المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثالنصارى المعاهدون - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثالثالنصارى المعاهدون

‌الفصل الثالِث

النصارى المعاهدون

النصارى المعاهدون. مركزهم وأحوالهم في ظل الحكومة الإسلامية. أحوالهم في ظل الطوائف. مصانعة أمراء الطوائف لهم. تمتعهم بالتسامح في شرقي الأندلس. أحوالهم في مملكة سرقسطة. عدم ولائهم للحكومات المسلمة. مداخلتهم للملوك النصارى ومعاونتهم ضد المسلمين. صدى هذا الموقف في دول الطوائف. استدعاؤهم ألفونسو الأرجوني لغزو الأندلس. قيامه بالغزوة المنشودة. فتوى الفقهاء بخيانة المعاهدين ووجوب تغريبهم. ظهور مجتمع المدجنين في القواعد الإسلامية المفتوحة.

يجدر بنا بعد أن تحدثنا عن تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية، أن نعرض في شىء من التفصيل إلى موقف النصارى المعاهدين وأحوالهم في عصر الطوائف، وهو العصر الذي سرى فيه الانحلال السياسي والعسكري إلى اسبانيا المسلمة، ومزقتها الحروب الأهلية، وتطاولت عليها الممالك الإسبانية النصرانية. ونحن نعرف أن النصارى المعاهدين، كانوا منذ عهد الإمارة يكونون أقليات ذات شأن في القواعد الأندلسية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية وسرقسطة. وكانت هذه الأقليات النصرانية تعيش آمنة مطمئنة، في ظل الحكومة الإسلامية، تزاول نشاطها وشعائرها بمنتهى الحرية. ويتمتع النابهون من أبنائها بعطف الخلفاء وثقتهم وتقديرهم، ويشغل الكثير منهم مناصب هامة في الإدارة وفي القصر. وقد أشرنا فيما تقدم من أخبار الأمراء والخلفاء إلى كثير من أولئك النصارى البارزين. وكانوا إلى جانب اللغة العربية التي يتقنها الكثير منهم، يتكلمون لغتهم الرومانية الأصلية Romance، وهي اللغة التي كانت سائدة يومئذ في الممالك الإسبانية النصرانية، وكان يعرفها كثير من أكابر الصقالبة في البلاط الأندلسي، وبعض أكابر المسلمين من الوزراء والكتاب. وكانت هذه اللغة هي لغة النصارى المعاهدين المكتوبة، التي يستعملونها في مخاطباتهم ومعاملاتهم داخل المجتمع الإسلامي، الذي يعيشون فيه. وكان المسلمون يستعملون أحياناً بعض عبارات هذه اللغة الرومانية، وهي التي يسمونها " اللطينية " ولاسيما في بعض الرسائل العلمية (1).

(1) R.M.Pidal: Origines del Espanol، p. 418 & 421

ص: 409

فلما انهارت الخلافة، وانهارت معها الحكومة المركزية، وقامت دول الطوائف، طرأ تغير ملحوظ على أحوال النصارى المعاهدين. وبالرغم من أن هذا التغير لم يكن دائماً ضد مصالحهم أو حرياتهم، فإن مصايرهم وأحوالهم أضحت في كل دولة من دول الطوائف، تتوقف على ظروف تلك الدولة، وعلى سياسة حكومتها المحلية. ونستطيع أن نقول إن النصارى المعاهدين لقوا على وجه العموم في مختلف دول الطوائف نفس المعاملة الكريمة التي كانوا يلقونها في ظل حكومة الخلفاء، بل لقد كان في ظروف بعض هذه الدول، ما يحملها على اتباع سياسة خاصة، تتسم باللين والمصانعة نحو رعاياها النصارى، ولما عصفت ريح الحرب الأهلية بقرطبة، عقب انهيار الخلافة اضطربت أحوال المعاهدين بها، وقد كانوا يعطفون على الجهة العامرية، ويخشون من عسف البربر وطغيانهم، فلما بسط البربر سلطانهم على عاصمة الخلافة، أخذت جموع كبيرة منهم تغادر قرطبة في أثر الفتيان العامريين إلى شرقي الأندلس. ولما قامت دولة بني جهور في قرطبة، بذلت حكومة الجماعة جهدها لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وندب أبو الوليد ابن جهور وزيره الشاعر الكبير ابن زيدون، " للنظر في شئون أهل الذمة في بعض الأمور المعترضة "(1).

ولم تقتصر هذه العناية بشئون النصارى المعاهدين على حكومة قرطبة، بل لقد كانت معظم دول الطوائف الأخرى، تبذل جهوداً خاصة لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وكسب مودتهم. وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة، في الظروف التي كانت تجوزها دول الطوائف يومئذ. فقد كانت مملكة قشتالة ْالنصرانية تملك زمام التفوق العسكري، وكان ملك قشتالة ألفونسو السادس يرهق دول الطوائف بإغاراته المتوالية، ومطالبه المالية المغرقة، وكان ملوك الطوائف يتسابقون إلى خطب مودته، واتقاء شره، وكان منهم من يستعديه على جيرانه المسلمين. وكانت الأقليات النصرانية في القواعد الأندلسية، في مثل هذه الظروف تعتبر مكامن للخطر والدسائس، وكان ملوك الطوائف يحملون بذلك على مصانعتها ومداراتها. وكان بنو عباد في مقدمة أولئك الملوك الذين عملوا على حماية المعاهدين وكسب مودتهم، وقد كانوا أشد ملوك الطوائف سعياً

(1) في " إعتاب الكتاب " لابن الأبار (مخطوط الإسكوريال) اللوحة - 6 أ.

ص: 410

إلى محالفة ملك قشتالة، واتقاء عاديته، وكان للنصارى المعاهدين في بلاطهم مكانة وظهور. ومنهم شعراء مثل ابن المرجري الإشبيلي، وابن مرتين. وكان قائد ابن عباد في فتح قرطبة، وهو محمد بن مرتين، من أصل نصراني، وبنو عباد هم الذين احتضنوا الكونت سسنندو في حداثته، وساعدوه على الظهور ورفعوا مكانته في بلاطهم، وأولوه ثقتهم، واستخدموه في أخص مهامهم السياسية (1). وكان بنو مناد البربر ملوك غرناطة يصطنعون اليهود في البداية، فلما أشتدت وطأتهم على صنهاجة. وانتهت إلى البطش بهم (سنة 459 هـ - 1066 م). جنح أمير غرناطة عبد الله بن بلقين حفيد باديس، إلى اصطناع النصارى، واضطر بضغط الظروف إلى محالفة ملك قشتالة، أو بعبارة أخرى إلى الانضواء تحت حمايته وتأدية الجزية له. وتمتع المعاهدون في غرناطة بالحماية والرعاية، وازدهرت أحوالهم واشتد ساعدهم، واتخذ الأمر عبد الله في بطانته، عدة من أكابر النصارى القشتاليين. يعاونونه في شئون الحرب والإدارة ومنهم عدة من أكابر الفرسان (2).

وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتمتع به النصارى المعاهدون في شرقي الأندلس ولاسيما في مملكة دانية من ضروب الرعاية والتسامح. وقد كان الفتيان الصقالبة الذين سيطروا على شرقي الأندلس من أشد الرؤساء تسامحاً نحو المعاهدين. وكان مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر. ثم ولده على إقبال الدولة من بعده، كلاهما يبدي نحو رعاياه النصارى منتهى العطف والتسامح، وقد يرجع ذلك من بعض الوجوه إلى ما يقال عن " أصل مجاهد النصراني " وإلى أن زوجته كانت نصرانية، وكذلك ولده علي، فقد نشأ في حداثته بين نصارى ْسردانية، وتخلق بأخلاقهم واعتنق دينهم، قبل أن يعتنق الإسلام بعد عوده من الأسر، بيد أنه يجب أن نلاحظ إلى جانب ذلك، أن هذا التسامح نحو النصارى كان حسبما بينا في موضعه، سياسة متقررة لحكومة مجاهد وولده علي، وأنهما استطاعا بواسطة هذه السياسة المستنيرة، أن يجتنبا عدوان الملوك النصارى، وأن تتمتع مملكة دانية في ظلهما بفترات طويلة من السلام والرخاء.

وثمة مملكة أخرى من ممالك الطوائف، كانت ظروفها تدعو إلى مزيد من

(1) Isidro de las Cagigas: Los Mozarabes (Madrid 1947) T.II.p. 427

(2)

Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 493

ص: 411

التسامح نحو رعاياها النصارى: تلك هي مملكة سرقسطة، فقد كانت بموقعها بين الممالك النصرانية الأربع، قشتالة ونافار، وأراجون وبرشلونة، وكونها تعتبر بهذا الوقع حاجزاً بين اسبانيا المسلمة، والممالك النصرانية من ناحية الشمال الشرقي، ثم بكونها تضم بين سكانها أقليات نصرانية كثيفة، كانت لذلك كله تجد نفسها مدفوعة بحكم الواقع والظروف إلى اتباع سياسة الاعتدال والتسامح نحو رعاياها النصارى، وقد كانت هذه المنطقة في الواقع وهي منطقة الثغر الأعلى منذ أيام بني قسيّ وبني الطويل وغيرهم من زعماء المولدين، ميداناً خصباً لالتقاء العناصر المسلمة والنصرانية وامتزاجها بقوة، وكانت بذلك مهداً لظهور المعاهدين، ومشاركتهم بقسط بارز في الحياة السياسية والاجتماعية. وكان بنو تجيب حكام الثغر الأعلى، ومن بعدهم بنو هود أصحاب مملكة سرقسطة يبسطون رعايتهم وحمايتهم على النصارى المعاهدين. وكان بنو هود بالأخص يشعرون بدقة مركزهم بين الممالك النصرانية، وتحفز هذه الممالك دائماً إلى التدخل في شئون مملكتهم وضغطها عليهم لاقتضاء الجزية، أو لاقتطاع بعض مدنهم وحصونهم، ويحاولون بسياسة التسامح المطلق نحو رعاياهم النصارى، أن يجتنبوا الدسائس والاضطرابات الداخلية، وأن يغنموا حياد الملوك النصارى وجنوحهم إلى المهادنة. وكان المقتدر بن هود. وهو أعظم ملوك سرقسطة من أشد أنصار هذا التسامح، وكان بين وزرائه المقربين وزير نصراني هو أبو عامر بن غند شلب Gundisalvo، وكان أديباً شاعراً. أجل وقعت في سرقسطة في سنة 1065 م في عهد المقتدر مذبحة للنصارى، وذلك على أثر عدوان النورمان الشنيع على مسلمي بربشتر، وكان فيه من الروع والإستثارة ما فيه. بيد أنه كان حادثاً مستقلا، ولم يلبث أن استدركت عواقبه. وقد رأينا من جهة أخرى كيف كان بنو هود، يعتمدون على محالفة جيرانهم من الملوك النصارى، ويحشدون المرتزقة النصارى في جيوشهم بصفة مستمرة، وكيف كانوا أول من استخدم السيد إلكمبيادور، واعتمدوا على محالفته زمناً (1).

بيد أن هناك حقيقة يجب التنويه بها، وهو أن النصارى المعاهدين، بالرغم من هذه الرعاية والحماية، وهذا التسامح، التي كان يتبعها نحوهم ملوك الطوائف،

(1) Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 448، 451، 452، 454، 462 & 463

ص: 412

سواء لبواعث كانت ترغمهم على اتباعها، أو لسياسة مستنيرة كانوا يؤثرونها، لم يشعروا قط بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومات المسلمة، التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم، بل لبثوا دائماً على ضغنهم وخصومتهم لها وتربصهم بها. ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة الملوك النصارى، ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها، وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها. ولدينا في تاريخ الطوائف من ذلك أمثلة لا حصر لها. ففي قلمرية وافتتاحها (456 هـ - 1064 م) لعب النصارى المعاهدون - وقد كانوا كثرة هذه المنطقة - دوراً بارزاً في معاونة الجيش القشتالي المحاصر، وعاونه رهبان دير لورفان القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة، وسهلوا له بذلك الصمود، حتى اضطرت المدينة المحصورة إلى التسليم (1). ودأب النصارى المعاهدون في طليطلة أيام القادر بن ذى النون على تدبير الدسائس، وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة، والاتصال المستمر بألفونسو السادس وأعوانه، ومؤازرة الناقمين من المسلمين ضد الحكومة القائمة، والعمل بذلك على تحطيم كل جبهة للمقاومة الحقيقية، وانتهى الأمر بتذليل السبيل لألفونسو السادس لمحاصرة المدينة المفتوحة. ولعب النصارى المعاهدون في بلنسية مثل هذا الدور داخل بلنسية، لمعاونة السيد في مغامراته المتوالية لمحاصرة المدينة والاستيلاء عليها. وهكذا كان النصارى المعاهدون، في كل موطن وكل فرصة، يعملون ما وسعوا لتحطيم تلك الممالك الأسلامية التي تقوم بحمايتهم ورعايتهم، والتمهيد بذلك للقضاء عليها وسقوطها في أيدي الملوك النصارى. وهذا ما يعبر عنه الأستاذ بيدال بقوله: " إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة، واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني (2).

ومن ثم فإنا نجد، عقب سقوط طليطلة، واشتداد روح العدوان من جانب إسبانيا النصرانية، شعور التقاطع والريب، ينمو ويشتد ضد جماعات النصارى المعاهدين في مختلف القواعد الأندلسية، وترتفع أصوات الفقهاء بالاشتداد في معاملتهم، وتجريدهم من كثير من ضروب الحرية والتسامح، التي كانوا يتمتعون بها من قبل. ومن ذلك مثلا ما دعا إليه ابن عبدون في رسالته عن الحسبة وهي

(1) راجع: Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 455

(2)

R.M.Pidal: Origenes del Espanol، p. 424

ص: 413

التي وضعت في بداية العهد المرابطي، من أنه " يجب أن يقطع ببلاد الإسلام ضرب النواقيس " وأنه نظراً لفساد أخلاق القساوسة، يجب أن يؤمروا بالزواج كما في ديار المشرق، ويجب ألا يترك في دار القسيس امرأة ولا عجوز ولا غيرها، كما يجب أن تمتنع النساء الإفرنجيات من الدخول إلى الكنيسة إلا في يوم فضل أو عيد، ويجب ألا يباع من اليهود أو النصارى كتاب علم إلا ما كان من شريعتهم، لأنهم يترجمون كتب العلوم، وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم، وهي من تواليف المسلمين، كما يجب أن يمنع الأطباء اليهود أو النصارى من معالجة المسلمين (1).

فهذه الدعوات وأمثالها، إلى التشدد في معاملة المعاهدين، لم تكن إلاّ صدى لمواقفهم المتسمة بالعدوان والخيانة. وكانت تلقى في ظل الحكم المرابطي، المتسم بروح التزمت الديني قبولا. وقد بلغ اجتراء المعاهدين وخيانتهم ذروتها، حينما عملوا على استدعاء ألفونسو المحارب ملك أراجون، لغزو الأندلس، ووعدوه بأن ينضموا ألوفاً إلى جيشه متى اخترق الأندلس. وقام ألفونسو بالفعل بالغزوة المنشودة، فخرج من سرقسطة في سبتمبر سنة 1125 م (519 هـ)، في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف، واخترق الأندلس، من الجانب الشرقي ماراً بقرب بلنسية ودانية ومرسية، وهو يعيث في بسائطها، والمعاهدون يحشدون في جيشه من كل صوب، واستمر في سيره حتى وادي آش، ووصل إلى ظاهر غرناطة في شهر يناير من العام التالي (1126 م)، ولكنه أدرك أنه لايستطيع أن ينال منها مأرباً. وهنالك بعث إلى زعيم المعاهدين بغرناطة يلومه لتقصيرهم في معاونته، فردوا عليه بأنه هو الذي أضاع الوقت في زحفه الطويل سدى، ثم أخذت القوات المرابطية بقيادة الأمير أبي الطاهر تميم تلاحقه وترهقه باستمرار، وهو يتجول بقواته في شمال غرناطة، ووقعت بينه وبين المرابطين في مارس (1126 م) في فحص الرنيسول موقعة هزم فيها المرابطون. بيد أنه لم يستطع الاستفادة من نصره، فاستمر في زحفه جنوباً، واخترق هضاب البشرّات حتى شاطىء البحر المتوسط، ثم عاد إلى الشمال، وقد خسر كثيراً من جنده بسبب الإعياء والوباء.

وكان من أثر هذا العدوان الجسيم، أن قرر أمير المسلمين، وفقاً لفتاوي

(1) رسالة ابن عبدون في الحسبة ص 55 و 57.

ص: 414

الفقهاء، تغريب النصارى المعاهدين، لأنهم نقضوا العهد وخرجوا عن الذمة، وأبعدت منهم بناء على ذلك عن الأندلس ألوف عديدة، فرقت في مختلف أنحاء إفريقية (1).

وثمة ظاهرة أخرى برزت في أواخر عهد الطوائف، وترتبت على سقوط طليطلة وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة في يد القشتاليين، ثم سقوط سرقسطة وأعمالها بعد ذلك بقليل في يد ملك أراجون (512 هـ - 1118 م). فإلى ذلك الحين كانت المشكلة العنصرية والدينية. تنحصر في جانب واحد، وهو أقليات النصارى المعاهدين التي تعيش في القواعد الأندلسية تحت الحكم الإسلامي.

ولكن تبرز من ذلك الحين مشكلة عنصرية دينية مقابلة، هي مشكلة الأقليات المسلمة التي بقيت في القواعد الأندلسية المفتوحة تحت الحكم النصراني، وأولئك هم المدجّنون، (وبالإسبانية Mudéjares) الذين يبدأ ذكرهم في التواريخ الأندلسية، منذ أوائل القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، والذين تزداد جموعهم تباعاً كلما سقطت قاعدة أندلسية جديدة في أيدي النصارى (2).

(1) راجع الحلل الموشية ص 70 و 71. وكذلك R.M.Pidal: Origenes del Espanol، p. 425 و F.Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides، p. 15 & 16

(2)

تحدثنا عن أحوال المدجنين بإفاضة في كتابنا " نهاية الأندلس " وهو العصر الرابع من كتاب دولة الإسلام في الأندلس (الطبعة الثالثة) ص 55 - 67.

ص: 415

خاتمة

خَواصّ عَصْر الطوائفْ االسياسية والاجتماعيّة والحضاريّة

ص: 417

- 1 -

الخواص السياسية

الآن وقد انتهينا من أخبار ممالك الطوائف، واستعراض الأحداث التي مرت بها، منذ إنشائها حتى سقوطها، وتقديم زعمائها وملوكها، في صورهم السياسية والأدبية، ووصف قصورهم وخططهم، نرى لزاماً علينا أن نستعرض خواص هذه الحقبة من تاريخ اسبانيا المسلمة، وهي حقبة فياضة بالأحداث والمحن المثيرة، وأن نستعرض خواص مجتمع الطوائف، وأحواله المادية والأدبية والاجتماعية.

لقد شغل عصر الطوائف من حياة الأمة الأندلسية نحو ثمانين عاماً، وكان عصر تفكك وانحلال سياسي واجتماعي شامل، بالرغم مما كان يبدو في بعض نواحيه من جوانب براقة. والواقع أن هذه الدول الصغيرة، التي قامت على أنقاض الأندلس الكبرى، والتي كانت تتسم بسمة الملك، وتزعم لنفسها الاستقلال بشئونها، كانت تنقصها من الناحية النظامية، عناصر الدولة المستقرة، ولم تكن - إذا استثنينا القليل منها - سواء برقاعها الإقليمة، ومواردها المادية، تستطيع الحياة بمفردها، أو تستطيع الاستقلال بشئونها السياسية أو العسكرية، وإنما كانت دول الطوائف أقرب منها إلى وحدات الإقطاع، وإلى عصبة الأسرة القوية ذات العصبية، أو الجماعة القبلية في حالة الإمارات البربرية، ومن ثم فإنه لم تكن بها حكومات منظمة بالمعنى الصحيح، تكون مهمتها الأساسية، أن تعمل لخير الشعب ورخائه، وصون الأمن والنظام، وإنما كانت بها أسر أو زعامات، تعمل قبل كل شىء لمصلحتها الخاصة، ولرفعة شأنها، وتنمية ثرواتها، وتدعيم سلطانها وبذخها. وكان الشعب في ظل هذه الأسر أو الزعامات القوية، لا حساب له، وليس عليه إلا أن يخضع لما يفرض عليه من مختلف المغارم والفروض، التي يستخدمها الأمير لإقامة بلاطه الفخم أولا، ثم لحشد الجند الذين هم سياج ملكه

ص: 418

وسلطانه، وأخيراً لتنفيذ مشاريعه السياسية والعسكرية، وهي لا تخرج غالباً عن مهاجمة زميله وجاره الأضعف منه، وانتزاع ما في يده، وقلما تتجه إلى القضية الكبرى، قضية الدفاع عن الأندلس ضد عدوها الخالد، الدائب لمقارعتها وتحطيمها، ونعني اسبانيا النصرانية.

ولقد كان ملوك الطوائف في ذلك أسوأ قدوة. كانوا ملوكاً ضعافاً في وطنيتهم، ضعافاً في دينهم، غلبت عليهم الأثرة والأهواء الشخصية إلى أبعد الحدود، ونسوا في غمارها وطنهم، ودينهم، بل نسوا حتى اعتبارات الكرامة الشخصية، واستساغوا لأنفسهم أن يتراموا على أعتاب الملوك النصارى، وأن يستعدوهم بعضهم على بعض، لا في سبيل قضية محترمة، ولكن لاقتطاع بلدة أو حصن من مملكة شقيقة، أو التنكيل بأحد الأمراء المجاورين وقد انتهى أمراء الطوائف في ذلك إلى درك، يستحق أن يوصف بأقسى النعوت، ويكفي أن نستعرض في ذلك، موقف ملوك الطوائف إزاء نكبة طليطلة، وتخاذلهم جميعاً عن انجادها وقت أن حاصرها ملك قشتالة وصمم على أخذها، وهم جميعاً - إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم - ينظرون إلى استشهاد المدينة المسلمة، جامدين لا يطمعون إلا في رضاء ملك قشتالة، وفي سلامة أنفسهم. وقد كان ملك قشتالة يعاملهم حسبما رأينا في غير موطن، معاملة الأتباع، ويبتز منهم الأموال الطائلة، باسم الجزية، ويعامل رسلهم وسفراءهم معاملة الخدم، ويكفي أن نتلو في ذلك ما سطره ابن بسام في الذخيرة، من وصف مثول سفراء ملوك الطوائف لدى ملك قشتالة، وقت نزوله أمام طليطلة، وهي على وشك التسليم إليه، وما كان يتسم به موقفهم من المذلة والخنوع، وفقد كل كرامة قومية (1).

ولم يكن ملوك الطوائف في سياستهم الداخلية، وإزاء شعوبهم، أفضل موقفاً، ولا أكرم تصرفاً. فقد كانوا طغاة قساة على رعيتهم، يسومونهم الخسف، ويثقلون كواهلهم بالفروض والمغارم لملء خزائنهم وتحقيق ترفهم وبذخهم. ولم يكن يردعهم في ذلك رادع، لا من الدين، ولا من الأخلاق.

وقد كانت سياستهم الداخلية هذه، مثل سياستهم الخارجية، موضع السخط من شعوبهم، والطعن المر من معاصريهم من الكتاب والمفكرين. وقد صدرت

(1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129 و 130.

ص: 419

للفيلسوف ابن حزم، وهو من أعظم مفكري عصر الطوائف، عن فتنة الطوائف، ودولها، وأمرائها المستهترين، ومجتمعها المنحل، وحكوماتها الباغية، طائفة من الأقوال والأحكام الصادقة، وردت في رسالته المعنونة " التلخيص لوجوه التخليص ". وهي عبارة عن ردود على بعض أسئلة في شئون دينية وفقهية، وجهت إليه من بعض أصدقائه، ومنها سؤال يتعلق بأمر الفتنة، وآخر عن وجه السلامة في المطعم والملبس والمكسب، وتتضمن هذه الأقوال من النظرات الثاقبة، والأحكام القاطعة، ما يدمغ مجتمع الطوائف بشدة وقسوة، وهي مع سلامة منطقها، وعدالتها، مما يبعث إلى النفس أشد ضروب الأسى والألم، فهو يصف لنا فتنة الطوائف وتصرفات ملوكها على النحو الآتي:

" وأما ما سألتم من أمر هذه الفتنة، وملابسة الناس بها، مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء، أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب.

وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شىء من أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساع في الأرض بفساد. والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغالطوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيفون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم " (1).

وقد كان الفقهاء في الواقع، في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية، أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم،

(1) نشر الأستاذ ميجيل آسين بلاثيوس M. Asin Palacios بعض مقتطفات من هذه الرسالة في مجلة الأندلس. Al - Andalus (ano 1934) ، p. 35-37 ثم نشرت الرسالة بعد ذلك كاملة ضمن مجموعة رسائل أخرى لابن حزم بعنوان " الرد على ابن النغريلة اليهودي ورسائل أخرى "(القاهرة سنة 1960)، ص 139 - 185.

ص: 420

وتزكية تصرفاتهم، وابتزازهم لأموال الرعية، وقد كانوا يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمات كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال، ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور، وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل دول الطوائف مجال العمل والاستغلال والدس، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء. ولم يفت مؤرخ العصر أبو مروان ابن حيان، أن ينوه بهذا التآلف والتضامن بين الأمراء والفقهاء. في تأييد الظلم والفساد. والخروج على أحكام الدين، وإليك ما يقوله لنا في ذلك:

" ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين كالملح: فيهم الأمراء والفقهاء قل ما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له، ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون، قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم. وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذاً بالتقية في صدقهم "(1).

وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل طغيان الطوائف، كثيراً من ضروب الاضطهاد والظلم، ولم يكن ذلك قاصراً على متاعب الفوضى الاجتماعية الشاملة، التي كان يعيش في غمارها، وانقلاب الأوضاع في سائر مناحي الحياة، وتوالي الفتن والحروب الداخلية، ولكنه كان يقاسي في نفس الوقت من جشع أولئك الأمراء الطغاة، الذين كانوا يجعلون من ممالكهم ضياعاً خاصة، يستغلونها بأقسى الوسائل وأشنعها، ويجعلون من شعوبهم عبيداً يستصفون ثرواتهم، وثمار كدهم، إرضاء لشهواتهم في إنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والانهماك في حياة الترف الناعم، والإغداق على الصحب والمنافقين، هذا فضلا عن حشد الجند، لإقامة نيرهم، وتدعيم طغيانهم. وقد ترتب على ذلك أن انهارت المعايير الأخلاقية، واختلط الحق بالباطل، والحلال بالحرام، ولم يعد الناس يعتدون بالوسيلة، بل يذهبون إلى اقتضاء الغاية، وتحقيق الكسب بأي الوسائل. وقد شرح لنا الفيلسوف ابن حزم طرفاً من هذه الفوضى الاجتماعية

(1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 34 ب. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 254.

ص: 421

والأخلاقية، ووصف لنا إلى أي حد كان يذهب أمراء الطوائف، في إرهاق شعوبهم بالمغارم الفادحة، وإليك ما يقوله في ذلك:

" وأما الباب الثاني. فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زماننا هذا باب جديد لا يؤثم صاحبه، ولا يؤجر، وليس على الناس أن يبحثوا عن أصول ما يحتاجون إليه في أقواتهم ومكاسبهم، إذ كان الأغلب هو الحلال، وكان الحرام مغموراً. وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه. فإنما هو باب أغلق عينيك، واضرب بيديك، ولك ما تخرجه إما ثمرة وإما جمرة. وإنما فرقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله، لأن الغارات في أيام الهدنة لم تكن غالبة ظاهرة كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين، فإنما كانت على الأرضين خاصة، فكانت تقرب مما فرض عُمر على الأرض. وأما اليوم فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين، يسمونها بالقطيعة، ويؤدونها مشاهرة، وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شىء ما، وقبالات ما يؤدي على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد، هذا كله ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار، ونقض شرائع الإسلام، وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل ".

ويحمل ابن حزم بعنف، على استهتار أمراء الطوائف بأحكام الدين، وما اتسموا به من ضعف الإيمان والعقيدة، ويؤكد لنا أنهم لو وجدوا في اعتناق النصرانية، وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم، لما ترددوا في اعتناقها، ونحن نقتبس هنا عباراته اللاذعة المؤسية معاً:

" والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم، لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى، فيمكنونهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحشرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً، فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفاً من سيوفه "(1).

(1) راجع أقوال ابن حزم التي نشرت بعناية الأستاذ بلاثيوس في مجلة "الأندلس": Al - Andalus، (ano 1934) p. 37 وفي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها ص 173 - 177.

ص: 422

ونحن لا نستطيع أن نتهم ابن حزم، وهو فيلسوف عصره المتزن، البعيد النظر، النافذ الملاحظة، بالمبالغة والتحامل، وهو قد شهد بنفسه أحداث العصر، وفضائح ملوك الطوائف، وأصدر عليها تلك الأحكام القاسية، التي نراها ماثلة في غير موضع من تعليقاته على حوادث عصره (1). وقد توفي ابن حزم في سنة 456 هـ (1064 م). وممالك الطوائف في إبان قوتها وعنفوانها، وقبل أن تنحدر إلى ما انحدرت إليه فيما بعد من الإنحلال المعنوي الشامل، وقبل أن يتهالك أمراؤها في الترامي على أعتاب ملك قشتالة، وينحدرون على يديه إلى أسفل درك من الذلة والمهانة. ولو شهد الفيلسوف هذه المرحلة الأخيرة من انحلال ممالك الطوائف، لكان بلا ريب في تعليقاته وأحكامه أشد قسوة وعنفاً.

- 2 -

الخواص العلمية والأدبية

على أنه لمما يلفت النظر حقاً، أن ممالك الطوائف، كانت خلال هذا الانحلال الشامل، تبدو في أثواب لامعة زاهية. وإذا لم يكن يسودها النظام والاستقرار دائماً، فقد كانت في الفترات القليلة التي تجانب فيها الحرب الأهلية، تتمتع بقسط لا بأس به من الرخاء، وتغمرها الحركة والنشاط. وكان ملوك الطوائف. بالرغم من طغيانهم المطبق، ومن الصفات المثيرة التي كان يتصف بها الكثير منهم، من حماة العلوم والآداب. وإنها لظاهرة من أبرز ظواهر عصر الطوائف، أن يكون معظم الملوك والرؤساء من أكابر الأدباء والشعراء والعلماء، وأن تكون قصورهم منتديات زاهرة. ومجامع حقة للعلوم والآداب والفنون، وأن يحفل هذا العصر بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الممتازين، ومنهم بعض قادة الفكر الأندلسي، والفكر الإسلامي بصفة عامة.

ولنبدأ الحديث في ذلك عن قصور عصر الطوائف وأمرائه. فلقد كانت هذه القصور المنتثرة في رقعة الوطن الأندلسي الكبرى، وكل منها يدعي السيادة على مدن ورقاع محدودة، تسطع ليس فقط بفخامتها وروعتها وبذخها، ولكن كذلك بأمرائها ووزرائها وكتابها. الأدباء والشعراء. وقد ازدهر الشعر الأندلسي

(1) تراجع تعليقات ابن حزم على بعض فضائح عصره في " نقط العروس " ص 83 و 84 و 89.

ص: 423

بالأخص في عصر الطوائف، وبلغ في ذلك مدى لم يبلغه في أي عصر آخر.

ويعلل الأستاذ نِكِل ذلك بأنه يرجع بالأخص إلى ما كان يتسم به هذا العصر من حريات، ترتب عليها الإغضاء عن كثير من القيود الدينية، ولاسيما ما تعلق منها بتحريم الخمر، وحجب المرأة، وإلى ذيوع العلاقات الغرامية بين الجنسين (1) كان ملوك الطوائف حسبما تقدم، يتسمون بضعف الإيمان والعقيدة، والاستهتار بأحكام الدين، وكان الكثير منهم يجاهرون بالمعاصي، وارتكاب الأمور المحرمة، وهو ما يسجله عليهم الفيلسوف ابن حزم فيما تقدم من أقواله. وقد كانت قصورهم المترفة الأنيقة، كما تزدان بمجالس الشعر والأدب، تحفل في الوقت نفسه بمجالس الأنس والطرب، والنساء والغلمان والخمر، وهي أمور تشغل حيزاً كبيراً في آداب العصر وشعره. وكانت مجتمعات الطوائف المرْهقة المنحلة، تتأثر بهذه الروح الإباحية، وتجنح إلى اجتناء المتعة المادية والملاذ الحسية بمختلف ضروبها، وكان هذا الانحلال الشامل يجتاح يومئذ سائر طبقات المجتمع الأندلسي.

على أن النهضة الأدبية والفكرية التي امتاز بها عصر الطوائف، ترتفع مع ذلك فوق مستوى هذا الانحلال وتبرز قوية وضاءة. ولقد كانت هذه القصور المترفة المرحة نفسها، أكبر مبعث لهذه النهضة، وكان أولئك الملوك المستهترون أنفسهم دعاتها وحماتها، وكانت قصور الطوائف تتنافس في هذا الميدان وتتسابق، شعوراً منها بما تجتنيه من وراء ذلك من فخار ومجد، وما تسجله روائع المنظوم والمنثور من ذخر وذكر. وكان من بين هذه القصور ثلاثة امتازت بنوع خاص، بمشاركتها في النهضة الأدبية والشعرية، هي بلاط بني عباد بإشبيلية، وبلاط بني الأفطس ببطليوس، وبلاط بني صمادح بألمرية.

كان بنو عباد، وهم كما رأينا، أعظم ملوك الطوائف قوة وجاهاً وملكاً، من أعظم رواد هذه النهضة الأدبية والفكرية التي سادت هذا العصر، وقد سبق أن أشرنا إلى ما امتازت به هذه الأسرة النابهة من نبوغ في ميدان الشعر والأدب، وقد برز منهم بالأخص المعتضد بن عباد، وولده المعتمد، وترك لنا كلاهما طائفة كبيرة من روائع نظمه. ويمتاز شعر المعتضد بنزعة إلى الفخر والمجد وشهرة

(1) الشعر الأندلسي: A.R.Nykl: Hispano - Arabic Poetry: (Baltimore 1946، p. 72

ص: 424

الجود. أما المعتمد بن عباد فقد كان بلا ريب من أعظم شعراء عصر الطوائف، إن لم يكن أعظمهم جميعاً. ويرى الأستاذ نكل أنه " أبرز ممثل للشعراء الأندلسيين العرب في النصف الثاني للقرن الحادي عشر " وأنه " يتزعم هذا العصر بشخصيته المتسمة بالفروسية، ويعتبر أسطع نجم في باقة النجوم الكبرى لملوك الطوائف الآخرين "(1). وقد ترك لنا المعتمد بنوع خاص طائفة من أروع القصائد التي نظمها أيام مجده، ثم بعد ذلك خلال محنته. في التلهف على ماضيه والبكاء على مصيره، وقد أوردنا فيما تقدم مقتطفات من شعره، في مختلف المناسبات والأحداث.

وكان بنو عباد فضلا عن مواهبهم الأدبية والشعرية الرفيعة، يجمعون في بلاطهم، وهو أزهى قصور الطوائف في هذا المضمار. جمهرة من أكابر شعراء العصر وكتابه، سواء برسم الوزارة أو الكتابة أو الانتظام بين صحب الأمير ومستشاريه، أو لمجرد الرعاية والحماية. وكان من هؤلاء حسبما أسلفنا شعراء عظام مثل أبى بكر بن عمار الشاعر الذكي المبدع، وقد أتينا على أحداث حياته فيما تقدم، وأبى الوليد بن زيدون الذي يصفه الأستاذ نكل بأنه " شاعر عظيم للحب "، ويعتبره مثلا " لأبدع نموذج للأسلوب العربي الكلاسيكي. وفي وسعنا أن نقارنه بالمتنبي والبحتري ".

وقد قارن العلامة دوزي، ابن زيدون في حياته الغرامية بالشاعر اللاتيني تيبولوس في حبه " لدِلْيا "، ولكن الأستاذ نكل لا يقر هذه المقارنة إلا من حيث الناحية الغرامية، وعنده أن المظاهر الشعرية تختلف بين الشاعرين الأندلسي واللاتيني، " كما تختلف الأزهار لوناً وعطراً "(2). والواقع أن حب ابن زيدون لولادة بنت الخليفة المستكفي (3)، كان أعظم حدث في حياته، وكان أعظم وحي لروائع شعره. وكانت ولادة ابنة جارية نصرانية، وكانت ناصعة المحيا، زرقاء العينين، حمراء الشعر، رائعة الحسن. ويصفها ابن بسام بقوله: " وكانت في

(1) A.R.Nykl: ibid ; p. 72 & 130

(2)

A.R.Nykl: ibid ; p. 109

(3)

وهو محمد بن عبد الله بن الناصر لدين الله. تولى الخلافة في ذي القعدة سنة 414 هـ باسم المستكفي بالله، ثم خلع وفر من قرطبة في ربيع الأول سنة 416 هـ (1025 م) واغتاله في الطريق بعض أصحابه.

ص: 425

نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وطهارة أثواب. على أنها، سمح الله لها وتغمد زللها، طرحت التحصيل، وأوجدت للقول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها " (1). وهام ابن زيدون في شبابه بولادة أيام خدمته لبني جهور، وتوثقت علائقه بها مدة من الزمن، ونظم في حبها طائفة من أروع قصائده، ثم ساءت العلائق بينهما، وهجرته ولادة وهو يستعطفها بقصائد مؤثرة. وكان ينافسه في ودها رجل من سراة قرطبة يدعى أبو عامر بن عبدوس تزوجته ولادة فيما بعد، وانتهى الأمر بأن زج ابن زيدون إلى السجن إما لريبة علقت بولائه لابن جهور، أو نتيجة لمكيدة دبرها له خصمه ومنافسه ابن عبدوس. وقد وجه ابن زيدون إلى منافسه وخصمه ابن عبدوس هذا، رسالة لوم وتقريع، تفيض بألوان مؤلمة من التهكم والتشبيهات، والمقارنات، وينعته في أولها " بالمصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره ". ثم يفيض في وصفه وتشبيهه بأسلوب ساخر مقذع، وقد اشتهرت رسالة ابن زيدون هذه، واعتبرت من الطرائف الأدبية وعملت لها شروح عديدة (2). ثم فر ابن زيدون من سجنه، وغادر قرطبة إلى إشبيلية وذلك في سنة 441 هـ (1049 م) والتحق ببلاط المعتضد بن عباد، وخدمه وعلت مكانته لديه. ولما توفي المعتضد استمر في خدمة ولده المعتمد، وتوفي في سنة 463 هـ (1071 م). وقد ترك لنا ابن زيدون ثروة كبيرة منوعة من نظمه الرائق، ومنها قصائد تعتبر من أروع ما يحتويه الشعر الأندلسي (3)، وفيها يبلغ النسيب ذروة الإبداع الروحي والحسي،

(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 376.

(2)

ومنها شرح مخطوط لابن نباته المصري عنوانه " سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون " يحفظ بالمتحف البريطاني برقم Or. 8578 وقد طبع هذا الشرح بمصر غير مرة.

(3)

راجع في حياة ابن زيدون وشعره: الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 289 - 376، وقلائد العقيان ص 70 - 83.

ص: 426

وكان لحبه لولادة بلا ريب أعمق تأثير في نفسه وروحه، وهو تأثير يشيد به النقد الحديث. يقول الأستاذ نكل " وبغير هذا التأثير كان شعر ابن زيدون يبقى ناقصاً بعضاً من أثمن جواهره "(1).

وإلى جانب هذين الشاعرين العظيمين، ابن عمار وابن زيدون، كان بلاط إشبيلية يضم طائفة أخرى من أكابر شعراء العصر، منهم أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانه وأصله من دانية، كما يدل على ذلك اسمه، وبرع في الشعر منذ صباه، واتخذه وسيلة للتكسب والعيش، وتجول بين قصور الطوائف يمتدح ملوكهم. ثم اتصل ببلاط إشبيلية، وغدا شاعر المعتمد الأثير لديه، وقد نظم في مديحه كثيراً من قصائده. ولما ذهبت دولة المعتمد، ونفي أسيراً إلى المغرب، زاره أبو بكر بأغمات، وله في دولة المعتمد وأيامه، وفي محنته وأسره، قصائد كثيرة، وله كتاب في تاريخ بني عباد سبقت الإشارة إليه.

ولحق في أواخر أيامه بجزيرة ميورقة، ومدح صاحبها مبشر العامري وحظى لديه.

ومنهم عبد الجليل بن وهبون، وهو صديق ابن عمار ومرثيه، وأبو الحسن الحصرى، وأصله من القيروان. وقد خدم المعتضد ثم المعتمد، وتوفي بطنجة سنة 488 هـ. ومنهم شاعر فذ من الوافدين على الأندلس، هو عبد الجبار ابن أبى بكر بن محمد الأزدي الصقلي المعروف بابن حمديس، وقد ولد بسرقوسة سنة 447 هـ (1055 م)، ولما غزا النورمان صقلية في سنة 471. (1078 م) سار إلى تونس ثم إلى إشبيلية والتحق ببلاط المعتمد، ونظم في مديحه كثيراً من القصائد، وظهر بروعة افتنانه ولاسيما في شعره الوصفي. ولما أسر المعتمد زاره في أغمات وأقام لديه مدة، ثم سار ابن حمديس بعد ذلك إلى المهدية وخدم ملكها وتوفي سنة 527 هـ (1132 م).

وأما عن الكتاب الذين خدموا في بلاط إشبيلية، وازدهروا في ظل بني عباد، فقد أشرنا إلى الكثير منهم، خلال حديثنا عن أخبار مملكة إشبيلية، وإنما أردنا أن نخص الشعراء بالذكر هنا لما كان لبني عباد في هذا الميدان من رياسة ومواهب عالية، ولما كان لدولة الشعر في ظلهم من رعاية خاصة، وقد كان بنو عباد

(1) A.R.Nykl: ibid ; p. 119

ص: 427

أوفر أمراء الطوائف عناية بالحركة الأدبية وإمدادها بالبذل الوفير (1). ولم يكن يجاريهم في ذلك أي بلاط آخر من قصور الطوائف.

وكان بنو الأفطس، ملوك بطليوس، كذلك من حماة الشعر والأدب،

وكان بلاطهم ولاسيما في عهد عميدهم المظفر، وولده عمر المتوكل، ملاذاً لطائفة من أعظم شعراء العصر، وفي مقدمتهم وزيرهم الشاعر والكاتب الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، وبنو القبطرنة الثلاثة أبو بكر وأبو محمد وأبو الحسن أبناء عبد العزيز البطليوسي، وقد كانوا أيضاً من وزراء بني الأفطس، ومن شعرائهم المجيدين. وقد ذكرهم ابن بسام في الذخيرة ووصفهم بأنهم من " أسرة أصالة، وبيت جلالة، أخذوا العلم أولا عن آخر، وورثوه كابراً عن كابر، ثلاثة كهقعة الجوزاء، وان أربوا عن الشهر في السنا والسناء " ووصفهم ابن الخطيب بأنهم " كانوا عيوناً من عيون الأدب بالأندلس، ممن اشتهروا بالظرف والشرف والجلالة ". وقد برع ثلاثتهم في النظم والكتابة، وكتبوا بعد بني الأفطس لعاهل لمتونة، يوسف بن تاشفين. ومن نظم أبي محمد قوله:

هلم إلى روضنا يا زهـ

ـير ولح في سماء المنى يا قمر

وفوِّق إلى الأنس سهم الأخا

ء فقد عطلت قوسه والوتر

إذا لم تكن عندنا حاضرا

فما يغصون الأماني ثمر

وقعتَ من القلب وقع المنى

وحُزت من العين حسن الحَوَر

ومن شعر أبى بكر قوله:

ْيا أخي قم تر النسيم عليلا

باكر الروض والمدام شمولا

في رياض تعانق الزهر فيها

مثل ما عانق الخليل خليلا

لا تنم واغتنم مسرة يوم

إن تحت التراب نوماً طويلا (2)

وأما ابن عبدون فقد اشتهر بالأخص بمرثيته الشهيرة لبني الأفطس عقب ذهاب دولتهم، وهي قصيدته المعروفة " بالعبدونية "، وقد أتينا على ذكرها فيما تقدم. ويصفها الأستاذ نكل بأنها " مزيج مدهش من الشعور العميق، والمتانة

(1) نفح الطيب (عن رسالة الشقندي) ج 2 ص 140.

(2)

راجع كتاب " الإحاطة في أخبار غرناطة "(القاهرة 1956) ص 527 - 530.

ص: 428

التاريخية ". وكان المظفر بن الأفطس نفسه من أكبر أدباء عصره وأغزرهم مادة، وقد اشتهر بكتابه أو مصنفه الأدبي والتاريخي الكبير المسمى " بالمظفري " والذي قيل إنه كان يحتوي على مائة مجلد مليئة بالأخبار والفنون الأدبية (1). وكذا كان ولده عمر المتوكل عالماً وشاعراً كبيراً.

وكان يجتمع في بلاط ألمرية حول بني صمادح، جمهرة من أقطاب الشعر والأدب، في مقدمتهم أبو عبد الله محمد بن عباد المعروف بابن القزاز، وأبو الفضل جعفر بن شرف، وابن الحداد الوادي آشي وغيرهم، ممن سبق أن ذكرناهم في أخبار مملكة ألمرية. وقد كان ابن القزاز من أهل مالقة وكان أبرع الوشاحين في عصر الطوائف. ووصفه ابن بسام " بأنه من مشاهير الأدباء والشعراء، وأكثر ما ذكر اسمه وحفظ نظمه في أوزان الموشحات ". وقيل في حقه " كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز ". ومن أشهر موشحاته:

بدر تم

شمس ضحا

غصن نقا

مسك شم

ما أتم

ما أوضحا

ما أورقا

ما أتم

لا جرم

من لمحا

قد عشقا

قد حرم (2)

وأما ابن شرف، فهو جعفر بن محمد بن سعيد بن شرف الجذامي القيرواني، أصله من القيروان وبها ولد سنة 444 هـ. ولما اضطرمت فتنة العرب في إفريقية غادرها إلى الأندلس واستوطن برجة. وكان من أعظم شعراء عصر الطوائف، وكان فوق ذلك أديباً موهوباً وله مؤلفات في الأمثال والأخبار والآداب. وتوفي سنة 534 هـ (3). وأما ابن الحداد، فهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحداد القيسي. وكان من أكابر الشعراء، وقد قضى معظم حياته في بلاط ألمرية حسبما تقدم ذكره. وهو الذي وجه إليه ابن غرسية رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب. وكان بنو صمادح، كبني عباد أسرة شاعرة موهوبة، وكان المعتصم من أكبر شعراء عصره، وكذلك كان ولداه يحيى الملقب برفيع الدولة، وأبو جعفر الملقب برشيد الدولة، وإبنته أم الكرام، من الشعراء الموهوبين. واشتهر منهم

(1) نفح الطيب ج 2 ص 136 و 141.

(2)

ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص 519، والذخيرة القسم الثاني من المجلد الأول ص 299.

(3)

ترجمته في الصلة رقم 298.

ص: 429

بالأخص رفيع الدولة، وكان أشعرهم جميعاً (1). ويجب ألا ننسى أن العلامة اللغوي والجغرافي الكبير، أبو عبيد البكري قد عاش حيناً في ألمرية، تحت كنف المعتصم ورعايته، ووضع في ظل هذه الرعاية موسوعته الجغرافية الشهيرة وبعض كتبه الأخرى. وهو أبو عبيد عبد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد ابن أيوب بن عمرو البكري. وهو سليل أسرة من الأمراء حكمت ولبة، وجزيرة شلطيش حيناً، واستمرت رياسة أبيه بها حتى سنة 443 هـ، حينما أجلاه عنها المعتضد بن عباد. ودرس أبو عبيد على ابن حيان، والحافظ ابن عبد البر، وأبى العباس العذري وغيرهم من أقطاب العصر. وله عدة مؤلفات قيمة في مقدمتها موسوعته الجغرافية المسماة المسالك والممالك، وكتاب معجم ما استعجم، وهو قاموس لغوي جغرافي، وكتاب اللآلىء في شرح أمالي القالي، وكتاب أعلام نبوة نبينا محمد. وكان البكري من أقطاب الأدب في عصره، وكان آية في التبحر واللغة ومن أساتذة الأنساب والأخبار، وأهل الضبط. وتوفي البحري في سنة 487 هـ (2) وقال ابن الأبار:" وكان أبو عبيد البكري من مفاخر الأندلس، وهو أحد الرؤساء الأعلام، وتواليفه قلائد في أجياد الأيام "(3).

بيد أنه مما تجب ملاحظته أن هذه الرعاية لدولة الشعر والأدب، لم تبلغ في القصور البربرية مبلغاً كبيراً، فلم تزدهر النهضة الأدبية في ظل بني ذى النون بطليطلة ولم تجتمع في بلاطهم سوى قلة من الأدباء والشعراء، وإن كان قد نبغ في ظلهم بعض العلماء البارزين في الفلك والزراعة. وكذلك لم تشهد غرناطة في ظل بني مناد البربر أية نهضة أدبية ذات شأن.

أما قصور الطوائف في شرقي الأندلس، وفي سرقسطة، فكان لها شأن خاص في رعاية الحركة الأدبية والشعرية بوجه عام. وكان بلاط سرقسطة، شأنه شأن بقية قصور الطوائف يسبغ رعايته على عدد من أكابر الشعراء والكتاب، وكان في مقدمة هؤلاء، أبو عمر أحمد بن محمد درّاج القسطلي، وهو من أبرز شعراء عهد انهيار الخلافة وبداية عهد الطوائف. ولد بقسطلة الغرب سنة 347 هـ من أصل بربري وتوفي سنة 421 هـ، وكان في شبابه من كتاب المنصور بن أبي عامر

(1) الحلة السيراء (دوزي) ص 176. والقاهرة ج 2 ص 92.

(2)

ترجمته في الصلة رقم 632.

(3)

الحلة السيراء ج 2 ص 185.

ص: 430

وشعرائه، وذاع اسمه بين ألمع شعراء الطوائف، ومدح عدداً من أمرائهم، ولاسيما الفتيان العامريين أمثال مجاهد ومظفر ومبارك وخيران، ثم التحق ببلاط سرقسطة، ومدح المنذر بن هود ثم ابنه يحيى. وقد وصفه الثعالبي في يتيمة الدهر، بأنه كان بين شعراء الأندلس، كالمتنبي بين شعراء المشرق، وقد ترك لنا ابن درّاج ديوان شعر ضخم يضم عدداً كبيراً من أروع القصائد في مختلف الأغراض (1). وقد اشتهر ابن دراج كذلك ببلاغته في الترسل، وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة طائفة من رسائله إلى جانب ما أورده من منظومه. وقد أوردنا نحن فيما تقدم شيئاً من نظمه. وكان من بين أمراء سرقسطة في الوقت نفسه، بعض الأدباء والعلماء البارزين، وهؤلاء سوف نذكرهم خلال حديثنا فيما يلي عن النهضة الفكرية العامة في عصر الطوائف.

- 3 -

إلى جانب هذه النهضة الأدبية والشعرية الزاهرة، يمتاز عصر الطوائف بنبوغ جماعة من العلماء الأفذاذ الذين يرتفعون إلى الذروة، في تفكيرهم ومستواهم العلمي الرفيع، وفي مقدمة هؤلاء العلامة الفيلسوف أبو محمد على بن حزم، وقد كان آية عصره في نضوج الذهن ودقة البحث، وعمق التفكير. ولد بقرطبة في سنة 384 هـ (994 م) في أواخر عهد المنصور، وكان أبوه أحمد بن حزم من وزراء ْالمنصور المقربين، ثم وزر من بعده لابنه عبد الملك. وقضى ابن حزم حداثته أيام الفتنة بقرطبة، ثم تجول حيناً في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين، وكان مثلهم يؤيد قضية الخلافة الأموية، ولما هدأت الأحوال نوعاً عاد إلى قرطبة، وتابع دراسته في المسجد الجامع. وبرع ابن حزم بالأخص في الفقه والعلوم الدينية والشرعية، وأصول المذاهب والنحل، وفي المنطق والفلسفة واللغة، والمعرفة بالسير والأخبار. وتولى الوزارة في شبابه للخليفة المستظهر الأموي، ثم نزح إلى شاطبة، وهنالك كتب كتابه " طوق الحمامة "، وهو دراسة نفسية تحليلية بديعة للحب وبواعثه وأشكاله، ومنه نعرف فضلا عن ذلك، الكثير عن حياة الفيلسوف،

(1) نشر هذا الديوان بدمشق سنة 1961 بتحقيق الدكتور محمود علي مكي. وتراجع ترجمة ابن دراج في ابن خلكان ج 1 ص 51، وفي بغية الملتمس. الترجمة رقم 342. وأورد له الدكتور مكي في صدر الديوان ترجمة طويلة (ص 21 - 80).

ص: 431

وعن منازل أسرته وعن خطط قرطبة المعاصرة. وكتب بعد ذلك عشرات من الكتب والرسائل في مختلف الموضوعات الفقهية والفلسفية والتاريخية. منها كتاب " الإحكام لأصول الأحكام "، وكتاب في الإجماع ومسائله على أبواب الفقه، وكتاب في مراتب العلوم، وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، ومنها كتاب " جوامع السيرة "، وهو عرض لسيرة الرسول وغزواته وذكر أصحابه، ومن روى عنه، وذكر نبذ من فتوح الإسلام بعد الرسول، و " جمهرة أنساب العرب " وهو وثيقة جامعة لأصول القبائل العربية وأنسابها، ومن نزل منها بالأندلس، و " نقط العروس " وهو يتضمن سلسلة من النوادر والحوادث، والمقارنات والنظائر التاريخية الفريدة. وإذا كان ابن حزم يصف لنا التاريخ بأنه " علم الأخبار "، ويعتبر علم النسب جزءاً من علم الخبر، فإنه يحق لنا بعد الذي تقدم من ذكر كتبه، أن نعتبره مؤرخاً بكل معاني الكلمة. على أن ابن حزم لم يكن مع ذلك مؤرخاً عادياً، بل كان بالعكس مؤرخاً من طراز خاص، بل ومن طراز نادر، من طراز أولئك المؤرخين الذين تعتبر كلماتهم، عن حوادث عصرهم وشخصياته، أحكاماً لا تقبل الجدل. وقد عاش ابن حزم في عصر فياض بالاضطرابات والأحداث المثيرة، هو عصر انحلال الخلافة الأندلسية، وقيام دول الطوائف، وشهد الكثير من أحوال هذا العصر وتقلباته، ومن تصرفات أمراء الطوائف، ومثالبهم، وبغيهم، واستهتارهم، وهزت هذه الأحداث مشاعره إلى الأعماق، ومن ثم كانت أقواله وأحكامه الصادقة التي أصدرها في حق الطوائف، والتي نقلناها فيما تقدم. بيد أن ابن حزم يشتهر بنوع خاص سواء في الشرق أو في الغرب، بكتابه الجامع " الفصل في الملل والأهواء والنحل ".

ويشيد البحث الحديث بابن حزم، وروعة علمه وتفكيره، ويخصص له العلامة الإسباني آسين بلاثيوس كتاباً يتناول فيه حياته وكتابه " الفصل " ويعتبره " مفكراً وعالماً لاهوتياً، ومؤرخاً ناقداً للأديان والمدارس الفلسفية الدينية "(1).

ويعتبره الأستاذ نكل " أديباً وشاعراً وفقيهاً، ومؤرخاً سياسياً وعالماً أخلاقياً "(2).

(1) A.Asin Palacios: Abenhàzm de Cordoba y su Historia de las Ideas religiosas.

(2)

A.R.Nykl: ibid ; p. 73

ص: 432

وكان ابن حزم بالأخص داعية من أشد دعاة المذهب الظاهري، وقد غلبت هذه النزعة على سائر بحوثه الفقهية والكلامية، واعتبر حجة هذا المذهب وإمامه في عصره. وكان يتشدد كل التشدد في تطبيقه على العقائد، والأحكام، وهو لا يأخذ في تفسير الأحكام إلا بالكلمة المكتوبة، والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين، في صوغ الأحكام. وقد اشتهر باعتناقه لهذا المذهب حتى أن أنصاره سموا فيما بعد " بالحزمية " نسبة إليه. وقضى ابن حزم حياة فكرية عميقة خصبة.

وأثار في الوقت نفسه، بآرائه ونظرياته الأصولية والدينية من حوله خصومات كثيرة، واتهمه البعض بالمروق والزندقة، وأحرقت كتبه في إشبيلية بأمر المعتضد ابن عباد (1). ونزح في أواخر حياته إلى دار أسرته بقرية منت ليشم من أعمال لبلة، وهنالك توفي في شعبان سنة 456 هـ (1064 م)(2).

وكان من أقران ابن حزم الذين طرقوا مثل ميدانه في التفكير الديني والشرعي، العلامة أبو الوليد الباجي، وهو سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب التجيبي الباجي الحافظ. ولد بمدينة بطليوس غربي الأندلس سنة 403 هـ ودرس في قرطبة، ثم سافر إلى المشرق ودرس حيناً بمكة ثم في بغداد، ولما عاد إلى الأندلس عاش حيناً في بلاط ميورقة، وحيناً آخر في كنف المقتدر بن هود، واشتهر بردوده على ابن حزم، وكان قرينه في غزارة العلم وسعة المعرفة. وقد وصف بأنه من أئمة المسلمين. وتوفي في سنة 474 هـ (1081 م). ومن شعره:

إذا كنت أعلم علماً يقيناً

بأن جميع حياتي كساعة

فلم لا أكون ضنيناً بها

وأجعلها في صلاح وطاعة (3)

ونبغ إلى جانب ابن حزم عالم ومفكر جبار آخر، هو العلامة اللغوي الأعمى أبو الحسن على بن سيده، المتوفى في سنة 458 هـ (1066 م). وكان آية في الحفظ

(1) ترجمته في جذوة المقتبس ص 290 - 293، وفي وفيات الأعيان ج 1 ص 428 - 431.

(2)

في شهر مايو (من 12 - 18 منه سنة 1963) نظم بمدينة قرطبة مهرجان رسمي فخم للاحتفال بذكرى مرور تسعمائة عام على وفاة العلامة ابن حزم " القرطبي " وأقامت له بلدية قرطبة تمثالا بالحجم الطبيعي أمام باب إشبيلية على مقربة من الجامع. وأقيمت كذلك لوحة تذكارية لابن حزم بالإسبانية، أمام مدخل كنيسة سان لورنتسو التي أقيمت مكان الجامع الذي كان يتوسط بلاط مغيث وهو الحي الذي عاش فيه ابن حزم. ونظمت بهذه المناسبة عدة ندوات دراسية، وطائفة من الحفلات الفخمة. وقد كان مؤلف هذا الكتاب من شهود هذا المهرجان التاريخي العظيم.

(3)

ترجمته في الصلة رقم 453.

ص: 433

وقوة الذاكرة، وقد عاش بدانية في كنف أميرها العالم مجاهد العامري، وانقطع إليه، ولما توفي مجاهد، توجس من ولده على إقبال الدولة، فغادر دانية إلى بعض الأنحاء المجاورة. واشتهر ابن سيده بكتابه " المحكم " وهو قاموس لغوي ضخم، وكتاب " السمار ".

وكان من كتاب الموسوعات أيضاً العلامة اللغوي الجغرافي أبو عبيد البكري الذي سبق ذكره. وقد اشتهر بمعجمه اللغوي الجغرافي المسمى " معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع "، وهو مؤلف انتفع به الملك ألفونسو العالم في تاريخه العام له Cronica General

ويخص العلامة الأستاذ مننديث بيدال كتابي " الفصل " لابن حزم و " المحكم " لابن سيده بالذكر، وينوه بنفاستهما، ويقول:" إن النضوج العقلي اللازم لإخراج كتاب في تاريخ الأديان، أو قاموس للفكر المتشابهة، على مثل النمط الذي كتبت به هذه المصنفات الإسبانية الإسلامية، لم تصل إليه أوربا حتى القرن التاسع عشر "(1).

ومن أولئك العلماء الممتازين أيضاً العلامة ابن عبد البر، وهو أبو عمر يوسف ابن عبد الله النميري القرطبي، ولد سنة 368 هـ (978 م)، وقضى شطراً من حياته في دانية وبلنسية وشاطبة، ثم لحق أخيراً ببلاط بني الأفطس ببطليوس وعينه المظفر بن الأفطس قاضياً لأشبونة، ثم شنترين، وتوفي في سنة 463 هـ (1071 م). وكان من أوفر كتاب عصره علماً ومعرفة، وأشهر مؤلفاته كتاب " بهجة المجالس وأنس المُجالس " ويمتاز شعره بالرصانة والأنفة. وقد خدم ولده أبو محمد عبد الله بن عبد البر في بلاط بني عباد، حسبما تقدم ذكره في موضعه (2).

ويمكننا أن نذكر ضمن هذا الثبت من العلماء الأعلام، أميرين من أمراء الطوائف، هما مجاهد العامري صاحب دانية، وأبو عبد الرحمن محمد بن أحمد ابن طاهر صاحب مرسية. وكان مجاهد من أكابر علماء عصره في اللغة وعلوم القرآن، وكان بلاطه مجمعاً لطائفة من أشهر علماء العصر، وفي مقدمتهم ابن عبد البر، وابن سيده وذلك حسبما تقدم ذكره. وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر،

(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 81

(2)

نفح الطيب (عن رسالة ابن حزم في ذكر علماء الأندلس) ج 2 ص 131.

ص: 434

كذلك من أعظم علماء الأندلس وكتابها أيام الطوائف، ويشيد معاصره ابن بسام حسبما تقدم بذكره وذكر أدبه في الذخيرة، وينوه بجمال رسائله وروعتها. وقد وقفنا على نص صك من إنشائه بتقديم صاحب أحكام على بعض جهات مرسية أيام رياسته لها يقول فيه:" قلدت فلاناً وفقه الله النظر في أحكام فلانة، وتخيرته لها بعد ما خبرته، واستخلفته واثقاً بدينه، راجياً لتحصنه، لأنه احتاط فعلم، وإن أضاع فأثم، فليقم الحق على أركانه، وليضع العدل، وليسر بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، فعف في الحكم عند اشتباهه، وبعده عند اتجاهه، ولا تقبل غير المرضي في شهادته، ولا تعرف سوى الاشتغال من علاته، ولتعلم أن الله مطلع على خفياته، وسلام يوم علاماته "(1).

هذا وقد كان عصر الطوائف، فضلا عن هذه النهضة الأدبية والفكرية الشاملة، يمتاز كذلك بازدهار الدراسات العلمية الممتازة. وقد نبغت فيه طائفة من أكابر الرياضيين والفلكيين، الذين كانت بحوثهم فيما بعد مستقى خصباً لاقتباس الغرب. وكان من هؤلاء أبو اسحق ابن ابراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي صاحب الجداول الفلكية الشهيرة أصله من طليطلة، ويعرف في الغرب باسم Azarquiel وقد ذاعت جداوله الفلكية، ذيوعاً عظيماً، وكانت في كثير من المواطن أصح من غيرها من الجداول القديمة، وتوفي الزرقالي سنة 480 هـ (1087 م). وأبو القاسم أصبغ بن السمح الغرناطي المتوفى سنة 438 هـ (1038 م)، وكان بارعاً في الهندسة والفلك، وله كتب قيمة في الهندسة وزيج فلكي. وأبو الوليد هشام الوقشي، وكان أبرع علماء عصره في الهندسة والفلسفة والنحو واللغة، وتلميذه أبو القاسم سعيد بن أحمد الطليطلي صاحب كتاب " طبقات الأمم " وهو تاريخ للعلوم. وقد كانت الجداول الفلكية التي وضعها أولئك العلماء المسلمون فيما بعد، أقيم مرجع لألفونسو ملك قشتالة في اقتباس جداوله. وقد اشتهر ألفونسو العالم بالأخص باعتماده على مصادر العلوم الأندلسية، ولاسيما في عصر الطوائف، واقتباسه تقاليد العلماء الأندلسيين في هذا العصر، الذي سبقه بنحو قرنين. وكانت سرقسطة، وطليطلة، وقرطبة، من أعظم مراكز

(1) أورده ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " - الجزء الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس.

ص: 435

الدراسات الفلسفية والرياضية في القرن الحادي عشر الميلادي. وكان المقتدر بن هود وولده المؤتمن، من العلماء المبرزين في الفلسفة والرياضيات والفلك. وكتب المؤتمن رسالته " الإستكمال " في الرياضية. وأثارت بحوث هذين الأميرين العالمين إعجاب الدوائر العلمية في العصور الوسطى (1).

كانت هذه الجمهرة الحاشدة من الأدباء والشعراء والعلماء، التي حفل بها عصر الطوائف تملأ قصور الطوائف، وتعيش في كنف أمرائها، سواء بطريق الخدمة في الوزارة أو الكتابة أو القضاء أو غيرها. أو في ظل الصحبة والرعاية المجردة لأولئك الأمراء. وكان أولئك العلماء والأدباء، ينتقل معظمهم من دولة إلى أخرى، ومن قصر إلى قصر، وفقاً للأحوال والظروف، إذ كانت هذه القصور جميعاً تتنافس في اجتذاب أعلام الكتاب والأدباء إليها، وفي رعايتهم والإغداق عليهم، وكان بعضهم ينقطع إلى أمير بذاته، ويعيش في كنفه وتحت رعايته، وكان بعضهم يستحوذ على سياسة الدولة، ويسيرها وفق رأيه، أو يخوض غمار الدسائس والفتن فيذهب ضحية تدخله. وقد كان ابن عباس وزير زهير العامري، وأبو عبد الله البزلياني وزير المعتضد بن عباد، وابن عمار وزير ولده المعتمد، أسطع أمثلة لأولئك الوزراء المغامرين، وقد دفع كل منهم حياته ثمناً لمغامراته.

وكان من آثار ازدهار الحركة الفكرية في عصر الطوائف، ذيوع المكتبات العامة والخاصة ذيوعاً يلفت النظر. ذلك أن كل مدينة أندلسية غدت عاصمة لمملكة كبيرة أو صغيرة. وكان أمراء الطوائف يتنافسون في اقتناء الكتب النفيسة والنادرة، وقد كانت تنهال على شبه الجزيرة من سائر أنحاء العالم الإسلامي. وقد لبثت قرطبة بالرغم مما أصابها من آثار الفتن والحروب الأهلية، مركز العلوم والدراسات الممتازة، وبقيت بالرغم مما أصاب المكتبة الأموية الكبرى من التبديد المؤلم، مثوى لكثير من المجموعات النفيسة الخاصة. وكانت إشبيلية، حاضرة بني عباد، هي الثانية بعد قرطبة، في تقدم العلوم والثقافة، وكانت تحتوي، فضلا عن مكتبة بني عباد الملوكية العظيمة، على عدد كبير من المكتبات الخاصة. وكانت ألمرية أيضاً من الحواضر التي اشتهرت بمكتباتها القيمة. وكان

(1) يراجع في تفاصيل النهضة الفكرية في عصر الطوائف رسالة ابن حزم عن الحركة العلمية بالأندلس، وقد نشرت في نفح الطيب ج 2 ص 126 وما بعدها، ورسالة الشقندي وقد نشرت أيضاً في نفح الطيب ج 2 ص 138 وما بعدها. ويراجع أيضاً. R.M.Pidal: ibid ; p. 79-84

ص: 436

الوزير أحمد بن عباس وزير زهير العامري، فضلا عن علمه الغزير، من أعظم هواة الكتب، ويقال إن مكتبته العظيمة كانت تضم أربعمائة ألف مجلد. واشتهرت بطليوس في ظل بني الأفطس بتقدمها العلمي والثقافي. وكذا كانت طليطلة في ظل بني ذى النون مركزاً عظيماً للبحوث العلمية. واشتهر بنو ذى النون كذلك بجمع الكتب، وكانت لديهم مكتبة عظيمة. وكانت توجد غير المكتبات الملكية، مكتبات كثيرة أخرى خاصة وعامة، في سائر القواعد الأندلسية. وكان لهذه الثروات المكتبية، تأثيرها بلا ريب، في تقدم الحركة الفكرية والثقافية، في عهد الطوائف (1).

وقد امتدت هذة النهضة الفكرية والأدبية التي ازدهرت في عصر الطوائف إلى عهد المرابطين. وقد كان أولئك المرابطون يتسمون بالخشونة والبداوة، ويضطرمون بالأفكار الرجعية العتيقة، ويمقتون مظاهر الحضارة الأندلسية الرفيعة، فركدت في ظلهم دولة التفكير والأدب، وانفرط عقد الحلقات الأدبية الزاهرة، التي كانت تحفل بها قصور الطوائف، ومع ذلك فقد بزغت في عهدهم بعض أضواء مستمدة من تراث عصر الطوائف، وظهرت فيه عدة من الشخصيات اللامعة، مثل أبي القاسم خلف بن عباس القرطبي الطبيب الأشهر المتوفى سنة 516 هـ (1122 م)، وابن باجّة الطبيب الفيلسوف المتوفى سنة 533 هـ (1139 م).

وأبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، والفتح بن خاقان المتوفى سنة 535 هـ (1140 م)، وابن بسام الشنتريني المتوفى سنة 542 هـ (1147 م).

بيد أن ظهور هؤلاء العلماء والأدباء الأعلام في هذه الفترة لم يكن إلا أثراً من آثار النهضة الفكرية في عصر الطوائف.

* * *

وقد حظى عصر الطوائف، بعدة من أكابر العلماء والأدباء والمؤرخين الذين عنوا بتاريخه وتدوين حوادثه وخواصه، وتاريخ أعلامه. وفي مقدمة هؤلاء الفيلسوف ابن حزم. وبالرغم من أن ابن حزم لم يكن مؤرخا ًبالمعنى الصحيح لعصر

(1) راجع في ذلك فصلا للأستاذ خوليان ربيرا عنوانه: Bibliofilos y Bibliotecas في كتابه Disertaciones y Opusculos en la Espana Musulmana. وراجع الإحاطة لابن الخطيب (القاهرة 1956)، ج 1 ص 267.

ص: 437

الطوائف، إلا أنه يقدم لنا في رسالته المسماة " نقط العروس "، وفي بعض رسائله الأخرى، طائفة من الوقائع والملاحظات الصادقة عن عصر الطوائف وشخصياته، أشرنا إليها واقتبسنا منها فيما تقدم. ثم المؤرخ الكبير أبو مروان حيان بن خلف ابن حيان، وقد ولد بقرطبة سنة 377 هـ (987 م) وتوفي بها سنة 469 هـ (1076 م)، وكان أبوه خلف بن حيان من وزراء المنصور بن أبي عامر. وبرع ابن حيان في الأدب والرواية حتى غدا من أعلامها وخاصة محققيها، وكانت نشأته الأرستقراطية، وعلائق أسرته بالأوساط العليا، تتيح له حسن الاطلاع والوقوف على شئون الدولة، ودراسة مختلف التيارات السياسية. وشهد ابن حيان في شبابه سقوط الدولة العامرية، وما تلاه من ترنح الخلافة الأموية ثم سقوطها، وقيام دول الطوائف في بداية القرن الخامس الهجري، وتولى هو الوزارة لبني جهور، وشهد سقوط دولتهم، وخصص لها كتاباً من كتبه. ولا ريب أن هذه الأحداث المثيرة، التي مزقت وحدة الوطن الأندلسي، قد أذكت مخيلة ابن حيان، وصقلت قلمه، وأمدته بكثير من التعليقات الصائبة، والملاحظات النقدية القوية، التي نراها ماثلة في معظم ما كتبه عن حوادث عصره. وأعظم آثار ابن حيان كتابه " المقتبس في تاريخ رجال الأندلس " أو " المقتبس في أخبار أهل الأندلس ". وهو تاريخ ضخم للأندلس حتى عصره أى عصر الطوائف. وقد انتهت إلينا منه عدة قطع مخطوطة (1). وقد ضمنه ابن حيان، عن عصر الطوائف وأحداثه التي شهد الكثير منها بنفسه، أقيم الروايات وأنفسها، وأحفلها بالتعليقات النقدية. وكتب ابن حيان غير المقتبس، كتابه " المتين " وهو أيضاً تاريخ للأندلس تبالغ الرواية في ضخامته، ولكن لم يصل إلينا شىء منه، وكتاب المآثر العامرية، وهو أيضاً كتاب ضخم يقص فيه ابن حيان سيرة المنصور ابن أبي عامر وغزواته، ولكنه لم يصل كذلك إلينا.

وأسلوبه التاريخي يتسم بروح علمي ونقدي بارز. ويشيد ابن بسام بمجهوده التاريخي، وينقل عنه شذوراً ضافية، ولكنه يحمل عليه لمواقفه المتناقضة أحياناً

(1) يوجد منه جزء كبير مخطوط عن عهد عبد الرحمن الناصر بالخزانة الملكية بالرباط، وقطعتان مخطوطتان أخريان بخزانة القرويين الكبرى بفاس، وقطعة صغيرة مخطوطة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد. وهذا عدا الجزء الذي نشره المستشرق الإسباني الأب ملشيور انتونيا (باريس سنة 1937). (راجع في ذلك كتابي دولة الإسلام في الأندلس - الطبعة الرابعة ص 7 - 9).

ص: 438

بين المديح والذم، والتقدير والانتقاص، وذلك حسبما أشرنا إليه في موضعه في أخبار دولة بني جهور (1). وجاء بعد ابن حيان تلميذه أبو عبد الله الحميدي المتوفى سنة 488 هـ (1095 م). وقد عنى في معجم تراجمه (2)، بترجمة كثير من العلماء والأدباء، والفقهاء والمحدثين، في عصر الطوائف. وكتب المؤرخ والأديب الكبير أبو الحسن على بن بسام الشنترينى معجمه التاريخي والأدبي الضخم بقرطبة، عقب انتهاء عهد الطوائف بقليل، في سنتي 502 و 503 هـ.

وقد عاصر ابن بسام، قبل أن يغادر موطنه مدينة شنترين البرتغالية نحو سنة 480 هـ، قبيل استيلاء النصارى عليها بأعوام قلائل (3)، أواخر عهد الطوائف، وأوائل عهد المرابطين، وعاش وقتاً في إشبيلية، ثم غادرها إلى قرطبة، حيث كتب مؤلفه. ويعتبر كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة "، وهو مؤلف ضخم يحتوي على أربعة مجلدات أو أقسام كبيرة، من أهم وأنفس مصادرنا عن الطوائف سواء من النواحي التاريخية أو الأدبية أو الاجتماعية. وبالرغم من أن الصفة الأدبية تغلب عليه، بما يورده من تراجم أكابر الأدباء والكتاب والشعراء، ومن منثورهم ومنظومهم، فإنه مع ذلك يتضمن طائفة كبيرة من الفصول والشذور التاريخية، المنقولة عن ابن حيان وغيره من المؤرخين المعاصرين، أو المكتوبة بقلم ابن بسام ذاته. ويصارحنا ابن بسام في مقدمته بالدافع النفسي الذي دفعه إلى تصنيف " الذخيرة "، وهو أنه رأى انصراف أهل عصره وقطره إلى أدب المشرق والتزود منه والإعجاب به، وإهمال أدب بلدهم، فأراد بوضع الذخيرة، وجميع ما تضمنه، من رائق المنثور والمنظوم، أن يبصر أهل الأندلس ْبتفوق أدبائهم، وروعة إنتاجهم، وأن الإحسان ليس مقصوراً على أهل المشرق.

ومن الواضح أيضاً أن ابن بسام أراد أن يعارض بكتابه محاسن أهل الجزيرة أى جزيرة الأندلس، أديب المشرق الكبير أبي منصور الثعالبي صاحب

(1) راجع الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 84 و 85 و 113.

(2)

وهو المسمى " جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس ". وقد صدرت منه طبعة جديدة بالقاهرة في سنة 1372 هـ.

(3)

راجع الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 8. وقد سقطت شنترين في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة في سنة 486 هـ (1093 م).

ص: 439

" يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر "، فالذخيرة واليتيمة بذلك صنوان يدعو كل منهما إلى تذوق محاسن قطره.

ونجد إلى جانب ابن بسام كاتباً أديباً ومؤرخاً آخر، هو الفتح بن خاقان المتوفى سنة 529 هـ (1134 م) صاحب كتابي " القلائد " و " المطمح ". وقد أورد لنا في " القلائد "(1) تاريخ طائفة كبيرة من أمراء الطوائف ووزرائهم من الكتاب والشعراء والقضاة، يقدمهم إلينا في أسلوب مسجع، يغلب عليه التكلف، ويتضمن مع ذلك نبذاً وحقائق تاريخية هامة، وكذا في المطمح أو " مطمح الأنفس ومسرح التأنس " فقد تحدث عن طائفة من الأعيان الذين تناولهم في القلائد، وتحدث عن غيرهم بنفس الأسلوب المسجع. ونجد أخيراً شاعراً وكاتباً كبيراً، هو أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، وزير بني الأفطس والراثي لدولتهم، المتوفى سنة 520 هـ (1126 م) وهو الذي سبق ذكره، يقدم لنا في رسالته عن " القضاء والحسبة " صوراً هامة عن شئون القضاء والحسبة، وما يتعلق بها من أحوال الناس والمجتمع في عهد الطوائف، تبدو فيها روح النقد والتشاؤم، وهو ينوه في رسالته بما كان يجرى في إشبيلية، حيث كان يقيم، من ضروب الفساد، ويدعو إلى الكف عن أمور كانت تجرى في عهده، منها ألا يدخل النساء المسلمات الكنائس المشفوعة تحوطاً من فسق القساوسة، وألا تقرع النواقيس في بلاد المسلمين، إذ هي لا تضرب إلا ببلاد النصارى، وألا يبيع النصارى واليهود كتب العلوم الإسلامية لأنهم يترجمونها وينسبونها إلى أعيانهم، وألا يتولى الأطباء اليهود والنصارى علاج المسلمين. إلى غير ذلك مما سبق أن أشرنا إليه. ومما جاء في ختام رسالته قوله: " وبالجملة فإن الناس قد فسدت أديانهم وإنما

الدنيا الفانية والزمان على آخره. وخلاف هذه الأشياء، هو ابتداء الهرج، وداعية الفساد، وانقضاء العالم. ولا يصلح ذلك إلا نبي بإذن الله. فإن لم يكن زمن نبي، فالقاضي مسؤول عن ذلك كله، ومن كان في عون المسلمين، كان الله في عونه، فعليه أن يصرح بالحق، ويجري إلى الإصلاح والعدل

(1) هو كتاب " قلائد العقيان " وقد طبع بالقاهرة سنة 1283 هـ.

ص: 440

والتخلص، وينظر لنفسه، فعسى يتخلص، والله بعزته يسدده، ويوفقه للخير

" (1).

- 3 -

الخواص الفنية

وكما ازدهرت العلوم والآداب في عصر الطوائف، فكذلك ازدهرت الفنون والصناعات، وكانت قصور الطوائف مثوى للفنون الجميلة، ومظهراً حياً لكل ما تمخض عنه ذلك العصر من زخرف وترف وإناقة، وكانت بالأخص منتديات زاهرة للموسيقى، وما يتبعها من الغناء. وكان معظم أمراء الطوائف من عشاق الموسيقى يتنافسون في اقتناء القينات الحسان البارعات في العزف والغناء، ويبذلون في ذلك الأموال الطائلة، حتى لقد بذل أحدهم، وهو هذيل بن رزين صاحب شنتمرية الشرق ثلاثة آلاف دينار ثمناً لإحدى هؤلاء القينات، وكان في قصورهم منهن أسراب وأسراب، ولاسيما في قصور بني عباد بإشبيلية، وبني ذى النون بطليطلة، وكان المعتضد بن عباد يعشق الموسيقى، ويصحب الموسيقيين معه أثناء حملاته الحربية.

وكذلك ازدهرت الزراعة بالأندلس في عصر الطوائف. ونحن نعرف ما امتاز به أهل الأندلس من البراعة في الفنون الزراعية، وكيف حولوا وديان الأندلس إلى مهاد ورياض نضرة، وكيف اتخذت فنون الزراعة على أيديهم طابعاً علمياً واضحاً. وقد كان أهل الأندلس في الواقع من أنبغ الشعوب في فلاحة الأرض وتربية الماشية، وغرس الحدائق. وتنظيم طرق الري والصرف، ومعرفة أحوال الجو، وكل ما يتعلق بفنون الزراعة وخواص النبات، وكانت مزارعهم وحدائقهم، مضرب الأمثال في الجودة والتنسيق والنماء. ويرجع ازدهار الزراعة في عصر الطوائف إلى شغف ملوك الطوائف بإنشاء الحدائق والبساتين اليانعة، وتربية الغراس والزهور النادرة. وقد ظهر في عصر الطوائف، عدد من علماء النبات

(1) نشرت رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة ضمن مجموعة تتضمن ثلاث رسائل في الحسبة، نشرت بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال، وصدرت ضمن مطبوعات المعهد الفرنسي للآثار بالقاهرة.

ص: 441

والزراعة، ولاسيما في طليطلة وإشبيلية، حيث كانت حدائق بني ذى النون في الأولى، وحدائق بني عباد في الثانية، تشغل مساحات واسعة، وتتطلب عناية الخبراء الممتازين. وكان من علماء النبات والفلاحة البارعين في طليطلة ابن وافد الطبيب المشهور، وكان يشرف على حدائق بني ذى النون.

وأبو عبد الله بن بصّال العالم الزراعي، الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وقد اشتهر ابن بصّال بتجاربه العلمية الناجحة في توليد الغراس، ومكافحة الآفات الزراعية، وكتابه " الفلاحة " الذي انتهى إلينا، وهو المشتق من دراساته وتجاربه العملية، يشهد ببراعته وتفوقه في هذا الميدان.

ولما سقطت طليطلة في أيدى النصارى، غادر ابن بصّال طليطلة إلى إشبيلية، وعهد إليه هنالك بالإشراف على بساتين بني عباد. وكان من هؤلاء العلماء أيضاً أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج، وقد عاش في إشبيلية، وألف كتاباً في الزراعة اسمه " المقنع " لم يصل إلينا. وأبو عبد الله محمد ابن مالك الطغنري، وهو غرناطي عاش في أواخر القرن الحادي عشر، وتتلمذ على ابن بصّال، ووضع كتاباً في الفلاحة سماه " زهر البستان ونزهة الأذهان ". وكان منهم بقرطبة ابن لونكو الذي عاش في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وكان أيضاً من تلاميذ تلك المدرسة الزراعية الزاهرة. وقد توفي في سنة 498 هـ (1104)(1).

وأما عن الصناعات، فقد كانت كذلك في عصر الطوائف رائجة زاهرة، وكانت تشمل كثيراً من الصناعات الهامة مثل صناعات الحديد والنحاس والزجاج والنسيج. وكانت صناعة النسيج بالأخص، من أهم وأشهر الصناعات أيام الطوائف، وكان بمدينة ألمرية وحدها، خمسة آلاف منسج، تنتج أفخم وأجمل أنواع الأقمشة. وكانت السفن من مختلف ثغور المشرق، ومن الثغور الإيطالية، تقصد إلى ألمرية وغيرها من الثغور الأندلسية محملة بالسلع من كل ضرب، ثم تعود محملة بالسلع الأندلسية. وكانت دول الطوائف ذات الثغور، مثل إشبيلية وألمرية، وبلنسية ودانية وسرقسطة، تجني من التجارة الخارجية أرباحاً طائلة.

(1) راجع مقدمة كتاب الفلاحة لابن بصّال المنشور بعناية المستشرق الإسباني Millas Vallicross الأستاذ محمد عزيمان (تطوان 1955).

ص: 442

والخلاصة أن دول الطوائف تقدم إلينا ذلك المزيج المدهش من الضعف والقوة، ضعف البناء السياسي والعسكري، وقوة التراث المادي والحضاري، ومن الانحلال الاجتماعي الشامل، والتقدم الفكري اللامع. وقد كان أبرز ما في ذلك المزيج المتناقض، ضعف الروح الدينية والوطنية، بصورة لم تعرفها الأمة الأندلسية في تاريخها من قبل قط، بل ولم تعرفها فيما بعد، حتى في أسوأ عصور الفتنة، والتفكك السياسي والعسكري، التي كان يقابلها من الناحية الأخرى فترات قوة وتفوق من جانب الممالك الإسبانية النصرانية. ولكن الأندلس لم تبد قط في أية فترة من هذه الفترات تجاه اسبانيا النصرانية، مثل ما أبدته أيام الطوائف من التخاذل والاستسلام، ومن ضعف العقيدة الدينية والوطنية، ومن إهدار لمقتضيات الكرامة القومية، فعصر الطوائف وحده هو الذي يقدم إلينا تلك الخواص المؤلمة، التي تتناقض في مجموعها وفي تفاصيلها، مع طبيعة الأمة الأندلسية، ومع ما اتصفت به طوال تاريخها، من الشجاعة والشهامة والإباء، والتفاني في الذود عن الدين والوطن.

وفي وسعنا أن نلمح في تاريخ الإمارات والجمهوريات الإيطالية في عصر الإحياء، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كثيراً من آثار تلك الخواص التي غلبت على عصر الطوائف بالأندلس. فهنالك الأمراء الطغاة، والحروب الأهلية الطاحنة، تمزق وحدتها وتفرق كلمتها. وهنالك استعداء العدو الخارجي كل منها على الأخرى، ثم التخاذل في الدفاع عن الوطن. وهنالك الانحلال الديني والأخلاقي والاجتماعي الشامل. ونجد إلى جانب ذلك كله نهضة علمية وأدبية. وفنية زاهرة، من أروع ما عرفته إيطاليا في تاريخها، يرعاها الأمراء الطغاة، ويمدونها بالبذل الوفير. وهنالك أخيراً تجارة وصناعات رائجة. ورخاء شامل، وحياة كلها متعة واستهتار. ولا ريب أن هذا التماثل في الخواص بين العصرين، يرجع إلى حد كبير، إلى التماثل بين ما كان يجوزه كل منهما من الظروف السياسية والاجتماعية.

ص: 443

االوثائق والملحقات

ص: 445

- 1 -

رسالة كتب بها الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين إلى الناصر بدين الله تميم بن المعز بن باديس بالمهدية. يصف فيها بلاد الغرب، وجوازه للأندلس للجهاد بها، وهزيمته للأذفونش أمير النصارى في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة.

(منقولة عن المخطوط رقم 448 الغزيري بمكتبة الإسكوريال ( Fol. 49R.-53V) وهو مخطوط ناقص من أوله ولا عنوان له).

" الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، وفضلنا بمحمد عليه السلام، أحمده حمداً يوجب المزيد من آلايه، والسبوغ من سر الله ونعمائه. كان من قضايه جل شأوه، وتقدمت أسماؤه، لما أراد قمع المردة الطغاة من زناتة وغيرهم في بلاد المغرب، سبّب لنا إليهم المطلب، فقفونا آثارهم، وأخلينا منهم ديارهم، وكذلك نفعل بالقوم الظالمين، فقومنا الدّين، ومهدنا بها المسلمين، فصفت لنا ضمائرهم، وخلصت إلى ألله تعالى نياتهم، وسرايرهم، حتى وصلنا طنجة الركاب، وأذقنا برغواطة سوم العذاب، ففتح الله لنا وبها، وهو خير الفاتحين، وأسرع الحاسبين، لا إله غيره وهو أرحم الراحمين. ولما بلغنا من استحواذ النصارى، دمرهم الله، على بلاد الأندلس ومعاقلها، وإلزام الجزية لرؤسائهم، واستيصال أقالمها، وإيطايهم البلاد داراً داراً، لا يتخوفون عسكراً يخرج إليهم، فيبدد جمعهم، ويفل حدهم، وهم مع ذلك كله يقتلون الشيب والشبان، ويأسرون النساء والصبيان. فخوطبا عن الجواز إلى الأندلس من جميع الأحواز، المرة بعد المرة، وألوتنا الأعذار إلى وقت الأقدار، ولم نجد للجواز باباً، ولا لدخول البحر أسباباً، فانضم لنا منهم الريس الأجل المعتمد على الله، المولاّ بنصر الله، أحسن الله في كل الأمور عونه، وأقر بكل صالحة عينه، فعزمنا على الغزو، وجوزنا للعدو أسوداً ضارية، وسباعاً عادية، شيباً وشباناً، بسواعد قوية، وقلوب في سبيل الله نقية، قد عرفوا الحرب وجربوها، فهي المهم وهم بنوها، يتلمظون تلمظ الفهود، ويزءرون إليها زءر الأسود، فشحنا بهم القوارب،

ص: 446

وأوسعناهم على ظهور المراكب، فخرجنا في مرسى الجزيرة الخضراء من دياره، وفقه الله، ففزع الناس من كل أفق إليهم، ووفدوا من كل قطر إليهم، متعجبين من هيأتهم، محتقرين لزيهم ونغماتهم، لا يروعهم منهم حاشى الخيل والدرق، وهم مع ذلك لا ينالون إلا بعد جف الريق ومسح العرق، وقدروا أنهم طعم للسيوف، وغرض للحتوف، وسعد للأرماح، ونهب للسلاح، فكل استصغرهم، والجميع منهم احتقرهم، وتبلغ إلينا أخبارهم وأقوالهم، وتنتهي إلينا أفعالهم، ثم اتبعناهم جيشاً بعد جيش، بخيول كالفحول، عليها الكهول، وعدد من كل أمرد، على أجرد، يتسابقون إلى اللقاء في الفضاء، تسابق الحين والقضاء. ومع هذا كله إن أهل الأندلس مستبشرون بنصرهم على أيدينا، وإزاحة غمتهم بسببنا، وعساكرنا تتزيد، وجوازنا يتأكد، وكان آخر من جاز منا ومعنا، قطعة من صنهاجة بني عمي، فعسر البحر حينئذ للجواز، واضطربت في الأمواج، فاستصرخنا الباري تعالى جده، وعظم اسمه، إن، كان في جوازنا خيرة للمسلمين أن يسهل علينا، فما استكملت من كلامي، حتى سهل الله المركب، وقرب المطلب. فخرجنا من الحين في مرسى الجزيرة الخضراء المذكورة، والتأم شعبتنا مع من جاز من عسكرنا، فعملنا على السير، وكان قد تقدم إلينا بالعدوة من قبل الأدفونش أمير النصارى رسالة يخاطبنا فيها بالجواز إلينا إذا عجزنا عنه، وفرقنا منه، نعطوه المراكب، ونسلموا إليه الشواني والقوارب، ليرد علينا ويقاتلنا في مأمننا، فلم نلتفت إليه، ولاعرجنا عليه. ووصلنا أيدينا بالريس الأجل المعتمد على الله المؤيد بنصر الله، واستوثقنا منه غاية الاستيثاق، وبنينا معه على اللحاق بهم، والورود عليهم، ونحن في ذلك كله لما نقل إلينا، وورد علينا من رؤساء الأندلس، مستبطئين سريرة المخبتِين، لابسين قسوة الصالحين، وقلوبنا شتى، حتى لحقنا إشبيلية حضرته، عمرت ببقايه، وقد تجمع له من جنوده أعداد، ومن حشمه وعبيده وخيله ورجله أجناد، فصرنا إلى مدينة بطليوس، وأقمنا بها أياماً منتظرين لوفد الرؤساء من جميع أقطار الأندلس، فأخبرنا وصح عندنا أن كل واحد منهم مشتغل مع قطعة كثيرة من النصارى، قد تغلبوهم على حصونهم، وأذلوهم في بلادهم، وأضعفوهم، وشجعوهم على مر ادهم، فحمدنا الله تعالى، ودعونا بتيسير المراد، واستنقاذ

ص: 447

العباد. فجمعنا عساكرنا وسرنا إليه، وصرنا إلى قفل قورية من بلاد المسلمين صرفها الله، فسمع بنا، وقصدنا قصدنا، وورد ورودنا، واحتل بفنائها منتظراً لنا، فبعثنا إليه نحضه على الإسلام، ودخوله في ملة محمد عليه السلام، أو ضرب الجزية عليه وإسلام ما كان من المال والبيوت لديه، كما أمرنا الله تعالى، وبين لنا في كتابه، من إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فأبا وتمرد، وكفر ونخر، وعمل على الإقبال علينا، وحث في الورود علينا، فلحقنا وبيننا وبينه فراسخ، فلما كان بعد ذلك، برزنا عليه أياماً، فلم يجبنا، فبقينا وبقوا، ونحن نخرج الطلايع إليه، ونتابع الوثوب عليه، وبنينا على لقايه يوم الخميس لإحدى عشر ليلة خلت لرجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة. فلما كان يوم الجمعة ثانية، ورد علينا بكتايب قد ملأت الآفاق، وتقلبت تقلب الحتوف للأحداق، قد استلموا الدروع للكفاح، وربطوا في سوقهم الألواح، وبطونهم ملأ من الخمور، يقدرون أن الدائرة علينا تدور، ونحن في أخبيتنا صبيحة اليوم المذكور، كل منا ساه وجميعنا لاه، فقصد أشدهم شوكة، وأصلبهم عوداً، وأنجدهم عديداً، محلة المعتمد على الله المؤيد بنصر الله، وفقه الله، عماد رؤساء الأندلس وقطبهم، لا يقدرون عسكراً إلا عسكره، ولا رجال إلا رجاله، ولا عديداً إلا عديده، وداود من أصحابنا منا إلى إزايه، فهبطوا إليه لفيفاً واحداً، كهبوط السيل، بسوابق الخيل، فلما كان معه من جنده ومن جميع الطبقات، الذين كانوا يدخرون من قبله الأموال والضياع، استكت آذانهم، واضطربت أضلاعهم، ودهشت أيديهم، وزلزلت أقدامهم، وطارت قلوبهم، وصاروا كركب الحمير، فرّوا يطلبون معقلا يعصمهم، ولا عاصم إلا الله، ولا هارباً منه إلا إليه، فلحقوا من بطليوس بالكرامات، لما عاينوا من الأمور المعضلات، وأسلموه أيده الله، وحده في طرف الأخبية، مع عدد كثير من الرجالة والرماة، قد استسلموا للقضاء، فوثبوا عليه وثب الأسد على الفرايس، يعظمون الكنايس، فحبسهم حيناً وحده مع من إليه ممن ذكرناه، وبسطوا منهم الأرض، ولم يبق من الكل إلا البعض، ولجأ في الأخبية، بعد أن عاين المنة، وتخلصه الله بنيته في المسلمين وبلغه أمنيته، بعد أن وقف وقفة بطل مثله، لا أحد يرد عليه، ولا فارس من فرسانه وعبيده يرجع إليه، لايروعه أحد منهم فيهزم، ولا يهابهم فيسأم،

ص: 448

ثم قصدت كتيبته سوداً كالجبل العظيم أو الليل البهيم، عسكر داود وأخبيته، فجالوا فيها جولاناً، وقتلوا من الخلق ألواناً، واستشهد الكل بحمد الله وصاروا إلى رضوان الله، ونحن في ذلك كله غافلون، حتى ورد علينا وارد، وقصد إلينا قاصد، فخرجنا من وراء الشعب، كقطع اللهب، بجميع من معنا، على الخيل المسومة العراب، يتسابقن الطعن والضراب، فلما رأونا، ووقعت أعينهم علينا، ظنوا أن الدائرة فينا ولدينا، وأنا طعم أسيافهم ولقاء رماحهم، فكبرنا وكبر الكل معنا، مبتهلين لله وحده لا شريك له، ونهضنا للمنون الذي لا بد منه ولا محيص لأحد عنه، وقلنا هذا آخر يومنا من الدنيا، فلنموتوا شهداء، فحملوا علينا كالسهام، فثبت الله أقدامنا، وقوي أفئدتنا، والملائكة معنا، والله تعالى ولى النصر لنا، فولوا هاربين، وفروا ذاهبين، وتساقط أكثرهم بقدر الله تعالى دون طعنة تلحقه ولا ضربة تثخنه، وأضعف الرعب أيديهم، فطعناهم بالسمهرية دون الوخز بالإبر، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، حتى أن هاربهم لا يرى غير شىء إلا ظنه رجلا، فتكت فيهم السيوف، على رغم الأنوف، فو الله لقد كانت تقع على الدروع فتفريها، وعلى البيضات فتبريها، وزرقوا الرجالة منا على خيلهم الرماح، فشكوهم بها فرمحت بهم، فما كنت ترى منهم فارساً إلا وفرسه واقف على رأسه لا يستطيع الفرار، الكل يجر عنانه، كأنه معقل بعقاله، ونحن راكبون على الجواد الميمون، العربي المصون، السابق اللاحق، المعد للحقائق، وما منا إلا من له جرناز فيه سيفان، وبيدنا الثالث، عسى أن يحدث من حادث، فصاروا في الأرض مجدلين، موتى معفرين، وقد تراجع ْالناس بعد الفرار، وأمنوا من العثار، وتضافروا مع عسكرنا وغيرهم، يقطعون رؤوسهم، وينقلون بإزاء المحلات، حتى علت كالجبال الراسيات، عدد لا يقدر، ومدد لا يحزر، والتجريد فيهم، والأيدي متعاودة لبطونهم، واشتأصلنا أكابرهم، وحللنا دون أماطيهم وأمانيهم، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

ْوانقطع من عسكرهم نحو ألفي رجل أو أقل، والأذفونش فيهم على ما أخبرنا، قد أثخنوا جراحاً بإزاء محلاتهم، يرتادون الظلام للهروب في المقام، والله لقد كان الفرسان والرجالة يدخلون محلتهم، ويعثرون في أخبيتهم، وينتهبون أزودتهم وهم ينظرون شزراً نظر التيوس إلى شفار الجازرين، إلى أن جن الليل وأرخى

ص: 449

سدوله، ولوا هاربين، وأسلموا رحايلهم صاغرين، فكم من دِلاص على البقاع ساقطة، وخيول على البقاع رابضة، ولقد ارتبط كل فارس منا الخمسة الأفراس أو أزيد. وأما البغال والحمير فأكثر من ذلك. وأما الثياب والمتاع فناهيك، والأسرة بأوطية الحرير، والثياب والأوبار عدد ليلهم، ولا يكلون في الانتقال، ولا يسئمون من شريط الأموال، ولحقوا قورية ومنها حيث ألقت رحلها أم قشعم، فصححنا ضمائرنا، وأخلصنا للمعتمد على الله نياتنا وسرايرنا، ورجعنا بحمد الله غانمين منصورين، لم يستشهد منا إلا الفرقة التي قدر الله عليها بذلك، وقدرنا أن الكل منهم هلك لقلة معرفتهم وجهالتهم بقتال النصارى، وتراميهم للشهادة، قدس الله أرواحهم، وكرم مثواهم وضريحهم، وجعل الجنة ميعاداً بيننا وبينهم، وفقدنا من أكابرنا نحو عشرين رجلا ممن شهدت نجدته في المغرب، وانقلبت خير منقلب. ولحقنا إشبيلية حضرته عمرت ببقايه، وأقمنا عنده أياماً، ورفعنا عنه مودعين لا تودع قاطع، ولا يمنعنا منه متى أحب مانع، ولحقنا الجزيرة الخضراء، ونحن نريد أشياء أسأل الله تمامها وإنجازها، وأن يسهل المراد ويوفقنا للسداد، ومتى تنفس منهم متنفس، وأرجح إلى أحدهم نفس، يذكرون ما لقوا، ويتذاكرون ما بقوا، وسنستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولا وأملي لهم إن كيدي متين، حتى لا يبقى على أديم الأرض منهم حي، ولا يحس منهم أنسي. والحمد لله رب العالمين على ما قضى وخول وأعطى، وهذا كله منّاً منه علينا لا منّاً عليه، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات الله النعيم، وآله الطيبين، وسلم تسليما، والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته ".

ص: 450

- 2 -

بعض " فصول " الكتاب الذي بعث به أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى بلاد العدوة عقب موقعة الزلاّقة.

(منقولة عن كتاب الأنيس المطرب بروض القرطاس - طبعة بسالة ص 96 - 98).

" أما بعد حمد الله، المتكفل بنصر أهل دينه الذي ارتضاه، والصلاة على سيدنا محمد أفضل رسله، وأكرم خلقه وأسره، فإن العدو الطاغية، لعنه الله، لما قربنا من حماه، وتوافقنا بإزائه، بلغناه الدعوة، وخيرناه بين الإسلام والجزية والحرب، فاختار الحرب، فوقع الاتفاق بيننا وبينه، على الملاقات في يوم الاثنين الخامس عشر لرجب، وقال الجمعة عيد المسلمين، والسبت عيد اليهود، وفي عسكرنا منهم خلق كثير، والأحد عيدنا نحن، فافترقنا على ذلك وأضمر اللعين خلاف ما شرطناه، وعلمنا أنهم أهل خدع، ونقض عهود، فأخذنا أهبة الحرب لهم، وجعلنا عليهم العيون، ليرفعوا إلينا أحوالهم، فأتتنا الأنباء في سحر يوم الجمعة الثاني عشر من رجب المذكور أن العدو قد قصد بجيوشه نحو المسلمين، يرا أنه قد اغتنم فرصته في ذلك الحين، فنبذت إليه أبطال المسلمين، وفرسان المجاهدين، فتغشته قبل أن يتغشاها، وتعدته قبل أن يتعداها، وانقضت جيوش المسلمين في جيوشهم انقضاض العقاب على عقيرته، ووثبت عليهم وثوب الأسد على فريسته، وقصدنا برايتنا السعيدة المنصورة في سائر المشهدة المنتشرة، ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفنش، فلما أبصر النصارى رايتنا المشتهدة المنتشرة، ونظروا إلى مواكبنا المنتظمة المظفرة، وأغشتهم بروق الصفاح، وأضلتهم سحائب الرماح، ونزلت بحوافر خيولهم رعود الطبول بذلك الفياح، فالتحم النصارى بطاغيتهم ألفنش، وحملوا على المسلمين حملة منكرة، فتلقاهم المرابطون بنيات خالصة، وهمم عالية، فعصفت ريح الحرب وركبت دائم السيوف والرماح بالطعن والضرب. وطاحت المهج، وأقبل سيل الدماء في هرج، ونزل من سماء الله على أوليائه النصر العزيز والفرج، وولى ألفنش مطعوناً في إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه في خمس مائة فارس من ثمانين

ص: 451

ألف فارس ومائتي ألف راجل، قادهم الله إلى المصارع والحتف العاجل، وتخلص لعنه الله إلى جبل هنالك، ونظروا النهب والنيران في محلته من كل جانب، وهو من أعلى الجبل ينظرها شزراً، ويحيد عنها صبراً، ولايستطيع عنها دفعاً، ولا لها نصراً، فأخذ يدعو بالثبور والويل، ويرجو النجاة في ظلام الليل، وأمير المسلمين بحمد الله قد ثبت في وسط مواكبه المظفرة، تحت ظلال بنوده المنتشرة، منصور الجهاد، مرفوع الأعداد، ويشكر الله تعالى على ما منحه من نيل السؤال والمراد، فقد سرح الغارات في محلاتهم تهدم بناءها، وتصطلم ذخائرها وأسبابها، وتريه رأي العين دمارها ونهبها، وألفنش ينظر إليها نظر ْالمغشى عليه، ويعض غيظاً وأسفاً على أنامل كفيه، فتتابعت البهرجة الفرار رؤساء الأندلس المنهزمين نحو بطليوس والغار، فتراجعوا حذاراً من العار، ولم يثبت منهم غير زعيم الرؤساء والقواد، أبو القاسم المعتمد بن عباد، فأتى إلى أمير المؤمنين، وهو مهيض الجناح، مريض عنة وجراح، فهنأه بالفتح الجليل، والصنع الجميل، وتسلل ألفنش تحت الظلام فاراً لا يهدى ولا ينام، ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربع مائة فلم يدخل طليطلة إلا في مائة فارس، والحمد لله على ذلك كثيراً. وكانت هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة، يوم الجمعة الثاني عشر لرجب سنة تسع وسبعين وأربع مائة، موافق الثالث والعشرين لشهر أكتوبر العجمي ".

ص: 452

- 3 -

رسالة لابن (إسحق) عن المقتدر بالله إلى ابن عباد يعرفه بأمر أخيه صاحب لاردة.

(منقولة عن المخطوط رقم 488 الغزيري بمكتبة الإسكوريال Fot.118V - 119R)

" سيدي، وأعلى عددي، وأقوى عمدي، وأزكى ذخري لأبدي، ونعمة الله المستطيلة بيدي، المناهضة بعضدي، ومن أطال الله بقاه في عز رفيع المراتب، وحرز منيع الجوانب، إذ أحكام الفتن، وحوادث الزمن، لا تزال تحل على كل ما لا يقع بإيثار، ولا يجري على حكم واختيار، فرب كريهة لا يلقى المرء عن اقتحامها معدلا، ومساءة لا يزال عن التزامها مرحلا، وقديماً جَدّ الجفاء العقوق، وأبطل التجني الحقوق، وقد يخرج الحليم، ويتغيس الحميم، وتقطع الرحم، وتنبذ الذمم، لاسيما عن مجاذبة ما يمنع الحسد، باتراً أواصر الإخاء والإجمال، وتحاسد القرابة داء قديم، وخلق في الناس معلوم، وإني أيدك الله، بليت من المظفر أخي بظالم لا يؤمل منه إنصاف، ومتحمل لا تستنزله ألطاف، وحاسد لا يرجى استرضاؤه، وموجب لنفسه حقاً لا يوجب مضاؤه، إذا سألته نصفة أبدا منه أنفه، وإن سمته عدلا مال إلى الجور ميلا، وإن خفضت له جناح الذل، أوطأني جهر الجفا، وإن أقبلت عليه بناظر الود، أول من صفحة الإبداء، وإن استدنيته شحط، وإن استرضيته سخط، وإن حكمته تشطط، وإن أغضيت له تسلط، وأنا في أثناء ذلك كله أحاوله على أخلاقه، وألبسه على أخلاقه، وأستمع منه بغير مستمع، وأرفع منه بغير مرفع، وعقارب مضرته تدب، وعواصف معرته تهب، وأذاه قاصد إلى في خاصتي، ومفسد على بطانتي، لا يألو في مساءتي سعياه اجتهاداً، ولا آلو إلى مسرته تأنياً وانقياداً، آخذاً بالحجة عليه، وتقدماً بالجميل إليه، وطمعت أن تكون نظرة تريه مواقع ظلمه، وتعرفه جور حكمه، ولا يزداد إلا اغتراراً، ولا يبدى إلا استكباراً إلى أن سولت له نفسه أموراً كان فيها اضطلاع الإسلام، وحاول أحوالا تمامها هادية

ورام معاجلتي بالتي ليحس فيها استبقاء، ولا بعدها بقاء، وسألني مع هذا الاجتماع بي ليسوسني

الإذعان إلى مطالبه، والموافقة في مذاهبه، فأجبته

ص: 453

رجاء أن تكون المشافهة تستلبه، والملاطفة تلينه وتغريه فأبى إلا ..... وانبساطاً. فلما رأيته عن سوء معتقده غير ..... وعن فساد رأيه غير راجع، وغرني جماحه، وأعوزني استصلاحه، ونقلني عن سجيتي بكره، وكدر صفوي من كل وجه، راجحت في أمره بين أن أرضى الله عز وجل في قطيعته بالنظر لعباده، والحماية لبلاده، فما أطمع ........ وطأ نواحيها، وأمنع ممن رامه، وأدفع عنه من أراد اهتضامه، وأن أبتهل .... برحم عن نفسي، فرفع الله عن ذلك منزلتها، وبسط عليه مقدرتها، فرأيت النظر في قطع مضرته أولى، والسعي في حسم علته ومعرته أحمى، فأنفذت ذلك بعد استخارة الله تعالى فيه، وألزمته البقاء بقصبة منتشون، وللنفس يعلم الله مما حملني عليه ارتماض وشفاق، ولما يؤثره الرحم من ذلك إزعاج وإقلاق، إلا أنه لم يوجد إلى غير ذلك سبيلا، ولا جعلني إلى سواه مخيلا، وكان فيما يأتيه أعق، وبما جره القدر إليه بحكم اعتقاده أحق، وقد يستسهل المرء المكاره ما لم يجد عنها مذهباً، ويركب حد السيف إذا لم يجد سواه مركباً، والله يشهد لقد طوى جوانحي مما ساقني إليه على لواعج مزعجة، وخرق منضجة، وكتابي هذا من لاردة، وقد استقرت بحمد الله على الدعة أسباب قريرها، واتصل بجميل عونه تدبيرها، وتقضي أبقاك الله وكيد ما بيننا مقاسمتك الحال، وتعرفك المبدي منها والمآل، فإنك الشريك في الحلو والمر، والقيم في النفع والضر، وفي خلال هذا أعزك الله ما وردني ابن فلان خاصتك سلمه الله بكتابك الكريم، المشتمل على أحفل البر، والمقتضي لأجزل الشكر، ووقف به من حقائق الأحوال لديك على كل ما بسط أملي، وأكد جدلي، وعظمت نعم الله ...... وقد صدر أبقاه الله متحملا من صحة ودي، وثبات عهدي، وارتباط عقدي، .... الأحوال عندي ما يطلعك من ذلك كله على الجملة الكافية والجلية الشافية ".

ص: 454

- 4 -

رسالة خاطب بها أبو عامر بن غرسية

أبا عبد الله بن الحداد يعاتبه فيها ويفضل العجم على العرب وكتب بها من لاره

(منقولة عن مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري لوحة 26 - 29)

سلام عليك ذا االروى المروي الموقوف قريضه على حللة بجانة، أرش اليمن، بزهيد الثمن، كأن ما في الأرض إنسان الا من غسّان، أو من آل ذي حسان. وإن كان القوم أقنوك، وعن العالم أغنوك، على حسب المذكور، فلما هذا الإعمال للكور، وترك الوكور. وقل ما تأخذ الشعرة في الرحيل إلا عن الربع المحيل، ولو أن القوم خلطوك بالآل، لما أحوجك إلى الخبط في الآل. مه مه، من أحوجك إلى ركوب المهمة وثقف، وودك لا نقف، على من اضطرك إلى الايغال، وباعك بيع المسامح بك لا المغال، وعوضك من الأندية، يجوب الأودية، ومن المآلف بقطع المتالف، وحملك على مخالفة الحَصان، ومحالفة الحِصان، ووكلك بمسح الأرض، ذات الطول والعرض، فإذا يممت تبالة، تتباله، وصرت ضغثاً على إبالة، تتعلل باليمين، ضنا بالعلق الثمين. أأحسبك أزريت، وبهذا الجيل البجيل ازدريت، وما دريت، أنهم الصهب الشهب، ليسوا بعرب، ذوي أينق جرب، أساورة أكاسرة، مُجد نُجد بُهم، لا رعاة شويهات ولا بهم، شغلوا بالماذي والمرّان عن رعي البعران، وبجلب العز، عن حلب المعز، جبابرة قياصرة، ذوو المغافر والدروع، للتنفيس عن روع المروع، حماة السروح، نماة الصروح، صقورة، غلبت عليهم شقورة، وشقورة الخرصان، لكنهم خَطَبة بالخرصان.

ما ضرهم أن شهدوا مجادا

أو كافحوا يوم الوغى الأنداد

أن لا يكون لونهم سوادا

ص: 455

أرومة رومية، وجرثومة أصفرية.

نمتهم ذوو الأحساب والمجد والعلى

من الصهب لا راعو غضاً وأفان

من القوم الملس الأدم، لم تُعرق فيهم الأقباط، ولا الأنباط، حسب حريّ، ونسب سريّ، أمكم لأمنا كانت أمة، إن تنكروا ذلك تلفوا ظلمة، ولا تهايل، في التكايل، فما سسنا قط قرودا، ولا حكنا برودا، ولا لكنا عرودا، فلا تَهاجر، بني هاجَر، أنتم أرقاؤنا وعبدتنا، وعتقاؤنا وحفدتنا، منَنَّا عليكم بالعتق، وأخرجناكم من ربق الرق، وألحقناكم بالأحرار، فغمطتم النعمة، فصفعناكم صفعا، يشارك سفعا، اضطركم إلى سكنى الحجاز، وألجأكم إلى ذات المجاز، رُزُن، رُصُن.

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم

بعد الممات جَمال الكُتْب والسير

ْإذا قامت الحرب على ساق، وأخذت في اتساق، وقرعت الظنابيب، وأشرعت الأنابيب، وقلصت الشفاه، وفغر الهدان فاه، وولى قفاه، ألفيتهم ذمرة الناس، عند احمرار الباس، الطعن بالأسل، أحلى عندهم من العسل.

مستسلمين إلى الحتوف كأنما

بين الحتوف وبينهم أرحام

من أمنياتهم، حلول منياتهم، لهم على القدمة اليدان، على التنائي والتدان.

من الألى غير زجر الخيل ما عرفوا

إذ تعرف العُرب زجر الشَّاء والعكر

بُصُرٌ صُبر، تزدان بهم المحافل والجحافل، قيول على خيول، كأنها فيول، كواكب المواكب، نجوم الرجوم، من العجم، ضراغمة الأجم، بنو غاب، منتفون من كل عاب، لم تلدهم صواحب الرايات، بل تبجحت عليهم سارة الجمال، ربة الآيات، شُمخ، بُذخ، بررة أقيال، جررة أذيال. بخ بخ، أحلتهم سيوفهم سِطة الأرضين، فما قنعوا بذلك ولا رضين، حتى دوخوا المشارق والمغارب، واستوطنوا من المجد الذروة والغارب.

بضرب يزيل الهام عن سكناته

وطعن كتشهاق العفا هَمَّ بالنهق

شرهوا برنات السيوف، لا بربات الشنوف، وبركوب السروج، عن

ص: 456

الكلب والفرُّوج، وبالنفير عن النقير، وبالجنائب عن الحبائب، وبالخب عن الحب، وبالسليل عن الشليل، وبالأمر والذمر، عن معاقرة الخمر والزمر، وباللقيان عن العقيان، وعن قنيان القيان، طِياتهم خطياتهم، وغلاتهم، آلاتهم وحصونهم، حصنهم أقيال، آباؤهم من بين الأنام أقتال.

أولئك قومي إن بنوا شيّدوا البنى

وإن حاربوا جدّوا وان عقدوا سدّوا

وُضُحٌ رُجح، لا حفزة عكر، ولا قفزة أكر، ملوك جلة، لا محرِقوا جلة، ندس، غنوا بالإستبرق والسندس. عن البيت المقيظ المشتى، المجموع من النعيجات الست. بسل لا حراس مسل، ولا غراس فسل، مُلَّك لقاح، ليس منهم في ورد ولا صدر شرّاب دَرِّ اللقاح، بل شرابهم النبيذ، وطعامهم الحنيذ، لا زهيد الهبيد في البيد، ولا مكون الوكون، ولا منهم من احتشا، بمذموم الكُشا، ولا في سائر الاحفاش، من وليد وناش، من اغتذى بالأحناش. فلا يقعقع لهم بالشِّنان، ولا يوعوع لهم بالشنآن، فكف أيها الشان، فلهم عظيم الشان. واليد الطولى إذ تخلصوكم من أكف الحبشان، صنيع منيع. ومنة لايشوبها منة، فيالها منحة، لكنها أعقبت محنة، إذ صادفت كفرة، لاشكرة، إيهاً إذ تأبطتم تيهاً، معشر البداة العداة. اعتقدتم غِلَاّ، فاستثرتم صلا. أما علمتم ان الدولة النوشروانية، والمملكة الأزدشيرية، بقروا أجوافكم، وخلعوا أكتافكم، ثم عطفوا ورأفوا، وملكوكم الحيرة بعد عظيم الحيرة، قللا ذللا. تتخيرون البنات عند البيات مبهورات لا ممهورات. فبرم من ذلك غسّانكم ونُعمانكم، وكان برمه سببا لدرء أمانكم، فأصبح بعد جر الذيول، مدوساً بأخفاف الفيول؛ والكرام بنو الأصفر، الأطهر الأظهر، عطفتهم عليكم الرحم الإبراهيمية، والعمومة الإسماعيلية. فسمحوا لكم من الشام بأقصى مكان، بعد ما كان، من سيل العرم ما كان، يؤدي نعمانكم وغسانكم لقروم الأعاجم، الإتاوة على الجماجم.

هذي المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا به بعد أبوالا

F.28A مهلا بني الأماء، عن الغمز والإيماء، فنحن عُرق غُرق، في الأنساب الصميمة، والأحساب العميمة، فمن يهولنا أو يروعنا،

ص: 457

وقد رسخت في المجد أصولنا وفروعنا، ومن يطولنا، وكل الورى قد شمله فضلنا وطولنا:

شرفٌ ينطح النجوم بروقيه

وعزٌّ يقلقل الأجيالا

حُلُم، عُلُم، ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية، كحملة الاسترلوميقي. والموسيقي، والعَلَمة، بالارتماطيقي، والجومطريقي، والقومة بالألوطيقي والبوطيقي، ما شئت من تدقيق، وتحقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم البدنية والدينية، لا على وصف الناقة الفدنيّة، فعلهم ليس بالسفساف، كفعل نائله وإساف. أصغر بشأنكم، إذ بزق خمر، باع الكعبة أبو غبشانكم، وإذ أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستيصالكم.

أزيدك أم كفاك وذاك أني

رأيتك في انتحالك كنتَ أحمق

فلا فخر معشر العربان الغربان، بالفديم، المفرِّي للأديم، لاكن الفخر يابن عمنا، الذي بالبركة عمّنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب، الذي انتشلنا الله تعالى به وإياكم من العماية والغواية، أما نحن فمن أهل التثليث وعبادة الصلبان، وأنتم من أهل الدين المليث وعبادة الأوثان، ولاغرو أن كان منكم حبره وسبره، ففي الرغام يلقى تبره، والمسك بعض دم الغزال.

لله مما قد برا صفوة

وصفوة الخلق بنو هاشم

وصفوة الصفوة من بينهم

محمد النور أبو القاسم

بهذا النبي الأمي أفاخر من تفخّر، وأكابر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين، الملتقي بالرسالة، والمنتقي للأداء والدلاّلة، أصلي عليه عدد الرمل، ومدد النمل، وكذلك أصلي على واصلي جناحه، سيوفه ورماحه، أصحابه الكرام، عليهم من الله أفضل السلام.

يابن الأعارب ما علينا باس

لم أحك إلا ما حكاه الناس

هذا:

ولم أشتم لكم عرضا ولاكن

حَدوَت بحيث يُستمع الحداء

ص: 458

ثم أجح بشاعر غسّان، لا ساسان في هذا العيد بالوعيد، وأحر في في هذا الفصل بعدم الوصل. لقد غَم آخرك، لكن بالرغم أخرك إذ أضربت عن مديح، علقنا الربيح، معز الدولة، شهمنا الرئيس وسهمنا النفيس قَيل الأمم، وسيل الأمم، معنى المعاني، ومغنى المغاني، ذي الرياسة الساسانية، والنفاسة النفسانية، فاذهب يا غثّ المذهب، وابتغ في الأرض نفقا، أو في السماء مرتقى، فهده أليّة، جلبت عليك بليّة، أو حُك من البسيط المديد، ما تستجير به من بطشنا الشديد، إذ نحن معشر الموالي، لا نوالي، إلا من هو لعظيمتنا موالي، وحذار حذار ان تقرع سن الندم، ولات حين مندم، قبل أن تجمع ذنوبك على ذنوبك، وكُربك في كَرَبك، فمن أبصر أقصر، وما حرّف، من صديقه خرّف.

فلا تتبشع ممضَّ العتا

ب يلقاك يوما بلقياه لاق

فإن الدواء حميد الفعال

وإن كان مُرَّا كريه المذاق

يا معتقل علم الشعر، والمستقل بقلم النظم والنثر:

قد استحييت منك فلا تكلني

إلى شىء سوى عذر جميل

وقد أنفذت ما حقي عليه

قبيح الهجو أو شتم الرسول

وذاك على انفرادك قوت يوم

إذا أنفقت إنفاق البخيل

وكيف وأنت علويّ السجايا

وليس إلى اقتصادك من سبيل

وقد يقوى الفصيح فلا تقابل

ضعيف البر إلا بالقبول

وإن الوزن وهو أصح وزن

يقام صَغَاه بالحرف العليل

فإن يك ما بعثت به قليلا

فلي حال أقل من القليل

نجزته من كلام المعري

والسلام عليك ما سبح الفَلَك وسبّح المَلَك، ورحمة الله وبركاته.

ص: 459

دول الطوائف

جدول تاريخي مفصل دولة بني جهور في قرطبة

أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور 422 - 435 هـ: 1031 - 1044 م

أبو الوليد محمد جهور 435 - 457 هـ: 1044 - 1064 م

عبد الملك بن محمد بن جهور 457 - 463 هـ: 1064 - 1070 م.

المعتمد بن عباد يستولي على قرطبة سنة 463 هـ دولة بني عباد في إشبيلية

القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد 414 - 433 هـ: 1023 - 1042 م

عباد بن محمد المعتضد 433 - 461 هـ: 1042 - 1069 م

محمد بن عباد المعتمد 461 - 484 هـ: 1069 - 1091 م.

إشبيلية تسقط في أيدي المرابطين دولة بني الأفطس في بطليوس

عبد الله بن محمد بن مسلمة المنصور 413 - 437 هـ: 1022 - 1045 م

محمد بن عبد الله المظفر 437 - 461 هـ: 1045 - 1068 م

يحيى بن محمد المنصور 461 - 464 هـ: 1068 - 1072 م

عمر بن محمد المتوكل 464 - 488 هـ: 1072 - 1094 م.

بطليوس تسقط في أيدي المرابطين دولة بني يحيى في لبلة

أبو العباس أحمد بن يحيى 414 - 434 هـ: 1023 - 1042 م

محمد بن يحيى عز الدولة 434 - 443 هـ: 1042 - 1051 م

فتح بن خلف ناصر الدولة 443 - 445 هـ: 1051 - 1053 م.

لبة تسقط في يد المعتضد بن عباد دولة بني مُزين في باجة وشلب

الحاجب عيسى محمد

- 432 هـ:

- 1041 م

محمد بن عيسى عميد الدولة 432 - 440 هـ: 1041 - 1048 م

ص: 460

عيسى بن مُزين المظفر 440 - 445 هـ: 1048 - 1053 م

محمد بن عيسى الناصر 445 - 450 هـ: 1053 - 1058 م

عيسى بن محمد المظفر 450 - 455 هـ: 1058 - 1063 م.

شلب تسقط في يد المعتضد بن عباد دولة بني البكري في ولبه وجزيرة شلطيش

عبد العزيز البكري عز الدولة 403 - 443 هـ: 1012 - 1051 م.

ولبة وشلطيش تسقطان في يد المعتضد دولة بني هارون في شنتمرية الغرب

سعيد بن هارون 417 - 433 هـ: 1026 - 1041 م

محمد بن سعيد المعتصم 433 - 443 هـ: 1041 - 1051 م.

شنتمرية الغرب تسقط في يد المعتضد دولة بني ذى النون في طليطلة

إسماعيل بن ذى النون الظافر 427 - 435 هـ: 1036 - 1043 م

يحيى بن إسماعيل المأمون 435 - 467 هـ: 1043 - 1075 م

يحيى بن إسماعيل بن يحيى القادر 467 - 478 هـ: 1075 - 1085 م.

طليطلة تسقط في يد ألفونسو السادس دولة بني مناد في غرناطة

زاوي بن زيري 403 - 410 هـ: 1013 - 1019 م

حبوس بن ماكسن 411 - 428 هـ: 1020 - 1037 م

باديس بن حبوس المظفر 428 - 465 هـ: 1037 - 1073 م

عبد الله بن بلقين 465 - 483 هـ: 1073 - 1090 م.

المرابطون يستولون على غرناطة دولة بني برزال في قرمونة

محمد بن عبد الله بن برزال 404 - 434 هـ: 1013 - 1042 م

عزيز بن محمد المستظهر 434 - 459 هـ: 1042 - 1067 م.

قومونة تسقط في يد ابن عباد دولة بني دمّر في مورور

نوح بن أبي تزيري الدمري 403 - 433 هـ: 1013 - 1041 م

ص: 461

محمد بن نوح عز الدولة 433 - 445 هـ: 1041 - 1053 م

مناد بن محمد عماد الدولة 445 - 458 هـ: 1053 - 1066 م.

مورور تسقط في يد ابن عباد دولة بني خزرون في أركش

محمد بن خزرون عماد الدولة 402 - 420 هـ: 1011 - 1029 م

عبدون بن محمد بن خزرون 420 - 445 هـ: 1029 - 1053

محمد بن محمد بن خزرون القائم 445 - 461 هـ: 1053 - 1068 م.

أركش تسقط في يد ابن عباد دولة بني يفرن في رندة

هلال بن أبي قرة اليفرنى 406 - 445 هـ: 1015 - 1053 م

باديس بن هلال 445 - 449 هـ: 1053 - 1057 م

أبو نصر فتوح بن هلال 449 - 457 هـ: 1057 - 1065 م.

رندة تسقط في يد ابن عباد مملكة ألمرية

1 -

خيران العامري 405 - 419 هـ: 1014 - 1028 م

زهير العامري 419 - 429 هـ: 1028 - 1038 م

عبد العزيز المنصور 429 - 433 هـ: 1038 - 1041 م

2 -

معن بن صمادح 433 - 443 هـ: 1041 - 1051 م

محمد بن معن المعتصم 443 - 484 هـ: 1051 - 1091 م

أحمد بن محمد معز الدولة 484 هـ - 1091 م.

المرابطون يستولون على ألمرية مملكة مرسية

1 -

خيران العامري 403 - 419 هـ: 1012 - 1028 م

زهير العامري 419 - 429 هـ: 1028 - 1038 م

أبو بكر بن طاهر 429 - 455 هـ: 1038 - 1063 م

أبو عبد الرحمن بن طاهر 455 - 471 هـ: 1063 - 1078 م

(حكم بنو طاهر باسم عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية وولده عبد الملك).

المعتمد بن عباد يستولي على مرسية

ص: 462

2 -

ابن عمار 471 - 473 هـ: 1078 - 1081 م

ابن رشيق 473 - 484 هـ: 1081 - 1091 م.

المرابطون يستولون على مرسية مملكة دانية والجزائر

1 -

مجاهد العامري الموفق 400 - 436 هـ: 1009 - 1044 م

على بن مجاهد إقبال الدولة 436 - 468 هـ: 1044 - 1076 م

2 -

المقتدر بن هود صاحب سرقسطة 468 - 474 هـ: 1076 - 1081 م

المنذر بن هود 474 - 483 هـ: 1081 - 1091 م.

المرابطون يستولون على دانية مملكة بلنسية

الفتيان مظفر ومبارك 400 - 408 هـ: 1009 - 1017 م

لبيب العامري 408 - 411 هـ: 1017 - 1021 م

عبد العزيز المنصور 411 - 452 هـ: 1021 - 1061 م

عبد الملك بن عبد العزيز 452 - 457 هـ: 1061 - 1065 م.

المأمون بن ذى النون يستولي على بلنسية

نائبه أبو بكر بن عبد العزيز 457 - 478 هـ: 1065 - 1085 م

عثمان بن أبى بكر 478 -

هـ: 1085 -

م

القادر بن ذى النون 478 - 485 هـ: 1085 - 1092 م

القاضي ابن جحّاف 485 - 487 هـ: 1092 - 1094 م

السيد إلكمبيادور والقشتاليون 487 - 495 هـ: 1093 - 1102 م.

المرابطون يستولون عل بلنسية إمارة شنتمرية الشرق

هذيل بن عبد الملك بن رَزين 403 - 436 هـ: 1012 - 1045 م

عبد الملك بن هذيل 436 - 496 هـ: 1046 - 1103 م

يحيى حسام الدولة 496 - 497 هـ: 1103 - 1104 م.

المرابطون يستولون عل شنتمرية الشرق إمارة ألبونت

عبد الله بن قاسم 400 - 431 هـ: 1009 - 1039 م

ص: 463

محمد بن عبد الله يمن الدولة 431 - 434 هـ: 1039 - 1042 م

أحمد بن محمد عز الدولة 434 - 440 هـ: 1042 - 1048 م

عبد الله بن محمد جناح الدولة 440 - 495 هـ: 1048 - 1102 م.

المرابطون يستولون على ألبونت مملكة سرقسطة

1 -

المنذر بن يحيى التجيبي 408 - 414 هـ: 1017 - 1023 م

يحيى بن المنذر المظفر 414 - 420 هـ: 1023 - 1029 م

المنذر بن يحيى معز الدولة 420 - 430 هـ: 1029 - 1039 م

2 -

سليمان بن هود المستعين 431 - 438 هـ: 1039 - 1046 م

أحمد بن سليمان المقتدر 438 - 474 هـ: 1046 - 1081 م

يوسف بن أحمد المؤتمن 474 - 478 هـ: 1081 - 1085 م

أحمد بن يوسف المستعين 478 - 503 هـ: 1085 - 1110 م

عبد الملك بن أحمد عماد الدولة 503 -

هـ: 1110 -

م.

المرابطون يستولون على سرقسطة

ص: 464