المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثمملكة دانية والجزائر - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثالثمملكة دانية والجزائر

‌الفصل الثالِث

مملكة دانية والجزائر

مدينة دانية وخواص موقعها. مجاهد العامري. أصله ونشأته. نزوحه إلى شرقي الأندلس. تغلبه على دانية والجزائر الشرقية. الفقيه أبو عبد الله المعيطي. مشروع مجاهد لغزو سردانية. استعداداته البحرية. أسطوله الغازي. سردانية وغزوات المسلمين. مسير مجاهد إلى سردانية واقتحامها. المعارك داخل الجزيرة وافتتاحها. حلف البابوية وجنوة وبيزة لطرد المسلمين. الحرب الصليبية. مقاومة مجاهد ومتاعبه. هزيمته وتحطيم أسطوله. أسر ولده وحريمه. غزوات مجاهد للشواطىء الإيطالية والفرنسية. الفقيه المعيطي وعزله ونفيه. مجاهد يفتدي زوجه وبناته. استطالة أسر ولده علي ثم افتداؤه. عجمته وعوده إلى الإسلام. تثقيفه وإعداده لولاية العهد. تأييد مجاهد للخليفة المرتضي. اشتراكه في محاربة البربر. اشتراكه في حكم بلنسية ثم انفراده به. اختيار عبد العزيز المنصور لإمارة بلنسية. غزو مجاهد لمرسية وأسره لابن طاهر. محاربته لعبد العزيز صاحب بلنسية. وفاة مجاهد. عبقريته ومآثره العلمية. التفاف العلماء حوله. قصته مع أبى غالب النحوي. تفوقه في الفروسية. براعته البحرية. ولده على إقبال الدولة يخلفه. الخلاف بينه وبين أخيه حسن. محاولته اغتيال بناته ومصاهراته. حكمه وصلاته. شئون الجزائر وحكامها. استجابة علي لنداء المستنصر الفاطمي ورسالته إليه. تسامحه نحو النصارى. ابن غرسية ورسالته ضد العرب. بعض الآراء والتعليقات حولها. أطماع المقتدر بن هود في دانية. خلافه مع صهره علي. مسيره لافتتاح دانية واستيلاؤه عليها. اعتقال علي ثم فراره إلى العدوة. ولده سراج الدولة. علي ومواهبه وخلاله. الجزائر الشرقية واستقلال حاكمها المرتضي. خلفه مبشر بن سليمان. حكمه الزاهر. غارات البحارة المسلمين في عهده. إغارة النرويج على الجزائر. بيزة ومشروعها لفتح الجزائر. أسطول الغزو النصراني يهاجمها. استعداد مبشر للدفاع. استغاثته بعلي بن تاشفين. وفاة مبشر وولاية أبى ربيع. خروجه من الجزيرة وأسره. دخول النصارى مدينة ميورقة وفتكهم بأهلها. مقدم الأسطول المرابطي. انسحاب النصارى واستيلاء المرابطين على الجزائر.

تقع مدينة دانية في شمال اللسان المثلث، الممتد من ولاية لقَنت في البحر الأبيض المتوسط، وتبدو برقعتها الصغيرة، وشوارعها القصيرة العريضة، التي تظللها أشجار التوت الوارفة، مدينة متواضعة هادئة، لا يتبادر إلى ذهنك، وأنت تجوب أحياءها القليلة الصامتة، أنها كانت ذات يوم عاصمة لدولة أندلسية بحرية كبيرة.

أجل قامت في دانية، أيام الطوائف، مملكة تمتاز بصفتها الخاصة، التي تميزها عن غيرها من ممالك الطوائف الأخرى. فقد كانت أولا تمتاز بموقعها المنعزل

ص: 187

في شرقي الأندلس، وتمتد رياستها عبر البحر إلى الجزائر الشرقية، فكانت بذلك تغلب صفتها البحرية على صفتها البرية. ثم كانت بهذا الموقع المنعزل الحصين أبعد من أن تنزلق إلى معترك الحرب الأهلية، التي كانت تنحدر إليه ممالك الطوائف الأخرى، وأبعد عن عدوان مملكة قشتالة، الذي كان يهدد سائر الطوائف.

ومن ثم فإن تاريخ مملكة دانية يتخذ طابعاً آخر، غير ذلك الطابع الذي رأيناه يغلب على تاريخ ممالك الطوائف الأخرى.

وكانت دانية مثل معظم القواعد الأندلسية الشرقية، عند اضطرام الفتنة وانهيار الخلافة، من نصيب الفتيان العامريين. تغلب عليها منهم مجاهد العامري في أوائل عهد الفتنة. وقد كان مجاهد هذا من أكابر زعماء العامريين. وكان وفقاً لأرجح الروايات من فحول الموالي أو الفتيان العامريين. وقد كان معظم أولئك الفتيان من الصقالبة، من أصول إفرنجية كالألمان واللنبارد والإيطاليين والجلالقة وأهل البلقان وغيرهم، يؤتي بهم أطفالا ويربون في البلاط تربية عربية إسلامية. وكان منهم الفحول والخصيان. وكان مجاهد ينتمي إلى الفريق الأول أعني إلى الفتيان الفحول، وقد نشأ وربي في عهد المنصور بن أبي عامر. وفي رواية أخرى أن مجاهداً ينتمي إلى طائفة الموالي العامريين، وقد رباه المنصور وعلمه، وقيل أيضاً إنه كان مولى لعبد الرحمن المنصور، أو أن أباه يوسف كان معتوقاً لعبد الرحمن (1). وقيل من جهة أخرى إن مجاهداً كان "رومي" الأصل، أعني من الفتيان الصقالبة (2). ويعتقد العلامة المستشرق أماري بالاستناد إلى هذه الإشارة أن مجاهداً يرجع إلى أصل إسباني محلي (3). بيد أنه مما يؤيد الرواية الأولى، وهي نسبة مجاهد إلى الموالي، وليس إلى الفتيان الصقالبة، اسمه وكنيته، فهو أبو الجيوش مجاهد بن يوسف بن علي، ويزيدها أيضاً ما كانت تتمتع به شخصية مجاهد من عروبة قوية، ومن تضلع في علوم القرآن واللغة، حسبما نبين بعد (4).

(1) جذوة المقتبس (مصر) ص 331.

(2)

المراكشي في المعجب ص 41.

(3)

M. Amari: Storia dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1868) V.III.p. 4

(4)

ابن خلدون ج 3 ص 164، والبيان المغرب ج 3 ص 156. ويقدم إلينا ابن الأبار مجاهداً بأنه أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري (الحلة السيراء ج 2 ص 128).

ص: 188

وعلى أي حال فقد كان مجاهد عند اضطرام الفتنة، إلى جانب واضح وخيران وزهير، وغيرهم من أكابر الفتيان أو الزعماء العامريين، اندمج في زمرتهم، واشترك معهم في بعض الأحداث التي أعقبت الفتنة، وشاطرهم خطتهم في النزوح إلى شرقي الأندلس. ويقول لنا ابن خلدون إن مجاهداً غادر قرطبة عند مقتل الخليفة محمد بن هشام المهدي في أواخر سنة 400 هـ (1010 م)، وإنه سار عندئذ إلى طرطوشة، فتملكها، ثم سار منها إلى دانية. وكان مجاهد كباقي الفتيان العامريين، من شيعة الخليفة المؤيد بالله، والخلافة الأموية بوجه عام، وقد حارب معهم إلى جانب الخليفة المرتضي بالله ضد البربر والقاسم بن حمود، في الموقعة التي هزم فيها المرتضي ولقي مصرعه، وذلك في سنة 409 هـ (1019 م)(1).

بيد أنه توجد رواية أخرى عن تغلب مجاهد على دانية خلاصتها، أنه كان عند انهيار الخلافة واضطرام الفتنة، والياً على الجزائر الشرقية، وكان يشغل هذا المنصب منذ أيام المنصور بن أبي عامر، فلما تمخضت الفتنة عن تمزق الأندلس، سار من الجزائر إلى دانية، وتملكها، وأقام بها دولته (2).

وتقول بعض الروايات أيضاً إن مجاهداً، كان وقت اضطرام الفتنة قائماً بشئون بلنسية، فثار به عبدان من العبيد أو الفتيان العامريين، هما مبارك ومظفر، واستطاعا أن ينتزعا منه السلطة، فخرج مجاهد من بلنسية إلى دانية وتغلب عليها.

والظاهر من مقارنة الروايات المختلفة أن مجاهداً نزل أولا في دانية، وغلب عليها، ثم وثب منها على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) وتملكها، وذلك في أواخر سنة 405 هـ (أوائل 1015 م). وتتكون الجزائر الشرقية من أربع جزائر هي مِنُورقة، وميورقة وهي أكبرها، وبها مدينة ميورقة وهي عاصمة الجزائر كلها، ويابسة، وفرمنتيرا، وهي أصغرها. وهنا وقبل أن نتتبع أخبار مجاهد، يجب أن نذكر واقعة تدعو إلى التأمل، وهو أن مجاهداً ندب إلى معاونته في الحكم فقيهاً ورعاً هو أبو عبد الله بن عبيد الله بن الوليد ويعرف بالمعيطي، وكان المعيطي هذا ينتمي إلى بني أمية، وهو من أشراف قرطبة وفقهائها البارزين، وكان ممن أزعجته الفتنة، فغادرها إلى شرقي الأندلس. والظاهر أن مجاهداً كان

(1) ابن خلدون ج 4 ص 164.

(2)

البيان المغرب ج 3 ص 155.

ص: 189

يحيط هذا الفقيه بنوع من التقدير والإجلال. ذلك أنه نصبه "خليفة" بدانية والجزائر وسائر أعماله، وأخذ له البيعة على الناس، وسماه بأمير المؤمنين المستنصر بالله، ونقش اسمه في سكته وفي أعلامه، وذلك في جمادى الآخرة من سنة 405 هـ (1). ويقال إن مجاهداً صحب معه المعيطي في حملته إلى الجزائر الشرقية، وإنه كان ساعده الأيمن في الاستيلاء عليها. بل يقال إنه هو الذي أوعز إليه بغزو سردانية.

- 1 -

وبينما كانت دول الطوائف الأخرى، سواء في شرقي الأندلس، أو في غربها، تخوض غمار المنازعات والحروب المحلية الصغيرة، كان مجاهد العامري يفكر في مشروع ضخم، ربما كان أعظم مشروع فكر فيه أمير من أمراء الطوائف، ذلك هو غزو جزيرة سردانية وافتتاحها. وقد كان مجاهد، زعيماً قوي النفس، وكان فيما يبدو بحاراً مجرباً، وكان يرى أن مملكته الساحلية، وأملاكه البحرية، تقتضي أن يكون اعتمادها في القتال على الأساطيل قبل كل شىء، ومن ثم فقد اقتضت همته أن يجدد دار الصناعة القديمة (دار صناعة السفن) التي كانت بدانية، وأن يضاعف طاقتها لتمده بالسفن المقاتلة والناقلة من مختلف الأحجام، واستكثر من السفن والمعدات الحربية، واستطاع في فترة قصيرة إن ينشىء أسطولا كبيراً يرابط في مياه دانية والجزائر، وغدت دانية فيما بعد، في عصره، وعصر ولده علي، أعظم مركز للأساطيل الأندلسية. وكان مجاهد يتطلع بعيداً من جزائره الشرقية إلى ما وراء هذه المياه من الجزائر الكبيرة الغنية ولاسيما جزيرة سردانية العظيمة، التي عرفها البحارة المسلمون من قبل، في كثير من الغزوات المتعاقبة.

وضع مجاهد خطته لغزو هذه الجزيرة الكبيرة، فحشد أسطولا قوامه مائة وعشرين سفينة، وقوة من ألف فارس، وأقلعت السفن الغازية من دانية والجزائر في ربيع الأول سنة 406 هـ (أغسطس 1015 م)، وعلى الأسطول قائده أمير البحر أبو خروب. وكانت المسافة بين مياه دانية والجزائر وبين سردانية، يومئذ تستغرق ثمانية أيام. وكانت جزيرة سردانية موضع اهتمام

(1) أعمال الأعلام ص 220.

ص: 190

الغزاة العرب منذ فتح الأندلس، وقد غزاها العرب لأول مرة في سنة 711 م، أيام موسى بن نصير. ثم توالت غزوات البحارة المسلمين لسردانية، فغزوها في سنة 752 م، ثم في سني 813 و 816 و 817 و 838 م. بيد أن هذه كانت كلها من الغزوات العارضة، التي يقنع الغزاة فيها بالسبي والغنائم، وكانت المقاومة العنيفة التي يلقونها من أهل الجزيرة تحول دون احتلالها والاستقرار فيها.

وكانت سردانية في البداية تحت حكم الدولة البيزنطية، فلما ضعف سلطانها في تلك المياه، وقعت سردانية تحت حكم اللونبارد، ثم تحت حكم الفرنج. بيد أن هذه لم تكن سوى حماية اسمية. وكان يحكم الجزيرة منذ القرن الثامن قضاة أو أمراء محليون. وكانت طبيعتها الوعرة، وشجاعة أهلها الجبليين، واعتزازهم بحرياتهم، مما يعاون في دفع الغزاة، ورد الحملات الغازية العارضة.

بيد أن هذه الحملة، التي سيرها مجاهد العامري إلى الجزيرة، كانت تمتاز بضخامتها، وضخامة عُددها، وتمتاز بالأخص بما يقترن بها من عزم راسخ على الفتح والاستقرار. ومن ثم فإنه ما كادت السفن الغازية ترسو على شواطىء الجزيرة - والظاهر أنها رست في خليج كالياري في جنوب الجزيرة - حتى شق الغزاة طريقهم إلى الداخل بمنتهى العنف، ووقعت بينهم وبين أهل الجزيرة معارك دموية هائلة قتل فيها عدد جم، وكان قائدهم مالوتو في مقدمة القتلى، وأسر الغزاة جموعاً غفيرة، وسبوا كثيراً من النساء والأطفال. واستطاع الغزاة أن يحتلوا معظم أراضي الجزيرة، بالرغم من المقاومة العنيفة التي لقوها، وأن يسيطروا على معظم حصونها (1).

ْوهكذا فتحت سردانية على يد مجاهد العامري، وذلك في شهر أغسطس أو سبتمبر سنة 1015 م (ربيع الثاني سنة 406 هـ)(2). وكان أول فتح إسلامي لهذه الجزيرة الكبيرة. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن مجاهداً غلب على معظم أنحاء سردانية وافتتح معاقلها، ثم قرر البقاء في الجزيرة، حتى يوطد مركزه بها، واختط بها بالفعل مدينة واسعة شرع في بنائها، وانتقل إليها بأهله وولده، وأنه أحرز من الغنائم والسبي مالا يأخذه الحصر، حتى كسد السبي في زمانه،

(1) Amari: ibid.، V.III.p. 6 & 7

(2)

وفي جذوة المقتبس أن الفتح وقع سنة 406 أو 407 هـ (ص 331).

ص: 191

وانحطت أثمانه (1). ومن المحقق على أي حال أن مجاهداً لبث في سردانية حتى نهاية سنة 406 هـ، أعني نحو عشرة أشهر. وفي خلال ذلك كانت البابوية والدول الإيطالية القريبة، قد اهتزت لهذا الحادث الخطير، وزاد في روعها وسخطها ما عمد إليه مجاهد من الإغارة بسفنه على الشاطىء الممتد بين جنوة وبيزة واقتحام مدينة لوني ونهبها، وكانت جنوة وبيزة يومئذ هما أقوى الدول البحرية في هذه المياه، ولكلتاهما مصالح تجارية عظيمة تحرص على حمايتها. وفي الحال أعلن البابا، وهو يومئذ بندكتوس الثامن، الحرب الصليبية ضد المسلمين، وعقد تحالفاً مع جنوة وبيزة على محاربة المسلمين وطردهم من الجزيرة. ومما يروى بهذه المناسبة، أن مجاهداً العامري أرسل إلى البابا كيساً مملوءاً بحبات القسطل، معلناً أنه سوف يعود بعدها، وأن البابا رد بأن بعث إليه كيساً مملوءاً بالحشائش الرفيعة، قائلا إنه سوف يلقى بعددها ممن يرتدون الخوذات.

وهكذا عقدت الدول الإيطالية بزعامة البابا، العزم على تحطيم الغزاة المسلمين، ورد خطرهم عن هذه المياه.

وهنا يحيط الغموض بالفترة القصيرة، التي قضاها مجاهد العامري في سردانية. ففي بعض الروايات أن مجاهداً عاد بعد هذه الحملة الأولى إلى دانية وجهز حملة ثانية إلى سردانية، في صيف العام التالي أعني في سنة 407 هـ (1016 م) وذلك لكي يقضي على كل مقاومة في الجزيرة، وهذه رواية يصعب تصديقها، وليس في سير الحوادث ما يؤيدها. والحقيقة هي أن مجاهداً لبث بعد غزو الجزيرة، يبذل جهده في تحصينها، وفي الاستعداد للدفاع عنها، واستمر طوال الوقت في كفاح دائم مع أهل الجزيرة. ولما قدمت السفن الجنوية والبيزية والسفن النصرانية الأخرى من مختلف الأمم، ودخلت مياه كالياري، استعد مجاهد للمعركة الحاسمة، ولكن مقاومة أهل الجزيرة من الداخل، وتمرد الجند المرتزقة النصارى في أسطوله، وتوالي العواصف القاصفة، كانت كلها عوامل فتت في عضده، وحطمت خطط دفاعه، فلم يقو طويلا على المقاومة، وأصابته السفن النصرانية بهزيمة فادحة. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن أمير البحر أبا خروب حذر مجاهداً من دخول مياه كالياري بسفنه، ولكنه لم يأخذ بهذا

(1) أعمال الأعلام ص 219. وجذوة المقتبس ص 331.

ص: 192

النصح، وكانت الريح تقذف بمراكبه تباعاً، والروم لا عمل لهم سوى قتل المسلمين وأسرهم، ومجاهد خلال ذلك يبكي (1) وهكذا تحطمت معظم سفنه وأسرت أو أغرقت، وقتل معظم أصحابه، واستولى العدو على سائر غنائمه وسبيه، وعلى أهله وحريمه وولده وفيهن نساؤه وبناته، وعليّ ولده، وجود أمه النصرانية، ولم ينج من أسطوله الضخم سوى بضع سفن، شقت به عرض البحر مسرعة. ووقعت هذه الهزيمة الساحقة على مجاهد العامري في شهر يونيه أو يوليه سنة 1016 م.

ويقدم إلينا العلامة المستشرق أماري رواية أخرى خلاصتها أن مجاهداً لبث في سردانية عاماً آخر حتى مايو سنة 1017 م، وأنه حينما سمع بأمر الأساطيل الضخمة التي جهزت لقتاله، أنشأ بالجزيرة قلعة يستعين بها على الدفاع. ولكن جنده كانوا خلال ذلك، قد سئموا المقام بالجزيرة لقلة الغنائم ورداءة الطقس، وساد بينهم التذمر. وفي شهر مايو سنة 1017 م، أقبل أسطول البيزيين. والجنويين الضخم، وعول مجاهد على الانسحاب. ولكنه حينما خرج بأسطوله وذلك في شهر يونيه، اصطدم بالأساطيل الإيطالية، وفاجأته في نفس الوقت عاصفة شديدة، أغرقت كثيراً من سفنه، واصطدم الكثير منها بالشاطىء، فسار في فلول أسطوله صوب دانية تاركاً في الأسر ولده وأخاه وزوجه (2).

وهكذا تحطم هذا المشروع الضخم، ولم يتح للمسلمين أن يستقروا في سردانية كما أتيح لهم من قبل أن يستقروا في صقلية. ولو نجح مجاهد العامري في مشروعه، واستقر المسلمون في سردانية، لكان مرجحاً أن تزدهر بها حضارة إسلامية، كتلك التي ازدهرت في صقلية، بل وكان مرجحاً أن يطول عهد الإسلام في صقلية، وأن يتأخر سقوطها في أيدي النورمان عصوراً أخرى. ولكن المشروع ْكان في الواقع أضخم من مقدرة أمير من أمراء الطوائف، وكانت الدول النصرانية كلها تتحفز لحماية هذه الجزائر، كي تمنع انسياب الأساطيل الإسلامية إلى المياه الإيطالية، وكان في تفوق الجمهوريات الإيطالية البحري، في هذه العصور، ما يكفل تحقيق هذه الغاية (3).

(1) راجع جذوة المقتبس ص 331.

(2)

Amari: ibid.; V.III.p.9

(3)

راجع أعمال الأعلام ص 219 و 220، وابن الأثير ج 9 ص 100، وابن خلدون =

ص: 193

على أن غزو مجاهد الجرىء لسردانية، وغاراته المتكررة بعد ذلك على الشواطىء الإيطالية وشواطىء بروفانس، جعلت منه شخصية خيالية مروعة، وتفيض الروايات النصرانية المعاصرة، من إيطالية ولاتينية، في غزوات مجاهد وغاراته البحرية، وتعرفه باسم موجيتوس Mogetus أو موسيتو Museto وتحيطه بهالة من البطولة والروع.

وفي بعض الروايات أن المسلمين غزوا سردانية بعد ذلك مرتين أخريين، في سنة 1019 م، ثم في سنة 1049 م، وذلك بقيادة مجاهد العامري أيضاً، وأن مجاهداً سقط أخيراً في أيدي النصارى، وهي رواية لا سند لها. ثم إنه يروى أيضاً أن البحارة المغامرين أو القراصنة حسبما يسمونهم، من دانية والجزائر، لبثت تتكرر غاراتهم على الشواطىء الغربية للبحر المتوسط مدة طويلة، يظللها دائماً اسم "موجيتو" أى مجاهد، على أنه ملك إفريقية. وإذا كان لنا أن نستخلص من ذلك شيئاً، فهو الروع الذي كان يبثه اسم هذا البحار الجرىء - مجاهد العامري - في ثغور البحر المتوسط الغربية، في ذلك العصر.

ومن الأسف أن الرواية الإسلامية تنقصها الإحاطة في هذا الجانب الشائق من حياة مجاهد، وهي حياته كبحار من أعظم بحاري العصر، فهي لا تقدم لنا عنه سوى نبذة يسيرة متناقضة، وهي أكثر اهتماماً بنواحيه العلمية والأدبية. وعاد مجاهد العامري من غزوته المنكوبة لسردانية، ليلقى الأمور في دانية قد اضطربت وتعقدت. ذلك أن الفقيه أبا عبد الله المعيطي، لم يحفظ العهد، ولم يرع الأمانة، فاستبد بالحكم، واغتصب السلطة لنفسه، ومحا اسم مجاهد ورسومه، وكثرت مظالمه وعيثه، وابتزازه للأموال، ومجاهرته بالمعاصي.

وما كاد مجاهد يقف على ذلك، حتى بادر بالقبض على المعيطي، ونزعه كل سلطة وصفة، واشتد في تأنيبه وتعنيفه، ثم أرسله مخفوراً إلى العدوة في سفينة أنزلته في بجاية، وهنالك لجأ إلى البربر، وعاش مغموراً حتى توفي (1).

= ج 4 ص 164، والمقدمة ص 212. وراجع بحثاً بالإسبانية عن مجاهد العامري وعلي ابنه: Roque Chabas: Mochahid ijo de Yusuf y Ali ijo de Mochahid en (Estudios de Erudicion Oriental) Homenaje a Fr.Codera. وراجع أيضاً: Amari: ibid ; V.III.p. 4-14

(1)

أعمال الأعلام ص 220.

ص: 194

وعمد مجاهد إلى تنظيم شئون مملكته، والعمل على النهوض من عثرته.

وكانت أعوص محنة يومئذ أسر ولده وأهله في سردانية، وقد استطاع أن يفتدي زوجته وبناته وإخوته في مدة قريبة. ورفضت أمه وكانت نصرانية العود إليه، وكذلك أختها، وآثرتا العيش في أرض نصرانية، فأعرض عنهما. وبقيت مشكلة ولده علي. وكان وقت أسره في سردانية طفلا في السابعة من عمره، وكان وحيده يومئذ، وكانت أمه نصرانية كذلك. وقد رفض السرادنة كل عرض لافتدائه، وأخفق كل مجهود بذله مجاهد لرده. ومضت الأعوام والغلام يعيش في الأسر بين النصارى، يربى على دين النصرانية، ويتحدث لغة القوم. وأخيراً وفق مجاهد إلى إقناع السرادنة بقبول افتدائه وإطلاق سراحه، وذلك بعد عشرة أعوام من أسره. وكانت وجهة نظر السرادنة في احتجاز الغلام على هذا النحو، هي استبقاؤه رهينة ثمينة، لمنع مجاهد من القيام بأية مغامرة أخرى، ولم يرتضوا إطلاق سراحه، إلا بعد أن دفع لهم مجاهد فدية هائلة، وقطع على نفسه أوثق العهود بأن يتركهم في سلام، وألا يعود إلى إزعاجهم بأية صورة. وخرج علي من الأسر، وهو فتى يتكلم بلسان "الروم" الذي ربي بينهم، ويتزيا بزيهم، ويعتنق دينهم. فلما وصل إلى دانية عرض عليه أبوه الإسلام، فقبله، وحسن إسلامه، وعني مجاهد بتأديبه وتثقيفه. وكان قبل افتدائه من الأسر، قد اختار لولاية عهده ولده الأصغر حسناً الملقب بسعد الدولة، ولكنه عدل عن هذا الاختيار لما آنسه في ولده الأكبر علي من مخايل الشجاعة والذكاء والعزم، فقدمه على أخيه الأصغر، وعينه لولاية عهده، وعهد إليه بقيادة الجيش. وكان لذلك فيما بعد أثره في توتر العلائق بين الأخوين (1).

- 2 -

كانت غزوة سردانية أعظم أعمال مجاهد العامري، وهي ألمع صفحة في تاريخه. بيد أنه مذ عاد إلى دانية، قدر له أن يخوض سلسلة من الحوادث والأعمال الأخرى.

(1) أعمال الأعلام ص 221، والبيان المغرب ج 3 ص 157. وبحث الأستاذ Chabas السالف الذكر. ويقول لنا ابن بسام إن الذي افتدى علياً من الأسر، هو أحد آل حماد أمراء بني مناد بالمغرب الأوسط، وأنه أسدى بذلك إلى والده يداً بيضاء (راجع الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206).

ص: 195

ففي سنة 408 هـ، اجتمع رأي الفتيان العامريين، وعلى رأسهم زعيمهم خيران صاحب ألمرية، على معارضة خلافة علي بن حمود الناصر في قرطبة، والدعوة لخلافة مرشح أموي جديد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن الناصر، وكان قد فر خفية من قرطبة إلى جيان، فأعلن خيران بيعته، وأيده في بيعته المنذر التجيبي صاحب سرقسطة، وولاة بلنسية ودانية وطرطوشة وألبونت وغيرها، وكان ذلك في مؤتمر عقد في بلنسية، وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضي، وأعلن الخلاف على الناصر، وسار على رأس جيش متحد من حلفائه ومؤيديه، ومنهم مجاهد العامري. والتقى جيش الفتيان وحلفائهم في ظاهر غرناطة بجيش البربر، بقيادة زاوي بن زيري الصنهاجي، فهزم جند الأندلس هزيمة فادحة، وقتل المرتضي خلال فراره (409 هـ)، وانهارت بذلك حركة الفتيان لمعارضة خلافة البربر، وعاد مجاهد إلى دانية.

وفي خلال ذلك تطورت الحوادث في بلنسية، وكانت تحت حكم الفتيين العامريين مظفر ومبارك، فتوفي مظفر أولا ثم تبعه مبارك في حادث قتل فيه، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 408 هـ حسبما فصلنا من قبل في موضعه. فعندئد خلفه في حكم بلنسية الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة، ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري، وكانت الخطبة تصدر باسميهما، ثم وقع الخلاف بينهما، وسخط أهل بلنسية على لبيب، لوقوعه تحت نفوذ صاحب برشلونة النصراني، ففر لبيب إلى طرطوشة، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية، إلى جانب مملكته في دانية، واستمر على ذلك زهاء عامين، حتى اجتمع الفتيان العامريون مرة أخرى، وعقدوا البيعة لحفيد مولاهم عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور، وندبوه أميراً لبلنسية، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م)، وعندئذ تخلى مجاهد عن حكمها.

ْولسنا نجد بعد ذلك تفصيلا شافياً لأعمال مجاهد في الأعوام التالية، بيد أنه هنالك واقعتين واضحتين، الأولى أن مجاهداً غزا مرسية، والثانية أنه خاض حرباً مع عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية. فأما عن الواقعة الأولى، فإنه يبدو من إشارة لابن الأبار، أن مجاهداً سار إلى غزو مرسية، وقت أن كان عليها أبو بكر بن طاهر نائباً عن زهير العامري صاحب ألمرية. ولا توضح لنا الرواية أسباب هذا الغزو، ولا تاريخه بالضبط، ولكن الظاهر أنه وقع حوالي سنة

ص: 196

420 هـ (1029 م) في أوائل ولاية زهير لألمرية ومرسية عقب وفاة خيران العامري. وقد كان النزاع قائماً داخل مرسية حول حكمها بين بني طاهر، وبني خطاب، وكان مجاهد فيما يبدو من مؤيدي بني خطاب، فلما غلب بنو طاهر على المدينة سار مجاهد لغزوها، وأسر أبا بكر بن طاهر، وحمله معه إلى دانية، ولم يطلقه إلا لقاء فدية طائلة، بيد أنه ليس هناك ما يدل على أن مجاهداً حكم مرسية أو استقر بها طويلا. وعندئذ ندب زهير أبا بكر بن طاهر لحكم المدينة واصطحب معه خصمه ومنافسه أبا عمرو بن خطاب إلى ألمرية حسماً للنزاع، وضماناً للسكينة والسلام في مرسية (1).

ولما توفي زهير العامري في سنة 429 هـ، قتيلا في حربه مع باديس صاحب غرناطة، واستولى عبد العزيز المنصور من بعده على ألمرية وأعمالها، وعلى مرسية وأوريولة، شعر مجاهد بأن تضخم مملكة بلنسية على هذا النحو سوف يغدو خطراً على مملكته، فساءت بينهما العلائق بسرعة وانتهت إلى الحرب. وسار مجاهد في قواته من دانية، واخترق أراضي مملكة بلنسية الوسطى من شاطبة إلى لورقة. وكان عبد العزيز المنصور يومئذ في ألمرية، فغادرها في قواته، وكانت شاطبة ولورقة وشوذر (2) من أعمال مملكته، قد خرجت كلها عليه وانضمت إلى مجاهد. ووقعت الحرب بين الفريقين (433 هـ - 1041 م) وانتصر عبد العزيز في النهاية على خصومه، واستعان في محاربته لمجاهد ببعض سريات من المرتزقة النصارى أمده بها ملك قشتالة، وعاد مجاهد إلى دانية، دون أن يفوز بشىء.

وولّى مجاهد حكم ميورقة (الجزائر الشرقية) ابن أخ له يدعى عبد الله. وكانت الجزائر الشرقية من أهم أعمال مجاهد، وبها كانت مرافيء معظم أساطيله، لأن مياه دانية لا تصلح لرسو السفن الكبيرة. واستمر عبد الله على ميورقة خمسة عشر عاماً حتى عزل في سنة 428 هـ، وندب مجاهد لحكمها مولاه الأغلب فاستمر في منصبه بقية عهد مجاهد، وقسما من عهد ولده علي (3).

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 187، وطبعة القاهرة ج 2 ص 116 و 117.

وكذلك الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 182.

(2)

وهي بالإسبانية Jodar

(3)

ابن خلدون ج 4 ص 167.

ص: 197

وتوفي مجاهد العامري سنة 436 هـ (1044 م) بعد أن حكم مملكة دانية والجزائر زهاء ثلاثين عاماً، ساد فيها النظام والأمن والرخاء.

وقد أشادت التواريخ المعاصرة واللاحقة، بخلال مجاهد العامري، وعبقريته الحربية والسياسية، ومآثره العلمية والأدبية، وكان أكبرهم تنويهاً بشأنه، معاصره المؤرخ الكبير أبو مروان ابن حيان، وإليك نبذة مما قاله في ذلك، نقلها إلينا ابن بسام في الذخيرة، قال:" كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره، لمشاركته في علم اللسان، ونفوذه في علم القرآن، عنى بذلك من صباه، وابتداء حاله إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن التزيد، عظيم ما مر به في الحروب براً وبحراً، حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، وكانت دولته أكثر الدول خاصة، وأسراها صحابة، لانتحالهم الفهم والعلم، فأمه جلة العلماء وأنسوا بمكانه، وخيموا في ظل سلطانه، واجتمع عنده من طبقات علماء أهل قرطبة وغيرها، جملة وافرة، وجلة ظاهرة، إلا أنه كان مع أدبه من أزهد الناس في الشعراء، وأحرمهم لأهله، وأنكرهم على منشده فأقصر الشعراء عن مدحه، وخلا الشعر من ذكره "(1).

وذكر لنا في نبذة أخرى نقلها إلينا ابن الخطيب، أنه كان بين أعلام العصر الذين يلتفون حول مجاهد، أبو عمرو بن سعيد الداني صاحب القراءات، وأبو عمر ابن عبد البر، وابن معمر اللغوي، وابن سيده صاحب كتاب المحكم وغيرهم (2).

وكان منهم أيضاً الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن رشيق، وكان يحتل في دولة مجاهد أرفع منزلة، وقد ولاه ميورقة فحكمها بالسياسة والعدل، واشتغل هناك بالحديث والفقه (3)، وكان بعض هؤلاء العلماء منقطعاً إليه، متفرغاً للعمل في كنفه، مثل ابن سيده الذي ألف معظم كتبه تحت رعايته، ولازمه حتى توفي، ثم غادر دانية بعد وفاته خوفاً من سطوة ولده علي (4). " فشاع العلم في حضرته

(1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 5 أ. ونقلها صاحب البيان المغرب ج 3 ص 156.

(2)

توفي أبو عمرو الداني سنة 444 هـ، وابن عبد البر سنة 463 هـ، وابن سيده سنة 458 هـ.

(3)

هذا قول ابن الأبار (الحلة السيراء ج 2 ص 128) ولا نعرف متى كانت هذه التولية.

ولعلها كانت في أوائل عهد مجاهد. وقد توفي ابن رشيق بعد سنة 440 هـ.

(4)

المقري عن المطمح في نفح الطيب ج 2 ص 357.

ص: 198

حتى فشا في جواريه وغلمانه، فكان له من المصنفين عدة، يقومون على قراءة القرآن، ويشاركون في فنون من العلم، يجملونه بها ويشرفون دولته".

ومما يذكر عن علائق مجاهد بعلماء عصره، قصته مع إمام اللغة والنحو في عصره، أبي غالب بن غالب المعروف بابن التياني المرسى. فإن مجاهداً أثناء تغلبه على مرسية، وأبو غالب إذ ذاك بها، أرسل إليه ألف دينار، على أن يزيد في ترجمة كتابه " الموعب " أنه ألفه لأبى الجيش مجاهد. فرد عليه المال، وأنف من ذلك قائلا، " والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه لك خاصة، وإنما جمعته لكل طالب علم "(1).

ولم تقف إشادة المؤرخ المعاصر بخلال مجاهد عند مآثره العلمية، ولكنه ينوه في نفس الوقت بخلاله كفارس من أعظم فرسان عصره. ويقول لنا ابن حيان إنه " كان بهمة، وأكثر الناس علماً بالثقافة، فلا يضم من الفرسان إلا الأبطال الشجعان، وإنه لم يكن في ملوك الزمان فارس يعدله شكلا ولباقة ورواء وهيبة، وحسن عمل في السلاح، وتقليباً له، إلى حذق بأبواب الثقافة والرماية، وتدقيق لمعانيها "(2).

كذلك فإنه يبدو أن مجاهداً كان من أذكى ملوك الطوائف وأحذقهم بالشئون المالية والتجارية. وكان نشاطه التجاري الواسع، المترتب على نشاط سفنه التجارية الكثيرة في مياه غربي البحر المتوسط، يحقق له ثروات طائلة، وكانت مملكة دانية في الواقع من أغنى ممالك الطوائف، وأكثرها تمتعاً بالرخاء.

وقد رأينا مما ذكرناه في غزوة ميورقة، وغارات مجاهد البحرية على الشواطىء الفرنسية والإيطالية، أن مجاهداً كان كذلك بحاراً من أعظم بحارة عصره، وكان من أكثرهم تمرساً بالحروب والغارات البحرية. ويصفه دوزي، بأنه كان أعظم " القراصنة " في عصره، وبأنه قد اشتهر بغزواته لسردانية وشواطىء إيطاليا وكذلك بحمايته للأدباء (3).

ُومع كل ما تقدم فإن ابن حيان لم يفر مجاهداً من نقده اللاذع، إذ يبدو أنه

(1) راجع الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 182، ونفح الطيب ج 2 ص 132.

(2)

الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 5 أ. وأعمال الأعلام ص 218.

(3)

Dozy: Hist.des Musulmans d'Espagne، V.III.p.3

ص: 199

جنح في أواخر عهده إلى نوع من التناقض والاستهتار، فتارة يبدو ناسكاً، معتكفاً متبرئاً من كل باطل، وطوراً يعود خليعاً فاتكاً لا يساتر بلهو ولا لذة، ولا يستفيق من شراب وبطالة، شأنه في ذلك شأن سائر ملوك الطوائف (1).

وكان مجاهد العامري يكنى حسبما قدمنا بأبى الجيوش، وفي بعض الروايات بأبى الحسن (2)، ويلقب من الألقاب الملوكية بالموفق.

- 3 -

وخلف مجاهد العامري في مملكة دانية والجزائر، ولده علي الملقب بإقبال الدولة. وقد سبق أن أشرنا إلى قصة أسره، وهو صبي، في غزوة سردانية، وعوده من الأسر بعد أعوام طويلة، فتى تغلب عليه صفات الروم ولسانهم، وكيف عنى أبوه مجاهد برده إلى حظيرة الإسلام، وبتثقيفه وإعداده ليخلفه في الملك.

وكان مجاهد، قبل عود ولده علي، قد رشح أخاه الأصغر حسناً الملقب بسعد الدولة لولاية عهده، فلما صار الأمر بعد ذلك إلى أخيه علي، تحطمت آماله، وشعر نحو أخيه الأكبر، بعاطفة بغض قوي، ورغبة جامحة في إزالته.

وهناك في الواقع بعض الغموض فيما يتعلق بمركز حسين من مسألة الحكم وولاية العهد، ذلك أنه توجد قطع من النقود التي ضربت في دانية سنة 432 هـ، وعليها اسم حسن سعد الدولة، كما توجد نقود ضربت في دانية وميورقة في سنتي 435، و 436 هـ، تحمل اسمه واسم أخيه علي وأبيهما مجاهد. وفي ذلك ما يدل على أن حسناً، ربما ولي الحكم بالفعل خلال حياة أبيه نائباً عنه، أو أنه كان مشاركاً ْلأخيه علي في ولاية العهد، أو نحو ذلك (3). وعلى أي حال فقد سار حسن مغضباً إلى صهره، وزوج أخته العتضد بن عباد في إشبيلية، وأفضى إليه بمشروعه في الوثوب على أخيه، واسترداد حقه في الملك، فشجعه المعتضد، وهو من عرفنا من الجرأة والإقدام على الكبائر، ولعله كان يرى في معاونته على تنفيذ مشروعه، سبيلا إلى بسط حمايته فيما بعد على مملكة دانية. وبعث معه إلى دانية غلاماً فتاكاً من غلمانه، ووضع حسن والغلام العبادي خطتهما لاغتيال علي،

(1) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 5 أ.

(2)

ابن الأثير ج 9 ص 10، وراجع معجم ياقوت الجغرافي تحت كلمة " دانية ".

(3)

P.y Vives: Los Reyes de Taifas ; p. 36

ص: 200

واتفقا على أن يكون ذلك يوم جمعة عقب خروج علي من الصلاة. وكان من عادة علي، عقب الخروج من الصلاة، أن يتنزه قليلا على شاطىء البحر، وكان إذا ركب، كان أخوه حسن وراءه في الموكب، فلما انتهى علي في ذلك اليوم من نزهته، وسار عائداً إلى قصره، انتهز حسن والغلام العبادي فرصة مروره في زقاق ضيق، وانقض حسن عليه بخنجره، فأصابه في يده، ثم حاول أن يثني الطعنة فلم يوفق ورده علي، وعندئذ حاول الغلام العبادي أن يطعن علياً بالرمح الذي يحمله، فنشب الرمح في الحائط لضيق الزقاق، وانقض رجال عليّ على الغلام العبادي فقتلوه، وفر حسن ناجياً بنفسه، وسار مسرعاً إلى بلنسية، حيث لجأ إلى صهره، وزوج أخته الآخر. عبد الملك بن عبد العزيز، وهناك عاش في كنف أخته مغموراً حتى توفي (1).

وهكذا فشلت هذه المحاولة الغادرة في اغتيال علي بن مجاهد، وبرىء علي من جراحه واستقر في ملكه، واتفق الجميع على طاعته وتأييده. وحذا علي حذو أبيه في اتباع سياسة الحيدة والمودة مع جيرانه، وحاول مثل أبيه أن يوثق علائقه مع ملوك عصره بالمصاهرة، وكانت له بنات حسان يصفهن صاحب الذخيرة بأنهن كن " أحسن من الشموس، وأفتن من الطواويس " ويقول لنا إن ملوك الطوائف تنافسوا في الزواج منهن، وجعلهن والدهن علي عيوناً على أزواجهن، معتمداً على ما تحققه له المصاهرة وصلة الرحم، من الرعاية والحماية (2)، فزوج إحداهن للمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وأخرى إلى المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، وتزوج هو من ابنة أحمد بن هود المقتدر بالله، بيد أنه كان من غرائب القدر أن هذه السياسة ذاتها، وهي سياسة المصاهرة، كانت أيضاً هي السبب في سقوط علي وضياع ملكه.

ولم نعثر على أية تفاصيل شافية عن الأحداث التي مرت بمملكة دانية أيام علي ابن مجاهد، ولا عن أعمال علي ذاته، وكل ما نستخلصه من الإشارات القليلة المتعلقة بحكمه، أنه جرى على نفس سياسة أبيه في مخاصمة بني طاهر أصحاب مرسية، وأنه كان متحالفاً مع أصحاب بلنسية ومربيطر وشنتمرية الشرق. وأما عن

(1) البيان المغرب ج 3 ص 157 و 158.

(2)

الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206.

ص: 201

علائقه مع الملوك النصارى، فإنه كان على علائق المودة والصداقة مع ملك قشتالة، أسوة بالمأمون صاحب طليطلة، ولكن على مبدأ الاستقلال لا الخضوع، إذ كانت مملكة دانية، حسبما بينا من قبل، بموقعها النائي الحصين، بعيدة عن متناول عدوان قشتالة. وكذا كان يرتبط بمثل هذه العلائق الودية مع كونتات برشلونة، وهم أمراء آل برنجير.

وكان علي يولي شئون الجزائر منتهى عنايته، وكان يشعر دائماً أنها أهم أقسام مملكته. وكان حاكمها وقت ولاية علي، هو الأغلب مولى أبيه مجاهد، وكان قد ولي حكمها منذ سنة 428 هـ. وكان جندياً وبحاراً مجرباً، وكان دائب الإغارة بسفنه على الشواطىء النصرانية في قطلونية وبروفانس (1). ولما توفي مجاهد، استأذن الأغلب علياً بعد ولايته بقليل، أن يسير إلى الحج، فأذن له، وندب لحكم الجزائر صهره سليمان بن مشكيان، فاستمر في حكمها خمسة أعوام أخرى حتى وفاته في سنة 442 هـ (1050 م)، فولى علي مكانه عبد الله المرتضي فحكمها مدة طويلة. ولما سقطت دانية في يد ابن هود، وانقضت دولة علي، حسبما يجىء، أعلن المرتضي استقلاله بحكم الجزائر، واستمر في حكمها أميراً مستقلا حتى وفاته في سنة 486 هـ (1092 م)، فخلفه في حكمها مبشر بن سليمان الملقب بناصر الدولة حسبما نذكره في موضعه (2).

وكان من أبرز أعمال علي بن مجاهد، استجابته لنداء المستنصر بالله خليفة مصر الفاطمي، أيام الشدة العظمى، التي نكبت فيها مصر بالوباء والمجاعة الغامرة، حيث دعاه إلى المساهمة في إغاثة أهل مصر بالغلال والمؤن، فبادر علي إلى الاستجابة، وبعث إلى الإسكندرية مركباً كبيراً مشحوناً بالمؤن والأطعمة، (447 هـ - 1055 م)، فردها إليه المستنصر مشحونة بالتحف والذخائر، وتبالغ بعض الروايات فتقول إنه أرسلها إليه مشحونة " بالأموال والذخائر، أو بالياقوت والجواهر والذهب "(3).

وبعث علي إلى المستنصر رسالة شكر تفيض بلاغة وإجلالا، مكتوبة بقلم

(1) ابن خلدون ج 4 ص 165.

(2)

راجع: A.P. Ibars: Valencia Arabe، p. 171 &172

(3)

راجع البيان المغرب ج 3 ص 228، وأعمال الأعلام ص 221 و 222.

ص: 202

وزيره أبى الأصبغ بن أرقم، يشيد فيها بمقام الخلافة الفاطمية وجلالها، ومقام المستنصر بالله. وقد نقل إلينا ابن بسام نص الرسالة المذكورة، ومما جاء فيها على لسان علي:

" فالآن استمد المريد، واستقر الضمير، فتبسم مولى الحضره رياضاً عطراً، وراد روضها زهراً، وشام برقها ممطراً، واستوضح هلالها مبدراً، وارتشف ماءها حضراً، فما الشكر وإن جزل، يوف ثنايا ذلك الإفضال والإنعام، ولا اللسان وإن جفل يتعاطى ذلك الشأو، ولا الأقلام، ولا الطوق يقوم بأعبائها حق القيام. وأي وسع يباري البحر وهو طام، وأي طوق يطيق ركنى شمام. ولو كانت للمولى بالقدر يدان وساعده إمكان، وساعفه زمان، لأم بشخصه كعبة الآمال، واستقبل بقصده قبلة السعة والإقبال، واستلم بيده ركن الإنعام والإفضال .. "(1).

وكان علي يتبع سياسة المودة والتسامح المطلق نحو النصارى، ونحو أمانيهم الدينية، وربما كان ذلك راجعاً من بعض الوجوه إلى ظروف حياته، وإلى نشأته خلال أسره الطويل، بين نصارى سردانية، واعتناق دينهم قبل أن يعود إلى الإسلام. ولدينا في ذلك وثيقتان صادرتان منه، الأولى بوضع سائر الكنائس والبيع التي بمملكة دانية والجزائر تحت رعاية أسقف برشلونة، وأن يتولى هو تعيين سائر رجال الدين الذين يعملون بهذه الكنائس، والثانية بأن يسمح للنصارى المعاهدين في أعمال مملكته، بأن يذكروا اسم أسقفهم في خطبهم ومواعظهم. ولدينا بالأخص النص العربي للوثيقة الثانية، وقد جاء فيه:" أشهده إقبال الدولة، أيده الله، على أنه أجاب غلبرت الأسقف ببرشلونة. إلى أن يكون مذكوراً في خطاب النصارى في بيعهم بجميع أعماله، وهو مما انعقد بالخط الأعلى، وذلك في شوال سنة تسع وأربعين وأربعمائة "، ثم يلي ذلك أسماء الشهود (2).

(1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط، لوحة 65 ب وما بعدها، وهي طويلة.

(2)

تحفظ هذه الوثيقة بمحفوظات مكتبة الفاتيكان برومة. وراجع نصها الكامل في بحث الأستاذ شاباس السالف الذكر عن مجاهد وابنه علي في كتاب: Estudios de Erudicion Oriental، Homenaje a Fr. Codera

وراجع أيضاً في هذا الموضوع A.P.Ibars: Valencia Arabe، p. 175-176.

ص: 203

وكان من أثر هذه الحرية الدينية المطلقة، أن تحققت في نفس الوقت حرية فكرية شاملة، وانطلقت الأقلام بما شاءت. وفي هذا الجو المشبع بالتسامح والحرية، كتب أبو عامر أحمد بن غرسية، وهو مولد من كتاب شرقي الأندلس، يرجع إلى أصل نصراني بشكنسي، سبي من ماردة صغيراً، ونشأ في بلاط دانية، في كنف مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر (400 - 436 هـ)، وولده على اقبال الدولة (436 - 468 هـ) (1): كتب رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب، وهي رسالة قوية عجيبة، تفيض تحاملا ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته، وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله، وانغماسه في شهوات الجنس، وتشيد بالعكس بصفات العجم (والمقصود بها مختلف أجناس الفرنج)، وترفعهم عن الشهوات الدنية، وفروستهم، ونجدتهم، وتبحرهم في العلوم، وغير ذلك. وقد وجه ابن غرسية هذه الرسالة إلى صديقه الكاتب الشاعر أبي عبد الله بن الحداد، يعاتبه فيها، لأنه يخص ابن صمادح دون مجاهد وولده علي بمدائحه، وصاغها في أسلوب عنيف مقذع، ينبىء بما كان يضمره هذا الكاتب المولد للجنس العربي من المقت والحقد والكراهية. ولا تحمل هذه الرسالة تاريخاً ما. ولكنا نعرف مما تقدم أن ابن الحداد، الذي وجهت إليه، كان شاعراً في بلاط المعتصم بن صمادح أمير ألمرية، الذي حكم من سنة 433 - 484 هـ (2). والمرجح أنها وجهت إليه حوالي سنة 450 إلى سنة 460 هـ، وابن غرسية يقيم بدانية في كنف على إقبال الدولة، وإليك بعض ما جاء في هذه الرسالة في التنويه بفضائل العجم، ونقائص العرب:

(1) المغرب في حلى المغرب لابن سعيد (القاهرة 1955) ج 2 ص 406 و 407، وأبو الحجاج البلوي في كتاب الف با (القاهرة 1287 هـ) ج 1 ص 353. وابن الأبار في المعجم رقم 282 في ترجمة أبي العباس الجزيري حيث يقول عنه "وكان بها (أي بدانية) يؤدب أبا جعفر أحمد بن غرسية الكاتب".

(2)

ان اسم ابن الحداد الذي وجه إليه ابن غرسية رساله، هو الذي ورد في مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري الآتي ذكره. ولكن ورد في الذخيرة لابن بسام (الجزء الثالث مخطوط أكاديمية التاريخ بمدريد) وكذلك في كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (مخطوط باريس السالف الذكر) أن الذي وجهت إليه الرسالة هو أبو جعفر الجزار، وهو باسمه الكامل أحمد بن محمد بن سهل السرقسطي، وأنه كان عن شعراء بني هود، وكان عالماً أديباً شاعراً، وكان قد هبط من سرقسطة يريد ألمرية ليلحق بالمعتصم بن صمادح وقد عدل عن الورود إلى دانية، والالتجاء إلى أميرها علي بن مجاهد. بيد أننا نؤثر الأخذ بما ورد في مخطوط الإسكوريال.

ص: 204

" أأحسبك أزريت، وبهذا الجيل البجيل ازدريت، وما دريت أنهم الصهب الشهب، ليسوا بعرب ذوي أينق جرب، أساورة أكاسرة، مُجد، نُجد، بُهم، لا رعاة شويهات، ولا تهم، شغلوا بالماذي والمرّان عن رعي البعران، وبجلب العز عن حلب المعز، جبابرة، قياصرة، ذوو المغافر والدروع، للتنفيس عن روع المروع، حماة السروح، نماة الصروح، صقورة، غلبت عليهم شقورة، وشقورة الخرصان، لكنهم خَطَبة بالخرصان، شعر.

ما ضرهم أن شهدوا مجادا

أو كافحوا يوم الوغى الأندادا

أن لا يكون لونهم سوادا

" شرهوا برنات السيوف، لا بربات الشنوف، وبركوب السروج عن الكلب والفرُّوج، وبالنفير عن النقير، وبالجنائب عن الحبائب، وبالخب عن الحب، وبالشليل عن السليل، وبالأمر والذمر، عن معاقرة الخمر والزمر، وباللقيان عن العقيان، وعن قنيان القيان، طِياتهم خطياتهم، وغلاتهم آلاتهم، وحصونهم حصنهم، أقيال آباؤهم من بين الأنام أقتال.

أولئك قومي إن بنوا شيّدوا البناء

وإن حاربوا جدّوا وان عقدوا شدّوا

حُلُم عُلُم ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية كحملة الاسترلوميقي، والموسيقي والعَلَمة بالارتماطيقي، والجومطريقي، والقومة بالألوطيقي والبوطيقي، ما شئت من تدقيق، وتحقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم البدنية والدينية لا على وصف الناقة الفدنيّة، فعلمهم ليس بالسفساف كفعل نائله وأساف، أصغر بشأنكم، إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غبشانكم، وإذ أبور غالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستيصالكم.

أزيدك أم كفاك وذاك أني

رأيتك في انتحالك كنتَ أحمق

فلا فخر معشر العربان الغربان، بالقديم المفرِّي للأديم، ولكن الفخر يابن عمنا، الذي بالبركة عمّنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب الذي انتشلنا الله تعالى به وإياكم من العماية والغواية، أما نحن فمن أهل التثليث وعبادة الصلبان، وأنتم من أهل الدين المليث وعبادة الأوثان، ولاغرو أن كان منكم حبره وسبره، ففي الرغام يلقى تبره، والمسك بعض دم الغزال، والنطاف العذاب مستودعات بمسك العزال:

ص: 205

لله مما قد برا صفوة

وصفوة الخلق بنو هاشم

وصفوة الصفوة من بينهم

محمد النور أبو القاسم

بهذا النبي الأمي أفاخر من تفخّر، وأكابر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين، الملتقي بالرسالة، والمنتقي للأداء والدلاّلة، أصلي عليه عدد الرمل، ومدد النمل، وكذلك أصلي على واصلي جناحه، سيوفه ورماحه، أصحابه الكرام، عليهم من الله أفضل السلام ".

وقد أثارت رسالة ابن غرسية مرارة في الأوساط الأدبية المعاصرة، ورد عليه من العلماء القريبين من عصره في رسائل شديدة، انتهى إلينا بعضها. ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن الدودين البلنسي، وقد عاش في النصف الثاني من القرن الخامس، وكان معاصراً لابن بسام، وأورد لنا ابن بسام رده على ابن غرسية في الذخيرة. ومنهم أبو الطيب عبد المنعم بن عبد الله القروي المتوفى سنة 493 هـ، وقد ورد رده في الذخيرة أيضاً، وفي مخطوط الإسكوريال، في رسالة عنوانها:"حديقة البلاغة، ودوحة البراعة، بذكر المآثر العربية ونشر المفاخر الإسلامية".

ومنهم الوزير الكاتب أبو عبد الله بن أبي الخصال المتوفى سنة 540 هـ، وقد رد على ابن غرسية في رسالة يوردها لنا صاحب الذخيرة، وعنوانها:" خطف البارق، وقذف المارق في الرد على ابن غرسية الفاسق ". ومنهم الفقيه أبو يحيى ابن مسعدة من فقهاء الموحدين، وقد عاش فيما يبدو في النصف الثاني من القرن السادس، في رسالة طويلة وردت في مخطوط الإسكوريال، ومنهم أخيراً أبو مروان عبد الملك بن محمد الأوسي في رسالة "الاستدلال بالحق في تفضيل العرب على جميع الخلق"(1).

(1) توجد رسالة ابن غرسية ضمن مجموعة مخطوطة بمكتبة الإسكوريال لا عنوان لها، وتحمل رقم 538 الغزيري، وتحتوي على عدة رسائل تاريخية منوعة، وتشغل بها اللوحات 26 - 29 وتليها رسالة أبى يحيى بن مسعدة في الرد عليها وتشغل اللوحات من 29 - 41، ثم يليها رسالة ثانية في الرد على ابن غرسيه، ثم رد أبى جعفر أحمد بن الدودين البلنسي ويشمل اللوحات 53 - 54.

وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة (القسم الثالث المخطوط المحفوظ بأكاديمية التاريخ بمدريد) رسالة ابن غرسية ثم رد أبى جعفر أحمد بن الدودين، ورد ابن عبد الله القروي. وقد نشر العلامة المستشرق جولد سيهر رسالة ابن غرسيه ما عدا الفقرة الأخيرة منها ضمن بحث له بالألمانية عنوانه:"الشعوبية عند مسلمي اسبانيا" Die Su'ubijja unter den Mohammedanern in Spanien =

ص: 206

وقد استمر صدى السخط على رسالة ابن غرسية عصوراً حتى أننا نجد كاتباً أندلسياً عاش بعد ذلك بقرنين هو أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي، يتناول هذه القضية، في كتابه " ألف با "، ويعقد فصلا خاصاً عن " فضل العرب "، يردد فيه ما قيل في ذلك، وما ينسب للعرب من الفروسية، والشجاعة، وحب الحرية، والإباء والجود، وفصاحة اللسان والشاعرية، وغير ذلك من الخلال المأثورة ثم يعطف على رسالة أبى عامر بن غرسية " البشكنسي الأصل "، ويقول إنه قد " فسق في رسالته وبدع، وسب بسببها وجدع "، ويعدد لنا من تصدوا للرد عليه، ممن سبق ذكرهم وذكر رسائلهم، ثم يبدي دهشته من تسامح أهل العصر، وتركهم لابن غرسية وأمثاله دون عقاب ويقول:" والعجب من أهل ذلك الزمن، كيف استقروا على هذه الفتن، وأقروا هذا المجتري على هذا الاجتراء، وما جاء به من الافتراء، أم كيف أبلغوه ريقه، وأوسعوا له طريقه ولم يهلكوه وفريقه "(1).

وقد عنى البحث الحديث بدراسة رسالة ابن غرسية والتعليق عليها، وتناولها العلامة جولدسيهر في بحثه " الشعوبية عند مسلمي اسبانيا " الذي سبقت الإشارة إليه. ويلاحظ جولدسيهر، أنه يوجد بين عظماء الأمة الأندلسية كثيرون ممن يرجعون إلى أصول غير عربية وبخاصة المولدين، ومن هؤلاء أئمة من المفكرين مثل بقي بن مخلد، والعلامة ابن حزم، وإمام اللغة، أبو مروان عبد الملك ابن السراج، وغيرهم، وكذلك كان الشأن في عنصر الصقالبة، الذي ازدهر، في ظل أمراء بني أمية، وشغل منه الكثيرون أرفع المناصب من قيادة ووزارة وغيرهما. بيد أن عنصر المولدين، كان أهم العناصر غير العربية في الأمة الأندلسية وكانت النزعة الشعوبية أكثر تمكناً لديهم من أي عنصر آخر. وتعتبر رسالة ابن غرسية من أبرز نماذج الشعوبية الأندلسية، فقد كان مؤلفها مولداً يرجع إلى أصل نصراني، وهو يردد في رسالته ما تضمنه أدب الشعوبية في الشرق الإسلامي من الأسباب والمبادىء. بيد أن رسالة ابن غرسية تمتاز بأنها في تفضيل

= نشر بمجلة جمعية المستشرقين الألمانية ( Z. der D.Morg.Gesell.) سنة 1899 ص 601 - 620

ونشرها الأستاذ مختار العبادي ضمن بحث له عن "الصقالبة في اسبانيا"(مدريد 1953) ونشرها أخيراً،

ونشر معها الردود التي سبقت الإشارة إليها الأستاذ عبد السلام هارون في مجموعة نوادر المخطوطات،

(المجموعة الثالثة)(القاهرة 1373 هـ). وقد نشرناها نحن في نهاية الكتاب.

(1)

أبو الحجاج البلوي في كتابه " ألف با " ص 347 - 353.

ص: 207

العجم على العرب، تعني قبل كل شىء بالإشادة بفضائل الروم أو بني الأصفر أي النصارى، في حين أن معظم رسائل الشعوبية المشرقية تعني بالمفاضلة بين العرب والعجم (أي الفرس).

ْأما ما كتبه ابن غرسية في نهاية رسالته عن تمجيد النبي العربي، والإشادة بمآثره، ورسالته الروحية، فيصفه جولدسيهر بأنه حجاب للتمويه، وفي رأي ابن غرسية أن العروبة ليست مفخرة للنبي، " ففي الرغام يلقي تبره، والمسك بعض دم الغزال "(1).

واستمر علي إقبال الدولة في حكم مملكته زهاء ثلاثين عاماً، ثم ساءت العلائق بينه وبين صهره، حميه أحمد بن سليمان بن هود المقتدر صاحب سرقسطة. وكان المقتدر أميراً صارماً وافر الأطماع، فحارب أخوته واستولى على بعض أعمالهم، وانتزع طرطوشة من صاحبها الفتى العامري مقاتل، وحاول أن ينتزع لاردة من أخيه المظفر. ثم اتجهت أبصاره إلى مملكة دانية، وأخذ يكيد لعلي ويشتد في مضايقته. وكانت أهم الأسباب التي انتحلها لخصومته، هو أنه أي علي قد استقبل بدانية بعض الأسر القوية، التي فرت من لاردة بلد المظفر أخى المقتدر وخصيمه، ولجأت إلى حمايته. وذكر لنا ابن بسام سبباً آخر لذلك، وهو أن المقتدر طالب علياً ببعض القلاع الشمالية الواقعة في مملكته، والتي كان يريد أن يلحقها بثغر طرطوشة، وأن علياً، خشية من صولته، سلم إليه تلك القلاع، بيد أنه ضبط فيما بعد كتباً أرسلها علي إلى أصحاب تلك القلاع يحثهم فيها على التحصن والمقاومة (2). وأخيراً سار المقتدر في قواته إلى دانية، وحاصرها، وشعر علي أنه عاجز عن مقاومته، فعرض عليه أن يسلمه المدينة والقصر بما فيه، على أن يؤمنه في نفسه وأهله، فوافق المقتدر، ودخل دانية واستولى عليها، وذلك في شعبان سنة 468 هـ (إبريل 1076 م). وانتهت بذلك الدولة المجاهدية.

وجلس المقتدر بالقصر، وبايعه الناس خاصتهم وعامتهم، وأقام بدانية وقتاً ينظم فيه شئونها، ثم غادرها. وأخذ المقتدر معه صهره علياً وأهله، إلى سرقسطة. وأنزله في كنفه، فعاش هنالك محجوراً عليه حتى توفي، وذلك في

(1) I.Goldziher: Die Su'ubijja unter den Mohammedanern in Spanien (Z.. der.Morg.Gesell.) B. 53 (1899) p. 607-615

(2)

الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 207.

ص: 208

سنة 474 هـ (1081 م). وفي رواية أخرى، أنه استطاع الفرار من اعتقال المقتدر، ولحق بالعدوة، والتجأ إلى بني حماد أصحاب بجاية وهنالك توفي (1).

وحاول ابنه سراج الدولة، وكان وقت سقوط دانية، حاكماً لحصن شقورة، أن يسعى إلى استرداد ملك أبيه، فسار إلى برشلونة، واستغاث بصاحبها الكونت برنجير، فاستجاب إليه بشروط وأمده ببعض قواته، واستطاع بالفعل أن يسترد بعض الحصون، ولكن المقتدر كان له بالمرصاد. ويقال إن المقتدر استطاع أن يدس عليه من اغتاله بالسم، فتوفي في سنة 469 هـ، لنحو عام من خلع أبيه (2).

وكان علي بن مجاهد أميراً فاضلا، رفيع الخلال والمواهب، وكان مثل أبيه من حماة العلوم والآداب، وكان لطول إقامته بسردانية يتحدث ويكتب بالفرنسية والقشتالية، وينظم الشعر بهما (3). وكان ميالا إلى السلم والدعة، بعيداً عن أحداث السياسة وتقلباتها، مؤثراً لجمع المال، والاشتغال بالمشاريع التجارية (4) وفي عهده ساد السلام والرخاء في مملكة دانية، وازدهرت أحوالها وتجارتها. وقد أشاد بذكره عبد الواحد المراكشي في تلك العبارة المؤثرة:" ثم ملكها (أي دانية) بعده ابنه علي بن مجاهد وتلقب بالموفق، لا أعلم في المتغلبين على جهات الأندلس أصون منه نفساً، ولا أطهر عرضاً، ولا أنقى ساحة، كان لا يشرب الخمر، ولا يقرب من يشربها، وكان مؤثراً للعلوم الشرعية، مكرماً لأهلها "(5).

- 4 -

ويجدر بنا قبل أن نختم الكلام على مملكة دانية، أن نتبع مصاير ولاية ميورقة أو الجزائر الشرقية، التي كانت تؤلف أهم وحدة فيها.

وقد رأينا أنه كان علي حكمها وقت أن سقطت دانية في يد المقتدر بن هود في سنة 468 هـ، عبد الله المرتضي الذي ندب لحكمها منذ سنة 442 هـ. وعندئذ أعلن المرتضي استقلاله، واستبد بحكم الجزائر، وبعث إلى دانية ليستقدم

(1) ابن خلدون ج 4 ص 165.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 165.

(3)

A.P.Ibars: Valencia Arabe، p. 170، Note 3

(4)

الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206.

(5)

المعجب ص 41. وذكره أن علياً تلقب بالموفق من باب السهو، إذ هو لقب والده مجاهد.

ص: 209

أسرة سيده المخلوع علي، فأرسلت إليه، وعاشت في كنفه معززه مكرمة (1).

واستمر المرتضي بعد ذلك في حكم الجزائر أعواماً طويلة أخرى، حتى توفي سنة 486 هـ (1093 م).

فخلفه في الإمارة مساعده مبشر بن سليمان. ويقول لنا ابن خلدون إن مبشراً هذا، قد ولي على الجزائر في أوائل عهد علي إقبال الدولة في سنة 442 هـ، وإنه كان من شرقي الأندلس، وأسره النصارى صغيراً وجبوه، وإن مجاهداً وقع عليه بين أسرى سردانية، فأعجب بمواهبه، وقربه واصطفاه، وترقى في خدمته (2). وفي هذه الرواية غموض وتحريف. والحقيقة في أمر مبشر أنه كان من أهل قلعة حمير من أعمال لاردة، وأسره النصارى في صباه وجبوه، وعاش في برشلونة، حتى تعرف عليه ذات يوم سفير المرتضي حاكم الجزائر، وكان قد وفد مبعوثاً إلى الأمير برنجير في بعض الشئون، فأعجب بمواهب مبشر، وافتداه من الأسر، وأخذه إلى ميورقة وقدمه إلى المرتضي، فسر بخلاله ومواهبه، وأولاه ثقته، واستعان به في تصريف شئون الحكم، واستمر على ذلك حتى توفي المرتضي، فخلفه في الإمارة حسبما تقدم.

وضبط مبشر شئون ميورقة (الجزائر) بحزم وكفايه، واتخذ لقب ناصر الدولة. وفي تلك الأثناء كان المرابطون، بعد أن أحرزوا نصرهم في الزلاقة، قد استولوا على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية، ثم زحفت جيوشهم نحو شرقي الأندلس، واستولت على مرسية ثم بلنسية وذلك في سنة 495 هـ (1102 م)، كل ذلك ومبشر ماض في حكمه للجزائر، يرقب سير الحوادث حذراً متأهباً.

والظاهر أن الجزائر تمتعت في عهده بفترة من الأمن والرخاء، واشتهر أمر مبشر، وقصده الأدباء والشعراء، ووفد إليه بميورقة أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني شاعر المعتمد بن عباد ووزيره من قبل، وامتدحه بقصيدة هذا مطلعها:

ملك يروعك في حلى ريعانه

راقت برونقه صفات زمانه

وكانت حملات البحارة المجاهدين في عهده، وهم الذين تنعتهم التواريخ

(1) ابن خلدون ج 4 ص 165، وهو ينسب هذا التصرف إلى مبشر خلف المرتضي.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 165.

ص: 210

الفرنجية بالقراصنة، تخرج من ثغور الجزائر المختلفة، وتغير من آن لآخر على شواطىء قطلونية، وبروفانس وليجوريا، وكانت سفن النورمان والبيزيين والقطلان من جانبها تغير على شواطىء الجزائر وتعيث فيها. وكان من الحوادث الشهيرة في هذا العهد أن طائفة من السفن النرويجية جاءت بقيادة الملك سيجورد ملك النرويج، وعاثت في شواطىء اسبانيا الغربية، ثم عبرت مضيق جبل طارق، وسارت إلى الجزائر الشرقية، وهاجمت جزيرة فورمنتيرا الصغيرة المنيعة الواقعة جنوبي جزيرة يابسة، وكانت قد أودعت بها أموال وذخائر كثيرة للمسلمين، تقوم على حراستها حامية صغيرة، فاقتحم سيجورد الجزيرة، وأضرم فيها النار، واستولى على ما فيها من الأموال، ومات سائر المسلمين المدافعين عنها (1).

وكانت جمهورية بيزة الإيطالية أشد البلاد اهتماماً بالاستيلاء على الجزائر الشرقية، ووضع حد لغارتها المتكررة على الشواطىء الإيطالية، وكان البابا يشجع هذا المشروع ويباركه. وعقدت بيزة من أجل ذلك حلفاً مع أمير برشلونة رامون برنجير الثالث. وفي صيف سنة 1114 م (أوائل 508 هـ) خرج من مياه بيزة أسطول الغزو وقوامه نحو ثلاثمائة سفينة، ومعه وحدات بحرية أخرى من برشلونة ومن فرنسا، وعرج الأسطول أولا على مياه الجزائر، ونزلت بعض وحداته في إحدى الجزر الصغيرة. ولما علم بذلك مبشر، بعث رسله يعرض الصلح على الغزاة، ويعرض تسليم الأسرى، وأن يؤدي تعويضاً عن نفقات الحملة، فرفض الغزاة، وسارت سفنهم فرست في مياه قطلونية حتى اقترب الربيع، ثم سارت بعد ذلك صوب جزيرة يابسة، وكانت سفن الغزاة، قد غدت يومئذ نحو خمسمائة سفينة، ومع ذلك فقد عقد مبشر عزمه على المقاومة، فحصن ميورقة، وبذل جهده في إعداد وسائل الدفاع. واستولى الغزاة على يابسة بسهولة، ثم اتجهوا نحو ميورقة كبرى الجزائر، ونزلوا فيها، وضربوا الحصار حول مدينة ميورقة عاصمتها.

واستعد مبشر لحصار طويل الأمد، وبعث في الحال صريخه إلى أمير المسلمين

(1) راجع: Dozy: Recherches; V.II p. 232-236 وكذلك A. Campaner y Fuentes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamica en las Islas Baleares (Palma 1888) p. 44-96

ص: 211

علي بن تاشفين، يطلب إليه الغوث قبل أن تسقط الجزائر في أيدي النصارى.

وكان المرابطون قد استولوا عندئذ على شرقي الأندلس كله، وأحرزوا انتصارهم الحاسم على القشتاليين في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م) ثم استولوا في العام التالي على سرقسطة (502 هـ)، وقضوا على ملك بني هود، وأضحوا يهددون منها مملكة برشلونة النصرانية. وقدر أمير المسلمين أهمية ميورقة، وأمر بتجهيز الأساطيل لإنجادها، ورأى المرابطون أن يضغطوا في نفس الوقت على مملكة برشلونة التي كان أميرها برنجير الثالث يشترك بأسطوله في حصار ميورقة، فسارت قواتهم شمالا، وإخترقت أراضي قطلونية وعاثت فيها. ولكن الكونت برنجير، اضطر إزاء ضغط حلفائه، أن يبقى معهم حتى النهاية في مياه ميورقة.

واشتد الحصار على ميورقة، وطوقها النصارى بنطاق محكم من الآلات الضخمة وقطعوا عنها كل معونة ونجدة، وقاسى المسلمون أهوالا من الجوع والحرمان، ولكنهم صمموا أن يموتوا دفاعاً عن أرضهم، وتوفي خلال ذلك الأمير مبشر ابن سليمان، فخلفه في الحكم أبو الربيع سليمان، وصمم أن يمضي في المقاومة، وحاول أن يغادر الجزيرة مع بعض صحبه في مركب صغيرة، ليسعى إلى طلب النجدة، فأسره النصارى. واستطاع النصارى أن يقتحموا السور الأول في فبراير سنة 1116 م (أواخر سنة 508 هـ) ثم اقتحموا بقية الأسوار تباعاً. وفي أواخر مارس دخل النصارى مدينة ميورقة، واحتلو قصر المُدَينة قصر الحكم، وعاثوا فيها تخريباً ونهباً وسبياً، ثم أضرموا فيها النار، ولم يكن بها عندئذ سوى الشيوخ والنساء والأطفال بعد أن هلك معظم المدافعين عنها في الحصار، فقتل النصارى منهم جملة كبيرة، وكان الكونت برنجير صاحب برشلونة، قد اضطر قبيل سقوط المدينة، أن يعود إلى مملكته حين علم باشتداد ضغط المرابطين عليها، وحصارهم لبرشلونة عاصمتها.

وفي أثناء ذلك كان أمير المسلمين علي بن تاشفين، قد تلقى صريخ مبشر على يد بحار جرىء هو عبد الله بن ميمون، وكان قد استطاع أن يخترق الحصار بسفينته تحت جنح الظلام، وأن يعبر البحر إلى المغرب. وبادر أمير المسلمين فجهز أسطولا ضخماً من خمسمائة سفينة، وأقلعت السفن المرابطية بسرعة صوب الجزائر بقيادة أمير البحر ابن تفرتاش. وعلم البيزيون وحلفاؤهم بذلك، فأدركوا

ص: 212

أنه لا محل لأن يخوضوا مع هذه القوات البحرية الضخمة، معركة غير مأمونة العواقب، فأقلعوا مثقلين بالسبي والغنائم، بعد أن استصفوا ثروات الجزيرة، وغادروها قاعاً صفصفاً. ودخل المرابطون على أثرهم ميورقة، وذلك في أواخر سنة 1116م (509 هـ)، وفي الحال شرعوا في تعميرها، وعاد إليها الفارون من سكانها، وكانت قد لجأت منهم إلى الجبال جموع غفيرة، وعين أمير المسلمين حاكماً على الجزائر يدعى وانور بن أبي بكر اللمتوني، ومن ذلك التاريخ تدخل الجزائر الشرقية أو ميورقة في حظيرة الإمبراطورية المرابطية الكبرى، وهي التي كانت قد اشتملت يومئذ على سائر ممالك الطوائف الأندلسية (1).

(1) تراجع أخبار غزو النصارى لميورقة واستردادها على يد المرابطين، في ابن خلدون ج 4 ص 165، وروض القرطاس ص 105، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 188 وكذلك، A.Campaner y Fuentes: ibid ; p. 105-135 و P.y Vives: Los Reyes de Taifas، p. 41

ص: 213