المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثالفتح المرابطي - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثالثالفتح المرابطي

‌الفصل الثالِث

الفتح المرابطي

القسم اللأول

صريخ أهل شرقي الأندلس إلى يوسف. النصارى يتخذون حصن لييط قاعدة للعدوان. مسير المعتمد إلى مرسية وفشله في استردادها. عبور ابن عباد إلى العدوة واستنصاره بيوسف. عبور يوسف إلى الأندلس للمرة الثانية. كتبه إلى الرؤساء ومسيره إلى شرقي الأندلس. محاصرة القوات المرابطية والأندلسية لحصن لييط. صمود النصارى وعجز المحاصرين عن اقتحامه. الخلاف بين أمراء الطوائف وشكاويهم المتبادلة. القبض على ابن رشيق وتسليمه لابن عباد. غضب جند مرسية وأثره في المعسكر المحاصر. مقدم ملك قشتالة لإنجاد الحصن. إنسحاب المسلمين وعودة يوسف إلى المغرب. مقدم يوسف إلى الأندلس للمرة الثالثة. مشروعه في الاستيلاء على الأندلس. بواعث هذا المشروع. موقف ملوك الطوائف. محالفة بعضهم لملك قشتالة. فتاوى الفقهاء في شأنهم. طمع المرابطين في خصب الأندلس. العامل الدفاعي وأثره. مسير يوسف إلى طليطلة وارتداده عنها. مسيره إلى غرناطة. عبد الله بن بلقين ومحالفته السرية مع ملك قشتالة. محاصرة المرابطين لغرناطة. سوء الأحوال داخل المدينة. خروج عبد الله وتسليمه لأمير المسلمين. دخول المرابطين غرناطة. استيلاؤهم على مالقة. القبض على عبد الله وأخيه تميم وإرسالهما إلى العدوة. مقدم ابن عباد وابن الأفطس وجفاء يوسف نحوهما. الوحشة بينهما وبين يوسف. تأهب الجيوش المرابطية لافتتاح قواعد الأندلس. خطة يوسف لافتتاح إشبيلية. فتاوي الفقهاء ضد المعتمد. المعتمد وملك قشتالة. أهباته الدفاعية. استيلاء سير ابن أبي بكر على طريف. زحف الجيوش المرابطية على رندة وجيان وقرطبة. سقوط جيان. مهاجمة قرطبة واقتحامها. مقتل حاكمها الفتح بن عباد. قصة زائدة الأندلسية. الأسطورة النصرانية حولها. الزعم بكونها ابنة المعتمد وزواجها من ألفرنسو السادس. التفسير الحقيقي للأسطورة. حقيقة شخصية زائدة. نصوص تاريخية قاطعة.

عاد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى المغرب عقب موقعة الزلاقة في شعبان سنة 479 هـ، حسبما أسلفنا، ولبث في حضرته مراكش حتى أوائل العام التالي، ثم خرج منها ليطوف بالعمالات، ويتفقد أحوال البلاد، وكانت شئون الأندلس خلاك ذلك ما زالت تلاحقه، وكان أهل الأندلس، قد أيقنوا عقب موقعة الزلاقة، أنه لا سبيل لنجاتهم، وخلاصهم من إرهاق النصارى، سوى الالتجاء إلى عاهل المغرب وأنجاده المرابطين، ومن ثم فقد عادت كتب

ص: 333

أهل الأندلس ووفودهم تترى على يوسف، وتستجير به من عدوان النصارى.

وكان الصريخ هذه المرة آتياً بالأخص من أهل بلنسية ومرسية ولورقة، وكانت شئون شرقي الأندلس يومئذ قد سادها الاضطراب، من جراء تدخل القشتاليين في شئون بلنسية، وسيطرتهم عليها عن طريق صنيعتهم القادر بن ذى النون، وما تلا ذلك من مغامرات السيد إلكمبيادور في تلك المنطقة. بيد أنه كان ثمة مصدر آخر للعدوان المباشر في منطقة مرسية ولورقة وبسطة، هو حصن أليدو Aledo ( وتسميه الرواية العربية حصن لييط)، وكان ألفونسو السادس قد بعث في ربيع سنة 1085 م، على أثر استيلائه على طليطلة، قواته بقيادة غرسيه خمينس إلى الأندلس الشرقية. لتغير عليها، وتعيث في أراضيها، فاجتاحت المنطقة الواقعة بين مرسية ولورقة. ثم عمد القشتاليون، لكي يبسطوا قبضتهم على تلك المنطقة، إلى إنشاء حصن ضخم، وافر المناعة، في مكان يسمى أليدو (لييط) يقع بين مرسية ولورقة، وهو أقرب إلى لورقة، وشحنوه بالسلاح والمقاتلة، واتخذوه قاعدة للإغارة على أراضي مرسية وألمرية، وبثوا فيها الرعب والروع، وعجزت القوات الأندلسية المحلية عن رد عدوانهم، حتى ضج أهل هذه الأنحاء مما ينزل بهم من صنوف الضر والأذى، وكثر صريخهم واستغاثاتهم، وتوالت كتبهم ورسلهم على أمير المسلمين في طلب الإنجاد والغوث (1).

وكان المعتمد بن عباد، وهو صاحب السيادة الشرعية على مرسية ولورقة، أشد الناس اهتماماً بإنقاذ تلك المنطقة من عدوان القشتاليين. وكان ألفونسو عقب هزيمة الزلاقة قد عزز حامية لييط وضاعفها، وأوعز إلى قائده غرسية خمينس بأن يشدد الضغط والتنكيل بأراضي لورقة ومرسية انتقاماً من المعتمد، لكونه قد خرج عليه، وعمل على استدعاء المرابطين (2)، وبلغت حامية هذا الحصن الضخم يومئذ ثلاثة عشر ألف مقاتل منهم ألف فارس، وكان يشاطر المعتمد هذا الاهتمام، المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، لما كان ينزل بأراضيه من عيث نصارى أليدو (لييط)، وكان المعتمد يتوق في نفس الوقت إلى استرداد سلطانه الحقيقي في مرسية، وهي يومئذ تحت حكم ابن رشيق الفعلي، فحشد حملة من جنده، ومن المرابطين الذين تركهم يوسف، وسار أولا إلى لورقة، فامتنعت

(1) الحلل الموشية ص 47 و 48، وراجع: R.M.Pidal: ibid ; p. 319

(2)

روض القرطاس ص 98، وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 361

ص: 334

عليه، فغادرها إلى مرسية. وضرب حولها الحصار، ولكن ابن رشيق استطاع أن يكسب المرابطين، وأن يقنعهم بأن يتركوه في سلام، وهكذا فشلت الحملة وعاد ابن عباد إلى إشبيلية دون أن يحقق أي نجاح (1).

فاعتزم المعتمد أمره في استدعاء يوسف، للمعاونة في قمع شر حامية أليدو النصرانية، وعبر البحر بنفسه إلى المغرب مع بعض خاصته، فلقي أمير المسلمين بوادي سبو، وأفضى إليه بملتمسه، وشرح له ما يلقاه المسلمون في منطقة مرسية ولورقة وغيرهما، من عسف النصارى وغاراتهم، وشنيع عيثهم، فوعده يوسف بإجابة ملتمسه، وكان قد تلقى قبل زيارة ابن عباد كثيراً من الكتب، من فقهاء الأندلس وأعيانها، يلحفون في رجاء الإنجاد والغوث، لقمع بغي القشتاليين، والاستيلاء على أليدو مركز بغيهم، وعاد ابن عباد إلى إشبيلية بعد أن اطمأن لوعد يوسف وتأكيداته، وأخذ في إعداد السلاح وآلات الحصار (2).

- 1 -

وأوفى يوسف بوعده، وعبر البحر إلى الأندلس في قواته في شهر ربيع الأول سنة 481 هـ (يوليه سنة 1088 م). فتلقاه ابن عباد في الجزيرة الخضراء بالمؤن الوفيرة، وبعث أمير المسلمين بكتبه إلى ملوك الطوائف ورؤسائهم يستدعيهم جميعاً للجهاد، وأن يوافوه بقواتهم عند حصن لييط. وكان يوسف يبغي بعد الاستيلاء على حصن أليدو، أن يعمل للقضاء على سلطان " السيد " في منطقة بلنسية، ومن ثم فقد اتجه يوسف عن طريق مالقة صوب شرقي الأندلس، ومعه المعتمد في قواته، وانضم إليه في الطريق تميم بن بلقين صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، كل في قواته. ولما وصل إلى ظاهر حصن أليدو، وافاه هناك ابن رشيق صاحب مرسية في قواته، وعدة من رؤساء الأندلس من شقورة وبسطة وجيان وغيرها.

وضرب المسلمون الحصار حول الحصن، وكاد فضلا عن حاميته الضخمة، التي تضم ثلاثة عشر ألف مقاتل، يضم جماعات كبيرة من نصارى هذه المنطقة الذين التجأوا إليه. وسلط المسلمون آلات الحصار الضخمة على الحصن،

(1) Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 134

(2)

روض القرطاس ص 98، والحلل الموشية ص 48.

ص: 335

وضربوه بشدة، ولكن الحصن كان في منتهى المناعة، فلم تنجح الآلات الضخمة في هدمه أو ثلم أسواره، ورد المدافعون كل محاولة للمحاصرين بمنتهى العنف والشدة، وامتنعوا داخل حصنهم. وطال الحصار زهاء أربعة أشهر، والقوات المحاصرة تحاول اقتحامه، كل جماعة بدورها، والنصارى صامدون، يتساقطون داخل حصنهم من الجوع والإعياء. وشعر أمير المسلمين من جراء ذلك بخيبة أمل مرة، بيد أنه شعر كذلك باستياء بالغ لما شهده من أحوال أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، فقد كان الخلاف والوقيعة على أشدهما بين أولئك الأمراء الطامعين المتنابذين، فكان تميم صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، يشكو كل منهما الآخر، ويتهمه باغتصاب حقوقه في الميراث والسيادة، وكان ابن عباد والمعتصم بن صمادح يوقع كل منهما في حق صاحبه لدى أمير المسلمين، ويتهمه بمختلف التهم. وبرز من بين هذه الخصومات بالأخص خلاف المعتمد وابن رشيق، فقد شكا ابن عباد ابن رشيق لأمير المسلمين، واتهمه باغتصاب الولاية منه على مرسية، واتهمه بما هو شر من ذلك، وهو أنه متفاهم مع ملك قشتالة سراً، وقد دفع إليه جباية مرسية، وأنه يعاون حامية الحصن في الخفاء، واهتم أمير المسلمين لتلك التهم، ومال إلى تصديقها، واستفتى الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر بتسليمه لابن عباد على شرط أن يبقى على حياته. وكان لهذا الحادث أسوأ الأثر في المعسكر المحاصر، فإن قادة مرسية ومعظمهم من أقارب ابن رشيق ورجاله، غادروا المعسكر في جندهم غاضبين، وقطعوا المؤن التي كانت ترسل إلى المحاصرين من مرسية وأحوازها، فاختل أمر المعسكر، ولحق به الضيق والغلاء، وعلم أمير المسلمين من جهة أخرى أن ملك قشتالة يسير في قوة كبيرة لإنجاد الحصن، فآثر الانسحاب وعدم الاشتباك مع القشتاليين في معركة غير مجدية. وقدم ألفونسو إلى الحصن، فلم يجد بداخله من المدافعين سوى مائه فارس وألف راجل، ولما رأى أنه لا فائدة من الاحتفاظ به، وأنه يقتضي لذلك حامية كبيرة، قرر إخلاءه وتقويض أسواره وأبراجه، وعاد أدراجه، وذلك في سنة 1089 م (482 هـ). واحتل ابن عباد أطلال الحصن بعد أن غادره النصارى.

ولم ير يوسف بعد هذا الإخفاق مجالا لمحاولات أخرى، فاتجه نحو لورقة،

ص: 336

بعد أن ترك جيشاً مرابطياً من أربعة آلاف فارس تحت إمرة داود بن عائشة ليعمل في منطقة مرسية وبلنسية، وتحرك أمراء الأندلس كل إلى بلده، وسار يوسف إلى ألمرية فالجزيرة، ثم عبر البحر عائداً إلى المغرب، وقد تغيرت نفسه على أمراء الأندلس (1).

- 2 -

ولم يمض عام آخر، حتى أعد يوسف بن تاشفين عدته، للجواز إلى شبه الجزيرة للمرة الثالثة، وكان ذلك في أوائل سنة 483 هـ (1090 م). ولم يكن جوازه في تلك المرة تلبية لدعوة أو استغاثة من أحد، من أمراء الأندلس، كما حدث في المرتين السابقتين، ولكنه عبر عندئذ إلى شبه الجزيرة، وقد انتهى إلى قرار بالغ الخطورة، هو الاستيلاء على الأندلس.

وقد اختلفت الروايات في تصوير البواعث، التي حملت يوسف على اتخاذ هذا القرار. بيد أنه يبدو على ضوء مختلف الروايات، أن يوسف قد تأثر منذ البداية بما شهده من اختلال أحوال أمراء الطوائف، وضعف عقيدتهم الدينية، وانهماكهم في مجالي الترف والعيش الناعم، وما يقتضيه ذلك من إرهاق لشعوبهم بالمغارم الجائرة، وأدرك أن هذه الحياة الناعمة، التي انغمس فيها رؤساء الأندلس وشعوبهم اقتداء بهم، هي التي قوضت منعتهم، وفتت في رجولتهم وعزائمهم، وأضعفت هممهم عن متابعة الجهاد، ومدافعة العدو المتربص بهم، وأن الشقاق الذي استحكم بينهم، ولم ينقطع بعد الزلاقة، سوف يقضي عليهم جميعاً، إذا تركت الأمور في مجراها، وسوف يمهد لاستيلاء النصارى على جميع أنحاء شبه الجزيرة في أقرب وقت. ومن ثم فقد اعتزم أمير المسلمين أمره نحو الأندلس ونحو أمرائها العابثين المترفين (2).

ذلك هو التصوير العام، للبواعث التي حملت يوسف بن تاشفين، على افتتاح ممالك الطوائف الأندلسية، بيد أنه توجد إلى جانب ذلك بواعث معينة أخرى، منها أن ملوك الطوائف لما شعروا بتغير يوسف عليهم، توافقوا على

(1) راجع روض القرطاس ص 98 و 99، والحلل الموشية ص 47 - 50. وراجع: Dozy: Histoire، V.III.p. 139 & 140، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 364 & 365.

(2)

راجع المراكشي في المعجب ص 89.

ص: 337

قطع المدد والمؤن عن عساكره ومحلاته التي تركها بالأندلس، فساءه ذلك (1)، ومنها ما وقف عليه يوسف، من رجوع بعض رؤساء الطوائف إلى مصادقة ألفونسو ملك قشتالة وممالأته، بل واستعدائه على محاربة يوسف نفسه، وإمداده لذلك بالأموال والهدايا، وكان هذا بالذات موقف عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة (2)، ثم كان فيما بعد موقف المعتمد بن عباد، وقد عمد كلاهما في الواقع إلى تحصين بلاده والاستعداد للدفاع عنها (3).

والظاهر أيضاً أن أمير المسلمين لم يتخذ قراره الخطير بافتتاح الأندلس فجأة، ولكنه عمد إلى دراسته ومشاورة الزعماء والفقهاء في أمره، وقد تلقى في ذلك فتاوي الفقهاء من المغرب والأندلس، بوجوب خلع ملوك الطوائف، وانتزاع الأمر من أيديهم، بل لقد تلقى مثل هذا الرأي من أكابر فقهاء المشرق، وفي مقدمتهم أعلام كالإمام الغزالي، وأبى بكر الطرطوشي نزيل مصر يومئذ وغيرهما (4).

وإذاً فقد التمس أمير المسلمين لتنفيذ مشروعه، سند أحكام الشرع، وتأييد أهل الرأي، قبل الإقدام عليه.

ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم، ذلك الباعث الطبيعي، الذي يضطرم به كل زعيم قوى وكل متغلب، ونعني شهوة الفتح والتوسع، فلا ريب أن يوسف بن تاشفين وصحبه، وهم أولئك البدو الصحراويون، قد راقهم ما شهدوه من خصب الأندلس ونعمائها، وطيب هوائها. ومن ثم فإن الرواية تحدثنا بصراحة عن " طمع يوسف في الجزيرة وتشوفه إلى مملكتها "، وتذكر لنا أنه قال يوماً لبعض ثقاته؛ " كنت أظن أني قد ملكت شيئاً، فلما رأيت تلك البلاد (الأندلس) صغرت في عينى مملكتي "(5).

اجتمعت هذه البواعث كلها، لتحمل يوسف على فتح الأندلس، وهي بواعث فوق وضوحها، تسجلها لنا الرواية جميعاً. بيد أننا نستطيع أن نستشف

(1) ابن خلدون ج 6 ص 187.

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 187.

(3)

روض القرطاس ص 99، وابن خلكان ج 2 ص 490. وراجع: R.M.Pidal ibid ; p. 394

(4)

ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188؛ وأعمال الأعلام ص 247.

(5)

المعجب ص 74. وراجع ابن خلكان ج 2 ص 40، وأعمال الأعلام ص 163، ونفح الطيب ج 2 ص 533.

ص: 338

من قرار يوسف باعثاً آخر، لم تفطن إليه الرواية الإسلامية، ولعله من البواعث الهامة، في مشروع عاهل المرابطين، وهو العامل الدفاعي والاستراتيجي.

ذلك أن يوسف أدرك لأول وهلة، أن دول الطوائف الضعيفة المتخاذلة، لا تستطيع في ظل أمرائها المترفين الخانعين دفاعاً عن نفسها، وأنه إن تخلى عنها، فسوف تسقط حتماً في يد ملك قشتالة القوي. ولم تغب عن يوسف، وهو ذلك الجندي العظيم، أهمية الصلة الدفاعية والاستراتيجية الوثيقة، التي تربط بين ضفتي العدوة والأندلس، المتقابلتين على طرفي المضيق، ولم يفته أن يدرك أن سقوط الأندلس، في أيدي النصارى، معناه سقوط جناح المغرب الدفاعي من الشمال، ومعناه تهديد اسبانيا النصرانية لسلامة المغرب، متى اجتمعت قواها، وتوفرت لديها وسائل العدوان، ومن ثم فقد قرر أن يبادر إلى احتلال رقعة الوطن الأندلسي، لينقذ الأندلس من هذا الخطر الداهم، وليدعمها ويضاعف أهباتها الدفاعية، ويمكنها من تأدية مهمتها الاستراتيجية في رد عادية العدوان، لا عن نفسها فقط، ولكن عن المغرب أيضاً، ولم ينس أمير المسلمين في ذلك، أن ملك قشتالة استطاع عقب استيلائه على طليطلة، أن يجتاج أراضي الأندلس الوسطى كلها، منذ نهر التاجه جنوباً حتى أرض الفرنتيرة، وأن يصل إلى ثغر طريف قبالة العدوة. دون أن يقف في سبيله أحد من ملوك الطوائف، وكان في ذلك من بوادر الخطر على أرض العدوة القريبة ما فيه.

- 3 -

عبر أمير المسلمين إلى شبه الجزيرة للمرة الثالثة في أوائل سنة 483 هـ، حسبما قدمنا. وكان أبلغ ما أهمه عندئذ ما تواتر إليه من أخبار عن الاتفاقات السرية التي يعقدها المعتمد بن عباد، والمتوكل بن الأفطس، وعبد الله ابن بلقين، مع ألفونسو السادس ملك قشتالة للتعاون في رد المرابطين. واتسمت حملة يوسف في البداية بطابع الجهاد، حيث سار تواً إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة. ولم يتقدم أحد من أمراء الطوائف يومئذ لمعاونته أو السير معه. وربما كان يوسف يرجو أن يسترد طليطلة، فيشفى بذلك جرح الأندلس الدامي، ويكتسب عطف أهل الأندلس جميعاً. وعاث المرابطون في أحواز طليطلة وخربوا ضياعها، وانتسفوا زروعها، ثم ضربوا الحصار حول العاصمة القوطية القديمة

ص: 339

وعاصمة قشتالة يومئذ، وكان بداخلها ألفونسو السادس وحليفه سانشو راميرز يقومان بالدفاع عنها، بيد أن المرابطين أيقنوا بعد أن شهدوا أسوارها العالية، وحصانتها الفائقة، بعبث المحاولة، فتركوا الحصار، وارتد يوسف بقواته إلى الجنوب (1).

وعرج يوسف بجيشه على فحص غرناطة، وكان قد قرر أمره نحو غرناطة وصاحبها عبد الله بن بلقين، بل ونحو أمراء الطوائف جميعاً. وكان عبد الله في الواقع مذ عاد من حصار أليدو، ولما شعر به من تغير يوسف، قد عاد إلى استئناف صلاته بألفونسو السادس، عن طريق قائده ومبعوثه في تلك المنطقة ألبار هانيس، وعقد معه فيما يبدو محالفة سرية لمقاومة المرابطين. ويعترف الأمير عبد الله في مذكراته بهذه الصلات، ولكنه يقول لنا إنها لم تكن سوى التزام منه بدفع الجزية لألفونسو، وتعهد من ألفونسو بألا يعترض له بلداً ولا يغدر به (2). ويقول لنا ابن عذارى من جهة أخرى إن عبد الله بن بلقين كان أول من شهر الخلاف على يوسف بن تاشفين، فنظر في اختيار الآلات وألحق الرماة والرجال، وأعلا الأبراج، وبنا الأسوار، ونصب الرعادات، وملأ بيوت السلاح، وجد في ضرب السهام، ونقل المال والذخيرة، وخرج المتاع والآنية إلى قصبة المنكب لكونها في غاية المنعة، وعلى ضفة البحر، وعمد إلى مال كثير، وثياب نفيسة، وتحف جليلة، وأعلاق دقيقه، فوجه بها إلى أذفونش، وكتب إليه متطارحاً عليه، مستجيراً به، وأعلمه ان البلد بلده وأن فيه قايده، فاهتز لذلك الأذفونش، وقبل المال والهدايا، وأقسم بجميع أيمانه، أن يشد اليد عليه في ملكه، ولا يتركه لضيم ولا خصيمة، وأن ينهض إليه بنفسه، ويبذل جهده في نصره، فقويت نفس حفيد باديس بذلك. وفي ذلك يقول صفيه وأثيره السمسري:

صانع أذفونش والنصارى

فانظر إلى رأيه الوبير

وشاد بنيانه خلافاً

لطاعة الله والأمير

يبني على نفسه سفاهاً

كأنه دودة الحرير

(1) روض القرطاس ص 99. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 349 & 395

(2)

كتاب التبيان ص 125. وراجع ابن خلدون ج 6 ص 187.

ص: 340

دعوه يبني فسوف يدري

إذا أتت قدرة القدير (1)

على أن ما استقر في ذهن يوسف، وما نهضت عليه الأدلة، وأكده رسله يومئذ، هو أن المعتمد بن عباد، وعبد الله بن بلقين وغيرهما من أمراء الطوائف، قد عقدوا مع ملك قشتالة اتفاقات سرية، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين بالمال والمؤن، وبالانضواء تحت لواء ألفونسو وحمايته. وكان بعض حشم عبد الله ولاسيما مؤمل مولى جدّه باديس، قد اتصلوا بأمير المسلمين، وأكدوا له مداخلة عبد الله لملك قشتالة، واهتمامه بتجديد الأسوار وتحصين المدينة. ومن جهة أخرى فقد أصدر فقهاء غرناطة فتوى بخلع عبد الله وأخيه تميم صاحب مالقة، لما يرتكبانه من المظالم والخروج على أحكام الدين، وأهابوا بيوسف أن يرغم أمراء الطوائف على اتباع أحكام الشرع وإلغاء المكوس، والمغارم الجائرة، التي يفرضونها على رعيتهم تعسفاً وظلماً.

وفرض أمير المسلمين على غرناطة شبه حصار، وقام عسكره بحراسة حصونها الخارجية، حتى لا يأتيها مدد من النصارى، وطلب المؤن والعلوفات، فبادر عبد الله بتقديمها. وكانت الأحوال في غرناطة قد ساءت، وشاع الخلاف والتمرد بين سائر الطوائف، وأدرك عبد الله أنه لا سبيل إلى المقاومة، وأرسل إلى أمير المسلمين رسله ومعهم بعض المال، فعادوا إليه بأمان يوسف " في النفس والأهل دون المال "، كما عرض عليه يوسف أن يختار بلداً آخر لإقامته غير غرناطة. فتمهل عبد الله وقتاً. والظاهر أنه كان ينتظر عوناً من القشتاليين لم يتحقق. وفي خلال ذلك كانت أمه وخاصته يلحون عليه في الخروج إلى أمير المسلمين، والانقياد لأمره، كأفضل حل للموقف. ولما اقترب أمير المسلمين بمحلته من المدينة، واشتد بها الهياج، رأى عبد الله أنه لا مناص من اتباع هذا النصح، فسار إلى محلة يوسف، وقدم إليه نفسه، فأصدر له أماناً في نفسه وأهله، وأمر باعتقاله، حتى يتم ضبط أمواله، وكانت لدى عبد الله وأمه أموال طائلة، مكدسة منذ أيام جده باديس، وعلى أثر ذلك أقبل الفقهاء والأعيان إلى محلة يوسف وبايعوه بالطاعة. ودخل يوسف مع قادته وجنده مدينة غرناطة ونزل بقصرها، واستولى على ما فيه من الأموال والتحف الجليلة، وأذاع في

(1) نقلت من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثر بها المؤلف في خزانة القرويين بفاس.

ص: 341

الناس، أنه سوف يحكم بالعدل والرفق وفقاً لأحكام الشرع، ويعمل على إقامة الخير بينهم، والذب عن حوزتهم، وأنه سوف يرفع عنهم سائر المغارم الجائرة، ولا يفرض عليهم من التكاليف والالتزامات إلا ما يجيزه الشرع. وكان خلع عبد الله بن بلقين بن باديس في اليوم العاشر من شهر رجب سنة 483 هـ (سبتمبر سنة 1090)(1).

وبعث أمير المسلمين في الوقت نفسه سرية من جنده إلى مالقة، فقبض على صاحبها تميم بن بلقين أخى عبد الله، وحمل مكبلا إلى العدوة، ثم أرسل إلى السوس. وكان الفقهاء قد اتهموه بطائفة من المظالم الشنيعة وطالبوا بخلعه (2).

وأخذ عبد الله وأهله أولا إلى الجزيرة الخضراء، ثم نقلوا إلى سبتة، فمكناسة وأخذوا أخيراً إلى مدينة أغمات، حيث تقرر إقامتهم، وأنزلوا هنالك داراً حسنة، وعوملوا برفق ورعاية، وعاش عبد الله بأغمات حتى توفي. وكتب فيها مذكراته الموسومة بكتاب " التبيان "، وهي التي رجعنا إليها في غير موضع. وعفا أمير المسلمين فيما بعد عن أخيه تميم، فسكن مراكش حتى توفي بها في سنة 488 هـ (3).

وهكذا سقطت أول دولة من دول الطوائف في أيدي المرابطين، وكان سقوطها نذيراً باضطرام العاصفة، التي قدر لها أن تجتاح الطوائف جميعاً. وشعر المعتمد بن عباد بخطورة هذا النذير، بيد أنه كان من جهة أخرى، ما يزال يعلل نفسه بمختلف الآمال الغامضة، وكان قد استقبل يوسف عند مقدمه بالجزيرة الخضراء، وقدم إليه المؤن والضيافات المعتادة، ويقال إن يوسف وعده عندئذ بغرناطة متى استولى عليها (4). فلما ظفر يوسف بامتلاكها، سار المعتمد ومعه زميله المتوكل بن الأفطس إلى غرناطة، فقدما التهنئة لأمير المسلمين بهذا الفتح.

وظن المعتمد عندئذ أن يوسف سوف ينجز وعده بالنزول له عن غرناطة، مقابل

(1) يراجع في حوادث سقوط غرناطة في أيدي المرابطين: كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 147 - 160، وروض القرطاس ص 99 و 100، وأعمال الأعلام ص 235 و 236، وابن خلدون ج 6 ص 187. وراجع أيضاً: Dozy: Hist.V.III.p. 141-144، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 394-396

(2)

كتاب التبيان ص 162 و 163، وأعمال الأعلام ص 236.

(3)

كتاب التبيان ص 171، وأعمال الأعلام ص 236.

(4)

كتاب التبيان ص 164.

ص: 342

استيلائه على ثغر الجزيرة، ولكن يوسف استقبلهما بجفاء، فانصرفا عنه، وقد أدركا الحقيقة المروعة، وشعرا بأن النهاية المحتومة، قد أضحت على وشك الوقوع. وعاد المعتمد إلى إشبيلية، وهو يعتزم الدفاع عن مملكته جهد الاستطاعة وأخذ في التأهب، وإقامة التحصينات والأسوار، وساءت العلائق بينه وبين أمير المسلمين بسرعة، وكثرت بينهما الوقيعة والسعايات، ودعا أمير المسلمين المعتمد إلى لقائه فرفض، وطلب إليه أن يتبع أحكام الشرع، وأن يلغي المكوس الجائرة، وأن يلتزم الرباط ومدافعة النصارى، فلم يجبه إلى شىء (1).

وغادر أمير المسلمين غرناطة، وجاز إلى العدوة في شهر رمضان سنة 483 هـ، وفوض إلى قائده الأكبر سير بن أبي بكر اللمتوني شئون الأندلس. وهنا تختلف الرواية، فيقال إنه لم يأمر قائده في أمر ابن عباد بشىء، وقيل من جهة أخرى، إنه أمره بمحاصرة ابن عباد في إشبيلية، وأنه متى انتهى من أمر إشبيلية، فليتقدم إلى بلاد ابن الأفطس (2). وقدم أمير المسلمين قائده ابن الحاج على جيش آخر، وعهد إليه بمنازلة قرطبة، وعليها ولد المعتمد الفتح الملقب بالمأمون، وقدم أبا زكريا بن واسنو على جيش ثالث، وعهد إليه بمحاصرة المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، وقدم جروراً الحبشي على عسكر رابع وعهد إليه بمنازلة يزيد الراضي ولد المعتمد برندة. وأقام أمير المسلمين بسبتة يجهز الجيوش والأمداد، ويترقب نتائج أعمال جيوشه في شبه الجزيرة.

- 4 -

كان من الواضح، على ضوء هذه الأهبات الضخمة، التي اتخذت لمهاجمة ْقواعد مملكة إشبيلية في وقت واحد، أن يوسف بن تاشفين، كان يرى في مملكة إشبيلية واسطة عقد الأندلس، وفي أميرها المعتمد بن عباد، عميد الطوائف، فإذا سقطت في يده إشبيلية، كان له ملك الأندلس.

ولم يكن أمير المسلمين تعوزه المبررات في قتال ابن عباد، فقد كان لديه المبررات المادية والشرعية الكافية. ذلك أنه احتاط للأمر، واستصدر الفتاوي

الشرعية اللازمة، من فقهاء المغرب والأندلس، بأن مسلك المعتمد في مصانعة

(1) الحلل الموشية ص 51 و 52، وروض القرطاس ص 100، وكتاب التبيان ص 169.

(2)

روض القرطاس ص 100، والحلل الموشية ص 52.

ص: 343

النصارى، وتسليم البلاد، والاحتماء بهم، ومسلكه إزاء شعبه في اقتضاء المكوس الجائرة، وغير ذلك مما يخالف أحكام الشرع، ومجاهرته بالمعاصي، كل ذلك مما يفقده أهليته لحكم المسلمين، ويوجب محاربته وخلعه (1). أما عن المبررات المادية، فقد وقعت في يد يوسف بعض المراسلات السرية الموجهة من ابن عباد إلى ملك قشتالة، يستغيث به ويطلب معونته (2)، وكان المعتمد بعد أن رأى جنود قشتالة تجتاح بلاده، وتمعن في تخريبها، دون أن يستطيع دفعاً لهم، وشعر من جهة أخرى بما يضمره المرابطون نحوه من النيات الخطرة، قد أيقن أنه لا معدي له عن الالتجاء إلى ملك قشتالة، والتفاهم معه على دفع المرابطين عن الأندلس.

وبينما كان المعتمد منهمكاً في أهباته الدفاعية بإشبيلية، كان قائد المرابطين سير بن أبي بكر، يضع خططه النهائية للانقضاض على قواعد مملكة إشبيلية، وقد بدأ في ذلك بالاستيلاء على طريف أقصى ثغورها الجنوبية، وذلك في شوال سنة 483 هـ (ديسمبر 1090 م) ونادى فيها بدعوة أمير المسلمين (3)، ثم اتجه نحو الشمال قاصداً إشبيلية، بينما زحفت الجيوش المرابطية الفرعية على رندة وجيان وقرطبة. فأما رندة فقد حاصرها القائد جرور المرابطي بقواته، وكان يضطلع بالدفاع عنها يزيد الراضي ولد المعتمد. وكانت رندة من أمنع القواعد الجنوبية، فصمد بها الراضي، واضطر جرور أن يقنع بالحصار منتظراً سير الحوادث. وأما جيان، فقد زحف عليها جيش مرابطي بقيادة بطى بن اسماعيل وضرب حولها الحصار. وهنا يقول لنا ابن الخطيب إن جيشاً من القشتاليين قدم لإنجاد جيان، تنفيذاً للحلف المعقود بين ابن عباد وملك قشتالة، وإنه نشبت بين المرابطين والنصارى موقعة أبيد فيها المرابطون (4). بيد أن ابن أبي زرع يقول لنا بالعكس أن بطى حاصر جيان حتى دخلها صلحاً، وكتب سير بالفتح إلى أمير المسلمين، وأمر بطى بالسير بقواته إلى قرطبة (5). وقد ذكرنا من

(1) ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188.

(2)

كتاب التبيان ص 169.

(3)

المعجب ص 75. وكذلك: R.M.Pidal: ibid، p. 398

(4)

أعمال الأعلام ص 163.

(5)

روض القرطاس ص 100.

ص: 344

قبل وفقاً لرواية صاحب الحلل الموشية، أن القوات المرابطية التي سارت لمنازلة قرطبة كانت بقيادة ابن الحاج. وعلى أي حال فقد زحف المرابطون على قرطبة، وبها حاكمها ولد المعتمد، الفتح الملقب بالمأمون، وكان قد اتخذ كل الأهبات الدفاعية الممكنة، وأرسل زوجه وأولاده وأمواله تحوطاً إلى حصن المدور (1)، الواقع جنوب غربي قرطبة على ضفة نهر الوادي الكبير، لكي تبقى بمنجاة من الخطر، وحتى تستطيع أن تلوذ عند الضرورة بحماية ملك قشتالة، وقد كان هذا الإجراء فيما يبدو بإشارة المعتمد أو بموافقته. والواقع أن قرطبة لم تصمد طويلا، فقد اقتحمها المرابطون بعنف، وقتل الفتح بن عباد خلال الهجوم مدافعاً عنها، ورفع المرابطون رأسه على رمح. وكان افتتاح المرابطين لقرطبة في اليوم الثالث من صفر سنة 484 هـ (26 مارس سنة 1091 م)(2).

* * *

وهنا يجب أن نقف قليلا، لنتناول مسألة تاريخية هامة، غمرتها الأسطورة مدى عصور، ثم ألقى عليها البحث الحديث ضوءه المقنع، تلك هي قصة زائدة الأندلسية.

لقد ذكرت الروايات الإسبانية النصرانية، المعاصرة واللاحقة، أن ألفونسو السادس قد تزوج من ابنة للمعتمد بن عباد تسمى " زائدة " أو أنه قد اتخذها خليلة، وأنجب منها ولده الوحيد سانشو. وتزيد على ذلك أن المعتمد نفسه، حينما شعر بخطر المرابطين الداهم على مملكته، واستغاث بألفونسو لمعاونته على دفعه، هو الذي قدم ابنته المذكورة للملك النصراني، وأنه نزل له عن مواضع معينة من أراضي مملكة طليطلة، كان قد افتتحها، لتكون مهراً لابنته المذكورة، وترجع بعض الروايات المتأخرة هذا التصرف من جانب ابن عباد إلى فرصة سابقة على مقدم المرابطين، وتقول إنه كان ضمن مغريات الحلف الذي عقده المعتمد مع ألفونسو عن طريق وزيره ابن عمار، وأخيراً أن هذا التصرف قد أثار فضيحة كبيرة في الأندلس، واتهم ابن عباد بالتفريط في عرضه ودينه (3).

(1) وهي بالإسبانية Almodavar del Rio

(2)

روض القرطاس ص 100، وراجع: R.M.Pidal: ibid.p. 405

(3)

وردت هذه القصة ضمن رواية Pelayo de Oviedo المعاصرة، وقد نشرت ضمن =

ص: 345

وقد استمرت التواريخ النصرانية تتناقل هذه الأسطورة عصوراً كأنها حقيقة لا ريب فيها، وتتحدث دائماً عن " زائدة الأندلسية " Zeida la Mora أو Ceida وعن ذريتها النصرانية. ونقول نحن إنه لا توجد بين هذه التفاصيل المغرقة، سوى حقيقة واحدة هي شخصية زائدة المذكورة، وأنها كانت حقيقة زوجة أو خليلة لألفونسو السادس، وقد أنجب منها ولده سانشو الذي قتل طفلا في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م). ولكنها لم تكن ابنة للمعتمد بن عباد، ولم يقدمها المعتمد لألفونسو ثمناً لحلفه، وهذا هو لب الأسطورة كلها. وهذا هو وجه الإغراق والتحريف. ذلك أنه مما لا يسيغه العقل أن يرضى أمير عظيم مسلم كالمعتمد بن عباد، أن يزوج ابنته من أمير نصراني أو أن يقدمها له جارية وحظية، ومهما كان من استهتار المعتمد وتسامحه الديني، وإذا فرضنا أنه لم يكن يقيم في مثل هذا التصرف الشائن، وزناً للاعتبارات الدينية والشرعية، وهو في ذاته مما لا يقبله العقل، فمن المستحيل عليه ألا يحسب أعظم حساب لنتائجه السياسية، وخصوصاً في مثل هذه الظروف الدقيقة التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، وأقلها أن يضطرم شعبه المسلم بالثورة عليه، وأن يسحقه ويسحق أسرته، ومن جهة أخرى فإن المعتمد كان يرمي من جانب خصومه في الداخل وفي الخارج بألسنة حداد من أجل استهتاره وتهاونه الديني، ولم يكن من المعقول أن يقدّم بمثل هذا التصرف إلى خصومه سلاحاً جديداً يضعه في صف المارقين والخوارج على الدين.

أما التفسير الحقيقي لهذه القصة، وهو ما كشفت عنه البحوث والنصوص الوثيقة، فهو أن زائدة هذه كانت حسبما تقدم زوجة للفتح بن المعتمد الملقب بالمأمون حاكم قرطبة، وأن المأمون حينما هاجم المرابطون المدينة، أرسل زوجته وولده وأمواله إلى حصن المدور، أو أنه حينما اقتحم المرابطون المدينة وقتل الفتح، استطاعت زائدة أن تلوذ مع أولادها بالفرار، وأن تلجأ إلى حصن المدور،

= مجموعة Espana Sagrada للأب Flores ( الجزء الرابع عشر). وذكرها رودريك الطليطلي في روايته التي وردت في: De Rabis Hispaniea، وكذلك لوقا التطيلي في روايته Cronicon Mundi على اختلاف في بعض التفاصيل، وذكرها الأب فلوريس في تاريخه Flores: Reynas Catolicas ومن المؤرخين المحدثين Modesto Lafuente في تاريخه: Historia general de Espana وراجع ايضاً R.M.Pidal: ibid ; p. 760-764 حيث يلخص سائر الروايات المتقدمة.

ص: 346

ثم التجأت إلى حماية ملك قشتالة، حينما اشتد خطر المرابطين على سائر تلك الأنحاء وربما كان ذلك بموافقة المعتمد. ولما كانت زائدة على جانب كبير من الجمال، وكان الملك النصراني من جهة أخرى مزواجاً، كلفاً بالنساء، فقد انتهز فرصة التجائها إليه، واتخذها خليلة ثم تزوجها. وتقول الروايات القشتالية في هذا الموطن، إن زائدة كانت تحب الملك النصراني " بالسماع "، وتتوق إلى الزواج منه، وأن المعتمد (بزعم أن زائدة كانت ابنته) قد نزل لملك قشتالة في هذه المناسبة عن قونقة، ووبذة وإقليش وأوكانيا وكونسويجرا وغيرها من الأماكن، وهي التي كان قد افتتحها من مملكة طليطلة أيام بني ذى النون، وذلك كمهر لزائدة. وقد يكون المعتمد قد نزل حقاً عن هذه الأماكن وغيرها لملك قشتالة، ولكن ذلك لم يكن سوى بعض ما تعهد به لملك قشتالة كثمن لحلفه وعونه. ومتى تقرر أن زائدة، لم تكن ابنته، فإنه لا محل أن يقرن هذا التنازل من جانب المعتمد بقصة زواج زائدة من الملك النصراني. ونقول تتمة لقصة زائدة إنها غدت خليلة أو زوجة لملك قشتالة، على الأرجح عقب سقوط قرطبة بقليل، في أوائل سنة 1092 م، وأنها بهذه المناسبة اعتنقت النصرانية وتسمت باسم " إيسابيل "، وفي رواية باسم ماريا، ونصّر أولادها من الفتح، ومن كان معها من الحشم، ورزق منها ألفونسو بولده الوحيد سانشو، وتوفيت زائدة عند مولد ولدها سانشو، ودفنت بدير ساهاجون وذلك في سنة 1097، أو 1098 م. ولما اجتاح المرابطون أراضي قشتالة، في أوائل عهد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، وسار القشتاليون لمحاربتهم تحت أسوار قلعة إقليش، بعث ألفونسو بولده الصبي سانشو على رأس الجيش لكي يثير حماسة الجند، فقتل في الموقعة التي نشبت بين الفريقين، وقتل معه معظم أكابر الجيش وقادته، وذلك في سنة 501 هـ (1108 م). وتوفي ألفونسو على أثر ذلك غماً وحزناً (1).

ولم تذكر لنا الرواية الإسلامية اسم زائدة، ولا شيئاً من قصتها بطريق مباشر، ولكنها مع ذلك تقدم إلينا الدليل القاطع على حقيقة شخصيتها وصفتها، ولدينا في ذلك نصان كلاهما حاسم في تقرير هذه الحقيقة.

أولهما ما ورد في تاريخ ابن عذارى " البيان المغرب " في أخبار سنة 501 هـ

(1) راجع R.M.Pidal: ibid ; p. 495، 496 & 760-764

ص: 347

وهي الموافقة لسنة (1108 م) عن الحملة التي أرسلها ألفونسو السادس ضد المرابطين لإنجاد قلعة إقليش، وقد جاء فيه:" وفي خلال ذلك وصل إليه (إلى حصن إقليش) ولد أذفونش شانجه من زوج المأمون بن (عباد) التي كانت تنصرت بنحو سبعة ألاف فارس "(1).

والثاني نص أورده الونشريسي في كتابه: " المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب " وقد جاء فيه عن موضوع الخوف على الأبضاع والفروج ما يلي: " ومنها الخوف من الفتنة على الأبضاع والفروج، ومتى يأمن ذو زوجة أو ابنة أو قريبة وضيئة أن يعثر عليها وضىء من كلاب الأعداء وخنازير البعداء، فيغرها في نفسها ويغرها في دينها، ويستولي عليها وتطاوعه، ويحال بينها وبين وليها بالارتداد في الدين، كما عرض لِكُنّة المعتمد بن عباد ومن لها من الأولاد، أعاذنا الله من البلاء وشماتة الأعداء "(2).

تلك هي الحقيقة حول أسطورة زائدة " ابنة " المعتمد بن عباد، وتقديم أبيها المعتمد إياها زوجة لألفونسو السادس، اكتساباً لمحالفته وعونه ضد المرابطين، وهي أسطورة لبثت عصوراً تمثل في الروايات الإسبانية الكنسية وغيرها كأنها حقيقة لا ريب فيها. وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة. والظاهر أن المؤرخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها، باعتبارها حادثاً لا أهمية له من الناحية التاريخية.

(1) وقع على هذا النص العلامة المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال في أوراق مخطوطة من البيان المغرب لم تنشر، عثر بها في مكتبة جامع القرويين بفاس، ونشر عنه مقالا عنوانه Zaida la Mora في مجلة Hispéris XVIII (1934) فكان ضوءاً جديداً قيماً على هذه الأسطورة.

(2)

وردت هذه الفقرة ضمن فتاوي الونشريسي في كتابه السالف الذكر طبع فاس سنة 1314 هـ. ويوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الإسكوريال رقم 1146 الغزيري. وقد نشرت أيضاً بصحيفة معهد الدراسات الإسلامية المصري بمدريد (المجلد الخامس ص 189).

ص: 348