الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
المملكة الإسبانية الكبرى
في عهد سانشو الكبير وولده فرناندو الأول
الممالك الإسبانية في أواخر القرن العاشر. نافار وليون وقشتالة. سانشو الكبير يحتل قشتالة. ولده فرناندو أول ملوكها. ألفونسو الخامس ملك ليون. ولده برمودو الثالث. استيلاء سانشو الكبير على ليون. مصرع برمودو الثالث. استيلاء فرناندو على ليون. تقسيم المملكة النصرانية بعد وفاة سانشو. الحرب بين راميرو ملك أراجون وأخيه غرسية ملك نافار. غرسية يحاول اغتيال فرناندو ملك قشتالة. إنتقام فرناندو. الحرب بين الأخوين. هزيمة غرسية ومقتله. تعيين ولده سانشو مكانه. إنهيار الأندلس الكبرى وقيام الطوائف. تحول ميزان القوى في شبه الجزيرة. ضعف دول الطوائف. تنافسها في استعداء الملوك النصارى. تفوق اسبانيا النصرانية ونهوض سياسة الإسترداد. غزو فرناندو الأول لولاية البرتغال. حصار بازو وسقوطها. سقوط لاميجو. تهديد شنترين. غزو فرناندو لمنطقة وادي الحجارة. المأمون بن ذى النون يسترضيه بالمال والخضوع. غزو فرناندو لمملكة إشبيلية. خضوع ابن عباد وتعهده بالجزية. موافقته على نقل رفات القديسين النصارى. مسير فرناندو لغزو قلمرية. حصارها وسقوطها. الكونت سسنندو يتولى حكمها. مسير فرناندو إلى بلنسية وموقعة بطرنة. مرض فرناندو ووفاته. تلقبه بالإمبراطور. أعماله الإنشائية. مجلس جويانسا. قوانينه الكنسية والدستورية. تنويه الرواية النصرانية بخلال فرناندو وعظمته.
مضينا فيما تقدم، في تاريخ المالك الإسبانية النصرانية، حتى نهاية القرن العاشر الميلادي، أعني حتى نهاية عهد المنصور بن أبي عامر، ونحاول الآن أن نتتبع تاريخ هذه الممالك خلال القرن الحادي عشر الميلادي، أعني خلال الحقبة التي شهدت سقوط الخلافة الأندلسية، وانهيار الأندلس الكبرى، وانتثارها إلى دول الطوائف. ثم سيرة الطوائف منذ قيامها حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، وانهيار هذه الدول الإسلامية الصغيرة.
كانت الممالك الإسبانية النصرانية في أواخر القرن العاشر الميلادي ثلاثاً، وهي نافار (نبرّة)، ويحكمها غرسية سانشيز، ولد سانشو غرسية الثاني.
وكانت نافار يومئذ أكبر الممالك النصرانية رقعة، إذ كانت تشمل فضلا عن الوطن الأصلي نافار، ولايات كنتبريا، وسوبرابي، ورباجورسا. ولما توفي
غرسية سانشيز، في سنة 1000 م، بعد حكم دام خمسة أعوام، خلفه في الحكم ولده سانشو الثالث الملقب بالكبير.
ومملكة ليون، وكان يحكمها برمودو الثاني منذ سنة 982 م، واستمر في حكمها بالرغم من مناوأة أخيه راميرو، ومحاربته له، حتى توفي في سنة 999 م، وخلفه في الحكم ولده ألفونسو طفلا، وتولى الوصاية عليه الكونت مننديث كونثالث، أحد أشراف المملكة.
ومملكة قشتالة. وكانت ما تزال في مرتبة " الكونتية " أو الإمارة، وكان على حكمها غرسية فرناندز ولد بطلها ومحررها فرنان كونثالث (1). ولما توفي في سنة 995 م، خلفه ولده سانشو غرسية فحكم حتى سنة 1021 م، ثم خلفه ولده غرسية. حدث أن قصد غرسية إلى ليون ليتم عقد زواجه بأخت ملكها برمودو الثالث، فقتل غيلة خلال وجوده بالكنيسة أثناء مراسيم الزواج (1028 م) وقتله أبناء الكونت فيلا، وهو أحد أشراف قشتالة الذي نزعهم غرسية أملاكهم.
وبمصرع غرسية انقطع نسل أسرته، وترتب على ذلك تغييرات عظيمة في مصاير الممالك الإسبانية.
ذلك أن سانشو الكبير ملك نافار كان متزوجاً من إلبيرة أخت غرسية، ابنة سانشو غرسية أمير (أو كونت) قشتالة، فلما لقى الكونت غرسية مصرعه في ليون، بادر سانشو إلى قشتالة، فاحتلها بصفته وارثاً لعرشها عن طريق زوجته، وندب لحكمها ولده فرناندو. وأسبغ عليه لقب الملك، فكان أول ملوك قشتالة. وتلقب هو بملك اسبانيا، وانتقم من آل فيلا قتلة غرسية، فأحرقهم أحياء، بالرغم من كونه جنى ثمار جريمتهم بامتلاك قشتالة.
وحكم ألفونسو الخامس مملكة ليون حتى وفاته في سنة 1027 م، وغزا أراضي المسلمين المجاورة في شمالي البرتغال، وافتتح بعض نواحيها، وحاصر مدينة بازو، وأصيب خلال ذلك بسهم مسموم قذفه به أحد الرماة المسلمين، فتوفي متأثراً بجراحه. وكان أشهر أعماله عقد المجلس الدستوري في سنة 1025 م، وفيه وضعت قوانين المملكة التأسيسية، وأصبح العرش وراثياً. ولما توفي خلفه ولده برمودو الثالث. وكان فرناندو ملك قشتالة، قد تزوج من ابنة ألفونسو
(1) ويسميه ابن الخطيب في الفصل الذي يخصصه لتاريخ ملوك اسبانيا النصرانية، دون شانجه قمز قشتالة (أعمال الأعلام ص 329).
أخت برمودو، بيد أن هذه المصاهرة لم تفعل شيئاً لتوثيق علائق المملكتين، وبالعكس فإن سانشو الكبير وولده فرناندو، كانا يريان في تلك المصاهرة وسيلة لانتزاع عرش ليون. على أن سانشو لم ينتظر سير الحوادث لتحقيق هذا الاحتمال، بل سار في قواته إلى ليون وافتتحها، وأعلن نفسه ملكاً عليها، وفر برمودو ليرقب الفرص لاسترداد عرشه.
ولما توفي سانشو الكبير ملك نافار، أوملك اسبانيا، في سنة 1035 م، استطاع برمودو أن يسترد جزءاً من أملاكه وأن يقيم بلاطه، وثارت بينه وبين صهره فرناندو ملك قشتالة الحرب، واستمرت مدى عامين، ثم كان اللقاء الحاسم بينهما في موقعة تامارون في سنة 1037 م وفيها لقى برمودو مصرعه.
ونظراً لوفاته دون عقب، فقد استولى فرناندو على مملكة ليون بحكم المصاهرة والوراثة، وغدا ملكاً على مملكة قشتالة وليون الموحدة. وانتهى بمقتل برمودو الثالث نسل ملوك اسبانيا النصرانية، منذ أيام القوط، ومذ قامت مملكة أشتوريش وجلِّيقية وليون في أواخر القرن الثامن الميلادي، كما انتهى من قبل نسل أمراء قشتالة.
- 1 -
وكان سانشو الكبير، قد قسم المملكة قبيل وفاته، بين أبنائه الأربعة، فخص فرناندو كما هو بملك قشتالة وليون وجليقية، وغرسية أكبر أولاده بالوطن الأصلي نافار، ممتداً من غرب البرنيه إلى منابع الإيبرو، وخص ولده غير الشرعي، راميرو، برقعة ضيقة تمتد بحذاء نافار من باب شيزروا جنوباً. وتسمى بمملكة أراجون، وولده كونزالو، بمنطقة صغيرة أخرى في أواسط البرنيه، وهي ولاية سوبرابي ورباجرسا. وهكذا غدت الممالك الإسبانية النصرانية، بهذا التقسيم أربعاً، وهذا عدا إمارة برشلونة الفرنجية الواقعة في شمال شرقي إسبانيا، وقد كان يحكها رامون برنجير الأول عميد آل برنجير.
وكان من جراء هذا التقسيم أن بدأت سلسلة جديدة من الحروب الأهلية بين الملوك الإخوة، وبدأت الحوادث باختفاء مملكة سوبرابي الصغيرة.
ذلك أن أميرها كونزالو قتل غيلة أثناء عوده من الصيد (1038 م)، فاختار
أهل سوبرابي أخاه راميرو أمير أراجون، ليخلفه في حكم الولاية، وبذا اتحدت الإمارتان في مملكة واحدة، ولم يعارض راميرو أحد من إخوته، إذ كان فرناندو ملك قشتالة مشغولا بتنظيم مملكته الكبيرة وتقويتها، وكان غرسية ملك نافار، غائباً يحج إلى رومة، وفضلا عن ذلك فقد كان شعب سوبرابي هو الذي اختار راميرو وآثره.
يقول المؤرخ لافونتي: " وكأنما كان روح الطمع والحسد والمنافسة، متأصلا في أسرنا الملوكية، ولم يفعل سانشو الكبير بتقسيم المملكة سوى أن زاد جراثيم الشقاق والموت "(1).
ذلك أن راميرو لم يقنع بالاستيلاء على ولاية سوبرابي، بل أخذ يطمح إلى الاستيلاء على مملكة نافار نفسها. ولما كانت موارده وأهباته قاصرة عن تحقيق مشروعه الكبير، فقد عقد مع جاره المسلم ابن هود أمير سرقسطة، حلفاً أمده بمقتضاه ببعض قواته، ثم زحف راميرو في قواته المتحدة من النصارى والمسلمين إلى نافار، واقتحم حدودها فجأة، ولكن قلعة تافالا اعترضت سيره المظفر. ولم يكن غرسية يتوقع من أخيه مثل هذا الاجتراء، فحشد قواته على عجل، خلال الوقت الذي استغرقه حصار القلعة، وسار إلى تافالا، فانقض بقواته على الجيش المغير تحت جنح الظلام، وكانت مفاجأة أخذ بها الأرجونيون، فساد بينهم الاضطراب، ومزقت صفوفهم قبل أن يستعدوا للقتال ولم يتمكن راميرو من الخلاص إلا بصعوبة ففر ناجياً بنفسه مع نفر من صحبه، وأبيد معظم جيشه قتلا وأسراً، وقتل كذلك معظم حلفائه المسلمين، ووقعت هذه الموقعة الحاسمة فيما يبدو سنة 1042 م.
ولجأ راميرو إلى شعب الجبال الوعرة في سوبرابي خشية المطاردة، بيد أن غرسية قنع فيما يبدو بنصره والقضا على جيش أخيه، ولم يحاول مطاردته داخل بلاده، وأنفق راميرو بضعة أعوام في تنظيم شئونه، والنهوض من عثرته، وأنشأ جيشاً جديداً، وسوف نراه فيما بعد يخوض معترك الحوادث مرة أخرى.
ثم اتخذت الحوادث وجهة أخرى، وانتقل ميدان الصراع إلى الجانب الآخر من اسبانيا النصرانية بين نافار وقشتالة. وكان غرسية ملك نافار، وهو أكبر
(1) Modesto Lafuente: Historia general de Espana (Madrid 1861) V.II.p. 433
إخوته، ينظر بعين الغيرة والحسد إلى فوز أخيه الأصغر فرناندو بحكم هذه المملكة العظيمة الشاسعة، مملكة قشتالة وليون، ويرى أنه أحق بملكها وأجدر، وكان يعول في تحقيق أمنيته على وسائل الغدر والغيلة، ولم يكن فرناندو في البداية يشك في ولاء أخيه أو صدق نياته، لاسيما وقد حارب إلى جانبه في معركة تامارون ضد برمودو ملك ليون، ومن ثم فقد وضع غرسية، مشروعه لاغتيال أخيه، وذلك بأن تظاهر بالمرض، وبعث إلى أخيه يبلغه أنه مريض على فراش الموت. وأنه يرجو رؤيته للمرة الأخيرة، فبادر فرناندو إلى تلبية هذه الرغبة، بيد أنه قد نمى إليه خلال سيره، حقيقة الكمين الذي دبر لاغتياله، فارتد مسرعاً إلى برغش، وقد أضمر لأخيه الغادر أسوأ النيات. ولم يفطن غرسية إلى أن أخاه قد وقف على حقيقة أمره. ثم جاء دور فرناندو في تدبير الانتقام من أخيه، فدعاه إلى زيارته في برغش بعد ذلك بأعوام قلائل، فسار إليه غرسية دون أية ريبة، ولكنه ما كاد يصل إلى أراضي قشتالة، حتى قبض عليه وزج إلى إحدى القلاع، بيد أنه لم يفقد شجاعته، ولم يلبث أن استطاع الفرار من معتقله، فعاد إلى نافار، معولا على الانتقام.
وهنا لم يكن مناص من وقوع الحرب بين الأخوين، وقد بدأ غرسية بالفعل بالإغارة على أراضي قشتالة ولم يلتفت إلى تحذير أخيه. ثم اعتزم أن يحاول الضربة الحاسمة. فعقد حلفاً مع أخيه وعدوه القديم راميرو وحشد كل ما استطاع من الجند والعدة، وأمده حليفه المقتدر بن هود صاحب سرقسطة بفرقة من جنده.
ونفذ بجيشه القوي إلى أراضي قشتالة، واثقاً في شجاعة جيشه. وكان أخوه فرناندو في تلك الأثناء يحشد من جانبه سائر قواته من قشتالة وليون. واستمر غرسية في سيره حتى وصل إلى سهل أتابوركا، الواقع على مقربة من شرقي برعْش، وحاول فرناندو مرة أخرى أن يجتنب الحرب مع أخيه، فبعث إليه اثنين من كبار الأحبار، يحاولان إقناعه بعقد الصلح وحقن الدماء، فصرفهما غرسية بخشونة. وفي فجر اليوم الأول من سبتمبر سنة 1054 م، اشتبك الجيشان في معركة عنيفة، وقاتل غرسية بشجاعة فائقة، بيد أن الخلل ما لبث أن دب إلى جيشه، إذ غادرته عدة كبيرة من الفرسان الناقمين إلى المعسكر الآخر، وشن فرسان ليون في نفس الوقت على النافاريين هجوماً عنيفاً، وأصابت غرسية،
وهو يقاتل في قلب المعمعة طعنة قاتلة، فسقط من جواده وأسلم الروح في الحال، بين يدي كاهنه، فانتثر شمل النافاريين، وركنوا إلى الفرار، وأغضى فرناندو عن مطاردتهم، وقصر أمر المطاردة على حلفائهم المسلمين، فمزقوا قتلا وأسراً.
وأمر فرناندو بأن يحمل جثمان أخيه بمنتهى التكريم، وأن يدفن في ناجرة في الكنيسة التي أنشأها هناك، وأعلن في الحال اختيار ولده الصبي سانشو مكانه ملكاً على نافار، وأعلن الملك الجديد من جانبه طاعته لعمه الظافر، الذي شاء أن يبقى له على تراث أبيه، ولم يقتطع فرناندو شيئاً من أراضي نافار سوى بعض النواحي الواقعة على ضفة الإيبرو اليمنى (1).
- 2 -
في الوقت الذي كانت فيه الممالك الإسبانية النصرانية تضطرم على هذا النحو بنار الحرب الأهلية، ويسقط ملوكها الأصهار والإخوة صرعى خلافهم وأطماعهم، كانت اسبانيا المسلمة من جانبها قد استحالت إلى أشلاء ممزقة، وقامت بها أكثر من عشرين دولة من دول الطوائف. وبينما كانت الخلافة تحتضر في قرطبة وتتردد أنفاسها الأخيرة بين الشريدين من بني أمية، وبين المتوثبين من بني حمود، كان أمراء الطوائف ومعظمهم حديث عهد بالرياسة والسلطان، يضطرمون بأطماعهم الوضيعة، ويجعلون بمنازعاتهم وحروبهم الأهلية الصغيرة، من الأندلس مسرحاً لفتنة غامرة لا يخبو أوارها ولا يستقر قرارها، والواقع أن المصير الذي تردت فيه الأندلس الكبرى على يد الطوائف وحروبهم الانتحارية، كان أتعس بكثير مما انحدرت إليه اسبانيا النصرانية من حروب أهلية محدودة النطاق والمدى، ولم تلبث أن أسفرت عن تماسك المملكة النصرانية، ووحدتها ونهوضها. ولقد كان من رحمة القدر فقط. أن أتيح لهذه الدويلات الإسلامية الصغيرة أن تحتفظ بحياتها، وأن شغلت عدوتها الخالدة اسبانيا النصرانية عن مطاردتها والقضاء عليها، بخلافاتها وحروبها الداخلية في تلك الفترة، أعني في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.
منذ بدإية هذا القرن، حدث في شبه الجزيرة انقلاب حاسم في ميزان
(1) راجع في تفاصيل هذه الحوادث: M.Lafuente: ibid; V.II.p. 382-383 وكذلك R.M.Pidal: La Espana del Cid; p. 122-123
القوى السياسية والعسكرية، فبعد أن كانت اسبانيا المسلمة، منذ أيام الناصر حتى نهاية عهد المنصور، تحتفظ بتفوقها العظيم على اسبانيا النصرانية، وتكاد تخضعها لصولتها، ويترامى ملوكها على أعتاب الخلافة القرطبية، ويؤدون لها الجزية في معظم الأحيان، إذا بها بعد انهيار الخلافة، وقيام دول الطوائف الهزيلة المتنابذة، تفقد كل منعة وكل مقدرة حقيقية على الدفاع، ويتسابق ملوكها إلى خطب ود الملوك النصارى، والالتجاء إليهم، واستعدائهم على محاربة بعضهم البعض. وقد كان الملوك النصارى، يبادرون إلى انتهاز هذه الفرص، حتى في فترات ضعفهم وتفرقهم، ويتخذونها وسيلة للتفوق العسكرى، والغنم المادي. وقد بدأت سياسة الاستعداء هذه للملوك النصارى منذ بداية الفتنة ذاتها، حيث نرى الأحزاب المتنافسة على اجتناء سلطان الخلافة، تستمد عون النصارى، على نحو ما فعل الفتى واضح ومحمد بن هشام المهدي في الاستنصار بأمير برشلونة، وسليمان بن الحكم والبربر، في استدعاء سانشو غرسية أمير قشتالة. على أن هذا التنافس في استعداء الملوك النصارى، والاستعانة بهم، يتسع نطاقه تباعاً، ويغدو على يد ملوك الطوائف، حسبما رأينا في أخبارهم، ضرورة سياسية وعسكرية يلجأون إليها بطريقة مستمرة منتظمة. وقد استغل الملوك النصارى هذه الظاهرة أعظم استغلال، حتى غدا ملوك الطوائف، في الواقع آلات مسخرة في آيديهم، ووصل هذا الإذلال إلى ذروته، حسبما رأينا، على يد ألفونسو السادس ملك قشتالة.
على أن ذلك لم يكن دون تمهيد من جانب القوة المادية، فقد استطاعت إسبانيا النصرانية، أن تمهد لتفوقها السياسي والعسكري في شبه الجزيرة، منذ أواسط القرن الحادي عشر، بسلسلة من الغزوات والفتوحات العظيمة، التي تبلورت على أثرها سياسة الاسترداد الإسبانية La Reconquista، وغدت ظاهرة قوية وعاملا حاسماً، في ميدان الصراع بين اسبانيا المسلمة وبين اسبانيا النصرانية.
وقد بدأت هذه السياسة على يد فرناندو الأول ملك قشتالة وليون، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بفرذلند، فإنه ما كاد ينتهي من الصراع الداخلي ْالذي نشب بينه وبين إخوته، حتى تأهب لغزو أراضي المسلمين. وفي سنة 1057 م، عبر في قواته نهري دويرة وتورمس، ونفذ إلى ولاية لوزيتانيا
(شمالي البرتغال)، وهي قاصية أراضي المسلمين من الشمال الغربي، وكانت هذه المنطقة المنعزلة النائية تابعة لمملكة بطليوس، بيد أنها كانت لبعدها تكاد تكون مستقلة بشئونها، وتعتمد في الدفاع على نفسها، فاجتاحها فرناندو وعاث فيها، واستولى على بعض الحصون، ثم قصد إلى مدينة بازو Vizeu، وضرب حولها الحصار. فدافع عنها أهلها المسلمون أشد دفاع وأعنفه، وأبدى الرماة المسلمون، كما أبدوا من قبل أيام أن حاصرها ألفونسو الخامس، براعة عظيمة في إصابة العدو، حتى اضطر النصارى إلى ارتداء دروع مثلثة، واضطر فرناندو إلى إنشاء فرقة من حملة المقالع، وانتهى القشتاليون بأن اقتحموا المدينة بمنتهى العنف، وأمعنوا في أهلها قتلا وأسراً. وكان من بين الأسرى، ذلك الرامي الماهر، الذي أصاب بسهمه المسموم ألفونسو الخامس من قبل ذلك بثلاثين عاماً، فأمر فرناندو به فسملت عيناه وقطعت يداه ورجلاه، وعذب حتى أسلم الروح. ثم سار فرناندو بعد ذلك إلى لاميجو (لميقة) الواقعة شمال بازو، وكانت حصينة عالية الأسوار، فاقتحمها واستولى عليها بعد ذلك ببضعة أشهر، وقتل معظم أهلها وأسرهم، واسترق الأسرى من أهل المدينتين، وأسكن بهما النصارى. ولم يتحرك ابن الأفطس صاحب بطليوس، وهو صاحب السيادة على تلك الأنحاء، ليقينه باستحالة الدفاع عنها، وذلك حسبما أشرنا إليه من قبل في أخبار مملكة بطليوس.
وقد سبق أن أشرنا كذلك فيما تقدم إلى الحملة التي بعث بها فرناندو ضد مدينة شنترين الواقعة في شمالي أشبونة على نهر التاجه، وكيف اضطر ابن الأفطس عندئذ إلى أن يتعهد بأن يدفع إلى قشتالة جزية قدرها خمسة آلاف دينار.
وكان فرناندو يطمح إلى أن يخضع ملوك الطوائف جميعاً، ولاسيما ابن عباد وابن ذى النون، وهما يومئذ أقوى أولئك الملوك وأعظمهم شأناً. ومن ثم فقد خرج في جيشه في سنة 1062 م، إلى انحاء مملكة طليطلة الشمالية الشرقية، وأغار على مدينة سالم، وأوسيدا، وطلمنكة، ووادي الحجارة، وقلعة النهر (ألكالا دي هنارس) وعاث في بسائطها تخريباً وسبياً. فاستغاث أهل هذه الأنحاء بالمأمون ابن ذى النون صاحب طليطلة، وجمع المأمون مقادير كبيرة من الذهب والفضة والأقمشة الفاخرة، وسار بنفسه إلى معسكر الملك النصراني، وقدم إليه الهدايا،
وأعلن اعترافه بطاعته، وتعهده بأداء الجزية، فقبل فرناندو المال والعهد، وعاد مثقلا بالغنائم والتحف.
وفي العام التالي، خرج فرناندو فأغار على أراضي مملكة إشبيلية، وخرب بسائطها، واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون، وأن يقصد إلى فرناندو ومعه هدية جليلة من الأموال والتحف، يناشده المودة والسلم، على أن يؤدي له الجزية، فأجابه فرناندو إلى رغبته، وطلب إليه أن يمكنه من نقل رفات القديسة خوستا، وكانت هذه القديسة قد استشهدت أيام الإمبراطور دقلديانوس ودفنت في إشبيلية، فوعد ابن عباد بتحقيق رغبته، وأرسل فرناندو إلى إشبيلية بعثة من أكابر رجال الدين للقيام بهذه المهمة، ولكنها لم تستطع الاهتداء إلى قبر هذه القديسة، وعندئذ زعم أحد أعضائها، وهو الأسقف ألفيتو، أنه قد ظهر له القديس إسيدورو، وقد كان من أساقفة إشبيلية أيام القوط، وقال له إن رفات القديسة خوستا يجب أن تبقى في مكانها لحماية إشبيلية، وعرض أن تحمل رفاته هو، وكشف عن مكان وجودها، ووجدت بالفعل رفات هذا القديس في المكان المحدد، فحملت إلى ليون ودفنت هنالك باحتفال فخم، في الكنيسة التي سميت من ذلك التاريخ باسمه، أعني بكنيسة سان إسيدورو، وكان ذلك في أوائل ديسمبر سنة 1065 م (1).
وكان فرناندو على أثر إخضاعه لملوك بطليوس وطليطلة وإشبيلية لصولته، وأرغامهم على دفع الجزية، قد وضع خطته للاستيلاء على مدينة قُلُمرية، وهي أعظم القواعد الإسلامية، في شمال غربي البرتغال، بيد أنه رأى قبل مسيره أن يستمد العون والبركة، من القديس ياقب، فقصد إلى مزاره بشنت ياقب، وقضى به ثلاثة أيام في صلوات ودعوات وخشوع، ثم سار إلى قلمرية في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار (يناير سنة 1064 م). وقد سبق أن عرضنا إلى حصار قلمرية، وأشرنا إلى ما تقصه الرواية الإسلامية، من أن راندة، قائد الحامية الإسلامية، غادر المدينة سراً مع أهله بتفاهم مع فرناندو، وأن ابن الأفطس قضى فيما بعد بإعدامه جزاء له على خيانته، وترك ابن الأفطس قلمرية إلى مصيرها كما فعل بالنسبة لبازو. بيد أن أهل قلمرية دافعوا عن أنفسهم
(1) راجع: M.Lafuente: ibid ; V.II.p. 388 & 389.
وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 135
أشد دفاع. واستمر الحصار حولها زهاء ستة أشهر، حتى نضبت أقوات الجيش المحاصر نفسه، وكاد يرفع الحصار. ولكن رهبان دير لورفان القريب، أمدوه بمؤنهم المخزونة في الجبال. وأخيراً نجح القشتاليون في إحداث عدة ثغرات في أسوار المدينة، واضطر قائد المدينة إلى طلب الأمان، واتفق على أن يسمح لأهلها بأن يخرجوا مع نسائهم وأولادهم، تاركين أموالهم للفاتح، ولكن الجند المدافعين رفضوا هذا الاتفاق، واستمروا في الدفاع حتى نفدت سائر الأقوات، وعندئذ اقتحم القشتاليون المدينة، وأسروا من المدافعين، ومن أهل المدينة، أكثر من خمسة آلاف، ودخل فرناندو قلمرية في اليوم الحادي عشر من يوليه، ومعه الملكة دونيا سانشا، ورهط من الأساقفة ورجال الدين (1). وعهد بحكم المدينة إلى رجل كان له فيما بعد شأن في صوغ السياسة القشتالية نحو الطوائف، هو الكونت المستعرب سسنندو دافيدس، الذي تعرفه الرواية الإسلامية بششنند.
وكان حسبما أسلفنا في أخبار مملكة إشبيلية من أهل هذه المنطقة، وأسر في حداثته في غارة قام بها القاضي ابن عباد ضد ابن الأفطس، وربى في البلاط العبادي وأعجب المعتضد فيما بعد بمواهبه، وقربه واستخدمه في السفارة بينه وبين فرناندو، ثم غادر إشبيلية بعد ذلك، والتحق بخدمة البلاط القشتالي (2)، وقربه فرناندو وأولاه رعايته لما كان عليه من معرفة تامة باللغة العربية، والدين الإسلامي، وأحوال المسلمين وعاداتهم. فحكم سسنندو قلمرية بكفاية، ونال احترام النصارى، والمسلمين على السواء، وكان يلقب عندئذ " بالوزير " على النمط الإسلامي، وفي عهده نمت قلمرية، وأنشئت بها عدة صروح فخمة. وفي بعض الروايات أن سسنندو لم يكن حاكماً لطليطلة على أثر افتتاحها، حسبما تقدم ذكره في موضعه، وأنه بالعكس استمر حاكماً لإقليم قلمرية حتى توفي سنة 1091 م (3).
وتضع الرواية الإسلامية تاريخ سقوط قلمرية في سنة 456 هـ (1064 م) متفقة في ذلك مع الرواية النصرانية، بيد أنها تختلف معها في بعض التفاصيل.
وقد سبق أن عرضنا فيما تقدم من أخبار مملكة بطليوس، إلى أقوال الرواية
(1) راجع في حوادث فتح قلمرية M.Lafuente: ibid ; V.II.p. 384 & 385 وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 145 & 149
(2)
الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129.
(3)
I.de las Cagigas: Los Mozarabes، p. 461
الإسلامية (1) وأشرنا إلى ما عمد إليه فرناندو من إجلاء سائر المسلمين عن الأراضي الواقعة في شمال البرتغال بين نهري منهو ودويرة.
ونحن نعرف مما تقدم في أخبار مملكة بلنسية، أن فرناندو، خرج في قواته في أوائل سنة 1065 م، أعني بعد استيلائه على قلمرية ببضعة أشهر، قاصداً إلى بلنسية، يبغى افتتاحها، وأنه اخترق في طريقه أراضي مملكة سرقسطة الجنوبية، وعاث فيها معاقبة لأميرها المقتدر بن هود لتخلفه عن دفع الجزية، ثم ضرب الحصار حول بلنسية. ولكنه لما رأى صعوبة الاستيلاء عليها نظراً لمناعة أسوارها، وأهبة أهلها، تظاهر بمغادرتها، وانسحب بقواته إلى مكان قريب منها. وعندئذ خرج البلنسيون دون تحوط، وفاجأهم القشتاليون في بطرنة وهزموهم هزيمة شنيعة حسبما فصلنا ذلك في موضعه.
وكان فرناندو قد شعر حينئذ بالمرض، فآثر العودة إلى ليون، وهنالك احتفل بدفن رفات القديس إسيدورو في أوانل ديسمبر. وكان في الواقع مرض موته، ذلك أنه لم تمض أيام قلائل على ذلك، حتى توفي في السابع والعشرين من ديسمبر سنة 1065، ودفن في نفس الكنيسة التي دفن فيها القديس، والتي غدت من ذلك الحين مدفناً لملوك قشتالة.
وكان فرناندو الأول من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية، وفي عهده أحرزت اسبانيا النصرانية تفوقها الواضح على اسبانيا المسلمة، ومهد حكمه الملىء بالوقائع المظفرة لمجد الملوك اللاحقين، وقد أسبغت عليه الرواية لقب الكبير El Magno، وكان يسمى نفسه بالإمبراطور، ويدعي لنفسه مركز التفوق والسيادة على ملكي نافار وأراجون. وفي عهده اتسعت رقعة مملكة قشتالة اتساعاً عظيماً، ودفعت حدودها إلى الجنوب والشرق والغرب على حساب المملكة الإسلامية، واقتطعت منها كثيراً من البلاد والحصون. وقد كانت غزواته، بالرغم مما ينسب إليه من التقى والورع، تتسم بنزعة دموية مروعة، تبدو واضحة في قسوته وفظاعته في معاملته المدنيين من أهل البلاد الإسلامية المفتوحة، وسفك دمائهم دون تمييز ولا حرج، واسترقاقهم جملة. وقد اشتهر فضلا عن غزواته وفتوحه المظفرة، بأعماله الإنشائية والدستورية، فقد جدد مدينتي ليون وسمورة،
(1) راجع سقوط قلمرية في البيان المغرب ج 3 ص 238 و 239، وأعمال الأعلام ص 184.
وكانتا قد خربتا منذ غزوات المنصور بن أبي عامر. وأنشأ في ليون عدة صروح وكنائس فخمة، ما زالت تزدان بها حتى اليوم. وفي سنة 1050 م، دعا إلى عقد اجتماع كنسي تأسيسي في " جويانسا " اعتبر في نفس الوقت مجلساً نيابياً "كورتيس "، وشهدته الملكة والأشراف والأساقفة، وصدرت عنه عدة أصول كنسية ودستورية، كان لها أكبر الأثر في صوغ النظم التأسيسية لمملكة قشتالة ْفيما بعد. ومنها أن يُعمل في جميع الكنائس والأديار بدعوة القديس بندكت، وأن يحرم على رجال الدين حمل السلاح والزواج، أو شهود مآدب الزواج. وحصلت الكنيسة على امتيازات كثيرة، منها أنه لا يمكن الاستيلاء على أملاكها بالتقادم، وأن المتهم بجريمة ما، إذا صار على قيد ثلاثين خطوة من عتبة الكنيسة، أضحى تحت حماية القضاء الكنسي، وهو أثر من آثار التشريعات القوطية القديمة، وأن القوامس (الكونتات) يجب عليهم هم ونوابهم في القضاء الجنائي، أن يحرصوا على تحري العدالة والحق، وفقاً لأحكام الشرائع القوطية، وأن تطبق في مملكة ليون قوانين ألفونسو الخامس المسماة Buenos Fueros ( القوانين الطيبة) وفي مملكة قشتالة لوائح سانشو المسماة Benefactorias وأن يقضي على المجرمين والعصاة بفقد الشرف والمناصب وبالنفي من الكنسية، وصدرت كذلك عدة لوائح للتمييز بين النصارى والمسلمين واليهود الذين يقيمون في المملكة (1).
وتنوه التواريخ الإسبانية بخلال فرناندو، وعظمة عهده، ومقدرته كسياسي ومحارب، وتنوه بالأخص بتقواه وورعه. وفائق رعايته للكنيسة، وشغفه بإنشاء الكنائس والأديار وتجميلها، والإغداق عليها، واهتمامه بنقل رفات القديسين من أراضي المسلمين إلى الأراضي النصرانية، وهي ترى على العموم أن مملكة قشتالة وليون المتحدة، قد وصلت في عهده إلى درجة من الاستقرار والأهمية والتفوق، لم تصل إليها من قبل قط (2).
(1) راجع تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (ترجمة محمد عبد الله عنان) الطبعة الثانية ص 13 و 14.
(2)
M.Lafuente: ibid، Vol.II.p. 485-488