الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل مملكة بلنسية
1 -
عهد الصقالبة وبني عامر وبني ذى النون
الصقابة وشرقي الأندلس. العبدان مظفر ومبارك. تغلبهما على بلنسية. اشتراكهما وامتزاجهما. تغلب مبارك على شاطبة. أحوال بلنسية في عهدهما. وفود الصقالبة والموالي إليها. الحرب بين مبارك والمنذر التجيبي. وفاة مظفر. مصرع مبارك. بلاطهما ووزراؤهما. مديح الشعر لهما. لبيب العامري ومجاهد يخلفان مبارك. اختلافهما وفرار لبيب إلى طرطوشة. مبايعة الفتيان العامريين لعبد العزيز المنصور بالزعامة. توليه إمارة بلنسية. خيران العامري يقدم للزعامة محمد بن عبد الملك المنصور. توليه إمارة مرسية وأوريولة. تنكر خيران له ومغادرته لمرسية. عبد العزيز المنصور ووزراؤه. وفاة خيران وخلافة زهير له في ألمرية. مصرع زهير. مبايعة أهل ألمرية لعبد العزيز. اتساع مملكة بلنسية وموقف مجاهد العامري. عبد العزيز يعهد بشئون ألمرية إلى ابن صمادح. غدره واستيلاؤه على ألمرية. الحرب بين عبد العزيز والفتيان العامريين. عبد العزيز وعلائقه بالملوك النصارى. وفاة عبد العزيز وقيام ولده عبد الملك. وزيره ابن رويش. موقف المأمون بن ذى النون. مشروعه للاستيلاء على بلنسية. استيلاؤه عليها واعتقاله لصهره عبد الملك. مختلف الروايات في ذلك. مهاجمة القشتاليين لبلنسية. موقعة بطرنة. مقدم المأمون بحجة إنجاد صهره. دخوله بلنسية واستيلاؤه عليها. وفاة ابن رويش وقيام ولده أبي بكر بن عبد العزيز. استبداده بحكم بلنسية. استيلاء المؤتمن بن هود على دانية. توجس ابن عبد العزيز والتجاؤه لألفونسو السادس. محاولة المؤتمن الاستيلاء على بلنسية وفشله. التفاهم بين أبي بكر والمؤتمن. وفاة أبي بكر وقيام ولده عثمان مكانه. تطور الحوادث. سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس. وعده لصاحبها القادر باسترداد بلنسية. مسير القادر إلى بلنسية مع الجند النصارى. موقف أهل بلنسية. إعلان الجماعة خلع عثمان ومبايعة القادر. دخول القادر بلنسية واستيلاؤه عليها. استبداده واضطراب الأحوال في عهده. مقدم المرابطين إلى الأندلس. رحيل القشتاليين عن بلنسية. أطماع المنذر بن هود في بلنسية. مسيره إليها ومحاصرتها بمعونة الجند القطلان. موقف القادر واستغاثته بألفونسو السادس والمستعين بن هود. المستعين بن هود ومشروعه في الاستيلاء على بلنسية.
كانت دول الطوائف التي قامت في شرقي الأندلس، تمتاز بغلبة العنصر الصقلبي، وتفوقه في سيادتها، وفي تكييف أحداثها، وكانت هذه العناصر الصقلبية التي ألفت في شرقي الأندلس، ميداناً لنشاطها وأطماعها، هي نفس العناصر التي ظهرت بادىء ذي بدء في ميدان الفتنة القرطبية، وساهمت في أحداثها
بقسط بارز، ثم غادرت قرطبة، حينما غلبت هنالك على أمرها، وألفت ملاذها في ذلك الركن النائي من الأندلس، بعيداً عن موجة الطغيان البربرية التي اجتاحت قرطبة، وجنوبي الأندلس.
وكانت بلنسية، وهي أعظم القواعد الشرقية، مركز التجاذب في معركة السلطان التي اضطرم لظاها في تلك المنطقة، وكانت هذه المعركة في البداية متواضعة محدودة المدى، ثم لم تلبث أن انسابت إلى شرقي الأندلس كله، من طرّكونة شمالا حتى مرسية ولورقة جنوباً، بيد أنها فيما عدا بعض اتصالات محدودة بأحداث المنطقة الغربية، حافظت على سيرها المستقل، وطابعها الخاص.
وذلك أنه لما اضطرت الفتنة، وانهارت الدولة العامرية في أوائل سنة 399 هـ (1009 م)، واستطاع محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدي أن ينتزع الخلافة لنفسه من هشام المؤيد، كان على بلنسية - وفقاً لبعض الروايات - فتى من الفتيان العامريين هو مجاهد العامري، فثار به عبدان من العبيد العامريين أيضاً هما مبارك ومظفر، واستطاعا أن ينتزعا منه السلطة، فغادر مجاهد بلنسية إلى دانية، وتربع العبدان - ويسميهما ابن الخطيب بالأميرين - مكانه في حكم المدينة. ويقدم إلينا ابن حيان رواية أخرى عن تغلب مبارك ومظفر على بلنسية، خلاصتها أنهما كانا يتوليان وكالة الساقية بالمدينة، أيام ولاية عبد الرحمن ابن يسار عليها، ثم ضرب الدهر ضرباته، وشاء القدر أن ينتزع الإمارة مبارك.
ويصف ابن حيان الحادث بأنه " من غرائب الليالي والأيام، اللاعبة بالأنام ".
ثم يقول لنا إن العبدين مبارك ومظفر توليا هما حكم بلنسية، وامتزجا في ذلك امتزاج الإخوة وعشاق الأحبة، ونزلا في قصر الإمارة مختلطين " تجمعهما في أكثر الأوقات مائدة واحدة، ولا يتميز أحدهما عن الآخر في عظيم ما يستعملانه من كسوة وحلية وفرش ومركوب وآلة، لا ينفردان إلا في الحرم خاصة، على أن جماعة حرمهما كن مختلطات في منازل القصر، ومستويات في سائر الأمر ".
وكان لمبارك مع ذلك التقدم في المخاطبة ورسوم الإمارة لصرامته وشدته، ولدماثة مظفر وانصياعه لزميله في سائر الأمور.
وذكر في بعض الروايات أن مظفراً ومباركاً كانا يقتسمان فيما بينهما حكم الولاية، فكان مظفر يختص بحكم بلنسية، ومبارك بحكم شاطبة (1). وذكر لنا
(1) A.P.Ibars: Valencia Arabe، V. I. p. 152
ابن الخطيب من جهة أخرى، أن شاطبة كان يتولى حكمها منذ انقراض الدولة العامرية، الفتى خيرة الصقلبي، وتوطد بها أمره، وكان مبارك يتوق إلى إزالته عنها، ففي ذات يوم زار خيرة بلنسية، واستضافه مبارك ودس له السم في الطعام فهلك بعد أيام قلائل، وتولى نائبه عبد العزيز بن أفلح حكم شاطبة مكانه تحت رعاية مبارك، وتركه مبارك على حاله إلى أن استولى عليها مجاهد العامري (1).
وعلى أي حال، فإنه يبدو، أن مظفراً ومباركاً كانا وفقاً لرواية ابن حيان المتقدمة، يحكمان معاً مدينة بلنسية بصفة فعلية.
وبلغت جباية بلنسية في عهدهما مائة وعشرين ألف دينار في الشهر، سبعون منها من بلنسية ذاتها، وخمسون من شاطبة التابعة لعمالتها، وكانا يشتدان في تحصيل هذه الأموال، حتى أرهقت الرعية وأثقل كاهلها.
على أن هذين العبدين لم يقصرا في تحصين بلنسية وصيانتها، فابتنيا سورها وزود بأبواب حصينة، فارتفع طمع الطامعين عنها، ووفد إليها الناس بأموالهم، واستقروا، وابتنوا المنازل والقصور الفخمة، والرياض الزاهرة، وكان مبارك ومظفر قدوة في ذلك فأنشآ القصور الفخمة، واقتنيا نفيس المتاع والرياش والآلات. وكان موكبهما إلى المسجد الجامع ببلنسية، يذكر الناس بفخامته وأناقته، وفاخر ما يرتديانه من اللباس، بمواكب مولاهما عبد الملك المظفر ابن المنصور نفسه.
ووفد على بلنسية في ظل مبارك ومظفر، كثير من الموالي والصقالبة من الإفرنج والبشكنس وغيرهم، من طائفتهم وعشيرتهم، وكثير من العبيد الآبقين من مختلف نواحي الأندلس، وكان من هؤلاء الصقالبة، الوافدين المشردين، كثير من الفرسان الشجعان، وانتسب معظمهم إلى ولاء بني عامر، واكتسبوا بذلك نفوذاً، ووفد على المدينة أيضاً كثير من أرباب المهن والحرف، وكان لذلك كله أثره في تقدم العمران والرخاء بالمدينة (2).
وكان من أهم أعمال مبارك العسكرية محاربته لمنذر بن يحيى التجيبي صاحب
(1) أعمال الأعلام ص 226.
(2)
الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - اللوحة 3 أوب و 4 أ. وراجع أيضاً البيان المغرب ج 3 ص 158 - 161.
سرقسطة. وذلك أن الفتى لبيباً العامري كان يحكم طرطوشة من أعمال الثغر الأعلى، فثابت لمنذر رغبة في الاستيلاء عليها، وهاجمها، ففر عنها لبيب وسار إلى بلنسية واستغاث بمبارك، فخرج معه في خمسمائة من خيرة فرسانه، ولقيهم منذر فغلبوا عليه وهزموه هزيمة شنيعة. وعاد مبارك إلى بلنسية ظافراً، واستفحل أمره، ودانت له جماعة الموالي (1).
واستمر مبارك ومظفر في حكم بلنسية بضعة أعوام، ثم توفي مظفر، واستمر مبارك من بعده، فترة يسيرة. وفي ذات يوم خرج للنزهة فحدث حين عبوره فوق قنطرة النهر، أن عثرت به فرسه، فسقط منها، واصطدم ببعض أخشاب خرجت من القنطرة فشج وجهه وبطنه ومات لساعته، وكان مصرعه في شهر ذي الحجة سنة 408 هـ (1017م)(2).
ومن الغريب أن مباركاً ومظفراً بالرغم من جهلهما، وبعدهما عن ميدان التفكير والأدب، كانا يستخدمان في بلاطهما طائفة من كتاب العصر النابهين مثل ابن التاكرني، وابن مهلب، وابن طالوت، وكانا يرتبان هؤلاء الكتاب في دولتهم على نسق مشيخة الوزراء في قرطبة، ويرجعان إلى رأيهم ومشورتهم في معظم الأمور، وكانا يعملان في حكم بلنسية مستقلين تمام الاستقلال، لا يعترفان في ذلك برياسة قرطبة أو غيرها.
ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن مباركاً ومظفراً كان لهما نصيب من مديح الشعر المعاصر، وقد مدحهما شاعر العصر، أبو عمر بن درّاج القسطلي بقصيدة رائعة هذا مطلعها:
أنورك أم أوقدت بالليل ناركِ
…
لِباغ قراك أم لباغ جوارك
ْورياك أم عرف المجامر أشعلت
…
بعود الكباء والألوَّة ناركِ
ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق
…
حداه دعائي أن يجود دياركِ
وطرة صبح أم جبينك سافراً
…
أعرت الصباح نوره أم أعاركِ (3)
(1) أعمال الأعلام ص 226.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 302. ويقول لنا ابن الخطيب إن مظفراً توفي بعد مبارك وإنه على أثر مصرع مبارك، ثار العامة ونهبوا القصر وقتلوا مظفراً (أعمال الأعلام ص 225).
(3)
نقل ابن الخطيب في أعمال الأعلام أقوال ابن حيان التي نقلها صاحب البيان المغرب، ورجعنا إليها، وقد نشر جزءاً كبيراً من قصيدة ابن دراج القسطلي (راجع ص 222 - 225).
وردت القصيدة كلها بديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (دمشق 1961) ص 101 - 108، وهي من غرر قصائده.
ولما توفي مبارك، خلفه في حكم بلنسية الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري، وكانت الخطبة تصدر باسميهما معاً، ثم وقع الخلاف بينهما، ففر لبيب إلى طرطوشة واستأنف رياسته بها، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية مع حكمه لدانية في نفس الوقت. بيد أنه لم يمض سوى قليل، حتى خرج عليه الفتيان العامريون، وعقدوا البيعة لسيدهم وحفيد مولاهم، عبد العزيز ابن عبد الرحمن المنصور، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م).
وقد سبق أن أشرنا إلى تعلق الفتيان الصقالبة بتراث الدولة العامرية، وولائهم لإمامة هشام المؤيد بالله، وإلى الدور الذي قام به زعماؤهم مثل واضح وخيران، في تطورات الخلافة القرطبية، وقد كانت بيعتهم لعبد العزيز المنصور أثراً من آثار هذا الولاء الراسخ لبني عامر. وكان عبد العزيز وقت مبايعته، فتى حدثاً في نحو الخامسة عشرة من عمره، إذ كان مولده سنة 397 هـ (1)، وكان حينما نزلت النكبة بأسرته قد حمل سراً إلى سرقسطة، وهنالك عاش في كنف صاحبها منذر بن يحيى التجيبي، فلما استدعاه الفتيان العامريون لبيعته لحق بشاطبة، وهنالك تمت بيعته أميراً لبلنسية، وزعيماً لبني عامر.
على أن هذه البيعة لم تلبث طويلا دون منازع. ذلك أن خيران العامري، وكبير الفتيان العامريين، وصاحب ألمرية ومرسية وأوريولة، لم يكن على وفاق مع عبد العزيز. والظاهر أنه خشي على سلطانه في مرسية، وأوريولة، من هذه الزعامة الجديدة، أو أنه لم يحصل على ما كان يرجوه في ظلها من نفوذ. ومن ثم ْفإنه قدم للزعامة في شرقي الأندلس، مرشحاً جديداً من بني عامر، هو محمد ابن عبد الملك المظفر بن المنصور، وهو ابن عم عبد العزيز، وكان يومئذ فتى في نحو العشرين من عمره، وكان قد فر من قرطبة في عهد القاسم بن حمود، ومعه أموال جليلة كانت لأمه، ولجأ إلى حماية خيران، فلما وقع الخلاف بين خيران وعبد العزيز، نادى خيران بزعامة محمد، ونزل له عن حكم مرسية وأوريولة، ولقبه بالمؤتمن ثم بالمعتصم. بيد أنه لم يمض طويل على ذلك حتى اضطربت الأمور في تلك المنطقة، فثارت شاطبة ضد عبد العزيز، واضطر أن يغادرها إلى بلنسية، وتنكر خيران في الوقت نفسه لمرشحه الجديد محمد المعتصم، وغادره
(1) البيان المغرب ج 3 ص 301.
مغضباً إلى ألمرية، ثم عاد في قواته إلى مرسية، وضيق على المعتصم حتى اضطره إلى الخروج عنها، وذلك في ربيع الأول سنة 413 هـ (1022 م)، واستولى الفتيان على سائر أمواله، ولجأ المعتصم إلى أوريولة فطارده خيران، وألح عليه، ففر منها، ولحق بدانية، والتجأ حيناً إلى أميرها مجاهد العامري، ثم غادرها، وسار إلى غربي الأندلس، وهناك عاش بضعة أعوام أخرى حتى توفي في سنة 421 هـ (1030 م)(1).
- 1 -
واستقر عبد العزيز المنصور في حكم بلنسية دون منازع. وكانت له في بداية حكمه علائق مودة متبادلة مع القاسم بن حمود الخليفة بقرطبة، كذلك انضوى تحت لوائه مجاهد العامري حيناً، ثم اختلفا وناصبه العداء، وأخذ مجاهد يتربص الفرص لمهاجمته والإيقاع به. وعمل عبد العزيز على جمع المشردين من أهل بيته، فآواهم، وأولاهم صادق المحبة، وأغدق عليهم الأرزاق الوفيرة، حتى غدا في ذلك أجمل قدوة لأمراء عصره، واستخدم في ديوانه أربعة من أشهر كتاب عصره، كانوا يعرفون بالطبائع الأربع، وهم ابن طالوت، وابن عباس، وابن عبد العزيز، وابن التاكرني كاتب رسائله. ولما أعلن القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية في سنة 426 هـ (1035 م) ظهور هشام المؤيد ودعا لخلافته، كان عبد العزيز المنصور في مقدمة الأمراء الذين بايعوه، واعترفوا بخلافته (2).
وكانت تطورات الحوادث في مملكة ألمرية، أهم ميدان لجهود عبد العزيز السياسية والعسكرية. ونحن نعرف أن مملكة ألمرية، كانت وقت أن ظفر عبد العزيز برياسة بلنسية، تحت حكم الفتى خيران العامري، وهو في نفس الوقت صاحب مرسية وأوريولة، فلما توفي خيران في سنة 419 هـ، خلفه في رياسة مملكة ألمرية، نائبه وزميله الفتى زهير العامري، وقد كان مثل خيران من أكابر الفتيان العامريين، وأكثرهم إقداماً وعزماً. ونحن نعرف كيف
(1) راجع في هذه الحوادث: ابن خلدون ج 4 ص 162، وأعمال الأعلام ص 193 و194. وكذلك: Gaspar Remiro: Murcia Musulmana، p. 97 & 98
(2)
الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 49 ب، وأعمال الأعلام ص 195، والبيان المغرب ج 3 ص 164 و 165.
حدثت زهير نفسه بالسير إلى غرناطة لافتتاحها، وكيف لقى مصرعه في المعركة التي نشبت بينه وبين باديس بن حبوس صاحب غرناطة، وذلك في سنة 429 هـ (1038 م). وهنا لاحت لعبد العزيز المنصور، الفرصة السانحة لتوسيع مملكته، وكتب إليه أهل ألمرية يدعونه لرياستهم، وبعث وزيره وصهره زوج أخته معن بن صمادح إلى باديس يحثه على إعدام الأسرى من وزراء زهير وقواده وفي مقدمتهم كاتبه أحمد بن عباس، خشية أن يعود أحد منهم إلى مناوأته في حكم ألمرية، فكان له ما أراد، وخلصت له ألمرية أولا لمبايعة أهلها له، وثانياً لأنها باعتبارها من أملاك الفتيان العامريين موالي أبيه وجده، تعتبر له ميراثاً شرعياً.
وهكذا استولى عبد العزيز على ألمرية وأعمالها، ما عدا ولاية جيان التي انتزعها باديس لنفسه عقب مصرع زهير.
وغدت مملكة بلنسية بإضافة ألمرية إليها من أعظم ممالك الطوائف. وهنا شعر مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، بخطر هذه المملكة القوية الجديدة على سلطانه، فنهض لمهاجمتها ومحاربتها، وزحف عليها بقواته، واجتاح رقعتها الوسطى من شاطبة إلى لورقة، وثارت حصون شاطبة ولورقة وشوذر على عبد العزيز. وكان عبد العزيز عندئذ في ألمرية ينظم شئونها مع وزيره معن ابن صمادح، فبادر بمغادرة ألمرية للدفاع عن أرضه، وندب وزيره معناً ليسهر على شئون ألمرية، فكان أن خان ابن صمادح عهد أميره، وانتزع لنفسه رياسة ألمرية حسبما فصلناه في أخباره.
وخرج عبد العزيز من ألمرية في سنة 433 هـ (1041 م) لملاقاة خصومه، وزحف تواً على شاطبة، فخرج إليه العبيد العامريون، وهزموه في أول موقعة نشبت بينهما، ولكنه جمع فلوله وعاد فكرّ عليهم، وظفر بهم، وقتل منهم جملة كبيرة ودخل شاطبة (1). وكانت مدينة مرسية تابعة حسبما تقدم لمملكة بلنسية، وكان عليها من قبل زهير، نائبه أبو بكر أحمد بن إسحاق بن طاهر، وكان حسبما تقدم رجلا وافر العلم والوجاهة والسراوة، فضبط المدينة وحكمها بحزم وبراعة، دون أن يتخذ ألقاباً أو يبدو في ثوب الإمارة، فأقره عبد العزيز على ولايته.
وكان عبد العزيز على علائق طيبة مع ملوك اسبانيا النصرانية، ولاسيما
(1) البيان المغرب ج 3 ص 302، وراجع دوزي: Hist. V.III.p. 30
فرناندو الأول ملك قشتالة، وقد استعان عبد العزيز في محاربة خصمه مجاهد العامري ببعض سريات من المرتزقة النصارى. ولم تصب أراضي بلنسية في عهده بشىء من الغزوات المخربة، التي كانت تجتاح ولايات الأندلس الغربية والوسطى. وربما كان ذلك راجعاً من بعض النواحي إلى أرومته وقرابته عن طريق جدته، إلى الملوك النصارى (1).
واستطالت إمارة عبد العزيز المنصور لبلنسية زهاء أربعين عاماً. ثم توفي في شهر ذي الحجة سنة 452 هـ (يناير 1061 م).
فخلفه ولده عبد الملك بإجماع أهل الدولة، وبويع في بلنسية وشاطبة، واستقر في بلنسية، ولقب بنظام الدولة، وبالمظفر. وكان حدثاً يافعاً، فتولى تدبير الدولة، وزير أبيه أبو عبد الله محمد بن مروان بن عبد العزيز القرطبي المشهور بابن رويش، وكان رجلا وافر العلم والحنكة، فأحسن تدبير الأمور، واستقر على يديه النظام والأمن، بالرغم مما كانت تعانيه بلنسية من نقص في المواد والرجال، وفساد في الأعمال. وكان يولى المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة القوي مكانة خاصة، إذ كان صهر عبد الملك وحماه، وكان يبدي نحوه عطفاً واهتماماً بمعاونته والدفاع عنه، وكان عقب وفاة عبد العزيز، قد سار في بعض قواته إلى قلعة قونقة القريبة من بلنسية، ليكون قريباً من صهره، ثم أوفد إلى بلنسية أحد قواده في جماعة قوية من الجند، وكاتبه ابن مثنى، ليكونوا إلى جانب عبد الملك، بحجة معاونته وشد أزره، والمحافظة على السكينة والنظام (2).
بيد أن المأمون كان يضمر نحو صهره ونحو بلنسية نيات أخرى، وكان يُسر له بالأخص أنه يسىء معاملة ابنته، ويبالغ في إهانتها وإيلامها، وكان عبد الملك حسبما يخبرنا ابن حيان " منهمكاً في الشراب، غارباً عن الخصال المحمودة مع رقة الديانة ونقص المروءة، وكثرة الاستمهال، والانحطاط في مهاوي اللذات "(3)
ثم كان يُسر له أيضاً أنه يأوي في بلنسية بعض خصومه من السياسيين الفارين من طليطلة، وأخيراً فقد طلب المأمون إلى صهره أن يعاونه بجنده في حملته ضد ابن عباد، فأبى عليه ذلك وفقاً لنصح وزيره، واعتذر بأنه يخشى عدوان أمير
(1) أعمال الأعلام ص 195.
(2)
الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 49 ب، والبيان المغرب ج 3 ص 165 و 166.
(3)
البيان المغرب ج 3 ص 303.
دانية ومن يحالفه من الفتيان أصحاب المدن القريبة. كل ذلك حمل المأمون على أن يضع مشروعه للاستيلاء على بلنسية.
وقد سبق أن ذكرنا في أخبار مملكة طليطلة، خلاصة الروايتين المتعلقتين باستيلاء المأمون على بلنسية، وأولاهما أن المأمون سار إلى بلنسية في بعض قواته بحجة زيارة صهره، وأنه خلال إقامته بالقصر، دبر كميناً لصهره، وقبض عليه، وأرسله إلى شنتبرية، وسيطر بذلك على بلنسية. والثانية أنه زحف على بلنسية بمعاونة الجند القشتاليين، ودهم المدينة وهي في غفلة، فاقتحمها، وأسر صهره عبد الملك وآله، وهم بقتله لولا أن شفعت فيه زوجته ابنة المأمون. فبعث به إلى إحدى قلاعه في قونقة، أو إقليش، واعتقله هناك (1).
ونود أن نعرض الوقائع مفصلة وعلى ضوء الروايات القشتالية التي تقدمها إلينا بصورة أخرى.
ذلك أن فرناندو الأول ملك قشتالة خرج بقواته في أوائل سنة 1065 م، (457 هـ) متجهة صوب أراضي مملكة سرقسطة لمعاقبة أميرها المقتدر بن هود، لتخلفه عن دفع الجزية التي كان متعهداً بأدائها، ولأنه من جهة أخرى قد وقع الاعتداء على النصارى في سرقسطة وغيرها من بلاد مملكته، وقتلت منهم جموع غفيرة، وعاث فرناندو في أراضي مملكة سرقسطة الجنوبية، وخربها بشدة وأحرق المزارع والقرى، واجتاح على هذا النحو سائر الرقاع والوديان الواقعة خارج الحصون والقلاع المسورة، وأشرف في غزوته المخربة على ظاهر بلنسية في الربيع، وضرب القشتاليون الحصار حول المدينة، وروع البلنسيون، وروع ملكهم الضعيف عبد الملك داخل الأسوار، وتأهبوا للدفاع عن مدينتهم.
ولما رأى القشتاليون مناعة الأسوار، وأهبة أهل المدينة لجأوا إلى الحيلة، فتركوا الحصار، وتظاهروا بالارتداد نحو الشمال إلى بلدة تسمى "بطرنة"، واعتقد أهل بلنسية أن القشتاليين قد ارتدوا عن مدينتهم خائبين، فخرجوا وعلى رأسهم أميرهم عبد الملك، لمطاردة الفارين في ثياب فخمة وكأنهم في عيد، وعندئذ فاجأهم القشتاليون وهاجموهم بشدة، وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، فارتدوا إلى مدينتهم والقتل يعمل فيهم، واستطاع عبد الملك أن ينجو بحياته، وعاد القشتاليون إلى محاصرة المدينة.
(1) البيان المغرب ج 3 ص 226 و 267 و 303.
وفي تلك الأثناء كان المأمون بن ذى النون قد هرع بقواته لإنجاد صهره والدفاع عن المدينة المحصورة، وذلك بالرغم من أنه كان مقراً بسيادة فرناندو، ويؤدي له الجزية، وكان فرناندو قد شعر وهو تحت أسوار المدينة بالمرض يدهمه، فآثر الارتداد بقواته إلى ليون. وهناك توفي بعد قليل في ديسمبر سنة 1065 م.
وهنا رأى المأمون بن ذى النون أن يحقق مشروعه القديم في الاستيلاء على بلنسية. وكان يدفعه إلى ذلك أسباب عديدة سبق أن أشرنا إليها، فدخلها فاتحاً لا منقذاً، وعزل صهره عبد الملك، ثم قبض عليه وعلى ولده، ونفاهما إلى قلعة إقليش أو قونقة. وفي رواية أنه أشفق عليه، وعينه والياً لقصبة شلبة الواقعة شمال غرب بلنسية، وضمت بلنسية وأعمالها بذلك إلى مملكة طليطلة، وكان ذلك في ْشهر ذي الحجة سنة 457 هـ (نوفمبر سنة 1065 م)(1).
وعهد المأمون بتدبير شئون بلنسية إلى أبي بكر محمد بن عبد العزيز (ابن رويش) وكان ابن عبد العزيز قد توفي قبل هذه الحوادث بقليل في أوائل سنة 456 هـ.
ويقول لنا عنه معاصره المؤرخ ابن حيان " إنه كان على خمول أهله في الجماعة من أرجح كبار الكتاب الطالعين في رمس هذه الفتنة المدلهمة، وذوي السداد من وزراء ملوكنا، ذا حنكة ومعرفة وارتياض وتجربة وهدى وقوام سيرة، إلى ثرى وصيانة ". وفي بعض الروايات أن هذا الوزير النابه توفي منتحراً لما توقعه من سوء العواقب. فخلفه في الوزارة ولده أبو بكر بن عبد العزيز، ولم يمكث في منصبه طويلا حتى سقطت بلنسية في يد المأمون، ويقال إنه غدر بأميره عبد الملك، وعاون المأمون في أخذها، فكافأه المأمون عن خيانته بأن عينه نائباً عنه في حكم ْالمدينة. وكان أبو بكر مثل أبيه عالماً حازماً. فضبط بلنسية، وسار في حكمها سيرة حسنة، واتبع الرفق والعدل، وأجزل العطاء للعمال والجند. وشغل عنه المأمون بمغامراته في سبيل فتح قرطبة، وانتزاعها من يد بني عباد المتغلبين عليها.
واستمر في محاولاته حتى انتهى أخيراً إلى تحقيق مشروعه في الاستيلاء على عاصمة
(1) راجع في تفصيل هذه الحوادث Modesto Lafuente: Historia general de
Espana (Madrid، 1861) V.II.p. 390
و A.P.Ibars: Valencia Arabe، V.I.p. 178-180
و R.M.Pidal: La Espana del Cid V.I.p. 151
وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas، p. 41
الخلافة القديمة، ودخلها ظافراً وذلك في سنة 467 هـ (1075 م). بيد أنه لم يلبث أن مرض وتوفي بعد ذلك بأشهر قلائل في أواخر ذي القعدة من نفس هذا العام. وانتهز أبو بكر بن عبد العزيز هذه الفرصة، فأعلن استقلاله بحكم بلنسية، وأصلح أسوارها، ودانت له المدينة بالطاعة، واستمر في حكمها دون منازع.
ولما غزا المقتدر بن هود صاحب سرقسطة والثغر الأعلى مدينة دانية، واستولى عليها من صاحبها على إقبال الدولة بن مجاهد العامري في سنة 468 هـ (1076 م)، توجس أبو بكر من سطوته وطمعه في بلنسية، فخاطب ألفونسو السادس وانضوى تحت حمايته، وتعهد له بأداء الجزية. وكان المؤتمن ولد المقتدر يتطلع بالفعل إلى امتلاك بلنسية، يدفعه إلى ذلك صحبه ومستشاروه، وذلك لأهمية موقعها ووفور غلاتها، فخاطب بدوره ملك قشتالة، ودفع إليه مائة ألف دينار ليعاونه على فتحها، وزحف فرناندو بالفعل على بلنسية، فخرج إليه أبو بكر بنفسه، وخاطبه برقة ولباقة، وأقنعه بعقم محاولته، فانصرف عنه، ووعده بحمايته وفشلت محاولة المؤتمن. وكان ملك قشتالة يقدر أبا بكر ويعجب بخلاله، وكان يقول في مختلف المناسبات، رجال الأندلس ثلاثة: أبو بكر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عمار، وششنانده (1).
وعندئذ رأى أبو بكر أن يلتمس حماية المؤتمن نفسه، ففاوضه، وقدم إليه ابنته عروساً لابنه أحمد المستعين. فوافقه المؤتمن، ورأى من جانبه أن هذه المصاهرة قد تكون سبيلا لضم المملكتين سرقسطة وبلنسية في مملكة قوية موحدة. واحتفل بعقد هذا الزواج بسرقسطة في حفلات شائقة كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء (رمضان 477 هـ - فبراير 1085 م). ولم يعش أبو بكر طويلا بعد ذلك، إذ توفي في السابع من صفر سنة 478 هـ (يونيه 1085 م) بعد أن حكم عشرة أعوام (2).
(1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 9 أوب.
(2)
راجع البيان المغرب ج 3 ص 303 و 304. وقد وهم ابن عذارى في حقيقة شخصية أبى بكر بن عبد العزيز، فذكر أنه أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن المنصور بن أبي عامر، ونسبه بذلك إلى بني عامر، وهو خطأ واضح. وراجع في هذه الحوادث: R.M.Pidal ; ibid ; V.I.p. 310 وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas p.57 و A.P.Ibars: Valencia Arabe; p. 187 & 188
- 3 -
فخلفه في حكم بلنسية وأعمالها ولده أبو عمرو عثمان بن أبي بكر. وبويع في التاسع من صفر، لأيام قلائل فقط من سقوط مدينة طليطلة، في يد القشتاليين في فاتحة صفر 478 هـ. وكان هذا الحادث الجلل الذي هز الأندلس من أقصاها إلى أقصاها نذير تطورات خطيرة في شرقي الأندلس، وفي مصاير مملكة بلنسية بوجه خاص.
وقد كان ألفونسو السادس، حينما استولى على طليطلة من يد صاحبها القادر بن ذى النون، حفيد المأمون، قد تعهد له أو وعده، ضمن عهوده لقاء الاستيلاء على المدينة، أن يمكنه من استرداد بلنسية التي خرجت عن طاعته، بل قيل إنه وعده بمعاونته، على افتتاح دانية وشنتمرية الشرق، إذ كان يعلم أنه بتمكين القادر من الاستيلاء على هذه المدن، فإنها تغدو في الواقع تحت حمايته، ويغدو شرقي الأندلس كله، واقعاً تحت سيادته، عن طريق القادر. وخرج القادر في آله. وصحبه ومتاعه قاصداً إلى بلنسية، وصدته خلال الطريق سائر القلاع القديمة، التي كانت تحت حكمه وأغلقت أبوابها دونه، ما عدا قلعة قونقة (كونكة)، فقد لبثت على طاعته، ورحب به صاحبها ابن الفرج، وأكرم منزله. ورأى القادر أولا أن يسير غور الأحوال في بلنسية، فبعث إليها ابن الفرج ليداخل صاحبها عثمان ابن عبد العزيز، وحاول ابن الفرج أن يروج لقضية سيده، وهو حاكم المدينة الشرعي، فكثر الجدل وافترق الرأي، ورأى فريق من الشعب أن تنضوي بلنسية تحت حماية المستعين بن هود، وانحاز فريق آخر إلى القادر، وسرت الفوضى إلى المدينة. وفي خلال ذلك عاد ابن الفرج إلى قونقة، ودعا القادر إلى السير إلى بلنسية، لانتهاز الفرصة السانحة، فسار القادر إلى المدينة ومعه سرية قوية من الجند النصارى مده بها ألفونسو السادس، تحت إمرة قائده ألبار هانيس الذي تسميه الرواية الإسلامية ألبرهانس. ولما وصل القادر في ركبه إلى المدينة، بعث إلى أهلها رسوله برسالة، يتودد فيها إليهم، ويقدم إليهم أطيب الوعود، فاجتمع أهل المدينة، وتشاوروا في الأمر. ورأى " الجماعة " قبول مطالب القادر، باعتباره صاحب الولاية الشرعية من قبل، واستبعاد مطالب ابن هود، وإن كان ابن هود لم ينقطع عن المجاهرة بها، والترويج لها، وخشية من أن تتعرض المدينة لهجوم القشتاليين، أعلنت " الجماعة " خلع عثمان بن
عبد العزيز، وكان قد قضى في منصبه تسعة أشهر فقط، وبعثت إلى القادر توافق على مقدمه وتسلمه المدينة. فسار القادر في موكبه إلى بلنسية، ودخلها في مظاهر حافلة، وتسلم القصر من القاضي ابن لبون، ونزل فرسانه في بيوت المدينة، ونزل ألبارهانيس وجنده القشتاليون في ضاحية الرُّصافة على مقربة منها، وكان ذلك في شوال سنة 478 هـ (فبراير 1086 م)(1).
وهكذا استولى يحيى القادر على بلنسية، وقامت دولة بني النون، مرة أخرى في شرقي الأندلس، بعد أن درست في طليطلة، وقامت على يد ملكها الشريد الخانع - القادر - في مثل الظروف التي كانت عليها في أواخر أيامها بطليطلة، دولة ضعيفة تابعة، تدين بوجودها لملك قشتالة، ولحراب الجند النصارى. وما لبث القادر أن أبدى صولة الضعيف إذا تحكم، ففرض على المدينة حكم طغيان شامل، وتولى القاضي ابن لبون حجابته، وغدا يده اليمنى، وتقرب إليه الأعيان والقضاة بالأموال والهدايا. وثقلت وطأة القشتاليين على المدينة في نفس الوقت، وأرهقوها بمؤنهم ومغارمهم، وفرضت لذلك ضريبة خاصة على سائر الناس، وعاث النصارى في المدينة وضواحيها، فاشتد السخط على القادر، وعلى شيعته القشتاليين، واضطرب حبل النظام والأمن. ومع ذلك فقد مضى القادر في عسفه وطغيانه، فمال على الأعيان والأكابر، يطاردهم بطلب المال سداداً لمطالب القشتاليين، وقبض على بعضهم من أجل ذلك، واعتقل ولدى ابن عبد العزيز وغيرهم، وحشد حوله كثيراً من أوباش الجند المرتزقة يعيثون في المدينة، ويعتدون على الأموال والأنفس، وغدت السيادة الحقيقية على المدينة لألبارهانيس وجنده، وغادر كثير من الأعيان والأكابر، بلنسية فراراً من هذا الطغيان المرهق (2).
وفي خلال ذلك كانت تجري في جنوب الجزيرة حوادث هامة، فقد عبر المرابطون بقيادة عاهلهم يوسف بن تاشفين إلى الأندلس في ربيع الآخر سنة 479 هـ ْ (أغسطس 1086 م) غياثاً لأمرائها، وللإسلام، وأخذ ملك قشتالة يجمع الجند من كل ناحية، لرد هذا السيل المنهمر، وغادر ألبارهانيس وجنده بلنسية
(1) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 18 ب. وراجع R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 306 & 310-312. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas، p. 57
(2)
R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 313-316
ليخوضوا المعركة إلى جانبه، وكان أن كتب النصر الباهر لجيوش الإسلام على جيوش النصرانية في موقعة الزلاّقة وذلك في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر 1086 م).
وتنفس أهل بلنسية الصعداء لرحيل القشتاليين، وانتعشت نفوسهم لانتصار المسلمين، وتحطيم قوى ملك قشتالة، وبادر القادر من جانبه، فبعث إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، يلتمس صداقته ومحالفته، أسوة بباقي أمراء الأندلس. بيد أن هذه المحالفة النظرية، لم تفده بشىء لأن أمير المسلمين، كان ما يزال في شغل شاغل عن الالتفات إلى شئون شرقي الأندلس.
وسرى الاضطراب إلى بلنسية، وبدأ حكام الحصون المختلفة، في التحرك والعصيان، وشعر القادر أنه عاجز عن أن يملك زمام الموقف، وأن الأمور سوف تنتهي به إلى أسوأ العواقب، إذا تركت بلنسية إلى مصيرها، وقد كانت بلنسية في الواقع في هذه الحالة التي افتقدت فيها كل زعامة قوية، وكل إدارة حازمة، تضطرم حولها الأطماع من كل صوب.
ذلك أن المنذر بن هود صاحب لاردة وطرطوشة، كان يرقب فرص الاستيلاء على بلنسية، وخصوصاً منذ استطاع أبوه أن يتغلب على مملكة دانية، وأن يضمها إلى أراضيه وذلك في سنة 469 هـ (1076 م)، وبذلك امتدت مملكته من لاردة شمالا حتى دانية وأعمالها جنوباً، وكانت بلنسية بذلك تشطر مملكته إلى شطرين، وتحول دون وحدة أراضيها. فلما رأى المنذر اضطراب الأحوال في بلنسية، شعر أن الفرصة المنشودة قد سنحت، فسار في قواته صوب بلنسية، ومعه سرية من المرتزقة القطلان، وضرب الحصار حول المدينة (1088 م)، وكان يؤازره في داخلها كثير من الأنصار، كانوا يؤيدون قضيته، ويودون أن تسلم إليه.
وهنا استولى الاضطراب والذعر على القادر، وفكر بالفعل في تسليم المدينة، لولا أن نصحه ابن طاهر صاحب مرسية السابق، وكان قد لجأ إلى بلنسية مذ غلب عليه ابن عمار وزير المعتمد، بالتريث وشجعه على الصمود والدفاع.
وبعث القادر في نفس الوقت إلى ألفونسو ملك قشتالة يستغيث به، وبعث بنفس الصريخ إلى المستعين بن هود صاحب سرقسطة، وخصيم المنذر، وكان المستعين يتوق إلى افتتاح بلنسية، ويشعر دائماً بالأسف والألم لفشل محاولة
أبيه المؤتمن في هذا السبيل، وضياع الأموال الطائلة التي دفعها من أجل ذلك لملك قشتالة، وكان له بسبب مصاهرته لأبى بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية السابق، داخل المدينة حزب يناصره، ويود أن تنضم بلنسية إلى مملكة سرقسطة، فلما تلقى صريخ القادر، بادر بالإستجابة، وهرع إلى بلنسية في بعض قواته، فتظاهر بالسير إلى إنجادها، وهو يبطن نية الاستيلاء عليها (1).
(1) R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 351