الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل
مملكة سرقسطة
حتى نهاية عصر المقتدر بن هود
1 -
عهد بني تجيب
مملكة سرقسطة أو الثغر الأعلى. بنو تجيب وتغلبهم عليه. مؤامرة عبد الرحمن التجيبي ضد المنصور وفشلها. ولده يحيى. المنذر بن يحيى وإمارته للثغر. تأييده للخلافة الأموية. محاربته مع الفتيان العامريين. تدخله في حوادث بلنسية. مسالمته للملوك النصارى. بذخه وأبهته، مديح ابن دراج له. ولده يحيى. منذر بن يحيى الحاجب. مصرعه على يد سليمان بن حكيم. الفتنة في سرقسطة. سليمان بن هود. استيلاؤه على سرقسطة وبداية عهد بني هود. تلقبه بالمستعين. حروبه مع المأمون بن ذى النون. استغاثته بملك قشتالة. استعانة المأمون بملك نافار. تفاقم العدوان بين الفريقين. وفاة المستعين. تقسيمه لمملكته بين أولاده. الحرب الأهلية بينهم. أحمد بن هود المقتدر. الصراع بينه وبين أخيه المظفر. كمينه لقوات أخيه وفتكه بها. إستيلاء المقتدر على طرطوشة. طرطوشة تحت حكم الفتيان العامريين. غزوة النورمانيين لبربشتر. أصل هذه الحملة وظروفها. صفتها الصليبية. حصار النورمانيين لبربشتر واقتحامهم لها. فظائع النورمانيين وفتكهم بأهلها. رواية ابن حيان. فداحة الغنائم والسبايا. تأملات ابن حيان عن الحادث. نظراته وتكهناته البعيدة. صدى النكبة في الأندلس. نهوض المقتدر لاسترداد بربشتر وتقاطر المجاهدين إليها. استيلاء المقتدر على المدينة. الفتك بالنصارى وإبادتهم. إعتداء فرناندو ملك قشتالة على أعمال سرقسطة. خضوع المقتدر لأداء الجزية. المقتدر وعلاقته بالملوك النصارى. استعانته بهم. مشاريعه العسكرية. المقتدر وأخوه يوسف المظفر. السيد إلكمبيادور في خدمة المقتدر. استيلاء المقتدر على مملكة دانية. وفاة المقتدر. تقسيمه للمملكة بين ولديه. صفات المقتدر بن هود وخلاله. شغفه بالعلوم الرياضية. فخامة بلاطه. إنشاؤه لقصر الجعفرية ومجلس الذهب.
كانت مملكة سرقسطة أو الثغر الأعلى أعظم ممالك الطوائف وأهمها، ليس فقط بضخامة رقعتها، ولكن كذلك بموقعها الدقيق الخطر، بين الدول الإسبانية النصرانية، بين قطلونية من الشرق، ونافارا أو نبرّه من الشمال الغربي، وقشتالة من الجنوب والغرب، وكانت في الوقت نفسه أقدم الدول الأندلسية المستقلة، وأرسخها جذوراً في الاستقلال. ذلك أنها كانت بموقعها المنعزل النائي في شمال شرقي الجزيرة، وابتعادها بذلك عن مجموعة الدول الأندلسية
الأخرى، تضطر دائماً إلى مضاعفة الجهود للذود عن حياتها، والدفاع عن استقلالها ضد مختلف الأطماع المضطرمة من حولها.
وكانت مملكة سرقسطة، قبل اضطرام الفتنة وانهيار الخلافة، وقبل أن تنتظم في سلك ممالك الطوائف، تعرف بولاية الثغر الأعلى، وهو يشمل في الجغرافية الأندلسية، مدينة سرقسطة وأعمالها، تطيلة، ووشقة، وبربشتر، ولاردة، وأفراغة، وطرّكونة، وطرطوشة، ويشغل المنطقة الواسعة الخصبة التي يخترقها نهر إيبرو (إبرُه) من مصبه عند مدينة طرطوشة، حتى مدخله عند مدينة قلهرّة في ولاية نافار، ويخترقها فرعه الشمالي الكبير نهر سجري والأفرع الصغيرة الممتدة منه نحو بربشتر ووشقة، وفرعه الجنوبي خالون حتى قلعة أيوب ودَروقة: ففي هذه المنطقة الشاسعة التي تكثر فيها الوديان اليانعة والمواقع الاستراتيجية، كانت تقوم مملكة سرقسطة مكان ولاية الثغر الأعلى القديمة، مشتملة على سائر نواحيها.
وقد لبثت ولاية الثغر الأعلى خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) مسرحاً لمغامرات بني قسيّ زعماء الثغر المولدين، حسبما فصلنا ذلك في مواضعه من العصر الأول (1).
وفي أواخر هذا القرن، في عهد الأمير عبد الله بن محمد، استطاع بنو تجيب أصحاب دروقة وقلعة أيوب من أعمال الثغر الجنوبية، الاستيلاء على مدينة سرقسطة، وذلك على يد زعيمهم أبي يحيى محمد بن عبد الرحمن التجيبي المعروف بالأنقر. وأقره الأمير عبد الله على حكم سرقسطة وأعمالها اكتساباً لولائه، وكان بنو تجيب هؤلاء من زعماء البيوتات العربية العريقة في الثغر، واستمر بنو تجيب في سرقسطة، والمنتزون من زعماء المولدين في باقي قواعد الثغر مثل تطيلة ووشقة، أحياناً على ولائهم لحكومة قرطبة، وأحياناً يخرجون على طاعتها، حتى استطاع الناصر أن يقضي على ثوراتهم، وأن يرغمهم على الخضوع والطاعة، بيد أنه عفا عن بني تجيب، ورد زعيمهم محمد ابن هشام التجيبي إلى منصبه حاكماً لسرقسطة، لما كان يتمتع به من مقدرة إدارية، ولما كان لبني تجيب في الشمال من العصبة والأنصار.
(1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس "(العصر الأول).
وفي أيام المنصور بن أبي عامر، شعر بنو تجيب بما يهدد سيادتهم في الثغر من اتجاه المنصور إلى القضاء على سلطان الأسر العربية، وزعامتها المحلية، فحاول زعيمهم يومئذ وهو عبد الرحمن بن مطرِّف التجيبي، صاحب سرقسطة أن يسعى إلى إزالة المنصور بالتآمر مع ولده عبد الله. وقد فصلنا أخبار هذه المؤامرة فيما تقدم من أخبار الدولة العامرية (1)، وبينا كيف استطاع المنصور أن يقبض على عبد الرحمن التجيبي، وعلى عبد الله، ثم قضى بإعدامهما، بيد أنه مع ذلك ندب لحكم سرقسطة، يحيى بن عبد الرحمن التجيبي استبقاء لولاء الأسرة جرياً على سياسة أسلافه، وذلك في سنة 379 هـ (989 م).
واستمر يحيى التجيبي في حكم سرقسطة وأعمالها حتى وفاته في سنة 408 هـ (1017 م)، وشهد قبل وفاته اضطرام الفتنة، وانهيار الخلافة، وتمزق الأندلس، وكان جل عنايته في تلك الآونة العصيبة أن يحافظ على بلاده من عدوان النصارى، وأن يوطد سلطانه في مملكته النائية المنعزلة عن مسرح الحوادث. ولما توفي، خلفه ولده المنذر بن يحيى التجيبي.
ويمكننا أن نعتبر المنذر بن يحيى التجيبي أول أمير للثغر في عهد الطوائف.
حكم سرقسطة وأعمالها، وتسمى بالحاجب ذي الرياستين، وتلقب من الألقاب السلطانية بالمنصور، ولما تطورت الحوادث في قرطبة ودخلها علي بن حمود بحجة إنقاذ الخليفة هشام المؤيد، ودعا لنفسه بالخلافة، كان المنذر بن يحيى إلى جانب خيران وزملائه الفتيان العامريين في معارضته ومقاومته. ولما رشح هؤلاء للخلافة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الناصر، وتلقب بالمرتضي، وساروا معه هم وأنصارهم في قواتهم لمقاتلة البربر، وخلع علي بن حمود، سار معهم المنذر بن يحيى في بعض قواته، ومعه فرقة من المرتزقة النصارى بقيادة حليفه الكونت رامون أمير برشلونة، وكان من ضباطه في تلك الحملة رجل كان له فيما بعد أكبر شأن في تطور الحوادث في الثغر الأعلى هو سليمان بن هود.
ونحن نعرف ما أسفرت عنه المعركة التي اضطرمت يومئذ في ظاهر غرناطة بين القوات الأندلسية، وجيش البربر بقيادة زاوي بن زيري الصنهاجي، وكيف
(1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس "(العصر الأول).
انتهت بهزيمة أهل الأندلس، ومقتل مرشحهم الخليفة المرتضي (409 هـ - 1018 م)(1).
وعاد المنذر وحلفاؤه النصارى إلى الشمال، وقد أيقن أنه يؤازر قضية خاسرة، وكانت حوادث بلنسية تؤذن يومئذ بأن تفتح ميداناً جديداً لنشاط المنذر.
ذلك أنه لما توفي أميرها الفتى مبارك في أواخر سنة 408 هـ، وخلفه في حكمها الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة بدعوة من أهلها، ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري صاحب دانية حسبما فصلنا ذلك في موضعه، عاد أهل بلنسية فسخطوا على لبيب، لوقوعه تحت نفوذ صاحب برشلونة الكونت رامون برنجير، وإفساحه له مجال التدخل في شئونها بصورة ظاهرة، وثاروا عليه، ففر لبيب إلى طرطوشة، واستمر مجاهد في حكم المدينة بالإضافة لحكم دانية.
ولكن أهل بلنسية لم يقنعوا بذلك، واستدعوا لحكم المدينة المنذر بن يحيى، فسار في بعض قواته صوب بلنسية، واستعد مجاهد للقائه، ووقعت بينهما بعض معارك خشى الناس عواقبها، ولم ينقذ ذلك الموقف إلا ما عمد إليه الفتيان العامريون من الاجتماع، وعقد البيعة لحفيد مولاهم عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن المنصور، وتعيينه أميراً لبلنسية، وذلك في سنة 411 هـ (1021م) وعندئذ انسحب مجاهد إلى دانية، وعاد المنذر إلى سرقسطة (2).
واستمر المنذر في حكم مملكة سرقسطة ثلاثة أعوام أخر حتى توفي في سنة 414 هـ (1023 م). وكانت تربط المنذر بجيرانه الأمراء النصارى، ولاسيما رامون بوريل أمير برشلونة علائق مودة وثيقة، وكذلك كانت تربطه مثل هذه العلائق بسانشو الكبير (شانجه) ملك نافار وولده فرناندو الأول ملك قشتالة، وألفونسو الخامس ملك ليون. وقد بالغ المنذر فيما يبدو في صداقته لأولئك الملوك النصارى، حتى أنه نظم في قصره بسرقسطة، حفلا لعقد المصاهرة بين أميرين من أولئك الأمراء، هما سانشو ملك نافار ورامون بوريل أمير برشلونة، حضره الفقهاء والقساوسة وأعيان الملتين، فسخط عليه الناس من أجل ذلك، ورموه بألسنة حداد، بيد أنه قد حقق بهذه السياسة لنفسه مسالمة
(1) البيان المغرب ج 3 ص 126 و 127. وراجع Dozy: Hist.V.II.p 315-318
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 163 و 164.
أولئك الملوك النصارى، وكف عاديتهم عن بلاده، بل لقد استطاع أن يحملهم على اتباع سياسة الموادعة والسلم مع جيرانهم من الملوك المسلمين. ومن ثم فقد تمتعت سرقسطة في عهده القصير بفترة من الدعة والرخاء، وغدت باتساع عمرانها وتقدم أحوالها، شبيهة بحضرة قرطبة الكبرى أيام الجماعة، وأدرك الناس بعد وفاته، بعد نظره وحسن تقديره للعواقب (1).
وكان المنذر فوق ذلك يعشق الأبهة والبذخ، فملأ قصره الفخم بالجواري والغلمان والحشم، ونفيس الذخائر والتحف، وكان يتحف أصدقاءه ملوك النصارى بالهدايا الفاخرة، ويؤكد بذلك مودتهم ورضاهم وكان بين وزرائه بعض أكابر كتاب العصر، مثل أبى العباس بن مروس من تدمير، وأبى عامر ابن أزرق، وابن واجب وغيرهم.
وأنشأ شاعر العصر أبو عمر بن درّاج القسطلي في مديح المنذر حينما وفد عليه قصيدته المشهورة التي مطلعها:
ْبشراك من طول الترحل والسُّرى
…
صبح بروح السَّفر لاح فأسفرا
من حاجب الشمس الذي حجب الدجى
…
فجرا بأنهار الندى متفجرا
ومنها:
فلئن تركت الليل فوقي داجياً
…
فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
وحللت أرضاً بُدلت حصباؤها
…
ذهباً يرف لناظريّ وجوهرا
ضربوا قِداحهم عليّ ففاز بي
…
من كان بالقِدْح المعلّى أجدرا (2)
ولما توفي المنذر، خلفه ولده يحيى، وتلقب بالمظفر، وحكم سرقسطة وأعمالها بضعة أعوام أخرى، وتوفي سنة 420 هـ (1029 م). والظاهر أنه لم يحكم سياسة الصداقة التي كان يتبعها أبوه مع جيرانه أمراء برشلونة، حيث أغار صاحبها الكونت رامون بوريل على بعض أطراف مملكته، واضطر أن ينزل له عن بعض القلاع والحصون.
وخلفه في الملك ولده المنذر بن يحيى، وتلقب بالحاجب معز الدولة.
ولسنا نعرف شيئاً عن أعمال هذا الأمير في المدة التي حكمها، وهي نحو عشرة
(1) البيان المغرب ج 3 ص 176 و 177، وابن خلدون ج 4 ص 163. وراجع دوزي Recherches، V.I.App.XIV & XVII
(2)
وهي قصيدة طويلة رائعة. وقد وردت في ديوان ابن دراج الذي سبقت الإشارة إليه ص 124 - 130. وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة منها مقتطفات طويلة (الذخيرة - القسم الأول المجلد الأول - ص 56 - 58).
أعوام. بيد أن لدينا تفاصيل مقتله، وذهاب ملك بني تجيب على يده. وكان ذلك في غرة ذي الحجة سنة 430 هـ (أغسطس 1039 م) حينما نفذ إلى قصره في ذلك اليوم رجل من بني عمومته وقواده يدعى عبد الله بن حكيم، جاء بزعم السلام عليه، وكان يضمر له السوء منذ بعيد. وكان المنذر يجلس بين نفر قليل من خدمه الصقالبة، وليس عليه إلا غلالة، وهو يقرأ في كتاب في يده، فانقض عليه وطعنه في عنقه بسكين كان قد أعده، فقطع أوداجه، وفر الخدم في الحال ولم يبق منهم إلا خادم واحد شهم حاول الدفاع عن سيده، فصرعه عبد الله بخنجره ثم أجهز على منذر، واحتز رأسه، وأبرزها من غرفة في القصر مرفوعة على عصا، وهو يصيح هذا جزاء من عصى أمير المؤمنين هشاماً، يريد بذلك الدّعي الذي نصبه القاضي ابن عباد في إشبيلية، وزعم أنه الخليفة هشاماً المؤيد، وذلك في سنة 426 هـ (1035 م)، واعترف بخلافته عدد من أمراء الطوائف، ورفض يحيى التجيبي يومئذ الاعتراف به، وتابعه في ذلك ولده المنذر. ولما شهد الناس رأس منذر بهتوا وعقد الذعر ألسنتهم، وأرسل القاتل في الحال إلى القاضي والأعيان، فحضروا إلى القصر والقاتل جالس على فراش قتيله، وجثة منذر مضرجة بدمائها ملقاة إلى جانبه، فأعلن لهم أنه فعل ما فعل في سبيل الإصلاح العام، ودعا بالحكم لسليمان بن هود، وقيل بل دعا لنفسه واختاره بنو عمه للولاية فانصرف الناس، وقد بيتوا القضاء عليه.
وفي تلك الأثناء كان نبأ مصرع المنذر بن يحيى التجيبي قد ذاع في كل مكان، وهرع خاله إسماعيل بن ذى النون صاحب طليطلة إلى سرقسطة لتدارك الأمر، واشتد الهرج في سرقسطة، وكادت تعصف بها الفتنة، وهجم الناس على القصر لانتزاع القاتل ومعاقبته، فتحصن بالقصبة، وصمم على الدفاع عن نفسه، بيد أنه لما أيقن أنه سوف يقع في أيدي مهاجميه لا محالة، جمع ما استطاع من ذخائر القصر وتحفه، وخرج هارباً من باب خلفي في القصر، ولحق بقلعة روطة أحد معاقل سرقسطة المنيعة، وكان قد أعدها لذلك بمعاونة نفر من صحبه، وحمل معه في نفس الوقت أخوين للمنذر، وبعض أعيان منهم وزيره أبو المغيرة بن حزم، في الأصفاد ليكونوا رهائن لديه، واقتحم العامة قصر سرقسطة ونهبوه وخربوه، وعم الهرج والفوضى.
وفي تلك الآونة ظهر في الميدان رجل، كانت تدخره الأقدار ليقمع الفتنة، وينتزع مقاليد الحكم. ذلك الرجل هو أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجذامي، وهو كبني تجيب ينتمي إلى بيت عربي عريق، وجدهم الأعلى هو هود وهو الداخل إلى الأندلس وينتسب إلى الأزد. وكان سليمان وقت وقوع الفتنة من كبار الجند بالثغر الأعلى، فغلب على مدينة لاردة، وقتل صاحبها يومئذ، وهو أبو المطرِّف التجيبي، ثم غلب على تُطيلة من أطراف الثغر، وكان بها في جمع من صحبه وقت مقتل المنذر التجيبي، فلما وقف على ما حدث بسرقسطة، هرع إليها في صحبه، وقيل بل كان وقت وقوع الحادث بمدينة لاردة، وأن أهل سرقسطة هم الذين استدعوه للحضور. ويقدم لنا ابن خلدون رواية أخرى خلاصتها أن سليمان بن هود هو الذي ارتكب جريمة سرقسطة، وأن الملك القتيل لم يكن هو المنذر معز الدولة، وإنما كان أبوه يحيى المظفر، وهو الذي كان يحكم يومئذ، ويضع تاريخ هذا الحادث في سنة 431 هـ (1).
ولم يذكر ابن الخطيب واقعة القتل، ويقول لنا إن أهل سرقسطة هم الذين ثاروا بيحيى بن المنذر بن يحيى، وصرفوا طاعتها إلى سليمان بن هود (2). بيد أن هاتين الروايتين تنقضهما رواية ابن حيان المعاصرة، وهي التي اتبعناها فيما تقدم، وهي رواية يؤيدها صاحب البيان المغرب (3).
وعلى أي حال فقد هرع سليمان بن هود في صحبه إلى سرقسطة، واستولى عليها في غرة المحرم سنة 431 هـ (23 سبتمبر سنة 1039 م) وسواء أكان استيلاؤه عليها نتيجة لدعوة أهلها، واختيارهم إياه لولايتها، أم كان عملا من أعمال القوة وهو الأرجح، فإن الواقع أنه استولى على مقاليد الحكم دون منازع، وبذلك انتهت رياسة التجيبيين للثغر الأعلى، بعد أن لبثت زهاء قرن ونصف، وبدأت في سرقسطة والثغر الأعلى رياسة أسرة جديدة هي أسرة بني هود، التي يخصها ابن الأبار دون غيرها من أسر الطوائف، بغلبة الشجاعة والشهامة عليها (4).
(1) ابن خلدون ج 4 ص 163.
(2)
أعمال الأعلام ص 170.
(3)
راجع رواية ابن حيان مفصلة في البيان المغرب ج 3 ص 178 - 181، وقد عاد صاحب البيان فأورد رواية مماثلة: ج 3 ص 221 و 222.
(4)
الحلة السيراء (دوزي) ص 224. والقاهرة ج 2 ص 246.
والتي لعبت في عصر الطوائف، ولاسيما في حوادث الثغر الأعلى وشرقي الأندلس، أعظم دور.
2 -
عهد بني هود
جلس سليمان بن محمد بن هود على عرش سرقسطة في غرة المحرم سنة 431 هـ وحكم الثغر الأعلى ما عدا طرطوشة، التي كانت بيد بعض الفتيان العامريين، واتخذ من الألقاب السلطانية لقب المستعين بالله، وظهر منذ البداية بقوة عزمه وشدة بأسه، فاشتهر أمره، وتوطد ملكه بسرعة، واستمر في حكم مملكته الجديدة ثمانية أعوام. وكان أهم ما وقع فيها حروبه مع المأمون بن ذى النون.
وكانت المنطقة الواقعة بين المملكتين، من ناحية الجنوب الغربي من مملكة سرقسطة وناحية الشمال الشرقي من مملكة طليطلة، موضع الاحتكاك بين الفريقين. وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن بني ذى النون كانوا خؤولة للمنذر بن يحيى آخر أمراء سرقسطة من بني تجيب، وهو الذي احتل سليمان بن هود عرشه، فكان ذلك عاملا آخر في اشتداد هذه الخصومة. ووقعت المعارك بين الطرفين أولا حول مدينة وادي الحجارة، وقد كانت من أعمال طليطلة، فبعث إليها سليمان بن هود ولده أحمد في جيش قوي فنازلها واحتلها، وذلك في سنة 436 هـ (1044 م)، وهرع إليها المأمون بن ذى النون في قواته، ونشبت بين الجيشين معارك هزم فيها ابن ذى النون، فارتد في قواته إلى طلبيرة، وابن هود يطارده، ويشدد الضغط عليه، ولم ينج المأمون من هذا المأزق إلا حينما أمر سليمان ولده أحمد بتركه وشأنه.
وقد فصلنا فيما تقدم من أخبار مملكة طليطلة حوادث هذا النزاع، وبينا كيف لجأ المأمون على أثر هزيمته إلى فرناندو الأول ملك قشتالة، فاستغاث به واعترف بطاعته، وكيف أمده فرناندو بجنده، فعاثت في أراضي مملكة سرقسطة وخربتها، وعندئذ التجأ ابن هود بدوره إلى الاستعانة بملك قشتالة، وبذل له أموالا وتحفاً جليلة، فبعث فرناندو جنوده فعاثت في أراضي طليطلة حتى وادي الحجارة وقلعة النهر (قلعة هنارس). ورد المأمون على ذلك بأن التجأ إلى غرسية ملك نافار واستماله بالأموال الجليلة، فأغار على أراضي مملكة سرقسطة المجاورة له ورد ملك قشتالة على ذلك بالإغارة على أراضي طليطلة مرة أخرى. وهكذا تفاقمت هذه الحرب الأهلية المدمرة بين ابن هود والمأمون " الأميرين المشئومين
على المسلمين " وفقاً لقول ابن حيان، وضج لها سائر أهل الأندلس. واستمر ملكا قشتالة، ونافار، يعملان بكل ما وسعا على إذكاء هذه الفتنة، فيغير الأول على أراضي طليطلة لحساب ابن هود، ويغير الثاني على أراضي سرقسطة لحساب ابن ذى النون.، ولم تخمد هذه المعركة الانتحارية بين الأميرين المسلمين إلا بوفاة ابن هود وذلك في سنة 438 هـ (1046 م)، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل (1).
وقسم سليمان بن هود قبيل وفاته أعمال مملكته بين أولاده الخمسة، فاختص أحمد بولاية سرقسطة عاصمة المملكة، ويوسف بولاية لاردة، ولب بولاية وشقة، والمنذر بولاية تُطيلة، ومحمد بولاية قلعة أيوب (2)، واستقل كل بحكم مدينته وأعمالها. بيد أن تقسيم المملكة على هذا النحو لم يكن عملا سليماً، وكان بالعكس نذيراً بالخلاف والحرب الأهلية. وكان أحمد صاحب سرقسطة وهو الملقب بالمقتدر من بين إخوته الخمسة أشدهم أطماعاً، وأنشطهم سعياً إلى انتزاع ما في أيديهم. وقد استطاع بالفعل أن يحتال على ثلاثة من أخوته بالوعيد والختل، وهم ْلب صاحب وشقة، والمنذر صاحب تُطيلة، ومحمد صاحب قلعة أيوب، وأن يستولي على مدنهم، ثم سجنهم، وبلغت به القسوة أن سمل أعينهم. بيد أن أخاه يوسف صاحب لاردة، وهو الملقب بحسام الدولة وبالمظفر، كان له نداً، وكان بطلا شهماً، وهو الذي استطاع وحده أن يقف في سبيل أطماعه، وأن يحبط محاولاته ودسائسه.
وهنا وقعت الحرب الأهلية بين الأخوين، وكان أهل الثغر حينما رأوا ما صنعه أحمد بأخوته، وما لجأ إليه من الوسائل الغاشمة في اغتصاب ولاياتهم، قد سخطوا عليه ونادوا بخلعه، وخرجت معظم القواعد عن طاعته، وانضمت إلى أخيه، ولم يتبق له سوى سرقسطة. فأخذ يرقب فرصة للتنكيل بأخيه، وسنحت هذه الفرصة غير بعيد. ذلك أن مدينة تطيلة، وهي من القواعد التي انضمت إلى يوسف المظفر، دهمتها المجاعة والغلاء، فاستغاث به أهلها، فدعا أهل الثغور إلى جمع الأطعمة والمؤن، فاجتمع منها قدر عظيم، ورأى يوسف
(1) راجع في أدوار تلك المعركة البيان المغرب ج 3 ص 277 - 283، وأعمال الأعلام ص 178. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. 74 & 75
(2)
تسمى وشقة بالإسبانية Huesca، وتطيلة Tudela، وقلعة أيوب Calatayud
أنه لا يستطيع إرسال هذه الأمداد إلى تطيلة عن طريق سرقسطة خوفاً من غدر أخيه، ففاوض غرسية ملك نافار، وبعث إليه مالا لكي يسمح بمرور هذه المؤن عبر أراضيه إلى تطيلة، فأجابه إلى طلبه. وعلم أحمد بذلك فبعث سراً إلى غرسية، يبذل له ضعف الأموال التي بعثها إليه أخوه، على أن يمكنه من الفتك بقافلة المؤن حين مرورها داخل أرضه، فاستجاب الملك النصراني إلى ذلك الإغراء الدنىء، وتم ما دبره أحمد. ذلك أن قافلة المؤن، وكانت تتكون من بضع آلاف من الجند، وعدد كبير من الخيل والدواب، ما كادت تجوز أراضي نافار، شمالي شرقي تطيلة، حتى دهمتها قوات أحمد المقتدر التي رتبها بممالأة غرسية، وفتكت بها، وأبيد معظم رجالها قتلا وأسراً، واستولى النصارى على أسلابهم، وما كان معهم من المؤن، ولم ينج منهم سوى القليل، وكانت واقعة شنيعة تنبىء عما كانت تنطوي عليه طبيعة أحمد المقتدر من صفات الغدر والاستهتار. وكان من أثرها، أن ضعف أمر يوسف، وتوطد سلطان أحمد، واشتد بأسه، وهابه الناس، واسترد القواعد التي كانت تحت يده (1).
وكانت ضربة المقتدر التالية، استيلاؤه على ثغر طرطوشة. وكان هذا الثغر الذي يعتبر مخرج سرقسطة إلى البحر، اذا استثنينا ثغر طرّكونة الواقع على حدود إمارة برشلونة، والذي كان من أعمال لاردة، كان منذ عهد الفتنة بيد بعض الفتيان العامريين. وكان أول من استولى عليها منهم وحكمها لبيب العامري، وكان حازماً قوي البأس، وحاول المنذر بن يحيى التجيبي أن ينتزعها منه فاستغاث بمبارك صاحب بلنسية فأمده بجنده، ورد عنها المنذر، ولما توفي مبارك في سنة 408 هـ، خلفه لبيب في حكم بلنسية بدعوة من أهلها، ولما اختلف على ذلك مع زميله مجاهد العامري، عاد إلى طرطوشة واستمر في حكمها حتى توفي في 433 هـ (1041 م)، فخلفه في الحكم فتى آخر من الصقالبة العامريين يدعى مقاتل، وتلقب بسيف الملك، واستمر في حكمها حتى وفاته في سنة 445 هـ (1053 م). فخلفه الفتى يعلي من موالي العامريين أيضاً، ثم حكمها من بعده الفتى نبيل. وكان المقتدر بن هود أثناء ذلك ينظر إلى سيطرة أولئك الفتيان الصقالبة على طرطوشة بعين السخط، ويتحين الفرص لانتزاع هذا الثغر
(1) البيان المغرب ج 3 ص 223 و 224.
الهام من أعمال مملكته. وأخيراً سنحت هذه الفرصة، حينما اضطرمت طرطوشة ضد الفتى نبيل بالثورة وزحف عليها المقتدر في قواته فسلمها إليه نبيل في الحال وخرج عنها، وانتهت بذلك دولة الفتيان الصقالبة بها (452 هـ - 1060 م)(1).
* * *
على أن أعظم حادث أو بعبارة أخرى أعظم محنة نزلت بالمسلمين في عهد المقتدر بن هود، هو غزو النورمانيين لمدينة بربشتر (2)، وفتكهم بأهلها أشنع وأفظع ما سجلت صحف التاريخ. وقد دون لنا ابن حيان، وكان يعيش في قرطبة وقت وقوع هذه المحنة، تفاصيلها بإسهاب، وبعبارات مؤثرة مبكية. ذلك أن حملة كبيرة من النورمانيين (أو الأردمانيين في الرواية العربية) تقدرها الرواية بعشرة آلاف فارس، بقيادة جيوم دي مونري، نزلت بشاطىء قطلونية وسارت نحو الشرق مخترقة أراضي مملكة سرقسطة الشمالية. وقد اختلفت الرواية في تكييف ظروف هذه الحملة وفي مصدر قدومها، وفيمن نظمها وقادها. بيد أنه يستخلص من مختلف الروايات الخاصة بها، أنها حشدت في ولاية نورمانديا الفرنسية، حيث كان النورمان قد استقروا بها قبل ذلك العصر بموافقة ملك فرنسا، وأن أولئك النورمان خرجوا عندئذ في طلب المغامرة والكسب ومعهم جموع كبيرة من الفرسان الفرنسيين. أما قائد الحملة فهو الفارس جيوم دي مونري. وكان جيوم دي مونري هذا من أكابر فرسان عصره، وقد وفد قبل ذلك على إيطاليا في أواسط القرن الحادي عشر، وخدم الكرسي الرسولي حتى أصبح قائد الجيوش الرومانية والبابوية. أما بواعث قيادته لهذه الحملة، ولماذا قصدت إلى شاطىء قطلونية، فمما يحيط به الغموض. على أنه يبدو من جميع الظروف أنها كانت من الحملات الناهبة التي تستتر بالصفة الصليبية، والتي تقصد العيث والنكاية، والغنم والسبي في أراضي المسلمين أينما كانت. ويؤيد البحث الحديث هذه الصفة الصليبية للحملة، ويقول لنا إن الذي دفع إلى إعدادها هو البابا اسكندر الثاني (3). والرواية الإسلامية صريحة واضحة في أن هذه الحملة قد قدمت
(1) البيان المغرب ج 3 ص 250 و 302، وابن خلدون ج 4 ص 163. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas ; p. 38 & 39
(2)
هي بالإسبانية: Berbastro
(3)
I.de las Cagigas: Los Mozarabes p. 453
من فرنسا. فهي تقول لنا " إن الفرنج خرجوا من الأرض الكبيرة (أي فرنسا) إلى الأندلس في جموع كبيرة ليس لها حد، ولا يحصى لها عدد إلا الله، وانتشروا على ثغور سرقسطة "(1) ثم إنه ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت هذه الحملة قد عبرت إلى اسبانيا من طريق جبال البرنيه، أن جازت إلى قطلونية بطريق البحر. وعلى أي حال فقد نزل أولئك النورمان في قطلونية واجتازوا إلى أراضي مملكة سرقسطة، إذ كانت تحمي مؤخرتها أرض نصرانية هي مملكة برشلونة. وقصدوا أولا إلى مدينة وشقة إحدى قواعد سرقسطة الرئيسية، فنازلوها أياماً، ولما لم ينالوا منها مأرباً غادروها وساروا شرقاً حتى مدينة بربشتر، وهي لا تقل عن وشقة أهمية وحصانة.
وتقع مدينة بربشتر على فرع صغير من أفرع نهر إبره بين مدينتي لاردة ووشقة، في الشمال الشرقي لسرقسطة، وكانت يومئذ من أمتع القواعد الإسلامية الشمالية. فنزل عليها النورمان، وضربوا حولها الحصار، وذلك في أوائل سنة 456 هـ (ربيع سنة 1064 م). ولم يبادر المقتدر لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف نفسه إنجادها، فتركها لمصيرها. واستمر الحصار أربعين يوماً، والمسلمون صامدون داخل مدينتهم الحصينة، وكانت حاميتها تخرج من آن لآخر، وتخوض مع الأعداء معارك شديدة، ثم ترتد إلى الداخل. ولما اشتد الضيق بالمدينة المحصورة، وعزت الأقوات، وقع الهرج والتنازع بين أهلها، وعلم النورمان بذلك، فشددوا قبضتهم وضاعفوا جهودهم، واستطاعوا بعد قتال عنيف أن يقتحموا المدينة الخارجية، واحتلها منهم نحو خمسة آلاف دارع، ودافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع، وقتلوا من المهاجمين نحو خمسمائة، ثم تحصنوا بالقصبة والمدينة الداخلية معولين على الدفاع عن أنفسهم لآخر لحظة، لولا أن حدث حادث عجل بوقوع الكارثة. ذلك أن القصبة كان يمدها بالماء سرب داخلي تحت الأرض متصل بالنهر، فوقف النورمان على سره من أحد الخونة فهدموه وألقوا فيه صخرة عظيمة، وانقطع
(1) الحلل الموشية ص 54. وراجع أيضاً الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 40 حيث يقول لنا في كلامه عن بربشتر: " وقد غزاها على غرة وقلة عدد من أهلها وعدة، أهل غاليش والروذمانون ". وغاليش هي فرنسا، والروذمانون هم النورمان.
الماء عن المحصورين، واشتد بهم الظمأ وبدا لهم شبح الموت جاثماً، فبعثوا إلى النورمان يعرضون التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم وأولادهم، وأن يخرجوا من المدينة دون مال، فوافق النورمان على ذلك. وفي رواية أخرى أن النورمان أبوا ذلك، واضطر المسلمون إلى مدافعتهم، حتى اقتحموا عليهم المدينة. وعلى أي حال فقد دخل النورمان المدينة دخول الوحوش المفترسة، وأمعنوا في أهلها قتلا وسبياً، ولم يطلقوا منها غير قائدها ابن الطويل، وقاضيها ابن عيسى، ونفر قليل من الأعيان.
وهنا تبسط الرواية الإسلامية القول فيما ارتكبه النورمان من الفظائع، وتقدر عدد القتلى والأسرى من أهل المدينة بأربعين ألفاً (1) أو بخمسين ألفاً، بل بمائة ألف في رواية أخرى، وهلك عدد كبير من النساء، حينما تطارحن على الماء لإرواء ظمئهن، فكبسهم العدو للأذقان موتاً. ولما خرجت الجموع من المدينة في ظل الأمان المقطوع، ورأى قائد النصارى كثرتهم، هاله ذلك، وخشي أن تأخذ الجموع الحمية، فيهبوا لاستنقاذ أنفسهم، فأمر ببذل السيف فيهم ليخف من أعدادهم، فقتل منهم عندئذ ما يزيد على ستة آلاف. ومات خلال الزحام كثير من الشيوخ والأطفال، وتدلي كثير من الأسوار اتقاء الزحمة، وامتنع نحو سبعمائة رجل بالقصبة، فمات معظمهم عطشاً. على أن ذلك لم يكن أشنع ما نزل بالمسلمين بل كانت تنتظرهم فظائع أخرى لا يخلق ارتكابها إلا بأخس المحاربين وأنذلهم، ونحن نترك القول هنا لابن حيان، يصف لنا بقلمه البليغ طرفاً من تلك المناظر البشعة المؤسية:
" ولما برز جميع من خرج عن المدينة بفناء بابها بعد من خفف منهم بالقتل، وهلك في الزحمة، ظلوا قياماً ذاهلين، منتظرين نزول القضاء فيهم، نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره ووطنه بأهله، وأزعجوا لذلك، فنالهم من الازدحام، قريباً مما نالهم في الخروج عنها. ولما استقروا بالدور مع عيالهم وذرياتهم، اقتسمهم المشركون، فأمر سلطانهم، فكل من صارت في حصته دار حازها، وحاز ما فيها من أهل وولد ومال. فيحكم كل علج منهم فيمن سلط عليه من أرباب الدور بحسب ما يبتليه الله به منهم، يأخذ كل ما أظهره إليه،
(1) الحلل الموشية ص 54.
ويقرره عليه فيما أخفى، ويعذبه أشد العذاب، وربما زهقت نفس المسلم من دون ذلك فاستراح، وربما أنذره أجله إلى أسوأ من مقامه بذلك. فإن عداة الله يومئذ، كانوا يتولعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم، وعلى أعينهم إبلاغاً في نكايتهم، يغشون الثيب، ويفتضون البكر، وزوج تلك، وأبو هذه، موثق بقيد أسره، ناظر إلى سخنة عينيه، فعينه تدمع، ونفسه يتقطع. ومن لم يرض ذلك منهم أن يفعله، أعطى من خوله وغلمانه يعبثون فيهم عبثته، فبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، والحول والقوة لله العظيم ".
واستولى النصارى على مقادير هائلة من السبي والغنائم، ولاسيما النساء والأطفال. يقول ابن حيان " زعموا أنه صار لأكبرهم قائد خيل رومة في حصته نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل " ثم يقول بعد ذلك " ولما عزم ملك الروم (يريد قائد النورمان) على القفول يومئذ من بربشتر إلى بلده، تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الأيفاع، والخود الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه ". ويقول لنا صاحب الروض المعطار، إنه قد أهدى من أبكار الجواري المسلمين وأهل الحسن منهن إلى صاحب قسطنطينية خمسة آلاف، ويقدرهن ياقوت بسبعة آلاف " بكر منتخبة "(1).
وربما كان في تلك الأرقام - أرقام القتلى والأسرى والسبايا - مبالغة. ولكنها تدل على أي حال، مع ما اقترن بها من الأعمال الوحشية المروعة التي وصفها لنا المؤرخ المعاصر، على فداحة الخطب الذي نزل بأهل بربشتر، وعلى مبلغ تجرد أولئك الغزاة النورمان من أبسط الصفات الإنسانية، وهو خطب كان حسبما يصفه ابن حيان " أعظم من أن يوصف أو يتقصى ". ولما وصلت أنباؤه إلى قرطبة في أوائل رمضان (456 هـ)، حيث كان يقيم المؤرخ، وذاعت في مختلف الأنحاء اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وسادها الاشمئزاز والروع لتلك الفظائع والشناعات التي لم يسمع بمثلها.
وقد كانت هذه المحنة مادة خصبة لتأملات ابن حيان، ونظراته النقدية الصائبة، وإليك من أقواله تلك الفقرة التي تدلي بالنذير والنبوءة الصادقة، وتفيض
(1) راجع الروض المعطار ص 40. وراجع معجم البلدان لياقوت تحت كلمة بربشتر.
بالتوجع لأحوال عصره. قال: " قد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولا شك عند أولى الألباب، ما أخفيناه مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه، على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا - لا قدس - بهيم الشبه، ما إن يباهي بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالي الغي بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقري بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم، ما إن يسمع عندنا بمسجد من مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا، أو كأن فتقهم ليس بمفض إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا بالقناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور وإليه المصير "(1).
ولما غادر الغزاة النورمان بربشتر بعد اقتحامها، والفتك بأهلها، والاحتواء على أموالها، تركوا لحمايتها ألفاً وخمسمائة من الفرسان وألفين من الرجالة، وقيل بل تركوا ألف فارس وأربعة آلاف راجل، واستقدموا إليها كثيراً من أهلهم وأقاربهم ومواطنيهم، وساروا عائدين إلى بلادهم، وفي ركبهم ألوف من سبي المسلمين نساء ورجالا، ومقادير هائلة من الأموال والغنائم المختلفة.
بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى وقعت المعجزة. وكان صدى النكبة قد نفذ
(1) نقلنا هذه الفقرة وما قبلها من أقوال ابن حيان وتفاصيل نكبة بربشتر، عن الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحات 34 ب إلى 36 ب. وراجع في ذلك أيضاً البيان المغرب ومعظمه أيضاً من أقوال ابن حيان السالفة الذكر ج 3 ص 225 و 226، وأعمال الأعلام ص 171. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. 78 & 79 -Recherches ; 3eme Ed.V.II.p.335-353 وهو يترجم أيضاً رواية ابن حيان المشار إليها.
إلى الأعماق، واهتز لها أمراء الأندلس قاطبة، وفي مقدمتهم المقتدر بن هود،
وهو الذي شهدها عن كثب، ولحقه من جرائها أكبر وزر، واتجه إليه أشد
اللوم لتقصيره في إنجاد المدينة المنكوبة والدفاع عنها، وهي من أخص قواعد ثغره. واستنفر الناس للجهاد، واجتمع من مختلف بلاد الأندلس عدد جم من المتطوعة والرماة، ساروا إلى الثغر جهاداً في سبيل الله، وبعث المعتضد بن عباد نجدة من خمسمائة فارس، وسار المقتدر بن هود في قواته، وقوات الأمداد المختلفة إلى بربشتر، وذلك في جمادى الأولى سنة 457 هـ (ربيع سنة 1065 م) وضربوا حولها الحصار، وامتنع النصارى داخل المدينة، لما رأوه من كثرة جموع المسلمين، وعالج المسلمون نقب أسوارها المنيعة العالية تحت حماية الرماة، ونجحوا في إحداث ثغرة كبيرة فيها، ثم اقتحموا المدينة بشدة، فغادرها النصارى من الناحية الأخرى، وحملوا على محلة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة مزق فيها النصارى وهلك معظمهم، وأسر من كان بالمدينة من أهلهم وأبنائهم، وتقدر الرواية من قتل منهم بنحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل، في حين أنه لم يقتل من المسلمين وفقاً لتقديرها سوى خمسين رجلا وهي مبالغة واضحة، بيد أنه لم يكن ثمة شك على ضوء الظروف المتقدمة في أن خسائر النصارى كانت فادحة، وأن خسائر المسلمين كانت يسيرة، وقيل فوق ذلك إنه حمل من سبايا النصارى إلى سرقسطة نحو خمسة آلاف، كما حمل إليها ألف فرس وعدة وسلاح وأموال كثيرة. وكان استرداد بربشتر في الثامن من جمادى الأولى سنة 457 هـ، بعد أن احتلها النصارى تسعة أشهر (1). وبذلك جبر الصدع، ورفعت المعرة، وأثلجت صدور المسلمين. وعلى أثر هذا الفتح الجليل اتخذ بطله ابن هود لقبه المقتدر بالله (2).
* * *
وشغل المقتدر بن هود في الوقت نفسه بسلسلة من الوقائع التي اضطرمت بينه وبين جيرانه النصارى. وكانت مملكة سرقسطة لوقوعها بين الممالك الإسبانية النصرانية الثلاث، أراجون ونافار وقشتالة، هدفاً مستمراً لأطماع الملوك
(1) راجع الروض المعطار ص 41.
(2)
الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 36 ب و 37 أ. والبيان المغرب ج 3 ص 227 و 228.
النصارى، يبتزون منها الأموال طوراً باسم الجزية، وطوراً يقتطعون بعض أطرافها. وفي خلال ذلك، يعمل بنو هود على الاستعانة من آن لآخر بالجند النصارى، وفقاً لمختلف الظروف والأحوال. وكان فرناندو الأول ملك قشتالة في سنة 1060 م (452 هـ) قد زحف على حدود مملكة سرقسطة الجنوبية الغربية، واقتطع منها حصن غرماج، وبعض حصون أخرى، فاضطر المقتدر أن يذعن لدفع الجزية. ولما توفي فرناندو في سنة 1065، وخلفه ولده سانشو في ملك قشتالة، وفي حقوق الجزية على سرقسطة، حاول أن يتدخل في شئون سرقسطة وبعث إليها بقواته في سنة 1067 فحاصرتها، اقتضاء للجزية المطلوبة، وكان يقود الجيش القشتالي يومئذ الفارس ردريجو دياث أو السيد إلكمبيادور، الذي احتل فيما بعد مكانة بارزة في حوادث شرقي الأندلس، فاضطر المقتدر أن يبعث إليه مقادير كبيرة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والأقمشة الفاخرة، أداء للجزية المطلوبة، وأن يبعث برهائنه في الوقت نفسه، وبذا رفع الحصار عن سرقسطة (1).
وكان المقتدر في الوقت الذي تصفو فيه علائقه مع جيرانه النصارى، يستمد العون منهم في مشاريعه العسكرية، وقد يستمد عون أحدهما على الآخر، كما حدث في سنة 1063 م حينما غزا راميرو الأول ملك أراجون أراضي مملكة سرقسطة، فاستغاث المقتدر بفرناندو ملك قشتالة، فبعث إليه ولده سانشو في بعض قواته، ووقعت بين الفريقين تحت أسوار جرادوس موقعة هزم فيها راميرو وقتل، وكان ردريجو دياث - السيد فيما بعد - يومئذ من ضباط الجيش القشتالي.
ولما خلص عرش قشتالة لألفونسو السادس بعد مقتل أخيه سانشو، عاد يطالب سرقسطة بالجزية التي كانت لأخيه، وكان يطالب بها في نفس الوقت سانشو راميرز ملك أراجون ونافار، بعد أن ورث عرش نافار، وكان المقتدر يؤدى الجزية من قبل إلى سانشو ملك نافار. وكان يستعين في محاربة أخيه يوسف المظفر صاحب لاردة بجنود من البشكنس (النافاريين) والقطلان، واستمرت بينهما المعارك حتى انتهت أخيراً بهزيمة يوسف وأسره.
وقد وقفنا على نص رسالة مخطوطة، كتب بها المقتدر إلى صديقه المعتمد
(1) البيان المغرب ج 3 ص 229، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 159 & 160
ابن عباد - وقد كانت بينهما فيما يبدو من لهجة الرسالة صلات ودية وثيقة - يخبره فيها بقصته مع أخيه المظفر، ويرميه فيها بالظلم والحسد، ومجانبة العدل والإنصاف، ويقول إنه حاول أن يسلك معه سبيل المودة والتفاهم، فأبى، واضطر إلى مقاتلته حتى ظفر به واستولى على قاعدته لاردة وألزمه البقاء في قصبة منتشون. ثم يقول معتذراً عن مسلكه:" وللنفس يعلم الله مما حملني عليه ارتماض وإشفاق، ولما يؤثره الرحم من ذلك إزعاج وإقلاق، إلا أنه لم يوجد إلى غير ذلك سبيلا، ولا جعلني إلى سواه محيلا، وكان فيما يأتيه أعق، وبما جره القدر إليه بحكم اعتقاده أحق "(1) والظاهر أن الحوادث التي يشير إليها المقتدر في رسالته قد وقعت في سنة 472 هـ (1079 م). وفي بعض الروايات القشتالية، أن المقتدر بعد أن استولى على أملاك أخيه أعتقله بقلعة روطة، وهنالك استمر في اعتقاله حتى توفي بعد ذلك بثلاثة أعوام (475 هـ)، بيد أنه من الواضح أن الصحيح هو ما يرويه المقتدر نفسه في رسالته.
ولما أعيت المقتدر الحيل في إرضاء أولئك الملوك المطالبين بالجزية، انتهى رأيه إلى الاستعانة بخدمات ذلك الفارس القشتالي، الذي عرفه من قبل بين ضباط قشتالة محارباً بارعاً، وهو ردريجو دياث دى بيبار، وكان يومئذ قد ساءت علائقه مع مليكه ألفونسو السادس وأقصاه عن بلاطه، فخرج يبحث عن طالعه، وهكذا عقدت العلافة بين " السيد " وبين المقتدر، وكان المقتدر أول من أولاه رعايته واستخدمه من الملوك المسلمين، وكان ذلك في سنة 1080 م قبيل وفاة المقتدر بقليل (2).
ويجب أن نذكر هنا أيضاً بين أعمال المقتدر العظيمة، استيلاءه على مملكة دانية من صهره، زوج ابنته على إقبال الدولة في سنة 468 هـ (1076 م) حسبما فصلنا ذلك من قبل في أخبار مملكة دانية. وقد غدت مملكة سرقسطة بهذا الفتح الكبير تمتد إلى شرقي الأندلس، وغدت من أعظم ممالك الطوائف رقعة، بل ربما أعظمها جميعاً. وقد مهد لها هذا الامتداد إلى شرقي الأندلس، سبيل التطلع إلى مملكة بلنسية
(1) وردت هذه الرسالة في المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال (لوحة 118 و 119).
(2)
الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 18 ب. وكذلك: R. M Pidal: ibid;p. 282 & 283
والتدخل في شئونها، حسبما سبق شرحه في موضعه في أخبار مملكة بلنسية، وتوفي أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله في سنة 474 هـ (1081 م) من كَلَب شديد أصابه من عضة كلب، بعد أن حكم مملكة سرقسطة خمسة وثلاثين عاماً، وكان قبيل وفاته قد ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه أبوه بتقسيم مملكته بين ولديه، فخص ولده الأكبر وهو يوسف المؤتمن بسرقسطة وأعمالها، وخص ولده الأصغر المنذر بلاردة ومنتشون وطرطوشة ودانية.
ومما هو جدير بالذكر أن مملكة سرقسطة كانت في ظل بني هود، لظروفها المترتبة على وقوعها بين الممالك النصرانية، واضطرارها إلى مهادنتها ومصانعتها، تؤثر سياسة التسامح الديني، وكان النصارى يعيشون في ظل بني هود، في ظروف حسنة، ويتمتعون بسائر الحريات الفكرية والدينية، وقد شجع هذا التسامح الذي أثر عن بني هود نحو رعاياهم النصارى، راهباً فرنسياً، على أن يكتب إلى المقتدر بن هود رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق النصرانية، وبعث رسالته المذكورة مع راهبين من زملائه ليشرحا للمقتدر تعاليم الدين المسيحي ومزاياه (1)، فاستقبل المقتدر الرسولين برفق وكياسة، ولم يثر لما تضمنته رسالة الراهب من جرأة وتهجم صارخ، بل عهد إلى العلامة الفقيه أبى الوليد الباجي، وكان يومئذ يعيش في سرقسطة في كنفه وتحت رعايته، بأن يكتب عن لسانه إلى الراهب رداً، يفند فيه دعاوى الراهب في رسالته، ويبين ما تنطوي عليه هذه الدعاوى من بطلان وتناقض. فكتب الباجي رده المشهور على هذه الرسالة، وهو رد مسهب، يفيض منطقاً وبلاغة، وفيه يفند الباجي مزاعم الدين المسيحي، وألوهية المسيح وغيرها، بقوة، ويشرح تعاليم الإسلام بوضوح، ويدعو الراهب بالعكس إلى اعتناق الإسلام، وينوه بمعجزة القرآن وروعته، ويدلل ببراعة على بطلان التعاليم المسيحية وتناقضها.
وكان المقتدر بن هود من أعظم ملوك الطوائف. ويصفه الحجاري في المسهب بأنه " عميد بني هود وعظيمهم، ورئيسهم وكريمهم ". وكان فضلا عن
(1) وردت رسالة الراهب الفرنسي في مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري، عقب رسالة ابن غريسة والرد عليها، ودونت من بعدها رسالة أبي الوليد الباجي في الرد على الراهب المذكور، وهو رد طويل يملأ خمس عشرة صفحة، وقد نشر الأستاذ دنلوب D.M.Dunlop نص الرسالتين في مجلة الأندلس Al - Andalus Vol.XVII، 1952، وقرنهما بترجمة انجليزية.
مقدرته السياسية والعسكرية التي رأيناها تبدو في كثير من أعماله ومشاريعه، وبالرغم مما كانت تنطوي عليه هذه المشاريع والأعمال أحياناً من صفات سيئة، يتمتع بكثير من الخلال البديعة، فقد كان أميراً عظيماً يحيط نفسه بجو من المهابة والروعة، وكان بلاطه من أعظم قصور الطوائف وأفخمها، وكان يحيط نفسه بطائفة من أشهر العلماء والكتاب في عصره، ومن هؤلاء العلامة الفقيه أبو الوليد الباجي، ووزيره أبو المطرف بن الدباغ، ووزيره الكاتب اليهودي المسلم أبو الفضل ابن حسداي السرقسطي، وكان كلاهما من أعلام عصره في البلاغة والأدب.
بل كان المقتدر نفسه من علماء عصره، وكان يشغف بدراسة الفلسفة والرياضة والفلك، وقد كتب كتباً في الفلسفة والرياضة (1). وكان قصر المقتدر وهو المسمى بقصر " الجعفرية "، نسبة إلى كنيته، وهي " أبو جعفر "، من أعظم وأفخر القصور الملكية في ذلك العصور، وقد اشتهر في تاريخ الفن الإسلامي باسم " دار السرور "، وكان أروع ما فيه بهوه الرائع الذي زينت جدرانه بالنقوش والتحف الذهبية البديعة، والذي كان يسمى لذلك بالبهو الذهبي، أو مجلس الذهب.
وفيه يقول منشؤه المقتدر:
قصر السرور ومجلس الذهب
…
بكما بلغت نهاية الطرب
لو لم يحز ملكي خلافكما
…
لكان لدي كفاية الأرب
ولما سقطت سرقسطة في يد الإسبان شوهت معالم هذا القصر البديع، وأدخلت فيه تعديلات وتغييرات عديدة قضت على محاسنه وزخارفه العربية. وما زالت بقاياه الدارسة تقوم حتى اليوم في قلب مدينة سرقسطة باسم قصر الجعفرية Palacio Aljaferia، وقد شهدناه خلال زيارتنا لسرقسطة، ولم يبق من بنائه الإسلامي سوى بقية مشوهة من مسجده السابق.
وكان المقتدر فوق شغفه بالعلوم، أديباً ينظم الشعر، وقد نسب إليه الحجاري صاحب المسهب قوله:
لست لدى خالقي وجيهاً
…
هذا مدى دهري واعتقادي
لو كنت وَجْهاً لما براني
…
في عالم الكون والفساد (2)
(1) Dozy: Histoire ; Vol.III.p. 163 - R. M. Pidal: ibid، p. 282
(2)
راجع المغرب في حلي المغرب (القاهرة) ج 1 ص 437.