المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعالفتح المرابطي - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الرابعالفتح المرابطي

‌الفصل الرّابع

الفتح المرابطي

القسم الثاني

استيلاء المرابطين على أبدة وبياسة وقلعة رباح. استيلاؤهم على قرمونة. زحف سير بن أبى بكر على إشبيلية. يدعو المعتمد إلى الطاعة. محاصرته لإشبيلية. تأهب المعتمد للدفاع. استغاثته بملك قشتالة. مسير الجند القشتاليين لإنجاده. القتال بين المرابطين والقشتاليين. هزيمة النصارى وارتدادهم. استماتة المعتمد في الدفاع. خصوم المعتمد في الداخل وتفاهمهم مع المرابطين. نجاح المرابطين في ثلم السور. محاولتهم الدخول وردهم. حرق أسطول إشبيلية النهري. هجوم المرابطين على المدينة واقتحامها. المعارك داخل المدينة. بسالة المعتمد في الدفاع. استيلاء المرابطين على المدينة. أسر المعتمد ونهب قصوره. إرغامه على الكتابة إلى ولديه بتسليم رندة وميرتلة. تسليم رندة ومقتل حاكمها الراضي ولد المعتمد. رواية في تسليم إشبيلية بالأمان. ما ينقض هذه الرواية. أقوال ابن اللبانة والفتح بن خاقان. شعر المعتمد في ذلك. حياة المعتمد بعد سقوطه. محنة اعتقاله. مسيره إلى المنفي. نزوله بطنجة. مسيره إلى أغمات. حياته المؤلمة في المعتقل. قسوة أمير المسلمين في معاملته. وفاة اعتماد زوجة المعتمد. قول في صفاتها. شعر المعتمد في محنته. محنته تذكي الشعر بالأندلس. تصفيده بالأغلال. وفاته ودفنه بأغمات. ذكراه في المغرب والأندلس. قبره يغدو مزاراً. زيارة ابن الخطيب لقبره وشعره في ذلك. وصف لأطلال قبره. محنة المعتمد وصداها في الرواية الإسلامية. حملة ابن الأثير على أمير المسلمين. تعليقات دوزي. قسوة أمير المسلمين وما ينتحل لها من الأعذار. المعتمد وما له وما عليه. البواعث التي دفعت يوسف إلى فتح الأندلس. تأملات حول معاملته للأمراء المنزوعين. مسير المرابطين إلى ألمرية. الروايات المختلفة في شأن سقوطها. استيلاء المرابطين على بلنسية. استيلاؤهم على شنتمرية الشرق. استيلاؤهم على سرقسطة. حركاتهم في غرب الأندلس. إغاراتهم على أراضي بطليوس. ابن الأفطس واستغاثته بألفونسو السادس. مسير المرابطين إلى بطليوس وافتتاحها. مصرع المتوكل ابن الأفطس وولديه. انتهاء مملكة بطليوس. مرثية ابن عبدون لبني الأفطس. استيلاء المرابطين على أشبونة. جواز أمير المسلمين الرابع إلى الأندلس. غزو المرابطين لقشتالة وهزيمتهم للنصارى. يوسف يعقد ولاية العهد لولده علي في قرطبة. مرض يوسف ووفاته. وصيته لولده علي.

على أثر سقوط قرطبة، استولى المرابطون على أبدة وبياسة وشقورة، في شرقي قرطبة، وعلى حصن البلاط والمدور في غربها. وبعث فاتح قرطبة القائد بطى بن اسماعيل إلى قلعة رباح، وهي قاصية أراضي المسلمين، حملة من ألف فارس، فاحتلتها. وهكذا سيطر المرابطون على سائر أراضي الوادي الكبير،

ص: 349

وعلى سائر قواعد مملكة إشبيلية، ما عدا رندة وقرمونة وإشبيلية. وفي أوائل شهر ربيع الأول سنة 484 هـ، نجد قائد المرابطين العام، سير بن أبى بكر أمام أبواب قرمونة. وكانت قرمونة أمنع قواعد مملكة إشبيلية الشمالية، وهي حصن إشبيلية من الشرق، فنازلها سير، ودخلها عنوة في السابع عشر من ربيع الأول (10 مايو سنة 1091 م). وأخذ يستعد لمنازلة إشبيلية.

ويقول لنا ابن أبي زرع في هذا الموطن، إن سير بن أبى بكر، حينما أشرف على إشبيلية، وقبل الزحف على قرطبة، كان يعتقد أن المعتمد، سوف يخرج إليه، ويتلقاه كعادته بالمعاونة والضيافات، ولكنه تحصن بالمدينة ولم يعن بشأنه، فكتب إليه سير يطلب إليه تسليم البلاد، والدخول في الطاعة، فرد المعتمد بالرفض، فضرب سير الحصار حول المدينة، وأخذ في منازلتها ومقاتلة ابن عباد، ويقدم إلينا ابن خلكان رواية مماثلة، إذ يقول إن يوسف أمر سيراً أن يعرض على ابن عباد أن يتحول إلى بر العدوة بأهله وماله، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فينازله، فلما عرض سير ذلك، لم يعطه ابن عباد جواباً، فنازله، وحاصره أشهراً (1).

حاصر المرابطون إشبيلية بقوات ضخمة، ولم يشك المعتمد منذ البداية أنه سوف يخوض مع المرابطين معركة الحياة والموت، فتأهب للدفاع عن ملكه وحاضرته بكل ما وسع، واستغاث بحليفه ألفونسو السادس ملك قشتالة. وكان ألفونسو قد اهتز لاجتياح المرابطين لمملكة إشبيلية على هذا النحو الصاعق، وأدرك من جانبه أن المسألة لم تعد تتعلق فقط بمملكة إشبيلية، ولا ملوك الطوائف وحدهم، وإنما أضحت مشكلة شبه الجزيرة الإسبانية كلها، ومسألة خطر اجتياح المرابطين لها واحتلالهم إياها. وكانت تجمعه في ذلك مع ابن عباد قضية واحدة، هي قضية دفع خطر المرابطين عن الوطن المشترك، ومن ثم فقد بادر من فوره بإرساله حملة قوية بقيادة ألبار هانيس أكبر قواده وأبرعهم، لإنجاد ابن عباد.

وتقول الرواية الإسلامية إن هذه الحملة كانت تتألف من عشرين ألف فارس وأربعين ألف راجل (2)، وتقول الرواية النصرانية إنها كانت تتألف فقط من

(1) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 487.

(2)

روض القرطاس ص 100.

ص: 350

ألفي وخمسمائة فارس. وبعث سير بن أبى بكر لقتال القشتاليين حملة من عشرة آلاف فارس، بقيادة ابراهيم بن إسحاق اللمتوني، وهي حملة تقدرها الرواية النصرانية بخمسة عشر ألفاً. والتقى القشتاليون والمرابطون على مقربة من حصن المدور، وفي رواية أخرى أن اللقاء كان في بلمة من أحواز إشبيلية (1)، ونشبت بينهما معركة عنيفة، قتلت فيها جموع كبيرة من الفريقين، وانتهت بنصر المرابطين وارتداد القشتاليين، وقد أثخن قائدهم ألبار هانيس جراحاً (2)، وانهار بذلك آخر أمل كان يعلقه ابن عباد على معاونة حلفائه القشتاليين.

واستمر حصار المرابطين لإشبيلية زهاء أربعة أشهر، ودافع المعتمد وجنده عن حاضرتهم أشد دفاع، وصمدت المدينة لهجمات المرابطين ومحاولاتهم، حتى أنه ينسب لقائدهم سير بن أبى بكر أنه قال " لو أني أقصد مدينة الشرك لم تمتنع هذا الامتناع "(3).

وفي خلال ذلك حاول جماعة من أهل المدينة من خصوم بني عباد، أن يضرموا الثورة داخل المدينة، حتى يضطرب أمر الدفاع، ويمهد السبيل لدخول المرابطين، ووقف المعتمد على أمرهم، ولكنه أبى أن يقوم بإعدامهم وفقاً لنصح قادته، واكتفى بمراقبتهم والتحوط لسعيهم. وأخيراً استطاع المرابطون بمداخلة بعض أولئك الخونة، أن يحدثوا ثلمة في السور، عند باب الفرج على مقربة من النهر (يوم 5 رجب). ووقف المعتمد على الخبر فبادر لتوه في ثلة من فرسانه، لرد الداخلين من جند العدو، وهو دون درع أو عدة، وليس عليه سوى قميص يشف عن بدنه، وتلقى المعتمد خلال المعركة التي نشبت طعنة تحت إبطه من فارس مرابطي، فوثب المعتمد يطاعنه فشقه بسيفه، ومزقت تلك الثلة من المرابطين، وأصلحت الثلمة على الأثر. بيد أنه حدث في عصر ذلك اليوم ذاته، أن تمكن بعض المرابطين من الوصول إلى أسطول إشبيلية الراسي في الوادي الكبير، وأضرموا النار فيه، فهلكت معظم سفنه، وأدرك الناس عندئذ أن خطط الدفاع عن المدينة، أخذت في الانهيار، وسرى بينهم الرعب، وبادر كثيرون إلى الفرار، بعضهم عن طريق النهر، والبعض الآخر بالترامي

(1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 163.

(2)

راجع روض القرطاس ص 100 و 101. وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 407 & 408

(3)

كتاب التبيان ص 170.

ص: 351

من شرفات الأسوار، أو الالتجاء إلى القنوات والمغائر، وسيطرت الفوضى على المدينة، وبدت طوالع النهاية منذرة مروعة.

وفي خلال ذلك كان سير بن أبي بكر، يحشد قواته وينظم الضربة الأخيرة.

ووقعت الضربة الحاسمة في يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب سنة 484 هـ (7 سبتمبر سنة 1091 م)(1)، حيث هاجم المرابطون إشبيلية بشدة. واقتحموها من ناحية الوادي الكبير، وانقضوا عليها كالسيل الجارف، يمعنون فيها سفكاً وتخريباً. ونشبت بينهم وبين المدافعين عن المدينة معارك محلية عنيفة، وهجمت فرقة من المرابطين على القصر الملكي، فاستقبلهم المعتمد على باب قصره في ثلة من فرسانه وخاصته، يدافع عن نفسه وملكه حتى اللحظة الأخيرة، أشد دفاع وأروعه، ولكن هذه البسالة النادرة لم تغن شيئاً، وانتهى المرابطون بالاستيلاء على المدينة، وعلى القصور الملكية، وأسروا المعتمد وآله، وقتلوا ابنه مالكاً الملقب بفخر الدولة بين يديه، ونهبوا قصوره - على قول المؤرخ " نهباً قبيحاً " - واحتووا على سائر ذخائره وأمواله، وساد القتل والعيث والنهب في المدينة الغنية التالدة. وكانت محنة مروعة.

وأصدر سير بن أبى بكر أماناً للمعتمد " في النفس والأهل والولد "(2)

ولكنه أرغمه على مخاطبة ولديه يزيد الراضي وأبى بكر المعتد، ينصحهما بالخضوع والتسليم، وكان الأول حسبما تقدم ممتنعاً برندة، والثاني ممتنعاً بميرتلة (أو مارتلة) في جنوبي البرتغال. وكانت رندة بالأخص ما تزال صعبة المنال، نظراً لحصانتها الفائقة، وقد يطول صمودها. وانضمت " السيدة الكبرى " أعني اعتماد الرميكية أم الأميرين إلى زوجها المعتمد، في حثهما على التسليم واستعطافهما رحمة بوالديهما. فأذعن الأميران للرجاء. فأما يزيد الراضي المدافع عن رندة، فقد قبل التسليم بعد أن قطع له جرور القائد المرابطي عهده

(1) راجع كتاب التبيان ص 170، وهي رواية معاصرة حيث يضع هذا التاريخ لسقوط إشبيلية. ويوافقه في ذلك ابن أبي زرع (روض القرطاس ص 101). ولكن عبد الواحد المراكشي يضع لذلك يوم الأحد 21 رجب 484 هـ (المعجب ص 76). ويقول ابن الخطيب إن سقوط إشبيلية كان في يوم الأحد 20 رجب سنة 484 هـ (أعمال الأعلام ص 164). ومن المحقق أن الرواية الأولى هي الراجحة؛ وتوافقها التواريخ النصرانية، وهي تضع لذلك يوم 7 سبتمبر الموافق للتاريخ الهجري.

(2)

روض القرطاس ص 101.

ص: 352

بالأمان، بيد أنه ما كادت تفتح أبواب المدينة، ويدخلها المرابطون، حتى أمر جرور بالقبض على الراضي وإعدامه، وانتهاب أمواله، ناكثاً بذلك بعهده أشنع نكث، وأمر بقتل كل من ظفر به من الأحرار والجند المدافعين (رمضان سنة 484 هـ). وأما ميرتلة، فقد أبقى المرابطون على حياة المعتد، وقنعوا بنهب أمواله (1). وتم للمرابطين بذلك الاستيلاء على سائر قواعد مملكة إشبيلية.

وكان يزيد الراضي، ويكنى أبا خالد، أنبه أبناء المعتمد في ميدان الشعر والأدب، وكان شاعر بني عباد بعد أبيه، وقرينه في نظم القريض الفائق. وكان فوق ذلك عالماً أديباً، حافظاً للشريعة، خبيراً بأنساب العرب ولغاتها. ومن شعره قوله:

يحل زمان المرء ما هو عاقد

ويسهر في إهلاكه وهو راقد

ويغرَى بأهل الفضل حتى كأنهم

جناةُ ذنوبٍ وهو للكل حاقد

سينهدُّ مبنيٌ ويقفر عامرٌ

ويصفر مملوء، ويخمد واقد

ويفترق الألاّف من بعد صحبة

وكم شهدت مما ذكرت الفراقد (2)

* * *

وهكذا سقطت مملكة بني عباد في أشهر قلائل، وخبا نجمها الذي سطع حيناً في سماء الأندلس وضاء عالياً، ولكنها سقطت أبية كريمة، في مناظر من الفروسية الرائعة تخلق بالألى شادوها. ولم تسقط قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد عميدها الباسل. وقد يبدو من رواية " روض القرطاس " أن المعتمد سلم عاصمته للمرابطين بالأمان مختاراً (3). والحقيقة التي تجمع عليها سائر الروايات، هي أن المرابطين اقتحموا إشبيلية، كما تقدم، وأخذوها عنوة في مناظر رائعة من السفك والتخريب، وأن المعتمد بن عباد لم يدخر وسيلة في الدفاع عن نفسه وعاصمته، وأنه ظل يدافع حتى اللحظة الأخيرة، وحتى

(1) المراكشي في المعجب ص 77، وكتاب التبيان ص 171. ونحن نذكر أن اثنين من أبناء المعتمد هما عباد بن محمد والفتح الملقب بالمأمون قد قتلا بالتعاقب في حوادث قرطبة، وكان هؤلاء جميعاً ابناؤه من حظيته اعتماد الرميكية. وكان له منها أبناء آخرون، منهم أبو الحسين الملقب بالرشيد الذي عبر معه إلى العدوة (راجع الحلة السيراء ج 2 ص 62).

(2)

الحلة السيراء ج 2 ص 71 و 74.

(3)

روض القرطاس ص 101.

ص: 353

اقتحم الأعداء قصره وأسروه. وقد انتهت إلينا في ذلك رواية شاهد عيان، هو أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة، فهو يصف لنا في كتابه " نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العبادية "، مناظر سقوط إشبيلية حسبما شهدها بنفسه في قوله:" إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب، فعظم الخطب في الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيها على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى "(1).

ويصف لنا الفتح بن خاقان مؤرخ الطوائف، ومعاصرهم تقريباً، منظر الصراع الأخير بين المعتمد ومهاجميه في عبارته المسجعة فيما يلي: " ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد، خرج (أي المعتمد) والموت يتسعر في ألحاظه، ويتصور من ألفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم في رحبة القصر وقد ضاق به فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقاً، وملأتهم فرقاً، وما زال يوالي عليهم الكر المعاد، حتى أوردهم النهر، وما بهم من جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك يومه وليلته، مانعاً لخوذته، دافعاً للذل عن عزته

" (2).

وأخيراً يقول لنا ابن الخطيب: " وكان دخول إشبيلية على المعتمد دخول القهر والغلبة يوم الأحد لعشر بقين من رجب. وشملت الغارة، واقتحمت الدور، وخرج ابن عباد وابنه مالك للدفاع، فقتل مالك الملقب بفخر الدولة، وأرهقت ابن عباد الخيل، فدخل القصر ملقياً بيده "(3).

(1) نقله نفح الطيب ج 2 ص 453.

(2)

قلائد العقيان ص 22 في ترجمة المعتمد بن عباد. وقد كتب الفتح كتابه بعد سقوط إشبيلية بنحو ثلاثين عاماً.

(3)

ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1319 هـ) ج 2 ص 82.

ص: 354

وهذا ما يؤيده شعر المعتمد نفسه في وصف صراعه مع أعدائه في ذلك اليوم المشهود:

إن يسلب القوم العدا

ملكي وتسلمني الجموع

فالقلب بين ضلوعه

لم تُسلم القلب الضلوع

قد رُمْت يوم نزالهم

ألاّ تحصنني الدروع

وبرزت ليس سوى القميص

عن الحشا شىء دفوع

وبذلت نفسي كي تسـ

ـيل إذا يسيل بها النجيع

أجلي تأخر لم يكن

بهواي ذلي والخضوع

ما سرت قط إلى القتال

وكان من أملي الرجوع

شيم الألي أنا منهم

والأصل تتبعه الفروع

ثم يقول لنا الفتح، إن المعتمد لما التجأ إلى قصره، بعد سقوط حاضرته، وتفرق جيشه، وفقد كل أمل في النجاة، فكر في أن يقضي على نفسه بيده، ولكن منعه من ذلك إيمانه المتين، فاستسلم إلى هوان الأسر، وقبض عليه المرابطون وعلى سائر آله وولده ونسائه (1).

- 2 -

ويجدر بنا قبل أن نتم الكلام على فتوح المرابطين لممالك الطوائف، أن نتتبع مصير المعتمد بن عباد حتى نهايته.

إن هذه المرحلة الأخيرة من حياة المعتمد، وهي مرحلة مؤسية تنفطر لها القلوب الكريمة، تنتمي إلى الأدب أكثر من انتمائها إلى التاريخ، بما تحفل به من الآثار الشعرية الرائعة، التي نظمها المعتمد عن محنته وآلامه في المنفى. وقد شغلت هذه المرحلة على قصرها، من صحف التاريخ والأدب، فراغاً كبيراً لم تشغل مثله حياة المعتمد الملوكية كلها.

(1) راجع في سقوط إشبيلية: روض القرطاس ص 100 و 101، وقلائد العقيان ص 21 و22، وكتاب التبيان ص 170 و 171، والمعجب ص 76 و 77، وابن خلدون ج 6 ص 186 وأعمال الأعلام ص 163 و 164، والمقري ج 2 ص 453، وابن خلكان ج 2 ص 40 و 41، وابن الأثير ج 10 ص 65. وراجع أيضاً: R.M.Pidal: ibid ; p. 407 & 408، وكذلك Dozy: Hist.V.III.p. 144

ص: 355

وإنه لما يثير الدهشة حقاً ما انتهى إليه أمير المسلمين من التحول من تقدير المعتمد بن عباد، وإكباره والثناء البالغ على شجاعته ونجدته ومروءته، في كتبه الرسمية بالفتح، إلى المبالغة في خصومته، والعمل على سحقه، ومعاملته بأقصى ما يعامل به عدو. ويقال في ذلك، إنه فضلا عن البواعث السياسية والعسكرية، فقد لعبت السعاية والوشاية في علائق الرجلين دوراً لا يحمد، وأثارت في قلب يوسف أمرّ ضروب السخط والبغض ضد المعتمد.

لم يكن سقوط إشبيلية، وسقوط المعتمد وآله أسرى في أيدي الظافرين خاتمة المحنة، بل كان بداية محنة أفظع وأبلغ إيلاماً للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل والمنفى المروع. وكان أمير المسلمين قد قرر مصير بني عباد، كما قرر مصير عبد الله وأخيه تميم صاحبي غرناطة ومالقة، وقد قتل المرابطون من أبناء المعتمد أربعة، هم الفتح المأمون، ويزيد الراضي، والمعتد بالله، ومالك، ولكنهم أبقوا على حياة المعتمد، وذلك فيما يبدو بإشارة أمير المسلمين ذاته، وربما كانت لدى الظافر في الإبقاء على حياته بواعث غير الرأفة به، فما كان المعتمد بن عباد من أولئك الذين يتهيبون الموت أو يخشونه، بل لقد كان يطلبه ويسعى إليه، حسبما رأينا. وربما أراد عاهل المرابطين بذلك، أن يتجرع المعتمد كأس الذلة إلى نهايتها، وأن يمرغ في التراب، ذلك الذي كان يعتبره قطب الفتنة في الأندلس، وحليف النصارى الخانع، المذنب في حق دينه ووطنه. وأن يذيقه من العذاب المعنوي أروع ألوانه.

وهكذا انتزع المعتمد بن عباد وآله من قصر إشبيلية المنيف، وأخذوا جميعاً إلى السفن التي أعدت لنقلهم إلى المنفى، وسارت السفن من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى العُدوة، في مناظر تذيب القلب حزناً وأسى، وضجت جموع الشعب الغفيرة التي احتشدت على ضفتي النهر لوداع المعتمد بالبكاء والنواح حينما شهدت سيدها وراعيها بالأمس تحيق به وجميع آله، أغلال الاعتقال والذلة، ويغادر موطن سلطانه وعزه إلى مصيره المجهول. وفي ذلك يقول شاعر المعتمد أبو بكر بن اللبانة، وقد كان من شهود ذلك اليوم من قصيدة طويلة:

نسيت إلاّ غداة النهر كونهم

في المنشآت كأموات بألحاد

والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا

من لؤلؤ طافيات فوق أزباد

ص: 356

حط القناع فلم تستر مخدرة

ومزقت أوجه تمزيق أبراد

حان الوداع فضجت كل صارخة

وصارخ من مفداة ومن فادى

سارت سفائنهم والنوح يتبعها

كأنها إبل يحدو بها الحادي

كم سال في الماء من دمع وكم حملت

تلك القطائع من قطعات أكباد (1)

وأنزل المعتمد وآله بطنجة، واعتقلوا فيها أياماً. وهنالك زاره الحصري الضرير الشاعر، وألحف في طلب الصلة، ورفع إليه أبياتاً مدحه فيها ولم يراع في ذلك حرج الموقف. وأبت على المعتمد أريحيته الملوكية أن يرده، فبعث إليه بستة وثلاثين مثقالا، وشعراً يعتذر فيه عن ضآلة الهبة، فكانت آخر صلاته الملوكية. ثم أخذوا بعد ذلك إلى مكناسة حيث التقوا بعبد الله بن بلقين وأخيه تميم، وكانا ينتظران أمر السفر إلى مقرهما الأخير (2)، وهنالك قضيا بضعة أشهر، قبل أن يرسلوا إلى مقرهم النهائي.

وأخيراً صدر الأمر بتسييرهم جميعاً إلى أغمات، وهي مدينة صغيرة حصينة تقع على قيد نحو أربعين كيلومتراً من جنوب شرقي مراكش، على مقربة من جبال الأطلس، التي تظلل آكامها الثلوج. وقد كانت حسبما نذكر عاصمة المرابطيين الأولى. وحل المعتمد وآله في أغمات في أواخر منة 484 هـ أو أوائل سنة 485 هـ. وبينما أنزل عبد الله بن بلقين وأسرته داراً حسنة وعوملوا برفق ورعاية، إذ زج المعتمد وآله إلى قلعة أغمات المنيعة. وهنالك قضى المعتمد بضعة أعوام في أغلال الأسر، يتجرع غصص المهانة والذلة، ويلقى عذاب الشهيد المُعَنى. ولم يكن مقام المعتمد بأغمات معتقلا عادياً، بل كان سجناً شنيعاً بكل معاني الكلمة، ضيق فيه على المعتمد وآله أشد التضييق، ولم يكن يطلق لهم ما يكفيهم من النفقة، فكان المعتمد، وزوجه اعتماد الرميكية التي كانت تسطع في الأندلس بجمالها وخلالها البارعة، وأبناؤه الأمراء وبناته الأقمار، يرتدون الثياب الخشنة (3). وكان بنات المعتمد يشتغلن بالغزل ليعلن والدهن وأسرتهن.

(1) راجع هذه القصيدة في قلائد العقيان ص 23، ونفح الطيب ج 2 ص 452 و 453، والمعجب ص 79 و 80.

(2)

كتاب التبيان ص 171.

(3)

كان للمعتمد بن عباد عدد كبير من الولد بنين وبنات. ومن أولاده الذين تذكرهم الرواية: الرشيد والمأمون والراضي والمعتد وعبد الله ومالك وأبو هاشم وعبد الجبار وغيرهم ممن لم تصلنا أسماؤهم. أما بناته فلم تذكر لنا الرواية شيئاً عن عددهن وأسمائهن سوى بثينة، فقد ذكرها لنا المقري بين شاعرات الأندلس (نفح الطيب ج 2 ص 489).

ص: 357

وهنالك في شعر المعتمد ما يدل على أنه كان مصفداً في قدميه بالأغلال، على الأقل في أواخر أيام أسره. ولم تكن هذه المعاملة الشنيعة لأعظم ملوك الطوائف عفواً، بل كانت مقصودة، بلا ريب، وكانت قسوة لا مبرر لها من الظافر، ولم تكن تتفق في شىء مع ما أثر عن يوسف بن تاشفين، من الفروسية والخلال الحسنة. وسنرى فيما بعد كيف يفسر هذا الموقف من جانب أمير المسلمين وكيف تلتمس له الأعذار.

واشتدت وطأة الأسر على اعتماد زوجة المعتمد، ولم تقو طويلا على مغالبة المحنة، فذوت نضارتها بسرعة ثم توفيت، فدفنت في ظاهر أغمات على مقربة من معتقل زوجها وأولادها، فحزن المعتمد لوفاتها أيما حزن، واشتد به الضنى والأسى.

وقد سبق أن أشرنا إلى ما كانت تتمتع به اعتماد الرميكية أيام مجدها وعزها في بلاط إشبيلية من منزلة عالية، وأشرنا إلى صفاتها اللامعة من الجمال والسحر والشاعرية، والمشاطرة في مجالس الشعر والأدب. على أن هذه الصفات الممتازة التي كانت تتمتع بها الرميكية، وهذه الحياة السافرة اللامعة في أعظم بلاط لملوك الطوائف، كانت من جهة أخرى مدعاة للطعن في تصرفها وأخلاقها.

فمثلا ينقل إلينا التيجاني الأندلسي عن الحجاري في حق الرميكية ما يأتي: " وهي التي ورطت المعتمد فيما ورطته من الخلاعة والاستهتار والمجاهرة، حتى كتب أهل إشبيلية عليه بذلك، وبتعطيل صلوات الجمع، عقوداً، ورفعوها إلى أمير المسلمين، فكان من أمره معه ما كان، وسجن المعتمد بأغمات، وسجنت الرميكية معه، فماتت هنالك قبله "(1).

(1) نقلنا هذه الفقرة عن المخطرط رقم 562 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال والمسمى " تحفة العروس " لأبى عبد الله التيجاني الأندلسي المالكي (لوحة 200). ويقدم إلينا التيجاني بهذه المناسبة ملخصاً لقصة بثينة ابنة المعتمد والرميكية، فيقول لنا إن بثينة هذه كانت مثل أمها في الجمال والذكاء ونظم الشعر. ولما سقطت إشبيلية، ونهبت قصور المعتمد، كانت ابنته ضمن السبايا، ولم يعثر لها على خبر، إلى أن كتبت إليهما بأغمات شعراً تقص فيه ما حدث لها، وهو أنها وقعت في يد تاجر اشتراها على أنها سرية، فامتنعت عليه، وعرفته بحقيقة أمرها، وطلبت إليه أن يتزوجها زواجاً شرعياً، وكتبت إلى والديها بأغمات الشعر المشهور المتداول، ترجو فيه منهما الموافقة على زواجها منه. فسر المعتمد والرميكية بوجودها على قيد الحياة، وكتبا إليها، بالموافقة على رغبتها. (المخطوط السالف الذكر لوحة 201). وراجع نفح الطيب ج 2 ص 489 و 490.

ص: 358

وأذكت المحنة شاعرية المعتمد، وكان القريض عندئذ عزاءه وغذاءه الروحي، فصدرت عنه في معتقله طائفة كبيرة من القصائد المؤسية، وكلها تلهف على سابق مجده، وبكاء على ماضيه، ورثاء لمحنته، فمن ذلك قوله:

أنباء أسرك قد طبقن آفاقا

بل قد عممن جهات الأرض إطلاقا

سارت من الغرب لا تطوى لها قدم

حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا

فأحرق الفجع أكباداً وأفئدة

وأغرق الدمع آماقاً وأحداقا

قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها

وقيل إن عليك القيد قد ضاقا

وقوله:

غريب بأرض المغربين أسير

سيبكي عليه منبر وسرير

وتندبه البيض الصوارم والقنا

وينهل دمع بينهن غزير

مضى زمن والملك مستأنس به

وأصبح منه اليوم وهو نفور

برأي من الدهر المضلل فاسد

متى صلحت للمصلحين دهور

أذل بني ماء السماء زمانهم

وذل بني ماء السماء كبير

فياليت شعري هل أبيتن ليلة

أمامي وخلفي روضة وغدير

بمنيته الزيتون مورثة العلا

يغني حمام أو تدن طيور

بزاهرها (1) السامي الذري جاده الحيـ

ـا تشير الثريا نحونا ونشير

ويلحظنا الزاهي (1) وسعد سعوده

غفورين والصب المحب غيور

تراه عسيراً أو يسيراً مناله

ألا كل ما شاء الإله يسير

وقوله في أول عيد له بأغمات، وقد أبكاه منظر أولاده وبناته:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا

فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعة

يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة

أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية

كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا

أفطرت في العيد لا عادت إساءته

فكان فطرك للأكباد تفطيرا

قد كان دهرك أن تأمره ممتثلا

فردك الدهر منهياً ومأمورا

من بات بعدك في ملك يسر به

فإنما بات بالأحلام مغرورا

(1) الزاهر والزاهي من قصور بني عباد بإشبيلية.

ص: 359

وقوله وقد رأى سرباً من القطا يمر بمعتقله:

بكيت إلى سرب القطا إذ مررن به

سوارح لا سجن يعوق ولا كبل

ولم تك والله المعيد حسادة

ولكن حنيناً إن شكلي لها شكل

فأسرع فلا شمل صديع ولا الحشى

وجيع ولا عينان يبكيهما ثكل

وقوله في لوم أمير المسلمين على ظلمه:

أبى الدهر أن يقني الحياء ويندما

وأن يمحو الذنب الذي كان قدّما

وأن يتلقى وجه عتبى وجهه

بعذر يغشى صفحتيه التذمما

ستعلم بعدي من تكون سيوفه

إلى كل صعب من مراقيك سلما

سترجع إن حاولت دوني فتكة

بأخجل من خد المبارز أحجما

وأذكت مأساة بني عباد في الوقت نفسه دولة الشعر في الأندلس، ونظم أكابر شعراء العصر في رثاء دولتهم، والتوجع على أيامهم، طائفة من القصائد المؤثرة، التي ما زالت تحتفظ حتى اليوم بكل روعتها وحياتها. وكان أغزرهم في ذلك مادة، أبو بكر بن اللبانة، شاعر المعتمد المتقدم ذكره، فقد بقي على صلاته ووفائه للمعتمد، وزاره في سجنه بأغمات، ونظم في دولته وأيامه، وفي محنته وأسره، عدة من قصائده الرنانة، يضمها كتاب وضعه في تاريخ بني عباد، وأسماه:" كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك "(1).

واستطال أسر المعتمد وسجنه حتى سنة 488 هـ، بيد أنه استطاع في غمر المحنة والبؤس الطاحن، أن يحتفظ بكثير من جلاله السابق، فكان هذا الجلال يشع في ظلمات سجنه، كما يشع ضوء الشمس إذا أحدق به الغمام (2). وفي أواخر أيامه صدرت أوامر أمير المسلمين بالتضييق عليه وتصفيده بالأغلال، بسبب ثورة محلية قام بها ولده عبد الجبار في بعض حصون إشبيلية، وكان ممن أفلت عند سقوطها وذلك حسبما نذكر بعد. وفي اليوم الحادي عشر من شوال سنة 488 هـ (أواخر أكتوبر 1095 م)، توفي المعتمد في سجنه بقلعة أغمات بعد

(1) يراجع بعض هذه القصائد في قلائد العقيان ص 29 و 30، وابن خلكان ج 2 ص 41 وما بعدها، وفي نفح الطيب ج 2 ص 457 و 458. وكذلك في الحلة السيراء ج 2 ص 59 - 67.

هذا وقد كتب ابن قاسم الشلبي مجموعاً في أخبار المعتمد ابن عباد أشار إليه ابن الأبار (الحلة ج 2 ص 136).

(2)

تاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ (الطبعة الثانية) ص 97.

ص: 360

اعتقال دام زهاء أربعة أعوام (1)، وكان سنه عند وفاته سبعاً وخمسين سنة وبضعة أشهر. ودفن بظاهر أغمات إلى جانب زوجه اعتماد الرميكية. ومما قاله في رثاء نفسه قبل وفاته، وأوصى بأن يكتب على قبره:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي

حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد

بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت

بالخصيب إن أجدبوا بالري للصادي

بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا

بالموت أحمر بالضرغامة العادي

بالدهر في نقم بالبحر في نعم

بالبدر في ظلم بالصدر في النادي

نعم هو الحق حاباني به قدر

من السماء فوافاني لميعاد

ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ..

. إن الجبال تهادى فوق أعواد

كفاك فارفق بما استودعت من كرم

رواك كل قطوب البرق رعاد

ويقدم إلينا صاحب البيان المغرب بعض تفاصيل عن ثورة عبد الجبار بن المعتمد وهي الثورة التي اتخذت ذريعة للتنكيل بأبيه وتصفيده في سجنه بأغمات، وذلك أن عبد الجبار امتنع بحصن أركش، الواقعة جنوبي إشبيلية وشرقي شريش، في جمع كبير من أصحابه. وبعث إلى ألفونسو السادس يطلب عونه، وعلم الأمير سير اللمتوني فاتح إشبيلية بذلك، فسار إلى أركش، وبعث إلى أمير المسلمين يخطره بالأمر، فبعث إليه مدداً من الخيل والرجالة، فضخمت الحملة، وأحدقت بالحصن وضيقت على من فيه، واتصلت الحرب بين الفريقين، وابن عباد يخرج في قواته من آن لآخر ويشتبك بالمرابطين في معارك دامية، وأصحابه يتساقطون من حوله تباعاً. وفي ذات يوم أصاب ابن عباد سهم رماه به أحد الرماة المرابطين، فاحتمله أصحابه جريحاً، وتوفي لأيام قلائل، فكتم أصحابه موته. وكان قد مضى على هذه المعارك نحو ستة أشهر، وفنى كثير من حامية الحصن، واشتد بها الضيق، وعندئذ حاول القادة الأندلسيون الحصول على الأمان، فرفض الأمير سير، واقتحم الحصن أخيراً، وقتل معظم حاميته، واستخرج جثة عبد الجبار من قبرها، واحتز رأسه ورؤوس أصحابه، وحملت

(1) ويقول لنا صاحب البيان المغرب إن وفاة المعتمد كانت في شهر ذي الحجة سنة 488 هـ (الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها). ويقول ابن الأبار إنها كانت في ربيع الأول سنة 488 هـ (الحلة السيراء ج 2 ص 55).

ص: 361

إلى مدينة إشبيلية، وعلقت على أسوارها، ووقعت حوادث هذه الحملة في سنة 490 هـ (1097 م)(1).

وهكذا اختتم المعتمد بن عباد حياته الباهرة، في غمر المحنة وظلمات العدم، وتفرق من بعده ولده وآله في مختلف الأنحاء. ولكن ذكراه لبثت طويلا حية في المغرب والأندلس، ولبثت محنته وخاتمته مضرب الأمثال في تقلب الجدود وعبر الدهر. وبعد وفاته بقليل وفد على أغمات أبو بحر بن عبد الصمد، وقد كان من شعراء دولته وخاصة المتصلين به، وذهب يوم العيد إلى قبره فخر أمامه، وغمره بقبلاته وبلله بدموعه، وأنشد بين الجماهير التي احتشدت من حوله، مرثيته الغراء في المعتمد، ومطلعها هذه الأبيات:

ملك الملوك أسامع فأنادي

أم قد عدتك عن السماع عواد

لما خلت منك القصور ولم تكن

فيها كما قد كنت في الأعياد

أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً

واتخذت قبرك موضع الإنشاد

قد كنت أحسب أن تبرد أدمعي

نيران حزن أضرمت بفؤادي

فإذا بدمعي كلما أجريته

زادت على حرارة الأكباد

فبكى الناس لسماعه أحر بكاء، وهم يطوفون بالقبر طواف الحجيج، وكان منظراً يفتت الأكباد (2).

* * *

وقد أسبغت هذه البقعة التي يرقد فيها ملك إشبيلية، وأمير الشعر في عصره، رقدته الأبدية، شهرة مؤثرة على مدينة أغمات. ولما ذهبت دولة المرابطين بعد ذلك بنحو خمسين عاماً، غدا قبر المعتمد بن عباد وزوجه الرميكية في أغمات مزاراً يحج إليه الوافدون من أنحاء المغرب والأندلس، واستمر كذلك عصوراً. وفي سنة 761 هـ (1360 م) زاره الكاتب والشاعر الكبير الوزير لسان الدين ابن الخطيب عند زيارته لمدينة أغمات. وهو يصفه لنا في كتابه " نفاضة الجراب " في قوله: " وزرت بخارجها قبر المعتمد علي الله أبى القاسم محمد بن عباد أمير حمص

(1) البيان المغرب من أوراق مخطوطة، عثرنا بها في خزانة القرويين بفاس، وسبقت الإشارة إليها.

(2)

راجع قلائد العقيان ص 30 و 31، وأعمال الأعلام ص 165 - 170 حيث يورد القصيدة كلها.

ص: 362

وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي رحمه الله. وهو بالمقبرة القبلية على يسار الخارج من البلد، قد توقل نشزا غير سام، وإلى جانبه، قبر الحرة حظيته، وسكن نفسه، اعتماد، إشراكاً لاسمها في حروف لقبه المنسوب إلى رميك، المتولعة بشأنه معها أخبار القصاص، وحكايات الأسمار، إلى أجداث من ولديهما فترحمنا عليه، وأنشدته " (1). ويعود ابن الخطيب بعد ذلك في كتابه " أعمال الأعلام ". فيصف لنا زيارته للقبر في تلك العبارات المؤثرة:" وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته، مولاة رميك، وعليها وحشة التغرب ومعاناة الخمول بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها "، وقد أنشد على القبر أبياتاً يقول فيها:

قد زرت قبرك عن طوع بأغمات

رأيت ذلك من أولى المهمات

ولم لا أزورك يا أندى الملوك يداً

ويا ضياء الليالي المدلهمات

أناف قبرك في هضب يميزه

فتنتحيه حفيات التحيات

كرمت حياً وميتاً واشتهرت علا

فأنت سلطان أحياء وأموات

ما رِىء مثلك في ماض ومعتقدي ..

. أن لا يرى الدهر في حال ولا آت (2)

وزاره المقري مؤرخ الأندلس في سنة 1010 هـ (1602 م) ورآه كما ذكر ابن الخطيب فوق ربوة في مكان يغمره النسيان، فوقف أمامه خاشعاً متأثراً (3).

وقد انتهزت فرصة وجودي بمدينة مراكش في خريف سنة 1956، فزرت أغمات. وقد غدت مدينة أغمات هذه، التي اشتهرت في التاريخ وفي الأدب لاحتوائها على قبر المعتمد بن عباد، اليوم قرية متواضعة، تقع على مقربة من مراكش، ومن آكام جبال الأطلس الثلجية، وتحيط بها غراس الزيتون والتين البري، ولا يعدو سكانها ثلاثة آلاف نسمة. وأما قبر المعتمد، فيقع في ظاهرها في طلل خرب يحيط به سور قصير، وفي داخله حظيرتان، في إحداهما قبر المعتمد، وقد خرب تماماً ونمت به الأشواك البرية، وعليه كومة من الأحجار الصغيرة. وأما الحظيرة الأخرى فالمفهوم أنها تحتوي على قبر زوجه اعتماد الرميكية. وقد ذكرت وأنا أتأمل هذا الطلل الموحش المؤثر، ما ذكره

(1) نفاضة الجراب في علالة الاغتراب. مخطوط الإسكوريال رقم 1755 الغزيري.

(2)

أعمال الأعلام ص 164 و 165.

(3)

راجع نفع الطيب ج 2 ص 458 و 459.

ص: 363

ابن الخطيب والمقري من قبل، من غلبة الخمول والعفاء عليه، وشعرت بمثل ما شعر به كل منهما من الألم والخشوع.

* * *

كانت مأساة المعتمد بن عباد مأساة من أروع المآسي الملوكية، وما زالت محنة هذا الأمير، تحتفظ إلى يومنا، بالرغم من كر العصور، بألوانها المشجية، وقد أثارت عطف الرواية الإسلامية وتأثرها البالغ، ويبدو هذا العطف بنوع خاص في روايات مؤرخي الأندلس والمشرق، وفي كثير منها يُصور المعتمد شهيد القسوة والعسف، ومنها ما يشدد الحملة على يوسف بن تاشفين، ويصمه بأقسى الصفات. فمثلا يقول لنا ابن الأثير في التعليق على أسر بني عباد ومعاملتهم: " وفعل أمير المسلمين بهم فعالا لم يسلكها أحد من قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده، إلا من رضى لنفسه بهذه الرذيلة

وأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفسه ولؤم قدره " (1).

ويقول العلامة دوزي معلقاً على ذلك: " ومهما كانت فضائل يوسف، فإن الشهامة إزاء المغلوبين لم تكن منها، فقد كان تصرفه مع الأمراء الأندلسيين الذين أسرهم قاسياً وبغيضاً ". ثم يقول، إن المعتمد لم يكن بلا ريب ملكاً عظيماً، ييد أنه ينوه بدقة حساسيته وفيض شاعريته، التي تنعكس عليها أقل الحوادث في حياته، بل إنا لنستطيع أن نسجل حياة المعتمد وخلجات نفسه، من قصائده، ثم يقول: " ثم إنه، أي المعتمد كان لحسن طالعه آخر ملك أندلسي، يمثل بجدارة وروعة، قومية وحضارة عقلية سقطتا تحت نير البربر الذين فتحوا البلاد.

ولقد لزمه نوع من الإيثار باعتباره آخر فرع لتلك الأسرة العديدة من الأمراء الشعراء، الذين حكموا الأندلس. وإنا لنأسوا له أكثر مما نأسوا لأي شخص آخر، بل ودون أي شخص آخر، كما تثير آخر زهرة في الموسم، وآخر أيام الخريف الحلوة، وآخر أشعة الشمس الغاربة، في نفوسنا أيما أسى " (2).

وقد أسبغت قسوة يوسف نحو أمراء الأندلس، ونحو المعتمد بنوع خاص.

على سيرته وعلى خلاله سحباً لم تمحها جميع الأعذار التي انتحلت لتبرير عمله.

(1) ابن الأثير ج 10 ص 65.

(2)

Dozy: Hist.V.III.p. 178-176

ص: 364

وتتلخص هذه الأعذار في أن المعتمد كان بسياسته وتصرفه نحو شئون الأندلس، ومحالفته للنصارى على اخوته في الدين، وتعريضه مستقبل الإسلام للخطر، تحقيقاً لمطامعه الشخصية، يستحق أعظم اللوم، وأنه عوقب بما تقتضيه فداحة ذنبه. وقد أدرك المعتمد، عقب سقوط طليطلة، فداحة أخطائه، وأبدى صريح ندمه لما أثم (1). على أنه إذا كان حقاً أن المعتمد يحمل بسياسته الأندلسية أمام التاريخ تبعات جسام، فإنه من الحق أيضاً أنه حينما استفحل الخطب، وظهر شبح الخطر على الأندلس المسلمة، كان أول الداعين إلى الوحدة، وإلى طلب الغوث من المرابطين، وأنه لم يبخل في ذلك السبيل بتضحية حصونه التي طلبها يوسف قبل عبوره إلى الأندلس، وأنه أبلى في موقعة الزلاّقة أعظم البلاء، وعاون في نيل النصر أعظم معاونة. كذلك لا ريب أن البواعث التي دفعت يوسف إلى افتتاح الأندلس وامتلاكها، لم تكن دينية فقط، ولم تكن بعد الزلاقة وحصار أليدو، مجرد جهاد في سبيل الله، بل كانت دنيوية قبل كل شىء، ولم يك ثمة شك في أن الأندلس قد أغرت المرابطين وأميرهم بخصبها وغنائها ونعمائها. وإنه ليحق لنا بعد ذلك كله أن نتساءل، أي ضرورة بل أي ْحكمة اقتضت أن يبطش المرابطون بأمراء الأندلس، وأن يمعنوا فيهم قتلا وتعذيباً، على النحو الذي اتبعوه، بعد أن استولوا على أملاكهم وأراضيهم (2) وأي ضرورة اقتضت أن يعامل سيد المرابطين، المعتمد بن عباد وآله بهذه القسوة المروعة، بعد أن غدوا في يده أسرى لا حول لهم ولا قوة؟ وكيف سمح أمير المسلمين القوي القادر لنفسه، أن تمتد هذه القسوة إلى الولد الضعاف والنساء والبنات؟ لقد كان المعتمد مثقلا بتبعات أعماله وأخطائه كأمير، وملك من ملوك الطوائف، أفلم يكن يكفيه فقد ملكه وسلطانه، وأسره واعتقاله، للتكفير عما أثم بسابق تصرفه؟ وماذا كان يضير الظافر لو عامله بشىء مما يقتضيه سابق مكانته من الرفق والرعاية؟

(1) راجع ما ورد في رسالة ابن عباد لألفونسو السادس (ص 76 من هذا الكتاب).

(2)

قتل المرابطون ثلاثة من أبناء المعتمد بن عباد، هم المأمون والراضي ومالك، وقتلوا المتوكل بن الأفطس وولديه الفضل والعباس، وقتلوا كثيراً غيرهم من الوزراء والكبراء، في مناظر من القسوة المثيرة.

ص: 365

هذه تأملات تثيرها في النفس محنة المعتمد بن عباد. ولا ريب أن هذه الخاتمة المؤسية التي قدر للمعتمد أن يعاني آلامها المروعة المادية والمعنوية، لحرية بأن تسبغ عليه ثوب شهيد، يستحق عطف التاريخ، وصفح الأجيال.

- 3 -

ذكرنا فيا تقدم أن أمير المسلمين حينما نظم جيوشه لافتتاح إمارات الطوائف، بعث إلى ألمرية جيشاً بقيادة أبى زكريا بن واسنو (وقيل بل محمد بن عائشة) لمحاصرتها وافتتاحها. وهنا تختلف الرواية، فيقال إن المرابطين أشرفوا على ألمرية، وحاصروها، وأميرها المعتصم بن صمادح عليل يعاني مرض موته، وأنه ألقى بهذه المناسبة كلمته المأثورة " نغص علينا كل شىء حتى الموت "، ثم توفي أثناء الحصار في شهر ربيع الآخر سنة 484 هـ (1091 م)(1). وفي رواية أخرى أن المعتصم توفي قبل مقدم المرابطين، وأنه كان قد أوصى ولده معز الدولة قبيل وفاته، بأن يترقب مصير إشبيلية، فمتى سقطت في أيدي المرابطين، وخلع أميرها المعتمد بن عباد، فعليه أن يغادر ألمرية فوراً، ويعبر البحر في أهله وأمواله، إلى العدوة، ويلتجىء إلى حماية بني حماد أمراء القلعة. وقد نفذ معز الدولة وصية أبيه، واستطاع أن ينجو بأهله وأمواله، وأن يغادر ألمرية في آخر لحظة، قبل أن يطوقها المرابطون، وأن يعبر البحر إلى العدوة (رمضان سنة 484 هـ)، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة ألمرية (2). ودخل المرابطون ألمرية على الأثر واحتلوها، فكانت ألمرية بعد غرناطة وإشبيلية، ثالثة مملكة من ممالك الطوئف. تسقط في أيدي المرابطين.

وقد ذكرنا فيما تقدم كيف احتل المرابطون مدينة مرسية بقيادة ابن عائشة وذلك في شوال سنة 484 هـ (أكتوبر سنة 1091 م)، ثم استولوا في العام التالي (485 هـ) على شاطبة وشقورة ودانية.

ونحن نعرف مما تقدم من أخبار مملكة بلنسية، أن المرابطين بدأوا يتدخلون في حوادث بلنسية، ويبذلون جهودهم لتحطيم مغامرات " السيد " في هذه المنطقة، وذلك منذ سنة 485 هـ (1092 م). وقد قام الجيش الذي يقوده

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 172. والطبعة الجديدة ج 2 ص 84.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 174، وروض القرطاس ص 101.

ص: 366

خريطة: الدولة المرابطية الكبرى عقب افتتاح الأندلس.

ص: 367

ابن عائشة بدوره في ذلك. ثم قدم إلى شرقي الأندلس جيش مرابطي آخر، أوفر عدة وعدداً، بقيادة محمد بن تاشفين ابن أخي يوسف، وحاصر بلنسية، وفي داخلها السيد، وذلك في أواخر سنة 488 هـ. ولكن مقاومة السيد، ومن بعد وفاته مقاومة القشتاليين، استطالت بضعة أعوام، ولم يتمكن المرابطون من دخول بلنسية إلا في شهر شعبان سنة 495 هـ (مايو سنة 1102 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل تفصيلا شافياً في أخبار مملكة بلنسية.

واستمرت الجيوش المرابطية في تقدمها شمالي بلنسية، نحو أراضي الثغر الأعلى، واستولت على إمارة شنتمرية الشرق في رجب سنة 497 هـ (إبريل 1104 م)، وكانت قد استولت قبل ذلك على إمارة ألبونت الصغيرة. وفي سنة 502 هـ (1109 م)، وعقب انتصار المرابطين في موقعة إقليش، سار جيش مرابطي بقيادة أبي عبد الله بن الحاج والي بلنسية، شمالا صوب سرقسطة، فدخلها، وأخرج منها بني هود، وبذلك تم للمرابطين فتح شرقي الأندلس والثغر الأعلى، وانتهت إمارات الطوائف كلها في تلك الأنحاء.

وأما في غربي الأندلس، فإن المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، شعر عقب استيلاء المرابطين على إشبيلية، أن الدائرة سوف تدور عليه، وكان قبل ذلك قد تقرب من عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، وبعث إليه برسالته المؤثرة التي أوردناها من قبل، يدعوه فيها لنصرة الأندلس. ولما استولى المرابطون على غرناطة ذهب مع المعتمد بن عباد لتهنئة أمير المسلمين، فاستقبلهما بجفاء، وانصرفا من لديه وقد شعر كلاهما بالخطر الداهم على مملكته. على أنه يبدو أن ابن الأفطس استطاع بعد ذلك أن يعمل على توثيق أواصر المودة مع المرابطين وكبيرهم الأمير سير بن أبى بكر فاتح إشبيلية وحاكمها. واستمرت هذه العلائق الودية قائمة نحو ثلاثة أعوام. ثم بدأ المرابطون الإغارة على أراضي مملكة بطليوس، وشعر المتوكل بتغير المرابطين نحوه واتجاههم إلى إزالته، ولم يجد أمامه إزاء هذا الخطر الداهم، طريقاً يسلكه سوى نفس الطريق الذي سلكه ابن عباد من قبل، وهو الاستغاثة بألفونسو السادس ملك قشتالة. وبذل ابن الأفطس لملك قشتالة ثمناً لحلفه ومعاونته، ثلاث مدن هامة من أملاكه، هي أشبونة، وشنترة، وشنترين. وقد كان لهذا التصرف وقع سىء، إذ انحرف

ص: 368

أهل بطليوس عن المتوكل، وكتب أعيانهم إلى المرابطين يستدعونهم. وفي أوائل سنة 488 هـ (أوائل 1095 م)، بعث حاكم إشبيلية الأمير سير بن أبي بكر جيشاً إلى بطليوس لافتتاحها، فاخترق أراضي بطليوس بسرعة، ولم يتمكن ملك قشتالة من تقديم أية معاونة لحليفه المسلم، واضطر ابن الأفطس أن يمتنع بقصبة بطليوس المنيعة الضخمة. ولكن المرابطين اقتحموها بعنف، وقبضوا على المتوكل وولديه الفضل والعباس، واستولوا على أمواله المدفونة بالقصبة، بعد أن عذبوه لكشف مخابئها. واحتل المرابطون بطليوس، وأخذوا المتوكل وولديه بحجة تسييرهم إلى إشبيلية، ثم أعدموهم في الطريق (1). وكان للمتوكل ولد آخر هو المنصور، وكان قد بعثه ومعه معظم ذخائره إلى حصن منتانجش على مقربة من حدود قشتالة، ليمتنع فيه، فلما علم بما وقع لأبيه وإخوته، سار في أهله وأمواله إلى ملك قشتالة، والتجأ إلى حمايته، وأقام بأرضه، واعتنق النصرانية وفقاً لبعض الروايات (2). وهكذا انتهت مملكة بطليوس بعد أن عاشت في ظل بني الأفطس خمسة وسبعين عاماً، وتم للمرابطين فتح غربي الأندلس كله، كما تم لهم من الناحية الأخرى فتح شرقي الأندلس.

وقد أذكت محنة بني الأفطس، كما أذكت محنة بني عباد من قبل، فجيعة الشعر الأندلسي، ونظم في رثائهم ورثاء دولتهم وأيامهم، وزيرهم الكاتب والشاعر المبدع، أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، مرثيته الشهيرة، التي تعتبر من أجل المراثي الأندلسية وأروعها، وهذا مطلعها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصور

أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة

عن نومة بين ناب الليث والظفر

ومنها:

فلا تغرنك من دنياك نومتها

فما صناعة عينيها سوى السهر

ما لليالي أقال الله عثرتنا

من الليالي وخانتها يد العبر

في كل حين لها في كل جارحة

منا جراح وإن زاغت عن النظر

(1) المعجب ص 42، وأعمال الأعلام ص 186، وراجع: Dozy: Hist.V.III.p. 152 وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 504

(2)

هذه رواية ابن عذارى في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها بخزانة القرويين. وراجع أيضاً أعمال الأعلام ص 186.

ص: 369

تسر بالشىء لكن كي تغر به

كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر

كم دولة وليت بالنصر خدمتها

لم تبق منها وسل ذكراك من خبر

ومنها في رثاء بني الأفطس:

بني المظفر والأيام لا نزلت

مراحل والورى منها على سفر

سحقاً ليومكم يوماً ولا حملت

بمثله ليلة في غابر العمر

من للأسرة أو من للأعنة أو

من للأسنة يهديها إلى الثغر

من للبراعة أو من لليراعة أو

من للسماحة أو للنفع والضرر

ومنها:

أين الجلال الذي غضت مهابته ..

. قلوبنا وعيون الأنجم الزهر

أين الإباء الذين أرسوا قواعده

على دعائم من عز ومن ظفر

أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه

فلم يرد أحد منها على كدر

كانوا رواسي أرض الله منذ مضوا

عنها استطارت بمن فيها ولم تقر

كانوا مصابيحها فمذ خبوا عثرت

هذه الخليقة يا ألله في سدر (1)

هذا وقد أجمل لنا مأساة الطوائف شاعر معاصر هو أبو الحسن جعفر بن ابراهيم المعروف بابن الحاج اللورقي في تلك الأبيات الثلاثة:

كم بالمغارب من أشلاء مخترم

وعاثر الجد مصبور على الوهن

أبناء معن، وعباد، ومسلمة

والحميريين باديس وذى النون

راحوا لهم في هضاب العز أبنية

وأصبحوا بين مقهور ومسجون (2)

وعلى أثر الاستيلاء على بطليوس، سارت حملة مرابطية إلى ثغر أشبونة، وكانت تحتله مذ نزل عنه المتوكل، حامية قشتالية بقيادة الكونت ريمون البرجوني صهر ألفونسو السادس، وهاجم المرابطون أشبونة بشدة واقتحموها، وقتلوا وأسروا معظم حاميتها النصرانية. وأعيد بذلك هذا الثغر الهام إلى حظيرة المملكة الإسلامية (نوفمبر سنة 1094 م)(3).

(1) تراجع القصيدة بأكملها في المعجب ص 42 - 46، ونشرت ناقصة في أعمال الأعلام ص 186 - 189.

(2)

الحلة السيراء ج 2 ص 101 و 102.

(3)

راجع الحلل الموشية ص 55 وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 502

ص: 370

ورد ملك قشتالة على ذلك بالقيام بغزوة جديدة لأراضي الأندلس. ففي سنة 489 هـ (1096 م) حشد ألفونسو السادس حملة ضخمة، وسار نحو قرطبة، فلما علم أن المرابطين هناك على أهبة شديدة لمدافعته، تحول عنها وسار إلى قرمونة وهي حصن إشبيلية الشرقي، فهاجمها واقتحم بسائطها فيما بينها وبين إستجة، واستولى على غنائم وفيرة وسبى جموعاً عظيمة، ثم اتجه صوب إشبيلية، وعاث في بسائطها، فامتنع أهل إشبيلية بمدينتهم ولم يخرجوا إلى قتاله حسبما كان يتوقع، فلما يئس من الاشتباك مع المسلمين، سارا في قواته وغنائمه صوب بطليوس ثم جاز إلى أراضي قشتالة عائداً إلى قواعده (1).

- 4 -

لبث أمير المسلمين يوسف بن تاشفين حيناً في سبتة، يعني بإمداد جيوشه الغازية في شبه الجزيرة، ويتلقى أنباء الفتوح المتوالية لقواعد الأندلس، ثم غادرها إلى مراكش، بعد أن اطمأن إلى نتائج أعمال البعوث والحملات المختلفة، وعهد بشئون الأندلس، إلى كبير قادته الأمير سير بن أبى بكر اللمتوني.

ولم يعد يوسف إلى شبه الجزيرة إلا بعد ذلك بعدة أعوام في سنة 496 هـ (1102 م) حيث جاز إليها جوازه الرابع. وفي رواية أخرى أن هذا الجواز الرابع وقع في سنة 1097 م (491 هـ)(2) وفي رواية ثالثة، وهي رواية ابن عذارى أنه وقع في سنة 490 هـ (1096 م). وكانت ممالك الطوائف كلها قد سقطت يومئذ في أيدي المرابطين، ما عدا سرقسطة، التي استولى عليها المرابطون بعد ذلك بأعوام قلائل، وآلت اسبانيا المسلمة كلها بذلك إلى سلطان البربر وغدت ولاية مغربية، وانهار سلطان العصبيات والأسر الأندلسية إلى حين، وتوارت العناصر والزعامات المتغلبة، لكي تظهر فيما بعد، وتضطلع ضد المرابطين بمختلف الحركات والثورات القومية الأندلسية.

واتخذ جواز أمير المسلمين هذه المرة طابع الجهاد من جديد، فجهز جيشاً قوياً من المرابطين والأندلسيين بقيادة محمد بن الحاج. وسار هذا الجيش صوب

(1) البيان المغرب من الأوراق المخطوطة التي سبقت الإشارة إليها.

(2)

R.M.Pidal: ibid ; p. 535

ص: 371

طليطلة مخترقاً أراضي قشتالة، والتقى بالقشتاليين بقيادة ملكهم ألفونسو على مقربة من كونسويجرا، فهزم النصارى هزيمة فادحة، وفر ألفونسو في فلوله نحوكونسويجرا والتجأ إليها، فحاصره المرابطون بها بضعة أيام ثم انصرفوا (أغسطس سنة 1097 م).

وقصد يوسف إلى قرطبة، لينجز المهمة التي قدم في الواقع من أجلها إلى الأندلس، وهي أخذ البيعة لولده أبي الحسن علي. وكان قد استقدمه معه هو وأخوه الأكبر أبو الطاهر تميم (1)، وكان يوسف قد آثر ولده علياً بولاية عهده، لما آنسه فيه من الورع والنباهة والحزم، وأصدر له عهده بذلك في سنة 495 هـ. وفي شهر ذي الحجة من سنة 496 هـ جمع يوسف بقرطبة أمراء لمتونة وأشياخ المرابطين والفقهاء، وأخذ البيعة عليهم جميعاً لولده علي، وكان من شروط تقديم علي لولاية العهد، أن ينشىء بالأندلس جيشاً مرابطياً ثابتاً قوامه سبعة عشر ألف فارس، موزعة على قواعد الأندلس، منها سبعة آلاف بإشبيلية، وألف بكل من قرطبة وغرناطة، وأربعة آلاف في شرقي الأندلس، ويوزع الباقي على الثغور (2). وكان من الواضح أن اختيار يوسف قرطبة لأخذ البيعة بها لولده، يمت بصلة وثيقة إلى صفة عاصمة الخلافة القديمة، وزعامتها الأدبية السالفة لقواعد الأندلس.

وفي أواخر سنة 498 هـ، مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بقصره بحضره مراكش، واستمر عليلا زهاء عام وشهرين، حتى توفي في مستهل شهر محرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر 1106 م)(3). وقيل بل توفي في ربيع الآخر سنة خمسمائة.

وكانت وفاته بقصره بمراكش، ومن حوله ولداه أبو الحسن علي وأبو الطاهر تميم، وأكابر لمتونة، ودفن بالقصر، وأوصى ولده علياً قبيل وفاته بثلاثة أمور، الأول ألا يفعل شيئاً لإثارة أهل جبل درن ومن وراءه من المصامدة وأهل القبلة، والثاني أن يهادن بني هود أمراء سرقسطة وأن يتركهم حائلا بينه وبين النصارى، والثالث أن يعطف على من أحسن من أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم (4).

(1) الحلل الموشية ص 55. ويقول ابن أبي زرع إن علياً كان عندئذ بسبتة حيث نشأ (روض القرطاس ص 101).

(2)

الحلل الموشية ص 58.

(3)

روض القرطاس ص 101 ويقول ابن خلكان إنه توفي في الثالث من المحرم سنة 500 هـ (ج 2 ص 448).

(4)

الحلل الموشية 60.

ص: 372

وهكذا اختتمت حياة البطل المغربي العظيم، بعد أن عاش زهاء مائة عام، وقضى في الزعامة والكفاح زهاء نصف قرن، مذ ندبه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني لقيادة الجيش المرابطي، وقضى في حكم الدولة المرابطية الكبرى بالمغرب مذ دخل مدينة فاس في سنة 462 هـ، نحو أربعين عاماً، وحكم الإمبراطورية المغربية الأندلسية الكبرى نحو خمسة عشر عاماً، واضطلع في المغرب بحروب ومعارك لا حصر لها، وقاد الجيوش المرابطية بالأندلس مراراً من أجل الجهاد في سبيل الله، وأحرز أعظم انتصاراته في معركة الزلاّقة الحاسمة، وهي بلا ريب ألمع صفحات جهاده وأنصعها.

وقد تناولنا خلال يوسف وصفاته فيما تقدم من سيرته، ونزيد هنا أنه لم يصم حياة يوسف المديدة، ولم يثر سحباً حول خلاله العظيمة، سوى ما جنح إليه من قسوة بالغة في معاملة أمراء الأندلس، وهو ما سبق أن عرضنا إليه.

ص: 373