المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

‌الفصل الثاني

مملكة سرقسطة

منذ عصر المؤتمن حتى سقوطها في أيدي المرابطين

الصراع بين المؤتمن والمنذر. معركة قلعة المنار. حاكم روطة وكمينه للنصارى. موقف السيد الكمبيادور. تحالف المنذر وسانشو راميرز. السيد ونفوذه لدى المؤتمن. حملة ابن بسام على بني هود. وفاة المؤتمن. صفاته العلمية. ولده أحمد المستعين. مسير ألفونسو السادس إلى سرقسطة ومحاصرته إياها. يرفع الحصار عند مقدم المرابطين. حروب المستعين. تطلعه إلى امتلاك بلنسية وفشل مشروعه. الخطر على مملكة سرقسطة. استيلاء ملك أراجون على منتشون. تهديده لوشقة. اتجاه المستعين إلى الاستنجاد بالمرابطين. سفارته لأمير المسلمين. استعانته بملك قشتالة. محاصرة سانشو راميرز لوشقة. وفاته ومتابعة ولده بيدرو للحصار. مسير المستعين وحلفاؤه لإنجادها. موقعة الكرازة. هزيمة المستعين وسقوط وشقة. إستيلاء المرابطين على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية. استيلاؤهم على شرقي الأندلس. استنصار المستعين بالسيد. انشغال السيد في بلنسية. إتجاه المستعين إلى المرابطين. سفارته الثانية لأمير المسلمين. وفاة بيدرو ملك أراجون وقيام أخيه ألفونسو مكانه. مسيره إلى تطيلة. مسير المستعين لإنجادها. سقوط تطيلة ومقتل المستعين. ولده عبد الملك عماد الدولة. دعوة أهل سرقسطة أمير المسلمين لخلع بني هود. استصراخ عماد الدولة لأمير المسلمين. زحف المرابطين على سرقسطة واستيلاؤهم عليها. انتهاء حكم بني هود. التجاء عماد الدولة إلى حصن روطة. خضوعه لحماية ملك أراجون. ولده سيف الدولة. نزوله عن روطة لألفونسو ريمونديز. سرقسطة أيام بني هود. اشتهارها بالدراسات الرياضية والفلسفية. ابن باجة وحياته العلمية. أبو بكر الطرطوشي وكتابه سراج الملوك. نظريته في عصبية الدولة ورد ابن خلدون عليها. سرقسطة ومساهمتها في الحركة الأدبية. دورها في التبادل الحضاري والثقافي. دورها في التبادل التجاري.

عادت الحرب الأهلية القديمة التي اضطرمت من قبل بين المقتدر وإخوته الأربعة من جراء تقسيم المملكة، تضطرم من جديد بين يوسف المؤتمن صاحب سرقسطة، وأخيه الحاجب المنذر صاحب لاردة.

وقد استعان كلا الأخوين في تلك الحرب الانتحارية بالنصارى، فكان المؤتمن يستعين بصديق أبيه وحليفه من قبل " السيد "، وجيشه من المرتزقة القشتاليين وكان المنذر وهو منذ البداية من ألد أعداء السيد، يستعين بسانشو راميرز ملك أراجون، ورامون برنجير أمير برشلونة.

ص: 284

ووقعت أول معركة بين قوات الأخوين عند قلعة المنار على مقربة من لاردة، وكان المؤتمن قد حصن هذه القلعة، وشحنها بالمقاتلة، ولما شعر أخوه المنذر بخطرها على أملاكه سار في قوة مشتركة من حلفائه، أمير برشلونة وبعض صغار الأمراء الإفرنج في شمال قطلونية، وحاصر هذه القلعة، فسار المؤتمن والسيد في قواتهما لإنجادها، ووقعت بين الفريقين معركة هزم فيها المنذر، وأسر أمير برشلونة رامون برنجير (1082 م).

ووقع في ذلك الحين حادث كاد يقطع السيد من جرائه علائقه ببلاط سرقسطة، ذلك أن حاكم قلعة روطة التي كان معتقلا بها المظفر، اعتزم الخروج والثورة بالتفاهم مع سجينه، وأرسل إلى ألفونسو ملك قشتالة يطلب عونه ويعده بتسليم القلعة، فسار ألفونسو إلى روطة في بعض قواته، وكان المظفر قد توفي عندئذ فجأة، فعدل الحاكم عن مشروعه واعتزم أمراً آخر، وبعث ألفونسو بعض أكابر ضباطه، وعلى رأسهم الإنفانت راميرو أمير نافار لتسلم القلعة، وما كادوا يجوزون إلى الداخل، حتى انهال عليهم وابل من الصخور، فقتلوا جميعاً (1082 م) وعاد ألفونسو، وهو يضطرم أسى وتحرقاً إلى الانتقام.

وكان السيد عندئذ في تطيلة، فلما وقف على هذا الحادث المحزن، هرع في صحبه إلى ألفونسو يقدم عزاءه، ويلتمس العفو، والإذن بالعود، فعفا عنه الملك وصحبه معه إلى قشتالة. ولكن مقامه بها لم يطل. ذلك أن ألفونسو عادت إليه هواجسه القديمة نحو السيد، وشعر السيد بتغيره عليه، فغادر قشتالة وعاد إلى سرقسطة، واستقبله المؤتمن بترحاب ومودة. ويحاول الأستاذ بيدال أن يستدل بتصرف السيد في هذا الحادث على أنه لم يكن في خدماته لبلاط سرقسطة جندياً أجيراً، وإنما كانت هذه الخدمات بالعكس نوعاً من السياسة والتدخل على الطريقة القشتالية (1).

وعاد السيد إلى مهمته القديمة في محاربة أعداء المؤتمن، وخرج مع المؤتمن في قواته، وعاثا في أراضي أراجون، ثم عادا إلى حصن مونتشون. ورد سانشو راميرز ملك أراجون على ذلك بالاستيلاء على جرادوس. وغيرها من حصون الحدود (ابريل 1083 م). ثم تحالف المنذر أخو المؤتمن مع سانشو راميرز،

(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 290

ص: 285

وسارا في قواتهما لمحاربة السيد، والتقى الفريقان في أحواز موريلا على مقربة من طرطوشة، فهزم المنذر وحليفه، واستولى السيد على معسكرهما، وعلى كثير من الأسرى. واستقبل السيد عند عوده المظفر إلى سرقسطة أجمل استقبال.

وعلا شأن السيد في بلاط سرقسطة، وتوطدت مكانته، واشتد نفوذه على المؤتمن. فكان لا يبرم أمراً من أعمال الحرب أو السياسة دون مشاورته، وغدا بجيشه الصغير قوة يحسب حسابها، بل غدا كأنه يفرض بحلفه ومعاونته على سرقسطة نوعاً من الحماية. وقد أشرنا فيما تقدم من أخبار مملكة بلنسية إلى هذه المكانة الممتازة التي أحرزها السيد في بلاط سرقسطة، وإلى الحملة اللاذعة التي شهرها ابن بسام من أجل ذلك على بني هود (1)، كما أشرنا إلى ما كان يجيش به المؤتمن من الأطماع نحو مملكة بلنسية، وما قدمه من المال إلى ملك قشتالة لأجل معاونته في هذا المشروع وكيف استطاع أبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية بلباقته أن يحبط هذا المشروع وأن يعقد صلات الود والمصاهرة مع المؤتمن بتزويج ابنته من ولد المؤتمن، أحمد المستعين.

ولم يدم حكم المؤتمن أكثر من أربعة أعوام، إذ توفي في سنة 478 هـ (1085 م). وكانت وفاته السريعة ضربة قاضية لمشاريعه، فخلفه في حكم سرقسطة وأعمالها، ولده أحمد، وتلقب بالمستعين، وبقى الشق الآخر من مملكة سرقسطة بيد عمه المنذر.

وقد اشتهر يوسف المؤتمن بصفاته العلمية، أكثر من اشتهاره بصفاته الملوكية ْفكان مثل أبيه المقتدر عالماً رياضياً، وفلكياً ممتازاً، وكتب في العلوم الرياضية، رسالته المسماة " الإستكمال "(2)، التي ترجمت إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، والتي توصف بأنها ترتفع من حيث قيمتها العلمية إلى مستوى إقليدس والمجسطي. بيد أن هذه الرسالة الملوكية لم تصل إلينا مع الأسف بأصلها العربي.

خلف المؤتمن ولده أحمد المستعين، ويعرف بالمستعين الأصغر. وما كاد يبدأ حكمه حتى ألفى نفسه أمام حدث خطير. ذلك أن ألفونسو السادس ما كاد ينتهي من الاستيلاء على طليطلة وتنظيم شئونها، وذلك في صفر سنة 478 هـ (مايو 1085 م)

(1) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 18 ب.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 163.

ص: 286

حتى اعتزم العمل لانتزاع سرقسطة، فسار إليها في قواته، وضرب حولها الحصار، وأقسم أنه لن يبرحها حتى تؤول إليه أو يموت. وحاول المستعين أن يرده عن عزمه، وأن يقنعه برفع الحصار، فعرض عليه أموالا جليلة فرفض ألفونسو، وأصر على أخذ المدينة (1)، وأذاع عماله في سكان الأراضي المجاورة أنه سوف يطبق أحكام القرآن، ولن يقتضي منهم الضرائب إلا ما يجيزه الشرع، وأنهم سوف يكونون مثل إخوانهم مسلمي طليطلة موضع عنايته ورعايته.

واستمر ألفونسو على حصار سرقسطة حتى جاءته الأنباء في أواخر صيف 1086 م، (أوائل 479 هـ) بمقدم المرابطين، وأنهم عبروا إلى الأندلس، فحاول عندئذ خديعة المستعين، معتقداً أنه لم يعلم بالنبأ العظيم، وبعث إليه يقول إنه يقبل الجزية التي عرضها، فأجاب المستعين، وكان على علم به، أنه لن يدفع إليه درهماً واحداً (2).

وعندئذ اضطر ألفونسو أن يرفع الحصار، وأن يهرع في قواته إلى الجنوب، بعد أن بعث بصريخه إلى أمراء الثغر النصارى ليلحقوا به في قواتهم. ثم كانت واقعة الزلاّقة، وهزيمة ألفونسو الساحقة، أمام القوات المرابطية والأندلسية المتحدة في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر 1086)، فضعف أمر قشتالة والملوك النصارى، وانصرف المستعين حيناً إلى محاربة عمه المنذر صاحب لاردة ودانية طوراً، ومحاربة ملك أراجون طوراً آخر. بيد أنه لم يظفر من وراء هذه المعارك بطائل، وكانت الهزيمة نصيبه في معظم الأحيان.

وأخذ المستعين بعد ذلك يتطلع إلى الاستيلاء على بلنسية، منافساً في ذلك لعمه المنذر. وقد فصلنا فيما تقدم من أخبار بلنسية مشاريع المستعين ومحاولاته في هذا السبيل، ومغامرات حليفه " السيد "، وكيف تظاهر في البداية بمعاونته على تحقيق مشروعه، ثم أضناه بعد ذلك بمخادعاته وأساليب غدره، وكيف حاول بعد ذلك أن يستعين بمحالفة برنجير كونت برشلونة على محاصرة بلنسية وأخذها، وقد فشلت أيضاً هذه المحاولة، وانتهى الأمر بأن غدا السيد وحده هو المسيطر على هذا الميدان، وهو المستأثر بتتبع الحوادث في بلنسية، وترقب فرص الاستيلاء عليها، كل ذلك حسبما فصلناه من قبل تفصيلا شافياً.

(1) روض القرطاس ص 93.

(2)

R.M.Pidal: ibid ; p. 331

ص: 287

وما كاد المستعين ينتهي من هذه المشاريع الفاشلة، حتى بدا الخطر على مملكة سرقسطة داهماً من ناحيتين: ناحية جيرانها النصارى من الشمال، وناحية المرابطين من الجنوب. فأما عن الشمال، فقد بدأ سانشو راميرز ملك أراجون بالاستيلاء على منتشون في سنة 481 هـ (1089 م)، واضطر المستعين عندئذ أن ينضوي تحت حماية ألفونسو ملك قشتالة، وأن يتعهد بأداء الجزية التي أباها من قبل.

ولم تمض بضعة أعوام على ذلك حتى بدت مشاريع ملك أراجون أكثر خطورة.

وذلك أنه قصد إلى مدينة وشقة، وهي ثاني مدينة في مملكة سرقسطة، وابتنى إزاءها حصناً، وكان من الواضح أنه يبغى الاستيلاء على هذه المدينة الهامة.

والظاهر أن المستعين قد أدرك عندئذ أن الاعتماد على معاونة النصارى لا يحقق له ما يطمح إليه من السلامة، ورأى أن الاتجاه إلى معاونة المرابطين وهم أبناء دينه قد يغدو أنجع، ولو أنه كان يتوجس من نياتهم ومشاريعهم نحو سرقسطة. ومن ثم فقد أرسل ولده عبد الملك إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بالمغرب ومعه هدية جليلة، وبعث إليه يطلب العون والإنجاد على مدافعة النصارى، وإنقاذ وشقة، وهي جناح سرقسطة الدفاعي، ودرعها من الشمال. والظاهر أن أمير المسلمين قد أدرك من جانبه أهمية الاستجابة لصريخ المستعين، ومنعه بذلك من الارتماء في أحضان النصارى ومحالفتهم في النهاية ضد المرابطين، وأدرك في نفس الوقت حكمة الإبقاء على سرقسطة وإنجادها لتبقى بذلك حاجزاً بين المرابطين وبين النصارى، فاستقبل عبد الملك بترحاب، وصرفه صرفاً جميلا، ورد على المستعين بخطاب رقيق، وبعث إلى ولاته في شرقي الأندلس بإرسال المدد المنشود، وكان يتألف من ألف فارس وستة آلاف راجل من المرابطين. ولم ير المستعين في نفس الوقت بأساً من الاستعانة بملك قشتالة، فأمده بفرقة من جنده بقيادة الكونت غرسية أردونس الذي تجاور ولايته مملكة سرقسطة.

وفي تلك الأثناء كان سانشو راميرز قد سار إلى مدينة وشقة وضرب حولها الحصار، مصمماً على ألا يبرحها حتى تسقط في يده. وكانت وشقة من أمنع ْقلاع الثغر الأعلى، فصمدت للحصار بعزم وشدة، ثم توفي سانشو راميرز فجأة، وذلك في شهر يونيه سنة 1094 م (جمادى الأولى سنة 487 هـ)، فاستمر في متابعة الحصار ولده بيدرو الأول. وتوالت الأشهر، ووشقة صامدة كالصخرة.

ص: 288

وبعث أهل وشقة في نفس الوقت بصريخهم إلى ملكهم أحمد بن هود المستعين، فجهز حشوداً عظيمة، وأعد لها قوافل الميرة الضخمة، وأمده حليفه ملك قشتالة بفرقة من الجند النصارى فسار المستعين في قواته حتى اقترب من وشقة، وكان يظن أن العدو متى رأى حشوده، وآنس وفرتها وحسن استعدادها، يعمد إلى المهادنة ويترك المدينة المحصورة وشأنها، ولكن بيدرو عول بالعكس على خوض المعركة، فترك الحصار، وسار في قواته لملاقاة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، في " الكرازة " الواقعة على مقربة من وشقة، استمرت من طلوع الشمس إلى غروبها، واشتد فيها الطعان من الجانبين، وكثر القتل بين المسلمين وحلفائهم، وهزم المستعين في النهاية هزيمة شديدة. وقتل من المسلمين عدد جم تقدره الرواية باثنتي عشر ألفاً أو نحوها، وكان بين القتلى غرسية أردونس قائد جند قشتالة، وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه المعركة في يوم الأربعاء أواخر ذي القعدة سنة 489 هـ، وتضع الرواية النصرانية هذا التاريخ في 18 نوفمبر سنة 1096 م، وهو يوافق بالفعل شهر ذي القعدة، الذي تحدده الرواية الإسلامية. وتقول الرواية الإسلامية، إن أهل وشقة لما عاينوا هزيمة المسلمين، يئسوا من النصرة، والإنقاذ، لم تمض على ذلك ثلاثة أيام حتى حصلوا على الأمان. وسلمت وشقة للنصارى بعد حصار دام ثلاثين شهراً، ودخلها بيدرو في موكبه الظافر، وفي الحال صير مسجدها الجامع كنيسة، وجعلها عاصمة لمملكة أراجون (1).

هذا عن حوادث الشمال، وأما عن حوادث الجنوب، فقد عبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1088 م) وقام بالاشتراك مع قوات الأندلس بمحاصرة حصن لييط، وانتهى بالاستيلاء عليه. ثم عاد فعبر إلى الأندلس للمرة الثالثة في سنة 483 هـ (1090 م)، وفي تلك المرة استولى على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية، غرناطة، وإشبيلية، وألمرية، ثم

(1) نقلنا أقوال الرواية الإسلامية عن معركة وشقة من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثرنا بها في خزانة القرويين بفاس. وراجع في حوادث سقوط وشقة وما تقدمها: أعمال الأعلام ص 173، والحلل الموشية ص 53 - 55، وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ وترجمة محمد عبد الله عنان (ص 104 و 105) وابن خلدون ج 4 ص 163. وراجع أيضاً: P.y Vives. Los Reyes de Taifas p. 49 و R.M.Pidal: ibid، p. 526 & 527

ص: 289

بطليوس، واستولت الجنود المرابطية كذلك على مرسية، وأوريولة، كل ذلك فيما بين سنتي 484 و 488 هـ. وفي أثناء ذلك كان المنذر بن هود صاحب لاردة ودانية، قد توفي في سنة 483 هـ (1090 م)، وخلفه في الملك ولده الطفل سليمان الملقب بسعد الدولة، تحت وصاية بني بيطر وهي أسرة قوية ذات نفوذ. وفي سنة 485 هـ (1092 م) سار جيش مرابطي بقيادة الأمير ابن عائشة، واستولى على دانية، وشاطبة وشقورة. والظاهر أنه استولى أيضاً على طرطوشة ولاردة بعد ذلك بقليل.

وهنا شعر المستعين بخطر المرابطين الداهم على مملكته، فاتجه إلى حليفه القديم السيد إلكمبيادور، واستغاث به، وكان السيد قد غدا يومئذ قوة يحسب حسابها في شرقي الأندلس، وأضحى من جانبه يشعر بنفس الخطر. أي خطر المرابطين على مركزه في تلك المنطقة. فاستجاب إلى دعوة المستعين، وعقد بينهما حلف جديد، وسار السيد بقواته إلى سرقسطة، وعسكر على ضفة النهر الأخرى، وهنالك عقد حلفاً آخر مع ملكي أراجون ونافار. وكان الغرض من عقد هذه المحالفات كلها، التعاون لدفع خطر المرابطين عن هذا الركن من شبه الجزيرة.

ونحن نعرف أن السيد قد عاد بعد ذلك إلى الجنوب، واستمر في مغامراته في منطقة بلنسية، حتى تم له الاستيلاء عليها في جمادى الأولى سنة 487 هـ (يونيه 1094 م)، وأن الجيوش المرابطية لبثت تتحين الفرص لاسترداد هذا الثغر الإسلامي العظيم، حتى تم لها تحقيق مشروعها، ودخلت بلنسية بقيادة الأمير أبى محمد المزدلي في شعبان سنة 495 هـ (مايو سنة 1102 م).

وكانت حوادث الشمال قد تطورت في تلك الأثناء، وظهرت نيات سانشو راميرز ملك أراجون واضحة نحو القضاء على مملكة سرقسطة، وبدأ حصاره لمدينة وشقة، وكان المستعين من جهة أخرى قد أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على محالفة السيد وعونه، ولاسيما بعد استيلائه على بلنسية، وانشغاله بالمحافظة عليها، والدفاع عنها، فاتجه إلى المرابطين، وبعث ولده عبد الملك إلى المغرب يطلب العون من أمير المسلمين، حسبما فصلنا من قبل. وقد رأينا كيف هزم المستعين وسقطت وشقة بالرغم مما تلقاه المستعين من عون حلفائه.

يقول ابن عذارى، إنه على أثر سقوط مدينة وشقة " سما بصر العدو إلى منازلة سرقسطة، حضرة ابن هود، فخاطب الطاغية، أذفونش بن فرذلند

ص: 290

(ألفونسو السادس) فواطأه على منازلتها، فنزل عليها في جموع لا ترام، وجعل صاحبها يصعد ويصوب في إعمال الحيلة، وتجنيب تلك الجماعة، ورام تخذيل الأذفونش، فأرغبه في المال فأبى وأقسم ألا يبرح عنها حتى يدخلها " (1). ولكنا لم نجد في الرواية النصرانية ما يؤيد أن ملك قشتالة قام في هذا التاريخ (سنة 1097 م - 490 هـ) بمهاجمة سرقسطة أو حصارها.

والواقع أن المستعين أخذ يشعر من ذلك الحين بأن مصير سرقسطة، قد أضحى رهناً بخطط المرابطين وغاياتهم، ولاسيما بعد أن أصبحوا على مقربة من أراضيه، ْومن ثم فقد رأى في النهاية أن يستبقي مودتهم، وأن يستمر في التقرب منهم، والتماس عونهم وحمايتهم. وفي سبيل هذه الغاية بعث ابنه عبد الملك إلى أمير المسلمين مرة أخرى (496 هـ)، ومعه هدية جليلة من جملتها أربعة عشر ربعاً من آنية الفضة. وكان أمير المسلمين يومئذ بقرطبة، يعد العدة لإعلان البيعة لولده على بولاية عهده. فقبل الهدية، وأمر بأن تضرب هذه الآنية الفضية قراريط مرابطية، فرقت في أطباق على رؤساء قومه ليلة عيد الأضحى، وحضر عبد الملك حفل البيعة، ثم عاد إلى سرقسطة (2).

وشعر المستعين بشىء من الطمأنينة، واعتزم أن يخصص جهوده لمقارعة ملك أراجون ومشاريعه العدوانية، وكان بيدرو ملك أراجون قد توفي يومئذ وخلفه في الملك أخوه ألفونسو الذي عرف فيما بعد بالمحارب. وهو الذي تسميه الرواية الإسلامية " بابن رذمير ". وكان أميراً مقداماً شديد البأس، ولم يكن قد بقي من قواعد مملكة سرقسطة الهامة بعد وشقة، سوى مدينة تطيلة، فسار إليها في قواته، وخف المستعين لإنجادها. ووقعت بين الفريقين معركة شديدة عند بلد تدعى بلتيرة (فالتيرا)، فهزم المسلمون، وقتل المستعين، وذلك في رجب سنة 503 هـ (يناير سنة 1110 م)(3).

(1) هذا ما ورد في الأوراق المخطوطة من البيان المغرب التي سبقت الإشارة إليها.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 225، والقاهرة ج 2 ص 249، وأعمال الأعلام ص 174.

(3)

تاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ ص 140؛ وكذلك P.y Vives: Los Reyes. de Taifas p. 49. ويورد ابن الخطيب هذه الواقعة بصورة أخرى فيقول لنا إن المستعين خرج إلى الجهاد في سنة 501 هـ، وتوغل حتى تطيلة وأرنيط (أرنيدو) وافتتحها، ثم أدركه النصارى عند العودة وهاجموه بشدة، فهزم وقتل (أعمال الأعلام ص 174).

ص: 291

فخلفه ولده عبد الملك وتلقب بعماد الدولة، وبايعه أهل سرقسطة على شرط أن يترك محالفة النصارى، وأم يخرجهم من جيشه، وتعهد لهم عبد الملك بتحقيق رغبتهم، ولكنه لم ينفذ وعده. وكانت الحوادث تسير عندئذ بسرعة، وحسن الطالع يؤاتي المرابطين تباعاً، ولاسيما مذ أحرزوا نصرهم الحاسم بقيادة الأمير تميم ابن يوسف بن تاشفين على جيوش قشتالة في موقعة إقليش في سنة 501 هـ (1108 م)، وهي الموقعة التي أبيدت فيها القوات القشتالية، وقتل الإنفانت الطفل سانشو ولد ألفونسو السادس من حظيته زائدة الأندلسية. ولما رأى أهل سرقسطة أن أميرهم عماد الدولة لا يستجيب إلى شروطهم بتسريح قواته من النصارى، كتبوا إلى أمير المسلمين علي بن تاشفين، وهو في مراكش، يناشدونه خلع بني هود، وتسلم سرقسطة، فاستفتى على فقهاءه، فأفتوه بوجوب تحقيق هذه الرغبة، وبعث إلى قائده محمد بن الحاج والى بلنسية، أن يسير إلى سرقسطة.

ولما علم عماد الدولة بذلك، أرسل إلى أمير المسلمين خطاباً مؤثراً يستصرخه فيه، ويذكره بما كان بين والديهما من أواصر المودة، وأنه لم يصدر منه في حقه أية إساءة، وأنه من الخير أن يترك سرقسطة على حالها حاجراً بينه وبين النصارى، فرق علي لملتمسه، وكتب إلى قائده أن يكف عنه (1). ولكن الأمر كان قد قضي عندئذ. ذلك أن عماد الدولة لما شعر بمقدم المرابطين، غادر سرقسطة في أهله وأمواله إلى حصن روطة المنيع، واستقر به ينتظر الحوادث (2). وفي رواية أخرى أن ابن الحاج حينما زحف على سرقسطة، تأهب عبد الملك لمقاومته، واستنصر بألفونسو ملك أراجون، وأنه وقع بين الفريقين قتال هزم فيه ابن الحاج وقتل، ثم إن أهل سرقسطة أخرجوا عبد الملك، واستدعوا عامل أمير المسلمين، فاستولى على سرقسطة وذلك في أواخر سنة 503 هـ (3). وفي روض القرطاس أن ابن الحاج سار من بلنسية إلى سرقسطة، ودخلها في سنة 502 هـ. وأخرج منها بني هود وملكها (4).

(1) الحلل الموشية ص 72.

(2)

راجع: Dozy: Histoire، Vol.III.p. 154

(3)

ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 175.

(4)

روض القرطاس ص 104.

ص: 292

وهكذا انتهى حكم بني هود في سرقسطة، بعد أن دانت لحكمهم أكثر من سبعين عاماً، منذ انتزع عميدهم ومؤسس دولتهم سليمان بن هود الحكم من آل تجيب في سنة 430 هـ. وقد عاشت ولاية سرقسطة أو الثغر الأعلى في الواقع، كوحدة سياسية وعسكرية مستقلة عن الحكومة المركزية أكثر من قرنين، إذا احتسبنا عهد بني تجيب بها. وهكذا كانت سرقسطة آخر دولة من دول الطوائف تسقط في أيدي المرابطين. وتاريخها في الأعوام القليلة القادمة حتى سقوطها في يد ألفونسو الأول ملك أراجون في سنة 512 هـ (1118 م) يرتبط بتاريخ المرابطين.

على أن سقوط سرقسطة، لم يكن آخر العهد ببني هود. ذلك أن عماد الدولة عبد الملك بن المستعين، استقر بقاعدة روطة الحصينة (1)، الواقعة على نهر خالون أحد أفرع إبرُه " الإيبرو " الجنوبية. وكان بنو هود قد أعدوا هذه القاعدة وحصنوها، وزودوها بالأبنية الفخمة، لتكون لهم عند الضرورة ملجأ ومثوى، كلما نزلت بهم نازلة. واستمر عماد الدولة مقيماً بروطة، وهو يشهد الصراع المضطرم بين المرابطين والنصارى حول امتلاك سرقسطة. فلما سقطت في يد النصارى وضع نفسه تحت حماية سيدها الجديد ألفونسو ملك أراجون (ابن رذمير) واستمر على حاله، حتى توفي بروطة في شعبان سنة 524 هـ (1130 م). فخلفه في الإمارة ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الملك وتلقب بسيف الدولة المستنصر بالله، وكذلك بالمستعين بالله، واستمر في حكمه لروطة، وما حولها من الحصون والأراضي، حتى حمله ألفونسو ريمونديز ملك قشتالة، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بأدفونش بن رمند وبالسليطين، على التنازل عنها، وعوضه عنها بقسم من مدينة طليطلة، نزل فيه بأهله وأمواله، أو ببعض أملاك بجوار طليطلة أقطعه إياها، وذلك في سنة 534 هـ (1139 م)(2)، وهي حوادث نستوفيها فيما بعد في تاريخ المرابطين في شبه الجزيرة.

* * *

(1) هي بالإسبانية Rueda

(2)

هذه هي رواية ابن الأبار في الحلة السيراء، ص 225. وراجع ابن خلدون ج 4 ص 163، وروايته مضطربة تنقصها الدقة سواء في الوقائع أو التواريخ. ويضع ابن الأثير تاريخ تسليم المستنصر بالله حصن روطة في سنة 529 هـ (1135 م)(ج 11 ص 13). راجع كذلك: P.y Vives: ibid ; p. 50

ص: 293

وقد كانت سرقسطة في عهد بني هود، كما كانت إشبيلية في عهد بني عباد، مركزاً لحركة علمية وأدبية زاهرة، وكان بنو هود من حماة العلوم والآداب، وقد نبغ بعضهم في ميدان التفكير، ولاسيما أبو جعفر المقتدر، وولده يوسف المؤتمن، وقد كان كلاهما من أكابر علماء عصره، في الفلسفة والرياضة والفلك، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل. وقد اشتهرت سرقسطة في هذا العصر بنوع خاص، أعني في القرن الحادي عشر الميلادي بالدراسات الفلسفية والرياضية.

وكان من أعلام أبنائها في هذا العصر، فيلسوف من أعظم فلاسفة الإسلام وعلمائه، هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجة، والذي يعرف في الغرب باسمه اللاتيني Avempace. وقد نشأ ابن باجة في أواخر القرن الحادي عشر بسرقسطة ودرس بها، وعاش فيها حتى مطلع شبابه قبل أن تسقط في أيدي الإسبان ونبغ في الرياضة والفلك والطبيعة والفلسفة، هذا فضلا عن براعته في الشعر والأدب.

ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم اللمتوني حكم سرقسطة من قبل المرابطين، ندب ابن باجة لوزارته، واختص به، وأغدق عليه عطفه ورعايته، بالرغم مما كان يرمي به الفيلسوف من الميول والآراء الإلحادية. ولما سقطت سرقسطة في أيدي الإسبان (1118 م) غادرها ابن باجة إلى إشبيلية، ثم إلى شاطبة، ثم نزح من الأندلس إلى المغرب، وعاش هناك حتى توفي في سنة 1138 م. وقد كتب ابن باجة زهاء خمسة وعشرين كتاباً لم يصلنا منها سوى القليل، وترك لنا عدداً من القصائد الرصينة الجزلة التي تنم روعة خياله ورائق نظمه. وهو يعتبر على العموم من أعظم المفكرين والفلاسفة الأندلسين، وقد كان لآرائه ونظرياته تأثير كبير في تفكير الفيلسوف أبي الوليد بن رشد الحفيد (1).

ونبغ في سرقسطة أيام بني هود في عهد المستعين بن المؤتمن، المفكر والفيلسوف السياسي أبو بكر الطرطوشي، نسبة إلى طرطوشة ثغر سرقسطة، وهو صاحب كتاب " سراج الملوك " الذي يعتبر بموضوعه ونظرياته المبتكرة، من الكتب التي وضعت أسس السياسة الملوكية في التفكير الإسلامي. ويشير ابن خلدون إلى هذا الكتاب في مقدمته ويعتبره من الكتب التي سبقته في موضوعه (2). وقد وضع الطرطوشي كتابه أثناء إقامته بمصر أيام الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، وأهداه

(1) راجع الإحاطة لابن الخطيب ج 1 ص 414 - 416.

(2)

ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص 33.

ص: 294

في مقدمته إلى خلفه المأمون البطائحي، وتأثر في كتابته بتفكير فيلسوف العصر، العلامة ابن حزم القرطبي، وتوفي الطرطوشي بالإسكندرية سنة 520 هـ (1126 م).

وقد أوحت ظروف مملكة سرقسطة وأحوالها السياسية والاجتماعية يومئذ، إلى الطرطوشي بكثير من نظرياته الاجتماعية، ومنها نظرية عصبية الدولة، فإن الطرطوشي يرى أن عصبية الدولة أو قوتها الحامية، إنما تقوم " على الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة " أي الجند المرتزقة الذين يتناولون أجورهم كل شهر.

ويعارض ابن خلدون هذه النظرية، ويقول إنها لا تنطبق على الدول في أولها، وإنما تنطبق على الدولة في نهاية عهدها، بعد التمهيد واستقرار الملك، وإستحكام الصبغة لأهله، وأن الطرطوشي قد أدرك الدولة الهودية عند هرمها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة، وأدرك دول الطوائف، وذلك عند اختلال الدولة الأموية، وانقراض عصبيتها من العرب، واستبداد كل أمير بقطره، وعاش في ظل المستعين بن هود بسرقسطة، ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شىء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلثمائة من السنين وهلاكهم، ولم ير إلا سلطاناً استبد بالملك عن عشائره، وقد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة، وبقية العصبية، فهو يستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة (1). والظاهر أن الطرطوشي قد تأثر تأثراً شديداً بما شهده من اعتماد بني هود في حماية ملكهم على معاونة الجند النصارى، ولاسيما أيام السيد إلكمبيادور، وسعيهم إلى شراء هذه المعونة بالمال أينما استطاعوا، منذ ابتداء دولتهم حتى نهايتها. وقد كان ذلك في نفس الوقت شأن كثير من ملوك الطوائف الآخرين، حسبما ذكرنا في أخبارهم.

وكانت سرقسطة إلى جانب كونها مركزاً للعلوم الرياضية والفلسفية في القرن الحادي عشر الميلادي، كباقي عواصم الطوائف الأخرى، مركزاً لحركة أدبية قوية، وقد نبغ بها في ذلك العصر كثير من الأدباء والشعراء مثل ابن الدباغ، وابن حسداي، وأبي عمر بن القلاس، وغيرهم، ممن ذكرهم صاحب الذخيرة، وأورد لنا الكثير من نظمهم ورسائلهم.

(1) راجع سراج الملوك للطرطوشي (القاهرة 1935) ص 229 و 231، ومقدمة ابن خلدون (بولاق) ص 130 و 131. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 284 & 285

ص: 295

ولعبت سرقسطة بالأخص دوراً كبيراً في التبادل الثقافي والحضاري بين الأندلس وبين الدول الإسبانية المجاورة، والدول الفرنجية الشمالية، وقد هيأ لها موقعها بين الممالك الإسبانية على مقربة من جبال البرنيه، أن تضطلع بهذا الدور الحضاري الخطير. ومما هو جدير بالذكر أنها كانت في ذلك العصر، مهبط الفرسان النصارى من كل جنس، يجدون في بني هود وفي بلاطها الباذخ، ساحة رحبة، وكانت مركزاً لأشعار الفروسية والشعر الغنائي، الذي كان ينتشر يومئذ في أرجاء قطلونية وأراجون ونافار، ومنها كانت تنقل المقطوعات الغنائية الأندلسية إلى المجتمعات النصرانية المجاورة، فتؤثر في الملاحم والأناشيد القومية.

وقد انتقلت هذه المؤثرات، فيما بعد بمضي الزمن عبر جبال البرنيه إلى جنوبي فرنسا، ثم إلى غيرها من المجتمعات النصرانية.

ويجب أخيراً ألا ننسى دور سرقسطة المسلمة، في ترويج التبادل التجاري والمهني بين الشرق والغرب، فقد كانت مملكة سرقسطة بسيطرتها على جزء كبير من البحر المتوسط، وثغريها الكبيرين طرّكونة، وطرطوشة، تستقبل شطراً كبيراً من تجارة المشرق وتجارة الأندلس والمغرب، وتعمل على تصريفها إلى الأمم الأوربية عن طريق ثغور فرنسا الجنوبية، وثغور إيطاليا. وكان بنو هود يجنون من وراء ذلك أرباحاً طائلة، سواء من المكوس أو الوساطة التجارية، وقد كانوا في الواقع من أغنى ملوك عصرهم، وكان بلاطهم من أفخم قصور الطوائف، وأكثرها روعة وبذخاً، وإن لم تكن لهم شهرة في الجود والبذل، وقد استطاعوا بهذا الغنى الطائل، أن يجتذبوا الفرسان والمرتزقة النصارى لخدمة سياستهم، واستطاعوا بدفع الإتارات الوفيرة للملوك النصارى، أن يتقوا عدوانهم أطول وقت ممكن، ومن ثم فقد لبثت سرقسطة عصراً طويلا بمنجاة من تلك الغزوات المخربة، التي كانت تنكب بها دول الطوائف الأخرى.

ص: 296