهي ساكنة الفورة"(2).

وكان ابن عمار من أعظم رجالات الأندلس في عهد الطوائف، فكان وزيراً نابهاً، وقائداً مجرباً يقود الحملات العسكرية الناجحة، وسياسياً بارعاً، ومفاوضاً لا نظير له، يعقد الصلات البعيدة المنال، ويذلل المشكلات الصعبة، وقد ذاع صيته في سائر بلاد الأندلس، وكذلك في ممالك اسبانيا النصرانية، حتى كان ألفونسو السادس ملك قشتالة، إذا ذكر عنده ابن عمار، قال "هو رجل الجزيرة"(3). بيد أنه كان في نفس الوقت، سياسياً مغامراً، قليل الولاء

(1) كتاب البيان أو مذكرات الأمير عبد الله المنشورة بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (القاهرة 1955) ص 81.

(2)

أعمال الأعلام ص 162.

(3)

المعجب ص 63.

ص: 70

والوفاء، مكيافيلِّيا، يسعى إلى تحقيق غايته بأي الوسائل، دون اعتبار لخلق أو مبدأ. وكانت مواهبه الأدبية والشعرية، ألمع ما في خلاله، وقد كان ابن عمار بلا ريب من أعظم شعراء الأندلس في عصره، وكان هذا العصر الذي سطعت فيه قصور الطوائف عصراً، اجتمع فيه بالأندلس من أكابر الشعراء، جمهرة لم تجتمع في أي عصر آخر، ويكفي أن نذكر من هؤلاء بنو عباد، وفي مقدمتهم المعتمد، وابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وأبو بكر بن اللبانة، والمعتصم ابن صمادح وولده رفيع الدولة، وبنو القبطرنة، وابن عبدون. وكان ابن عمار في طليعة هذه الجمهرة الشاعرة، وقد ملأ الأندلس بروائع شعره، كما ملأها بذكر أعماله ومغامراته. وقد جمع شعر ابن عمار، ورتبه في ديوان خاص، أبو الطاهر محمد بن يوسف التميمي (1)، وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة طائفة كبيرة من أخبار ابن عمار، كما وضع تأليفاً خاصاً في تاريخه (2)، وكذلك وضع أبو بكر ابن قاسم الشلبي مجموعاً في تاريخ ابن عمار (3). وهذه العناية بسيرة ابن عمار وتراثه الشعري من معاصريه، ومن إليهم، تنبي عن أهمية هذه الشخصية البارزة في تاريخ الطوائف، وعن رفيع مكانتها السياسية والأدبية.

- 2 -

إلى ذلك الحين استطاع المعتمد بن عباد أن يؤسس أعظم مملكة للطوائف، تمتد في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة، من غرب ولاية تدمير شرقاً، حتى المحيط الأطلنطي، ومن ضفاف وادي يانة جنوباً حتى أرض الفرنتيرة.

وكان المعتمد قد استطاع في الواقع في أواخر أيام الملك العاجز الضعيف القادر ابن ذى النون، أن يستولي على معظم أراضي مملكة طليطلة الجنوبية الشرقية، من المعدن شرقاً حتى مدينة قونقة. ولعل المعتمد كان يفكر في غزوات وفتوح أخرى، ينتزع فيها ما استطاع من أراضي جيرانه، لولا أن أيقظه سقوط طليطلة من غمار أحلامه وأطماعه. أجل، لم يكن خافياً على المعتمد، وعلى أمراء

(1) دوزي: Hist.Abbadidarum، V.II.p. 89

(2)

دوزي: Hist.Abbadidarum، V.II.p. 105

(3)

الحلة السيراء ج 2 ص 173.

ص: 71

الطوائف جميعاً، أن مملكة طليطلة كانت بظروفها وارتماء ملكها الضعيف في أحضان النصارى، صائرة حتماً إلى الفناء، وأن عاصمتها التالدة - طليطلة - سوف تسقط حتماً في يد ملك قشتالة، وكان ابن عباد يشهد تطور هذه المأساة جامداً، بما ينسب إليه من عهود قطعها في ذلك لملك قشتالة. وربما كان هذا التصرف من المعتمد نحو قضية طليطلة من بين أخطائه السياسية العديدة، أخطرها جريرة، وأبلغها دلالة على استهتاره وتهاونه نحو أمته ودينه. ولكن طليطلة ما كادت تسقط في أيدي القشتاليين، حتى أدرك المعتمد فداحة الخطأ الذي ارتكبه في سياسته، وشعر أن هذه النكبة، ليست إلا نذيراً قوياً له، ولسائر ملوك الطوائف.

وقد سبق أن ذكرنا فيما تقدم أن المعتضد بن عباد تعهد بأداء الجزية لفرناندو ملك قشتالة منذ سنة 455 هـ (1063 م)، وأنه كان يؤدي إليه هذه الجزية بانتظام حتى وفاته في سنة 1065 م، ثم بعد ذلك إلى ولده سانشو ملك جلِّيقية.

ولما استطاع ألفونسو التغلب على أخويه، وأضحى ملكاً لقشتالة، كان المعتمد ابن عباد يؤدي إليه الجزية التي كان يدفعها أبوه. وكان ألفونسو يرسل في كل عام رسله لقبضها من المعتمد. ومما هو جدير بالذكر أن رسول ألفونسو إلى المعتمد بقبض الجزية في سنة 472 هـ (1079 م) لم يكن سوى الفارس القشتالي الشهير ردريجو بيبار الملقب بالسيد الكمبيادور، أو السيد الكنبيطور كما تسميه الرواية العربية. ولما وفد السيد عندئذ إلى إشبيلية، كانت قوات ملك غرناطة البربرية تغير على أراضي إشبيلية مع سرية من الفرسان النصارى، فطلب السيد من مواطنيه الكف عن هذا العدوان تحقيقاً لمقتضيات الصداقة والرعاية، التي يكنها الملك ألفونسو لصديقه ملك إشبيلية، ولما لم يصغ المغيرون إليه خرج إلى قتالهم في بعض القوات القليلة التي كانت معه، واستطاع أن يوقع بهم الهزيمة، فسر المعتمد من تصرفه، وأدى إليه عدا الجزية، طائفة كبيرة من التحف والهدايا برسم ملك قشتالة (1).

وهكذا فإن المعتمد، على الرغم من ضخامة ملكه، واتساع موارده، لم يستطع أن ينجو من ذلك النير المرهق، الذي استطاع ألفونسو السادس أن يفرضه على سائر ملوك الطوائف، ونعنى تأدية الجزية، بل يبدو أن المعتمد رأى فوق ذلك، أنه لن

(1) R.Menendez، Pidal: La Espana del Cid. p. 250،259-261

ص: 72

يستطيع أن يمضي في حكم مملكته آمناً إلا بتوثيق أواصر المودة مع ألفونسو ومحالفته.

وتقدم إلينا الرواية القشتالية موضوع ذلك الحلف ولكنها لا تقدم إلينا تاريخه، وتقول لنا إن الوزير ابن عمار ذهب إلى ليون وتولى المفاوضة في عقده. وخلاصة ما تم الاتفاق عليه، هو أن يقوم ملك قشتالة بمعاونة المعتمد في حروبه ضد سائر أعدائه من الأمراء المسلمين، وأن يؤدي إليه المعتمد جزية سنوية كبيرة، وأن يقوم بغزو أراضي مملكة طليطلة الجنوبية، وأن يسلم منها إلى ملك قشتالة الأراضي الواقعة شمال جبال سيرا مورينا (جبل الشارّات). وتزيد الروايات القشتالية على ذلك بأن المعتمد قدم في هذه المناسبة (أو في مناسبة لاحقة) إحدى بناته لتحكون زوجة أو حظية لملك قشتالة، وهي التي تعرفها الروايات القشتالية باسم " زائده "، وهي قصة سوف نتناولها في موضعها المناسب (1).

بيد أن الأمور لم تسر حسبما كان يرجو المعتمد، ففي سنة 475 هـ (1082 م) وجه ألفونسو السادس سفارته المعتادة إلى المعتمد بطلب الجزية، وعلى رأسها يهودي يدعى ابن شاليب، وعسكر رسل ملك قشتالة في ظاهر المدينة، فأرسل إليهم المعتمد المال مع بعض أشياخ المدينة، وفي مقدمتهم الوزير ابن زيدون.

فلما شاهد ابن شاليب المال والسبائك، رفض تسلمها بغلظة، بحجة أنها من عيار زائف، وهدد بأنه إذا لم يقدم له المال من عيار حسن، فسوف تحتل مدائن مملكة إشبيلية، حتى يتم الدفع على الوجه المرغوب. فلما وقف المعتمد على ذلك بعث رجاله فقبضوا على ابن شاليب، ومن معه من الفرسان القشتاليين، وأمر باليهودي، فصلب، وألقى الفرسان النصارى إلى السجن. ولما علم ملك قشتالة بما وقع لسفرائه، اضطر أن يعيد حصن المدوّر القريب من قرطبة إلى المعتمد، ثمناً لإطلاق سراحهم، بيد أنه أقسم أن ينتقم من المعتمد، أروع انتقام، وأن يخرب أراضي مملكة إشبيلية كلها حتى المجاز، ثم بادر تنفيذاً لوعيده، فحشد جيشاً ضخماً من الجلالقة، والقشتاليين، والبشكنس، وبعث سرياته فعاثت في أحواز باجة ولبلة، وسار هو إلى أراضي إشبيلية، وهو يحرق القرى، وينتسف الزروع، ويسبي كل من وقع في يده من المسلمين، ثم حاصر إشبيلية نفسها مدى ثلاثة أيام، ثم عاث في أراضي شذونة، وانحدر جنوباً، وهو يخرب كل

(1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Madrid 1881) V. II p. 404

ص: 73

ما يقع في طريقه، حتى وصل إلى مدينة طريف، فوقف على شاطىء الزقاق، والموج يضرب قوائم فرسه، والمعتمد طيلة هذه العاصفة الهوجاء يلتزم الدفاع (1) وكانت خطة ألفونسو السادس في إضعاف ملوك الطوائف، تقوم أولا على استصفاء أموالهم باقتضاء الجزية، وقد انتهى إلى أن فرض الجزية عليهم جميعاً، ثم على تخريب أراضيهم، وانتساف زروعم وأقواتهم ومحاصيلهم، بالغارات المخربة الناهبة، وأخيراً على اقتطاع حصونهم وأرضيهم كلما سنحت الفرص، وقد نجحت خطته في ذلك كل النجاح، وبدا ضعف ملوك الطوائف إزاء قوته وعدوانه المنظم، واضحاً ملموساً. وكان لاعتداده بقوته وسلطانه، ويقينه من تفرق الطوائف وتخاذلهم، يخاطبهم بلغة السيد، ويتسمى في خطاباته إليهم بالإمبراطور ملك الملتين، ويجاهر باحتقارهم، والاستهانة بهم. ومما يروى في ذلك، أنه قال لسفير المعتمد إليه، وهو يهودي يدعى بابن مشعل "كيف أترك قوماً مجانين. تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم وأمرائهم، المعتضد، والمعتمد، والمعتصم، والمتوكل، والمستعين، والمقتدر، والأمين، والمأمون، وكل واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً، ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً، قد أظهروا الفسوق والعصيان، واعتكفوا على المغانى والعيدان، وكيف يحل البشر أن يقر منهم على رعيته أحداً، وأن يدعها بين أيديهم سُداً"(2).

وهنا أدرك المعتمد، فداحة الأخطاء التي تردى فيها بمصانعة ألفونسو ومحالفته واستعدائه على زملائه أمراء الطوائف، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سوف ينحدر إليه، إذا لم تتداركه يد العناية بعون أو نجدة غير منتظرة، والظاهر أنه فكر عندئذ ولأول مرة، أن يستنصر بإخوانه المسلمين فيما وراء البحر، في عدوة المغرب، فكتب إلى عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين ينبئة بما آلت إليه أحوال الأندلس من الخطورة، وما رزئت به من فقد قواعدها وثغورها، ويلتمس إليه الإنجاد والعون (3). وقد تطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى خطة عملية التف حولها سائر ملوك الطوائف وشعب الأندلس كله حسبما نوضح في موضعه.

(1) الحلل الموشية ص 25 و 26. ودوزي Hist.Abbadidarum V. II. p. 174، 187، 188-231. وراجع ابن خلدون ج 6 ص 186.

(2)

دوزي عن كتاب "الاكتفاء" في Hist. Abbadidarum: V II. p. 20. وراجع R. Menendez Pidal: La Espana del Cid، p. 259، 318 & 319

(3)

روض القرطاس (طبعة أبسالة 1843) ص 92.

ص: 74

وكان استيلاء ألفونسو السادس على طليطلة معقد نجاحه، وذروة ظفره، فما كاد يدخل عاصمة القوط القديمة، حتى لاح له أن نهاية الطوائف كلها قد دنت، وأنه سوف يتبع نصراً بنصر، ويلتهم مدينة بعد أخرى، ومن ثم فقد بدأ يضع خطته لتنفيذ الخطوة التالية، وذلك بالاستيلاء على مملكة إشبيلية، أهم دول الطوائف، وأقواها يومئذ. فوجه إلى المعتمد بن عباد، رسالة ملؤها الوعيد والنذير، يطالبه بتسليم أعماله، ويحذره من مثل طليطلة ومحنتها، وهي فيما يبدو من إنشاء بعض النصارى المعاهدين أو اليهود الذين يخدمون في بلاط قشتالة، وقد نقل إلينا صاحب الحلل الموشية، نص هذه الرسالة، كما نقل إلينا رد المعتمد عليها، وإليك نص هاتين الرسالتين، اللتين تنمان عن روح العصر، وأساليبه:

قال ألفونسو في رسالته: " من الإنبيطور ذي الملتين، الملك المفضل، أذفنش بن شانجه، إلى المعتمد بالله، سدد الله آراءه وبصره مقاصد الرشاد، سلام عليك من مشيد ملك شرفته القنى، ونبتت في ربعه المنى، باغترار الرمح بعامله، والسيف بساعد حامله، وقد أبصرتم بطليطلة نزال أقطارها، وما حاق بأهلها حين حصارها. فأسلمتم إخوانكم، وعطلتم بالدعة زمانكم، والحذر من أيقظ باله، قبل الوقوع في الحبالة، ولولا عهد سلف، بيننا نحفظ ذمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الأقدار تقطع بالأعذار، ولا يعجل إلا من خاف الفوت فيما يرومه، وخشي الغلبة على ما يسومه، وقد حملنا الرسالة إليك القرمط ألبرهانس؛ وعنده من التسديد الذي تلقى بأمثالك، والعقل الذي تدبر بلادك به ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدق ويجل، وفيما يصلح لا فيما يخل، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك ".

وأجاب المعتمد على رسالة ملك النصارى بالرسالة الآتية: " من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله، محمد بن المعتضد بالله أبي عمر وابن عباد، إلى الطاغية الباغية أذفنش بن شانجه، الذي لقب نفسه بملك الملوك وسماها بذي الملتين، قطع الله بدعواه، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإن أول ما يبدأ من دعواه أنه ذو الملتين، والمسلمون أحق بهذا الاسم، لأن الذي تملكوه من أمصار البلاد، وعظيم

ص: 75

الاستعداد، ومجبى المملكة، لا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملتكم، وانما كانت سنة سعد، أيقظ منها مناديك، وأغفل من النظر السديد جميل مباديك، فركبنا مركب عجز نسخه الكيس، وعاطيناك في كؤوس دعة، قلت في أثنائها ليس، ولم تستح أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنا لنعجب من استعجالك برأي لم تحكم أنحاؤه، ولا حسن انتحاؤه، وإعجابك بصنع وافقتك فيه الأقدار، واغتررت بنفسك أسوأ الاغترار، وتعلم أنا في العدد والعديد، والنظر السديد، ولدينا من كماة الفرسان، وحيل الإنسان، وحماة الشجعان، يوم تلتقي الجمعان، رجال تدرعوا الصبر، وكرهوا القبر، تسيل نفوسهم على حد الشفار، وينعاهم المنام في القفار، يريدون رحى النون بحركات العزائم، ويشفون من خيط الجنون بخواتم العزائم، قد أعدوا لك ولقومك جلاداً رتبه الاتفاق، وشفاراً حداداً شحذها الإصفاق، وقد يأتي المحبوب من المكروه، والندم من عجلة الشروه، نبهت من غفلة طال زمانها، وأيقظت من نومة تجدد إيمانها، ومتى كانت لأسلافك الأقدمين مع أسلافنا الأكرمين، يد صاعدة أو وقفة متساعدة، إلا ذل تعلم مقداره، وتتحقق مثاره، والذي جرأك على طلب ما لا تدركه قوم كالحمر، لا يقاتلونكم جميعاً، إلا في قرى محصنة، أو من وراء جدر، ظنوا المعاقل تعقل، والدول لا تنتقل، وكان بيننا وبينك من المسالمة، ما أوجب القعود عن نصرتهم، وتدبير أمرهم، ونسأل الله المغفرة فيما أتيناه في أنفسنا؛ وفيهم من ترك الحزم وإسلامهم لأعاديهم، والحمد لله الذي جعل عقوبتنا، توبيخك وتقريعك، بما الموت دونه، وبالله نستعين عليك، ولا نستبطىء في مسيرنا إليك، والله ينصر دينه، والسلام على من علم الحق فاتبعه، واجتنب الباطل وخدعه " (1).

- 3 -

وعلى أثر هذا النذير، جد المعتمد في حشد رجاله، وتقوية جيشه، وإصلاح حصونه، واتخاذ كل ما يستطاع من الأهبات الدفاعية. على أنه كان يوقن، كما

(1) أورد نص هاتين الرسالتين صاحب "الحلل الموشية". وقد اعتمدنا في نقلهما على النص الذي نقله دوزي عن مخطوطات باريس، وليدن، وجاينجوس (مدريد)، وهو فيما يبدو أصح وأدق من النص الذي ورد في طبعة تونس. راجع: Hist. Abbadidarum، V. II. p. 185، 186 & 187 وفي طبعة تونس (ص 23 - 25).

ص: 76

يوقن زملاؤه ملوك الطوائف، أن ملك قشتالة يعتزم العمل على إبادتهم جميعاً، وأنهم بقواتهم ومواردهم المحدودة، وصفوفهم الممزقة، لن يستطيعوا له دفعاً.

في هذه الآونة العصيبة، قرر المعتمد أن ينفذ فكرته في الاستنصار بإخوانه فيما وراء البحر، في عدوة المغرب، وهم يومئذ المرابطون، وعاهلهم يوسف ابن تاشفين. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لأكثر من أمير من أمراء الطوائف، وخطرت لكثيرين من زعماء الأندلس وعلمائها. ويقول لنا الأمير عبد الله بن بلقِّين إن أخاه تميماً أمير مالقة، كان أول من فكر في الاستنصار بالمرابطين لينتقم منه (1)، ولكن فكرة الاستنصار بالمرابطين لمقاتلة النصارى كانت أعم وأخطر، وكانت قد شاعت في الأندلس على أثر سقوط طليطلة، وما أشاعته تلك النكبة في الناس من ذعر ويأس، وذاعت بعد الأمراء، بين سائر الزعماء والفقهاء وطبقات الكافة. وعقد عندئذ في قرطبة اجتماع كبير من الزعماء والفقهاء، واجتمع رأيهم على وجوب الاستنصار بالمرابطين، وقدم ابن عباد على أثر ذلك إلى المدينة، وأقر ما ارتأته "الجماعة". وانضم إلى المعتمد في ذلك عدة من زملائه رؤساء الطوائف، ولاسيما أميرى بطليوس وغرناطة. واتفق الرأي على أن ترسل إلى عاهل المرابطين سفارة مشتركة من قضاة قرطبة وبطليوس وغرناطة، ومعهم أبو بكر بن القصيرة الكاتب (وفي رواية أخرى الوزير أبو بكر بن زيدون).

وهنا تختلف الرواية في التفاصيل فتقول إحداها إن سفارة الأندلس عبرت البحر، ولقيت أمير المسلمين بسبتة، وكان قد وصل إليها إثر افتتاح جيشه لها، من يد واليها يحيى بن سكوت البرغواطي، وشرح له السفراء ما يلقاه أهل الأندلس من الإرهاق والذلة على يد النصارى، وما يهددهم به ملك قشتالة من أخذ بلادهم، وإبادتهم، وأنهم يعتمدون على نصرته وحسن بلائه، في دفع هذا الخطر عن الأندلس المسلمة. وفي رواية أخرى أن المعتمد بن عباد نفسه، قد عبر البحر في جماعة من الزعماء، وسار إلى سبتة أو إلى فاس لمقابلة أمير المسلمين، وأنه هو الذي استنصره بنفسه للجهاد وإنقاذ الأندلس (2).

(1) مذكرات الأمير عبد الله ص 102.

(2)

راجع في ذلك ما نقله دوزي عن النويرى: Hist. Abbadidarum: V. II. p. 143. وما ورد في الإستقصاء للسلاوي ج 1 ص 111، ومذكرات الأمير عبد الله ص 102، وابن خلدون ج 6 ص 186. وقد أشار ابن الأبار إلى ذلك أيضاً (الحلة السيراء ج 2 ص 186).

ص: 77

ومن جهة أخرى، فإنه يقال لنا إن المعتمد كان يعارضه في هذا الاتجاه ولده الرشيد وجماعة من زعماء إشبيلية، وأنه حين خاطب الزعماء في أمر استدعاء المرابطين أشاروا عليه بأن الأفضل، أن يسعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة، وأن يعقد معه الصلح والمهادنة، بأي وسيلة، وكيفما كان الأمر. ولما خلا بولده الرشيد، أفضى إليه بمخاوفه من سطوة ملك قشتالة، وأنه بعد أن استولى على طليطلة وعادت دار كفر، قد رفع رأسه، وأخذ يتجه إلى أخذ إشبيلية، وأنهم في هذه الجزيرة لا ناصر لهم، وليس في ملوك الطوائف نفع ولا عون يرتجى، وأنه لا مناص من استدعاء المرابطين لردع ملك قشتالة، فاعترض الرشيد على رأيه وقال له:"يا أبت أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا"، فقال المعتمد لولده:"أي بني والله لا يسمع عني أبداً أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم اللعنة علي في الإسلام؛ مثلما قامت على غيري. حرز الجمال عندي والله خير من حرز الخنازير". وانتهى الرشيد بأن فوض لأبيه الرأي فيما يحب عمله (1).

وأما عن أمراء الأندلس، فقد كان يتفق في الرأي مع المعتمد، على استدعاء المرابطين حسبما رأينا، عبد الله بن بلقين أمير غرناطة، وقد أوفد رسله مع رسل ابن عباد إلى أمير المسلمين، وكذلك عمر المتوكل أمير بطليوس، فقد كان في مقدمة المؤيدين، لوقوع بلاده في منطقة الخطر، ولاشتداد ملك قشتالة في إرهاقه. وأما ابن صمادح أمير ألمرية، فلم يكن من المتحمسين لهذا الاستدعاء (2)، وكانت ثمة آراء معارضة أخرى، شعارها التوجس من مقدم المرابطين وأطماعهم.

وقد أورد لنا صاحب الحلل الموشية نصوص رسائل، قيل أن المعتمد بن عباد بعثها إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، بعضها من إنشائه، وبعضها من إنشاء وزرائه، ومنها رسالة مؤرخة في جمادى الأولى سنة 478 هـ، أعني بعد سقوط طليطلة بأشهر قلائل، وفيها يصف له حال الأندلس، وما أصاب أهلها من الخلاف والتمزق، وما دهاها من عدوان النصارى وإرهاقهم. بيد أنه قد

(1) الحلل الموشية ص 27 و 28 ونقلت في دوزي: Hist. Abbadidarum: V. II. p. 188-189

(2)

راجع مذكرات الأمير عبد الله ص 103 و 104.

ص: 78

وردت من بينها رسالة، نشك كل الشك في أنها صادرة من المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين، لأنها قد صدرت بنصها، بعد ذلك بنحو قرنين من محمد الفقيه (ابن الأحمر) ملك غرناطة، إلى السلطان أبي يوسف المريني ملك المغرب، يستنصره ويستنجد به على النصارى (1).

وقد تتبعنا هنا فكرة استنصار الأندلس بالمرابطين بالأخص من ناحية ارتباطها بالمعتمد بن عباد وسياسته. وسوف نعود إلى تتبع مراحلها من الناحية الأخرى، ناحية ارتباطها بتاريخ المرابطين.

وعلى أي حال فقد استجاب زعيم المرابطين، بعد مشاورات ومباحثات طويلة مع الزعماء والفقهاء، لدعوة أمراء الأندلس، واعتبر الصريخ، دعوة إلى المشاركة في الجهاد، والذود عن الدين المشترك، بيد أنه عملا بنصح وزيره عبد الرحمن بن أسبط، وهو أندلسي من أهل ألمريه، خبير بشئون الجزيرة، اشترط لإجابة الدعوة، وعبوره إلى الأندلس، أن يسلم إليه ثغر الجزيرة الخضراء، ليكون قاعدة لعبوره في الذهاب والإياب، فنزل المعتمد عند هذه الرغبة بالرغم من معارضة ولده الرشيد، وكان حاكم الجزيرة يومئذ هو ولده يزيد الراضي، فأمره باخلائها والانتقال عنها، لكي تحتلها جنود أمير المسلمين (2).

وفي تلك الأثناء كان زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين يحشد جنده وعدده، ويرسلها تباعاً إلى الشمال. فلما تكاملت الحشود، بعث يوسف بقوة من الفرسان تحت إمرة قائده داود بن عائشة، فعبرت البحر، واحتلت ثغر الجزيرة الخضراء وفقاً لما تعهد به المعتمد. وفي شهر ربيع الآخر سنة 479 هـ (أغسطس 1086 م) بدأت الجيوش المرابطية وعلى رأسها زعيمها البطل الشيخ، تعبر البحر من سبتة تباعاً إلى ثغر الجزيرة، وما كادت السفن تتوسط ماء المضيق (مضيق جبل طارق) تتقدمها سفينة يوسف، حتى نهض الزعيم المرابطي، وبسط يديه نحو السماء

(1) راجع الحلل الموشية ص 30 و 31، ودوزي Hist. Abbad. V. II. p. 190-191. وقد وردت الرسالة بنفسها منسوبة إلى محمد بن الأحمر في "الذخيرة السنية" ص 159 - 161. وراجع نهاية الأندلس لمحمد عبد الله عنان الطبعة الثالثة ص 98.

(2)

الحلل الموشية ص 32 و 33. وكذلك في دوزي Hist. Abb. V. II. p. 192-193، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 159.

ص: 79

قائلا: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين، فسهل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه".

ويروى أن البحر قد هدأ على أثر هذا الدعاء، وسارت السفن في ريح طيبة، حتى رست على الشاطىء، وما كاد يوسف يعبر إلى أرض الأندلس، حتى صلى لله شكراً (1)، ثم نزل بالجزيرة الخضراء، وشرع في تحصينها وإصلاح خططها.

هذا وسوف نتتبع ما تلا ذلك من الحوادث فيما سيأتي بعد، في حديثنا عن موقعة الزلاّقة.

(1) راجع روض القرطاس ص 93. وهذا ما رواه يوسف نفسه في رسالته التي بعث بها عقب انتصاره في موقعة الزلاقة، إلى المعز بن باديس أمير تونس والتي، نشرناها في آخر الكتاب.

ص: 80