المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٢

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثانيدُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

- ‌مقدمةالطبعة الأولى

- ‌تصدير

- ‌تمهيدنذر الانحلال والتفكك

- ‌الكِتابُ الأوّلقرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

- ‌الفصل الأوّلدولة بني جهور في قرطبة

- ‌الفصل الثانيبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الثالِثبنو عباد ومملكة إشبيلية

- ‌الفصل الرّابعبنو الأفطس ومملكة بطليوس

- ‌الفصل الخامِسُمملكة بني ذى النون في طليطلة

- ‌الكِتابُ الثانيالدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

- ‌الفصل الأوّلدولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة

- ‌الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى

- ‌الكتابُ الثالِثدول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

- ‌الفصْل الأوّل مملكة ألمرية

- ‌الفصل الثانِيمملكة مرسية

- ‌الفصل الثالِثمملكة دانية والجزائر

- ‌الكتاب الرابعدول الطوائف في منطقة بلنسية

- ‌الفصْل الأوّل مملكة بلنسية

- ‌الفصل الثانِيمملكة بلنسية

- ‌الفصل الثالِثإمارة شنتمرية الشرق

- ‌الفصل الرابعإمارة ألبونت

- ‌الكتاب الخامِسدول الطوائف في الثغر الأعلى

- ‌الفصْل الأوّلمملكة سرقسطة

- ‌الفصل الثانيمملكة سرقسطة

- ‌الكتِاب السادسموقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

- ‌الفصْل الأوّلنشأة المرابطين

- ‌الفصل الثانِىموقعة الزلاّقة

- ‌الفصل الثالِثالفتح المرابطي

- ‌الفصل الرّابعالفتح المرابطي

- ‌الكِتابُ السابعالممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

- ‌الفصل الأوّلالمملكة الإسبانية الكبرى

- ‌الفصل الثانِيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

- ‌الفصل الثالِثالنصارى المعاهدون

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيإسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

‌الفصل الثانِي

إسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

ألفونسو السادس وبداية عهد الإسترداد

تقسيم فرناندو للمملكة بين أولاده. غزو سانشو ملك قشتالة لنافار وهزيمته. غزوه لمملكة ليون. الحرب بينه وبين أخيه ألفونسو. هزيمة ألفونسو وأسره. فراره والتجاؤه إلى المأمون ملك طليطلة. المأمون يرحب به ويكرم وفادته. أقوال الرواية النصرانية في ذلك. ألفونسو يدرس خطط الاستيلاء على المدينة. تطور الحوادث. غرسية ملك جليقية واضطراب مملكته. استيلاء سانشو على جليقية والتجاء غرسية إلى ملك إشبيلية. استيلاء سانشو على تورو مدينة أخته إلبيرة. محاولته انتزاع سمورة من أخته أوراكا. مصرعه تحت أسوارها. استدعاء الأشراف لأخيه ألفونسو. مغادرة ألفونسو لطليطلة. عهده للمأمون بمسالمته وولده. تنويه الرواية النصرانية بكرم المأمون ونبله نحو مضيفه. مسير ألفونسو إلى برغش. حلفه ببراءته من مقتل أخيه. يغدو ملك قشتالة وليون وجليقية. يدبر كميناً لأخيه غرسية. مساعدة ألفونسو للمأمون ضد ابن عباد. وفاة ألمأمون وولاية حفيده القادر. ألفونسو يتحلل من عهوده ويضع الخطة للاستيلاء على طليطلة. إغارته على أراضيها وتخريبها. القادر يلتجىء لحماية ألفونسو ويؤدي له الجزية. قيام الثورة في طليطلة. فرار القادر. وعوده بمعاونة ألفونسو. المعتمد بن عباد وتحالفه مع ألفونسو. مضي ألفونسو في إرهاق طليطلة وافتتاحها الطابع الصليبي لهذا الفتح. طليطلة حاضرة اسبانيا النصرانية. الأسقف برنار عميد الكنيسة الإسبانية. مؤامرته لإزالة المسجد الجامع. تحويل الجامع إلى كنيسة جامعة. سقوط طليطلة وأثره في ميزان القوى. أثره في تحول ملوك الطوائف. موقعة الزلاقة وما بعدها. عود الطوائف إلى تفرق الكلمة. عدوان السيد والقشتاليين. عبور أمير المسلمين للمرة الثانية. حصار حصن لييط وما اقترن به من حوادث. إنسحاب المرابطين. محاولة ألفونسو الاستيلاء على بلنسية وفشله. انتصارات المرابطين في منطقة بلنسية. وفاة السيد واستيلاء المرابطين على بلنسية. إستيلاء ألفونسو على شنترين. موقعة إقليش. هزيمة القشتاليين ومقتل سانشو ولد ألفونسو. البابوية وتدخلها في اسبانيا. سعيها إلى فرض سيادتها الروحية. الأسقف برنار ودوره في ذلك. إسبانيا والحروب الصليبية. صفة الملك الوراثية. نظام الإقطاع وخواصه. تنظيم ألفونسو لأسس التشريع. ألفونسو ووراثة عرشه. مجلس ليون وقراراته في ذلك. مملكة أراجون. مملكة نافار. سانشو ملك نافار ومصرعه. سانشو راميرز ملك أراجون. استيلاؤه على منتشون وحصاره لوشقة. وفاته وقيام ولده بيدرو مكانه. سقوط وشقة. بيدرو الأول وصفاته. وفاته وقيام أخيه ألفونسو مكانه. إمارة برشلونة. الكونتات الفرنج. آل بوريل أمراء برشلونة. خلفاؤهم آل برنجير. رامون برنجير الكبير وأعماله. الصلات بين بني هود وآل برنجير. المستعين بن هود والكونت برنجير. رامون برنجير الثالث.

ص: 388

- 1 -

عمد فرناندو قبيل وفاته إلى تقسيم مملكته الكبيرة بين أولاده الثلاثة، فاستدعى لذلك الغرض مجلساً من الأساقفة والأشراف (1064 م) وانتهى فيه إلى تقسيم المملكة على النحو الآتي غير معتبر في ذلك بما حدث من قبل حينما قسمت المملكة على يد أبيه سانشو الكبير.

فخص سانشو ولده الكبير بقشتالة، وحقوق الجزية على مملكة سرقسطة، وخص ألفونسو بليون وأشتوريش، وحقوق الجزية على مملكة طليطلة، وخص أصغرهم غرسية، بجليقية والبرتغال، وقد ضما إلى مملكة واحدة، وحق الجزية على مملكتي إشبيلية، وبطليوس، وأعطى حق الإشراف على الأديار في سائر المملكة لابنتيه دونيا أورّاكا، ودونيا إلبيرة، وخصت أوراكا بمدينة سمورة الحصينة، وخصت إلبيرة بمدينة تورو وأماكن أخرى على نهر دويرة.

ومن المحقق أن تقسيم المملكة الإسبانية على هذا النحو، بعد اتحادها في عهد فرناندو، كان عملا خاطئاً، وكان نذيراً بعود الحرب الأهلية. وقد استمر الوئام المكبوت بين الإخوة في ظل الملكة سانشا عامين آخرين، فلما توفيت في سنة 1067 م، بدت نذر الصراع الجديد واضحة في الأفق.

وكان سانشو، قبل أن تضطرم المعركة بينه وبين إخوته، قد وجه اهتمامه إلى ميدان آخر. وكان يحكم نافار يومئذ سانشو ابن عمه غرسية، ويحكم أراجون سانشو ابن عمه راميرو، ففكر سانشو ملك قشتالة أن يحاول الاستيلاء على مملكة نافار، أو ينتزع على الأقل أعمالها الواقعة على ضفة الإيبرو العليا. ولكن ملكا نافار وأراجون شعوراً منهما بنياته العدوانية، عقدا خلفاً لمقاومته. فلما سار لمحاربتهما، رداه بنجاح وهزماه في موقعة فيانا (سنة 1067 م). وكان من جراء ذلك أن فقد سانشو أراضي نافار التي كان قد أحرزها أبوه في موقعة أتابوركا. وفي العام التالي عقب وفاة الملكة سانشا، سار سانشو في قواته وهاجم أراضي مملكة ليون، فسار أخوه ألفونسو لرده، والتقى الاثنان في بلادنتادا على نهر بسيرجا (يوليه سنة 1068 م) فهزم ألفونسو، وارتد مسرعاً إلى ليون، واضطر أن ينزل لسانشو عن بعض الأراضي المجاورة لقشتالة.

ثم عاد سانشو فغزا مملكة ليون واخترقها حتى الغرب، ووقع اللقاء بين الأخوين هذه المرة في جولنجار أو جلبياريس، الواقعة على نهر كريون، فهزم

ص: 389

القشتاليون. وفروا تاركين خيامهم، وأغضى ألفونسو عن مطاردتهم حقناً للدماء. وكاد سانشو يرتد أدراجه، لولا أن تقدم منه أحد فرسانه. ونصح له بأن يجمع جنده، ويعيد الكرة، في الفجر تحت جنح الظلام، بعد أن اطمأن الليونيون إلى نصرهم، وخبت همتهم، وكان صاحب هذا النصح هو الفارس ردريجو دياث. الذي عرف فيما بعد بالسيد، وهي أول مناسبة يردد التاريخ فيها اسمه. واستجاب سانشو لهذا النصح، فاستجمع جنده، وهجم في الفجر على الليونيين وهم نيام، فدب إليهم الاضطراب والذعر، وقتل الكثير منهم أثناء النوم، وفر ألفونسو، والتجأ إلى كنيسة بلدة كريون، فقبض عليه وزج إلى حصن برغش، ودخل سانشو بجيشه ظافراً إلى مدينة ليون (يوليه سنة 1071 م) وهنا تدخلت دونيا أوراكا، وكانت تحب أخاها ألفونسو، وسعت إلى إنقاذه من الأسر. فاستجاب سانشو إلى رجائها، وقبل الإفراج عن ألفونسو، بشرط أن يرتدي حلة الرهبان، وأن يقيم في دير ساهاجون، فاضطر ألفونسو إلى القبول، ولجأ إلى الدير، وهنا دبرت أخته أوراكا فراره من الدير، فسار إلى طليطلة والتجأ إلى ملكها، المأمون بن ذى النون (1). فاستقبله المأمون بمنتهى الترحاب والإكرام، وعامله كأخيه حسبما تقول الرواية النصرانية، وأنزله داراً بجوار قصره، وأعد كل ما يلزم لراحته، وخصص له داراً أخرى خارج المدينة ذات رياض وحدائق للتنزه فيها، والاجتماع بصحبه النصارى، ولاسيما مستشاره فرناندو أنسوريز، وكان يعيش معهم في أحسن الظروف وأكرمها (2).

وإليك كيف يصف الأستاذ بيدال استقبال المأمون لضيفه: " استقبل المأمون الملك المغلوب بإكرام، بعد أن قطع له العهود اللازمة لسلامته. وأنزله داراً ملحقة بالقصر الملكي ذاته، تشرف على تحصينات المدينة تجاه قنطرة " القنطرة ".

وهكذا كان الملك المنفي يعيش بعيداً عن ضجيج المدينة المسلمة، وكان بوسعه أن يتريض في حدائق الملك الشاسعة الواقعة في الناحية الأخرى من القنطرة داخل المنحنى الكبير الذي يحتضنه نهر التاجُه ".

(1) لم يفت الرواية الإسلامية الإشارة إلى هذه الحوادث، وهي تسمى دير ساهاجون، " بسفقند ". راجع أعمال الأعلام ص 330.

(2)

M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p، 396

ص: 390

ويشير الأستاذ بيدال بعد ذلك إلى أقوال الرواية العربية عن فخامة قصر المأمون، وزخارفه البديعة وحدائقه الغناء، وروعة الحفلات التي تقام به، ومجالس العلماء الأعلام التي كانت تعقد به، وتجعل من طليطلة يومئذ مركزاً من أهم مراكز الثقافة الإسلامية. ثم يقول:" إن النفي الذي كان يعانيه ألفونسو بين هذه الفخامات كان كأنه مقصود من العناية، حسبما يقول لنا مؤلف " تاريخ سيلوس ".

كان ملك ليون المخلوع يختلط بالسكان المسلمين، ويتريض في جنبات المدينة الحصينة، ويفكر من أي الأماكن، وبأى نوع من أدوات الحرب يمكن اقتحامها " (1).

حرصنا على إيراد هذه الأقوال، لنستطيع أن نتأمل على ضوئها فيما بعد، تصرف ألفونسو السادس، نحو ولد حاميه والمحسن إليه، ونحو مملكة طليطلة.

ومما له مغزى عميق، ما يقصه علينا صاحب رواية دير سيلوس السالفة الذكر من أن ألفونسو، استمع ذات يوم، وهو متظاهر بالنوم، إلى حديث المأمون مع وزرائه في كيفية الدفاع عن طليطلة، واحتمال مهاجمة النصارى لها واستيلائهم عليها، وكيف يمكن ذلك وبأية وسيلة. وقد أجاب بعضهم أن النصارى لا يستطيعون الاستيلاء على مدينة بمثل هذه الحصانة، إلا إذا أنفقوا سبعة أعوام على الأقل، في تخريب أحوازها وانتساف مؤنها، ويضيف صاحب هذه الرواية، أن ألفونسو انتفع بوقته في دراسة خطط المدينة والاحتمالات التي تمكنه من تنفيذ مشروعه العظيم في الاستيلاء عليها (2).

وقضى ألفونسو في منفاه، ببلاط الملك المسلم، تسعة أشهر من يناير حتى أكتوبر سنة 1072، وهو مغمور بكرم مضيفه ورعايته، إلى أن شاءت الأقدار أن تتطور الحوادث في قشتالة، وأن يتألق نجمه مرة أخرى.

ذلك أن سانشو لم يقنع بما تم له من الاستيلاء على مملكة ليون، بل أراد ْأن ينزع أخاه الصغير غرسية مُلْك جليقية، وكان سير الحوادث في جليقية، مما يعاون على تحقيق غايته. ذلك أن غرسية أساء السيرة، وبالغ في إرهاق الشعب بالضرائب، وانصاع في ذلك لتوجيه وزيره وصفيه برتولا، وفوض إليه كل شىء في الدولة. فسخط الأشراف لذلك، ودبروا مقتل الوزير الطاغية بحضرة مليكه ذاته، فاستشاط غرسية غضباً، واشتد عسفه وكثرت

(1) R.M.Pidal: ibid ; p. 176 & 177

(2)

M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 397

ص: 391

مظالمه حتى ضاق به الشعب ذرعاً، فلما سار سانشو في قواته إلى جليقية، ألفى غرسية نفسه في مأزق حرج، ولم يستطع أن يحشد سوى قوة صغيرة، وأبى جيرانه المسلمون معاونته. والتقى بجيشه الصغير مع أخيه قرب شنترين، فهزم هزيمة شديدة، وقتل معظم أصحابه، ووقع أسيراً في يد أخيه، ولم يفرج عنه إلا بعد أن أقسم بالخضوع والطاعة، وعندئذ سار في نفر من صحبه إلى إشبيلية، والتجأ إلى أميرها (أواخر سنة 1071 م).

ولم يبق بعد ذلك خارجاً عن سلطان سانشو، سوى مدينتي سمورة، وتورو اللتين تحكمهما أختاه أوراكا وإلبيرة. وكان سانشو يحقد على أختيه لعطفهما على أخيه ألفونسو، ويخشى دسائسهما ومساعيهما الخفية، فعول على الاستيلاء على المدينتين، وحاول في البداية أن يحقق غرضه بالمفاوضة، فعرض على أختيه أن يعوضهما عن المدينتين بأملاك أخرى، فرفضتا ولم تحفلا بوعيده.

وعندئذ سار في قواته، واستولى أولا على قلعة تورو، ولم تبد صاحبتها إلبيرة كبير مقاومة، ولكن أوراكا صممت على الدفاع عن سمورة، معتمدة في ذلك على مناعة المدينة، وعلى معاونة طائفة قليلة من الجند المخلصين، وعلى رأسهم الفارس الباسل آرياس كونثالث. وحاول سانشو أن يقتحم المدينة أولا، ولكنها امتنعت عليه، فضرب حولها الحصار، واستمر حيناً، وهو يهاجمها من آن لآخر. وفي ذات يوم نفد إلى معسكره فارس، وطلب مقابلته لينبئه عن أحوال المدينة المحصورة. وما كاد الفارس يراه حتى طعنه بحربته وأرداه مضرجاً بدمائه، وفر إلى المدينة هارباً. ولم تكن هذه الجريمة بعيدة عن تدبير أخته الجريئة أوراكا، وكان ذلك في 6 أكتوبر سنة 1072 م.

وفي الحال سرى الذعر إلى المعسكر القشتالي، وانفض عنه الجند الليونيون والجلالقة، إذ كانوا يقاتلون رغماً عنهم، وحمل القشتاليون جثمان مليكهم القتيل، ودفنوه في دير " أونيا "، وهكذا سقط سانشو صريع أطماعه وبغيه، بعد أن حكم ثمانية أعوام فقط، وقد سمي بالقوي El Fuerte لجرأته وشجاعته.

واجتمع الأشراف في برغش، وأجمعوا على استدعاء ألفونسو ليتولى الحكم مكان أخيه، بشرط واحد هو أن يقسم بأنه لم يشترك بأي حال في تدبير مقتل أخيه سانشو، وبعثوا إليه رسلهم في طليطلة. وبعثت إليه كذلك أخته

ص: 392

أوراكا، رسلها على عجل، بالخبر سراً، قبل أن يقف عليه المأمون بن ذى النون.

وهنا تختلف الرواية، فيقال إن ألفونسو حينما وقف على النبأ أخفاه عن المأمون، وحاول أن يغادر طليطلة خلسة، خشية أن يرغمه المأمون على أن يقطع عهوداً ضارة، ففطن المأمون إلى محاولته وأراد اعتقاله، ولكنه نجح في الفرار، وهذه رواية ضعيفة. والحقيقة، وهي ما تؤيده الروايات الوثيقة، هو أن ألفونسو أبلغ النبأ في الحال إلى المأمون، فأعرب له المأمون عن سروره وغبطته، وأبدى له استعداده لإمداده بكل ما يرغب من مال وخيل أو غيرها، ولم يطلب إليه سوى صداقته، وأن يقطع له عهداً بأن يحترم مملكته، وأن يعاونه ضد خصومه المسلمين، وأن يسرى هذا العهد بعد وفاته بالنسبة لولده الأكبر، فقطع له ألفونسو ما شاء من عهود، وقدم المأمون إليه طائفة من الهدايا الجليلة، وصحبه مع أكابر مملكته في موكب فخم حتى وصل إلى حدود بلاده (1).

يقول المؤرخ لافونتي: " وكان للمأمون ولد آخر أصغر من أخيه لم يشمله هذا العهد، لسبب لا نعرفه ". ثم يعلق فيما بعد على تصرف المأمون نحو ضيفه بقوله: " إن ما أغدقه المأمون على ألفونسو من ضروب الرعاية والإكرام وقت محنته، يباين كل التباين تصرف أخيه سانشو نحوه، فهذا يسجن أخاه في حصن أو دير. وهذا الأمير المسلم، يتلقاه في قصره، ويعامله كولده، ويخصص بستانه لرياضته. ولما خلا عرش قشتالة بممالكه الثلاث، عاون ألفونسو بكل سخاء وإكرام، ليسير إلى تلقى العروش التي كانت في انتظاره، ولم يطلب منه لقاء ذلك شيئاً سوى صداقته. إن تصرف المأمون على هذا النحو يكشف لنا عن العواطف الكريمة التي يجيش بها هذا الجنس العربي "(2).

- 2 -

سار ألفونسو إلى سمورة حيث اجتمع بأخته أوراكا، وبمن وافاه هنالك من الأساقفة والأشراف من ليون وجليقية، وبحث الوسائل التي تكفل له اعتلاء عرش قشتالة دون صعوبة. ذلك أن معظم الأشراف وأغلبية الشعب، كانت تنسب مقتل سانشو جهاراً إلى أوراكا، ناصحة ألفونسو، وملهمته، ومن ثم فإنه

(1) راجع: M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p 398-400.

و R.M.Pidal: ibid ; p. 189 & 190

(2)

M0Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 438

ص: 393

لما وصل ألفونسو إلى برغش، واجتمع بأشراف المملكة وكبرائها، طلبوا إليه أن يقسم بأنه لم يشترك بأية صورة في تدبير مقتل أخيه سانشو. فنزل ألفونسو عند رغبتهم. بيد أنه لما انتظم الجمع في الكنيسة التي تقرر أداء القسم فيها، لم يجرأ أحد من الأشراف أن يتولى تحليف الملك، وعندئذ تقدم منه الفارس ردريجو دياث (السيد فيما بعد)، قائد أخيه سانشو ومستشاره، وتولى تحليفه اليمين بنفسه، فلما أداها، عقب ردريجو بقوله، إنه يطلب إلى الله، إن كان ألفونسو كاذباً، أن يسلط عليه خائناً يقتله كذلك الذي اغتال أخيه سانشو. وقد خلفت جرأة " السيد " هذه في نفس ألفونسو أثراً لا يمحى، ولم يصف قلبه لهذا الفارس فيما بعد قط، حسبما بينا من قبل في حياة السيد، وعلائقه مع مليكه ألفونسو (1).

وهكذا غدا ألفونسو ملك قشتالة، كما غدا من قبل ملك ليون وجليقية (ديسمبر سنة 1072 م)، وعادت المملكة الإسبانية الكبرى إلى تماسكها ووحدتها كما كانت في عهد أبيه فرناندو. ولم يمض قليل على ذلك، حتى عاد أخوه غرسية ملك جليقية السابق من منفاه في إشبيلية معللا النفس، بعوده إلى العرش، فدعاه ألفونسو بإشارة أختهما الماكرة أوراكا، إلى مقابلته للتفاهم، ولكنه ما كاد يصل إلى مكان اللقاء حتى قبض عليه، وزج إلى حصن " لونا "(فبراير سنة 1073 م) وهناك أنفق بقية حياته، سبعة عشر عاماً، حتى توفي سنة 1090 م.

وتحدثنا الرواية النصرانية، بأن ألفونسو ما كاد يعتلى العرش، حتى أراد أن يعرب عن عرفانه للمأمون بن ذى النون، وذلك بأن أعانه في حربه ضد ابن عباد، وأمده ببعض قواته، وسار معه إلى قرطبة وعاث في أحوازها، واستطاع المأمون بذلك أن يستولى على قرطبة. وربما كان ألفونسو قد أعان المأمون ببعض قواته في غاراته على قرطبة، ولكن المأمون استولى على قرطبة بطريقة أخرى دبرها مبعوثه حكم بن عكاشة (1075 م) حسبما فصلنا ذلك في موضعه، ولم يشترك القشتاليون في شىء من تلك الحوادث.

ولم تمض بضعة أشهر على ذلك حتى مرض المأمون وتوفي، فخلفه في حكم طليطلة، حسبما تقول الرواية النصرانية، ولده هشام القادر، والظاهر أن هشاماً هذا لم يحكم سوى بضعة أشهر ثم توفي، أو أنه خلع لشدة ولائه للنصارى، بيد أن

(1) R M.Pidal: ibid ; p. 139 & 198. و M.Lafuente: ibid ; Vol. II.p. 404

ص: 394

الرواية العربية، وهي أرجح في نظرنا، تقول إن الذي خلف المأمون، هو حفيده الملقب بالقادر (1)، وهو ما يدل على أن هشاماً توفي قبيل وفاة أبيه المأمون، وعلى أي حال فإن الرواية النصرانية، تحاول أن تلتمس من ذلك عذراً يقيل ألفونسو من العهد الذي قطعه لحاميه والمحسن إليه، بأن يصون مملكته وألا يعتدى عليها، لأن هذا العهد كان قاصراً على المأمون وابنه الأكبر. أما القادر فهو حفيده، وهو لم يدخل ذلك العهد (2).

والواقع أن ألفونسو السادس، لم يعد له شغل شاغل، مذ توفي المأمون، سوى غزو طليطلة، والاستيلاء عليها، بل إن هذا المشروع، يرجع حسبما تؤكده لنا ذلك رواية رهبان سيلوس، التي سبق ذكرها، إلى وقت إقامته بطليطلة، وانتهازه تلك الفرصة لدراسة خطط المدينة، ومواقع الضعف في تحصيناتها، وطرق مهاجمتها، وهي إقامة تقول لنا الرواية المذكورة كأنما اختارتها العناية.

ومن ثم فإن ألفونسو لم يتورع عن تنفيذ خطته، في غزو مملكة طليطلة وإرهاقها، فنراه منذ سنة 1078 م يحشد العدة والمؤن، ويغير على أراضي طليطلة ويعيث فيها سفكاً وتخريباً، وينتسف خضراءها وزروعها، وقد استمر على هذه الغزوات المخربة في الأعوام التالية، واستولى خلال ذلك على مدينة طلبيرة، ثم استولى على سائر المنطقة الواقعة بين طلبيرة ومجريط.

وفي خلال ذلك كان القادر يعاني في حكم مملكته صعاباً، ويسود الاضطراب في مدينة طليطلة، وتتوالى فيها الأحداث المزعجة على نحو ما فصلنا من قبل في أخبار مملكة طليطلة. ولما شعر القادر بأنه عاجز عن أن يواجه سيل هذه الغزوات المخربة، اضطر أن يلوذ بحماية ألفونسو، وأن يؤدي له الجزية، وأن يسلمه عدداً من الحصون القريبة من الحدود. كل ذلك وملك قشتالة مستمر في إرهاقه بطلب المال والأراضي، والقادر يواجه داخل طليطلة سخط شعبه وتبرمه.

وأخيراً اضطرمت طليطلة بالثورة، واضطر القادر أن يلوذ بالفرار، وأن يلتمس غوث ألفونسو وعونه على رده إلى عرشه، فأجابه ألفونسو إلى ما طاب تمكيناً

(1) ابن خلدون ج 4 ص 161، وأعمال الأعلام ص 179.

(2)

M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 404

ص: 395

لقبضته منه، وأمده بقوة من جنده، وأخضعت المدينة الثائرة، وجلس القادر على عرضها مرة أخرى، تحت ظلال الحراب النصرانية، وذلك في سنة 474 هـ (1081 م).

وهنا نضجت خطة ألفونسو في الاستيلاء على طليطلة، وأخذ يعد معداته الأخيرة. وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لما رأى اشتداد ساعد ألفونسو وغزواته الكاسحة نحو الجنوب، وخشى أن يتحول نحوه هذا التيار المخرب، وأن ينزعه ألفونسو، ما استولى عليه من أراضي طليطلة الجنوبية، قد عقد معه حلفه المشهور الذي يتعهد فيه بأداء الجزية، وبأن يترك ألفونسو حراً في مشروعه ضد طليطلة، ويتعهد ألفونسو من جانبه بأن يساعده على سائر أعدائه المسلمين، وهو الحلف الذي زعمت التواريخ النصرانية، بأن المعتمد قد رأى أن يدعمه بتقديم ابنته " زائدة "، زوجاً لألفونسو. وهي قصة أثبتنا بطلانها وسخفها فيما تقدم من أخبار المعتمد.

وشعر ألفونسو بحق أن طليطلة قد أضحت تحت رحمته، ولم يبق عليه إلا أن يتم خطته التمهيدية من تخريب أراضيها وإعدام أقواتها، وقد استمر على تنفيذ هذه الخطة المدمرة زهاء أربعة أعوام، مذ عاد القادر إلى عرشه في سنة 1081 م، كل ذلك وملوك الطوائف جميعاً إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم، يشهدون اقتراب النكبة جامدين، إما بدافع الأثرة والخوف أو عدم الاهتمام والتخاذل، حتى حم القضاء، وسقطت المدينة الأندلسية التالدة في يد ألفونسو السادس في فاتحة شهر صفر سنة 478 هـ (25 مايو 1085 م). وقد سبق أن تناولنا حوادث سقوط طليطلة وما تلاه، مفصلة في أخبار مملكة بني ذى النون، فلا حاجة بنا إلى التكرار، وإنما نود فقط أن ننوه هنا بالطابع الصليبي لحصار طليطلة وافتتاحها، فقد اشترك فيه إلى جانب جنود قشتالة وليون، جند من أراجون، ومتطوعون ومغامرون من فرنسا وغيرها، قدموا للاشتراك في مشروع يهم النصرانية كلها.

وقد عادت طليطلة منذ افتتاحها عاصمة لإسبانيا النصرانية، كما كانت أيام القوط، وردت إليها صفتها القديمة كمركز رئيسي للكنيسة الإسبانية، وهي ما تزال تحتفظ حتى يومنا بهذه الصفة، وعين لرياستها الأسقف برنار الفرنسي، عميد دير

ص: 396

ساهاجون، وذلك بنفوذ الملكة كونستانس، وهي فرنسية برجونية الأصل.

وكان لتعيين هذا الراهب لرياسة الكنيسة الإسبانية، تأثير شديد في تطور طقوسها وتقاليدها.

وكان من أول الأعمال التي دلت على بغيه وتعصبه، اعتداؤه على مسجد طليطلة الجامع. وكان من عهود التسليم التي قطعها ألفونسو على نفسه، أن يحتفظ المسلمون بمسجدهم الجامع لأداء شعائرهم إلى الأبد. بيد أنه ما كاد يمضي شهران على التسليم، حتى دبر هذا القس بتحريض الملكة كونستانس المتعصبة مؤامرته لإزالة الجامع.

وكان رجال الدين من النصارى يغصون بالأخص بعظمة الجامع وروعته، هذا بينما كانت كنائس المدينة كلها صغيرة متواضعة. وعبثاً حاول الكونت ششنندو حاكم المدينة أن يثني القس عن غيه، وأن يبين له سوء العاقبة في مخالفة العهود المقطوعة على هذا النحو. وانتهز برنار فرصة غياب الملك في ليون، واقتحم الجامع في جمع من الفرسان وحطم المحراب، وأمر بإقامة الهياكل. وفي اليوم التالي عقد بالجامع قداساً حافلا، فهاج المسلمون وماجوا، ولولا وجود حامية قشتالية كبيرة بالمدينة لاستحال هياجهم إلى ثورة مدمرة. وعلم الملك بذلك الحادث، فارتد من ليون على عجل، وهو يضطرم غيظاً وسخطاً، إذ كان من سياسته أن يحترم العهود المقطوعة ولو إلى حين، تفادياً من سخط المسلمين، واضطرام القلاقل. وتظاهر الملك بأنه سوف يعاقب القس والملكة بالحرق، وعندئذ تدخل المسلمون والتمسوا إليه العفو عنهما، ولعلهم كانوا يأملون بذلك أن ويستردوا جامعهم. ولكن هذا الأمل الخلاب لم يتحقق، واستمر العمل في تحويل الجامع إلى كنيسة جامعة. وفي يوم الأحد 18 ديسمبر سنة 1085 (15 شعبان سنة 478 هـ) دشنت الكنيسة الجديدة في حفل ضخم شهده الملك والأشراف ورجال الدين، وانتخب فيه برنار مطراناً (1).

(1) ورد تاريخ تحويل جامع طليطلة إلى كنيسة في أوراق مخطوطة لم تنشر من كتاب البيان المغرب لابن عذارى، عثر بها الأستاذ ليفي بروفنسال ونقله العلامة الأستاذ بيدال في كتابه La Espana del Cid ( ص 307 و 308). وقد تناول ابن بسام حادث تحويل الجامع إلى كنيسة في عبارته المسجعة (الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 131 و 132، ولكنه وهم في تاريخ الحادث فجعله في ربيع الأول سنة 498 - 1104 م، وربما كان ذلك راجعاً إلى تحريف في المخطوط إذ وضعت عبارة سنة " ثمان وتسعين وأربعمائة "، وهي في الحقيقة " ثمان وسبعين ".

ص: 397

- 3 -

كان الاستيلاء على طليطلة بلا مراء أعظم أعمال ألفونسو السادس، بل كان أعظم عمل قام به ملك نصراني، مذ قامت المملكة الإسبانية النصرانية في شبه الجزيرة في أواخر القرن الثامن الميلادي.

وقد كان لسقوط طليطلة أعمق الآثار في ميزان القوى في شبه الجزيرة، وبه توج تفوق اسبانيا النصرانية السياسي والعسكري، واتخذ ملك قشتالة على أثره لقب الإمبراطور، ودخلت سياسة الإسترداد Reconquista في طور جديد يبدأ من الناحية الأخرى من نهر التاجُه. بيد أنه كان من آثاره أيضاً أن استيقظت اسبانيا المسلمة من سباتها، وأدرك ملوك الطوائف، حقيقة موقفهم، وعاقبة بغيهم واستهتارهم، وخطورة تنابذهم وتفرقهم، وشعروا بخطر الفناء يهدد مصايرهم جميعاً، وجنحوا عندئذ إلى الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر، وكان أن استجاب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى صريخهم، وعبر إلى شبه الجزيرة في جيوشه المرابطية. وفي ذلك الوقت بالذات كان ألفونسو، عقب استيلائه على طليطلة، قد سار إلى سرقسطة وحاصرها، ليرغم أميرها المستعين بن هود على دفع الجزية، فلما سمع بمقدم المرابطين، غادرها مسرعاً إلى الأندلس ليلقى أعداءه الجدد. ثم كانت موقعة الزلاقة (رجب 479 هـ - أكتوبر سنة 1086 م) وإحراز الجيوش الإسلامية المتحدة لنصرها الباهر على الجيوش النصرانية المتحدة، وسحق قوات ألفونسو السادس، وانسحابه في فلوله القليلة مهيضاً مغلوباً، وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه بإفاضة.

بيد أن يوسف اضطر عقب الموقعة أن يغادر الأندلس إلى المغرب لوفاة ولده وخلفه الأمير سير. وتنفس ألفونسو الصعداء حيناً، وأخذ يجمع أشتات جيشه من جديد، ووفد عليه عندئذ سيل من المتطوعة النصارى النورمان والفرنسيين وغيرهم، شعوراً منهم بطابع المعركة الصليبي، ولم يمض سوى قليل، حتى استرد ألفونسو ثقته بنفسه، وشعر أنه يستطيع لقاء أعدائه في الميدان من جديد، وكان ابن عباد وغيره من أمراء الطوائف قد انتعشوا عقب نصر الزلاقة، وأغار المعتمد بقواته على أراضي طليطلة، وانتزع منها عدة أماكن.

بيد أن أمراء الطوائف لبثوا مع ذلك على تنابذهم وتفرقهم، يتربص كل بأخيه،

ص: 398

ولم يستطيعوا أن يؤلفوا من أنفسهم جبهة متحدة ضد النصارى. ومن ثم فقد استمر السيد إلكمبيادور في عيثه ومغامراته في منطقة بلنسية، واستمر القشتاليون من قاعدتهم المنيعة في حصن لييط (أليدو) الواقع بين مرسية ولورقة، وهو الذي ابتنوه قبل ذلك ببضعة أعوام، يرهقون هذه المنطقة بغاراتهم المتوالية. وعلى ذلك فقد استصرخ أمراء الطوائف، أمير المسلمين للعبور إليهم وإنجادهم مرة أخرى.

وعبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1089 م)، وانضم إليه ابن عباد صاحب إشبيلية، والمعتصم صاحب ألمرية، وتميم بن بلقين، صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، وابن رشيق صاحب مرسية، كل في قواته، وهم الذين تقع أملاكهم جميعاً في شرق الأندلس (1) وتعرض لعدوان القشتاليين في تلك المنطقة. وضرب المسلمون الحصار حول حصن لييط، وكان يدافع عنه ألف فارس واثنا عشر ألف راجل من النصارى، ولكن الحصن كان في منتهى المناعة، فلم تنجح آلات الحصار الضخمة في هدمه أو ثلم أسواره، وطال الحصار زهاء أربعة أشهر، والقوات المحاصرة تحاول اقتحامه، كل جماعة بدورها، والنصارى صامدون، يتساقطون داخل حصنهم من الجوع والإعياء. وفي أثناء ذلك كان الخلاف والوقيعة على أشدهما بين أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، ولاسيما بين ابن عباد وابن رشيق، فقد شكا ابن عباد، ابن رشيق لأمير المسلمين، واتهمه باغتصاب ولاية مرسية منه، وأنه تفاهم سراً مع ألفونسو، ودفع جبايتها إليه. واقتنع أمير المسلمين بوجاهة هذه الشكوى، واستفتى الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر بتسليمه لابن عباد على شرط أن يبقي على حياته. وكان لهذا الحادث أسوأ الأثر في المعسكر المحاصر، فإن قادة مرسية، ومعظمهم من قرابة. ابن رشيق وصحبه، غادروا المحلة في جندهم غاضبين، وقطعوا المؤن التي كانت ترسل إلى المحاصرين من مرسية وأحوازها، فاختل أمر المعسكر، وعمه الضيق والغلاء. وعلم أمير المسلمين من جهة أخرى أن ملك قشتالة، يسير في قوة كبيرة لإنجاد حصن لييط، فآثر الانسحاب وعدم التعرض للقشتاليين. وقدم ألفونسو إلى الحصن، فلم يجد به من المدافعين سوى مائة فارس وألف راجل قد برح بهم الجوع، ولما رأى

(1) يلاحظ أن المعتمد ابن عباد كان يدعى حق السيادة على مدينة مرسية منذ افتتحها ابن عمار وابن رشيق باسمه وبمعاونة جنده.

ص: 399

أنه لا فائدة من الاحتفاظ به، وأنه يقتضي لذلك حامية كبيرة، أخلاه وقوض أسواره وعاد أدراجه، وذلك في سنة 1089 م (482 هـ). وترك أمير المسلمين في شرق الأندلس قوة كبيرة، بقيادة ولده الأمير ابن عائشة، ليقوم بافتتاح مرسية وبلنسية، والقضاء على سلطان " السيد " في تلك المنطقة، وعاد إلى المغرب، وقد تغيرت نفسه على أمراء الأندلس، لما رآه من اختلال أحوالهم، وسوء تصرفاتهم، ووضيع أهوائهم وأطماعهم (1).

وخاض ألفونسو بعد ذلك ضد المسلمين عدة وقائع أخرى، ففكر في الاستيلاء على بلنسية لكي يحرم " السيد " من الاستيلاء عليها، وسار إليها بالفعل وحاصرها في سنة 1092 م (485 هـ)، معتمداً في ذلك على معاونة سفن جنوة وبيزة اللتين عقد معهما حلفاً لهذا الغرض، ولكنه فشل في مشروعه، وأرغم على ترك الحصار حينما عاث السيد في أراضي قشتالة. ثم استولى السيد بعد ذلك على بلنسية (1094 م)، ولم يمض سوى قليل حتى سار المرابطون لإنقاذها وضربوا حولها الحصار، وسار جيش مرابطي آخر إلى أحواز طليطلة وعاث فيها وهزم القشتاليين، وسار جيش ثالث إلى قونقة وهزم قوات ألفونسو التي يقودها ألبارهانيس. في خلال هذه الوقائع التي رجحت فيها كفة المرابطين على قوات ألفونسو السادس، توفي " السيد " خلال حصار بلنسية، واستغاثت زوجه خمينا بألفونسو، فسار إلى بلنسية ودخلها في مارس سنة 1102، ولم يعترض المرابطون سبيله استعداداً للموقعة الحاسمة. ولكنه لما رأى ضخامة الجيوش المرابطية، خشى العاقبة، وغادر بلنسية مع خمينا وسائر القوات النصرانية، ودخلها المرابطون في شهر مايو سنة 1102 م (495 هـ)، كل ذلك حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة بلنسية.

وسار ألفونسو في قواته إلى مدينة شنترين من أعمال ولاية الغرب واستولى عليها سنة 1093 م (486 هـ). وقد وقع ذلك فيما يبدو خلال غزو المرابطين لمملكة بطليوس، التي كانت شنترين من أعمالها، ونحن نعرف أن بطليوس سقطت في أيدي المرابطين في صفر سنة 487 هـ (مارس 1094 م).

(1) راجع في حصار حصن لييط، الحلل الموشية ص 49 و 50، وروض القرطاس ص 99، وكتاب التبيان للأمير عبد الله ص 110 - 113، وأعمال الأعلام ص 247. وراجع أيضاً Dozy: Histoire ; V.III.p. 139 & 140 و R.M.Pidal: ibid ; p. 364، 365 & 409

ص: 400

وكانت آخر معركة هامة خاضها ألفونسو السادس مع المسلمين هي موقعة إقليش، وكان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قد توفي يومئذ (سنة 500 هـ) وخلفه ولده على. وقد عبر عقب توليته إلى شبه الجزيرة الإسبانية في أوائل سنة 1108 م (501 هـ) معتزماً أن يستأنف الجهاد ضد النصارى، وعهد بالقيادة إلى أخيه الأكبر تميم أبي الطاهر، فسار الأمير تميم في جيش ضخم، واخترق أراضي قشتالة، ولكن حالت دون تقدمه قلعة إقليش Uclés المنيعة، فضرب حولها الحصار في الحال، فبعث ألفونسو، وقد عاقته الشيخوخة عن أن يقود جيشه بنفسه، قواته لإنجادها، وبعث معها ولده الوحيد سانشو وهو الذي رزق به من " زائدة " حظيته أو زوجه المسلمة المتنصرة، لكي يثير حماسة الجند، وكان صبياً في الحادية عشرة من عمره. ووقعت بين المرابطين وبين القشتاليين أمام حصن إقليش موقعة شديدة، حدث خلالها أن ازدلف الأمير الصبي إلى قلب المعمعة، وشاء القدر أن تصيبه طعنة قاتلة، وقتل معه مؤدبه الكونت غرسية دي قبره مدافعاً عنه، فدب الخلل إلى الجيش القشتالي وركن إلى الفرار، وقتل المرابطون منه مقتلة عظيمة، يقدر من زهق فيها بنحو عشرين ألفاً (29 مايو سنة 1109 م)(1). وكان نصراً عظيماً أعاد ذكريات الزلاّقة، وكان أشد ما فيها وقعاً في نفس الملك النصراني، فقده لولده الوحيد وولي عهده، وانقطاع نسله بذلك. والواقع أن ألفونسو لم يعش طويلا بعد هذه الصدمة المؤلمة، فتوفي في 29 يونيه سنة 1109 م، بعد أن حكم المملكة النصرانية المتحدة سبعة وثلاثين عاماً، وحوادث المرحلة الأخيرة من حياته أكثر ارتباطاً بتاريخ المرابطين، ولكننا حرصنا على استعراضها بإيجاز، استكمالا لسياق الحوادث.

ولابد لنا قبل أن نختتم الكلام على عهد ألفونسو السادس، أن نتحدث عن أعماله وإصلاحاته الداخلية، وقد شملت هذه الإصلاحات جوانب هامة في بناء المملكة النصرانية والمجتمع الإسباني، وذلك من الناحيتين الدينية والدنيوية. ففي أواخر القرن الحادي عشر، وفي عهد ألفونسو السادس بالذات، نوضع الأسس الأولى، لنفوذ البابوية وسلطانها على اسبانيا والملوكية الإسبانية، وهو سلطان تأثل بمضي الزمن، وما زال يحتفظ حتى اليوم بكثير من رسوخه

(1) راجع روض القرطاس ص 104. وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ ص 117 و 118.

ص: 401

وقوته. وقد توالت بعثات الكرسي الرسولي إلى الملوك الاسبان في هذا العهد، تسعى إلى فرض سيادته الروحية، وإلى إلغاء الطقوس القوطية المنسوبة للقديس إسيدورو واستبدالها بالطقوس الرومانية. وبذل دير ساهاجون البندكتي، ورئيسه الراهب برنار الفرنسي عندئذ، أعظم الجهود لتحقيق أغراض البابوية.

وقد سبق أن أشرنا إلى الدور الذي قامت به الملكة كونستانس زوجة ألفونسو الأولى، وهي فرنسية من بيت برجونية، في تأييد الراهب برنار واختياره مطراناً للكنيسة الإسبانية، عقب افتتاح طليطلة. وحصل برنار بعد ذلك على مرسوم بابوي بتعيينه في ذلك المنصب الخطير، ووضع في معظم الأسقفيات رجالا من مواطنيه، وملأ دير ساهاجون بالرهبان الفرنسيين، وذلك رغم مناوأة الأحبار الإسبان وسخطهم. وهكذا استطاعت البابوية أن تفرض رياستها الروحية على اسبانيا، وبالرغم من أن ألفونسو كان يعارض كثيراً من الرغبات البابوية، فإنه كان يجل الكرسي الرسولي ويوليه أعظم مقام.

وفي عهد ألفونسو أيضاً وقعت حوادث الحرب الصليبية الأولى بالمشرق، ولكن البابا أوربان الثاني أصدر مرسوماً يحرم على الإسبان أن يشتركوا في هذه الحرب الصليبية، لأن أعداء النصرانية، أعني المسلمين، يهددونهم داخل أرضهم، ولأن لديهم في شبه الجزيرة وقوداً كافياً لإضرام نار الحرب المقدسة، وكانت ظروف الحرب المستمرة بين النصارى والمسلمين، قد حملت رجال الدين أنفسهم على أن ينزلوا هذا الميدان، فكان شأنهم شأن الأشراف والكونتات يسيرون في معظم الأحيان مع الملك، ويقاتلون في الصفوف، بل ويقودون الحملات أحياناً.

وقد كان الملك وراثياً في قشتالة فقط. أما في باقي الممالك النصرانية، فكان المفروض أن يختار الأشراف مليكهم، وكان الملك في سائر الممالك الإسبانية، يجمع بين سلطات الحرب والسلم، وقيادة الجيوش، ورياسة القضاء، يعاونه في ذلك رهط من رجال الخاص Palatini، وكانت أسماء المناصب معظمها مشتق من النظم القوطية.

وكان نظام الإقطاع ما يزال عندئذ متغلغلا في تكوين المجتمع الإسباني، ويقوم على مراتب متعددة، أرفعها مرتبة الدوق أو الوالي، وهو الذي يُقطع

ص: 402

ولاية بأسرها مثل جليقية أو أشتورية. وتليها مرتبة الكونت أو القومس، وهو الذي يُقطع منطقة معينة، ثم أصحاب المنح الصغيرة، وهم البارونات أتباع القومس.

وكان هذا النظام عسكرياً، في جوهره، تقترن مراتبه المدنية بالرتب العسكرية، فالدوق يتولى قيادة جيش الولاية، ويقود القومس فرقته، وتتكون من البارونات فرق الفرسان، والفارس هو أدنى مراتب النبل، بيد أن الفرسان كانوا قوام الجيش، وعليهم تتوقف مصاير الحرب، وكان الجند المشاة يتكونون من أتباع البارونات، ومن حشم الدوقات والقوامس.

وكان العرش يخوض معارك دائمة مع أولئك النبلاء الإقطاعيين، وكان يضطر في أحيان كثيرة إلى مهادنتهم والإذعان لمطالبهم، فكانوا بذلك يفوزون بالولايات والرياسات رغم إرادة العرش.

وإلى جانب ذلك كان يقوم هيكل الإقطاع الزراعي على نفس الأسلوب المتدرج، فيقطع كبار الملاك المزارعين الأحرار، أجزاء من الأرض يزرعونها على أن يؤدوا للمالك نصف الدخل أو ثلثه على الأقل، ولم تكن هذه المنح الزراعية تحدد بوقت معين، بل كان الزارع يعتبر نفسه مالكاً للأرض، ثم تؤول من بعد وفاته إلى أولاده يزرعونها بنفس الطريقة، بيد أنه كان ملزماً بالإقامة فيها، فإذا غادرها إلى ناحية أخرى فقد الحق في استغلالها.

وكان عدد الأرقاء في ذلك العصر، الذي كثرت فيه الحروب، وكثر فيه السبي والأسر كثيراً، وكانت هذه الجماهير الغفيرة من المسلمين الذين يؤسرون في الغارات أو الحروب المختلفة التي تشنها الجيوش النصرانية على الممالك الأندلسية، يقضي عليهم دائماً بالرق، ويلزمون بأشق الأعمال الزراعية وغيرها، ولا يمنحون الحرية إلا باعتناق النصرانية.

وأما عن التشريع، فقد نظم ألفونسو السادس العدالة، وألغى حق " القوة " وهو العرف الذي كان يسمح للقوي بأن يقتضي بنفسه وبالعنف ما يزعم أنه حق له وفرض على الدوقات والقوامس، أن يعاقبوا مرتكبي الجرائم، فوضع بذلك حداً لجرائم الفرسان الناهبين، وعيث القتلة واللصوص في سائر أنحاء المملكة.

وكان يشترك في وضع القوانين عظماء المملكة وأكابر رجال الدين الأشراف، وتعقد اجتماعاتهم عندئذ في صفة هيئة تشريعية أو برلمان " كورتيس " Cortes،

ص: 403

تحت رياسة الملك، وكان القانون العام المطبق في ذلك العصر هو القانون القوطي (قانون ألاريك) معدلا بما صدر من تشريعات جديدة كانت تعرف " بالقوانين الطيبة " Buenos Fueros. وكان من المقرر أن كل إنسان حر في أن يدافع عن نفسه أمام القضاء، وله أن يختار محامياً أو وكيلا للدفاع عنه. أما اليهود فلم يكن لهم حق الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وفقاً لقانون أصدره ألفونسو. وأخيراً فقد كان الميراث يجري أيضاً وفقاً للقانون القوطي، وهو يسوي في الحقوق بين البنين والبنات.

وكانت وراثة العرش أهم مشكلة واجهت ألفونسو قبل موته، فهو لم ينجب من زوجاته المتواليات من البنين سوى ولده سانشو، ولد زوجته أو حظيته زائدة المسلمة التي تنصرت باسم ماريا أو اليزابيث، والتي أتينا على قصتها فيما تقدم من أخبار بني عباد. وقد قتل هذا الإبن حسبما أسلفنا في موقعة إقليش، فعندئذ اعتزم ألفونسو أن يسند وراثة عرشه إلى ابنته أورّاكا، التي كان قد رزق بها من زوجته الملكة كونستانس الفرنسية، وزوجت بالكونت ريموند البرجوني عند مقدمه إلى اسبانيا. ثم توفي وترك لها ولداً، هو ألفونسو ريمونديس. ولكنه رأى أن يقوي جانب العرش، ووحدة المملكة، بتزويجها من ألفونسو الأول ملك أراجون ونافار، فاستدعى نواب المملكة (الكورتيس) إلى الاجتماع في ليون، ومثل فيه الأشراف والأساقفة وحكام الولايات ورجال الدين والفرسان، وأصدر قراراته بشأن وراثة العرش، وخلاصتها أن تكون أوراكا وارثة لعرش قشتالة وليون وأشتوريش، وأن يمنح ولدها ألفونسو ريمونديس مملكة جليقية، مع بقائها تحتت سلطان قشتالة، وأن يمنح الكونت هنري صهر ألفونسو إمارة البرتغال كتابع لعرش قشتالة، فإذا لم تعقب أوراكا من زواجها بألفونسو ملك أراجون، فإن المملكة كلها تؤول إلى ولدها ألفونسو ريمونديس أعني إلى حفيد ألفونسو السادس. وعهد بتربية الطفل الملكي إلى عمه أسقف فيين، والكونت ترافا، ومنح إمارة جليقية، تحت وصايتهما، على أن تكون له دون نقض أو رجوع. (1)

(1) رجعنا في تلخيص أعمال ألفونسو وإصلاحاته الداخلية إلى " تاريخ المرابطين والموحدين " لأشباخ (ص 120 - 135).

ص: 404

نافار وأراجون

رأينا في بداية هذا الفصل كيف هلك غرسية ملك نافار في موقعة أتابوركا التي نشبت بينه وبين أخيه فرناندو (سنة 1054 م)، وكيف اختار فرناندو مع ذلك سانشو ولد أخيه الملك القتيل ليخلفه على عرش نافار، على أن يكون تحت طاعته.

وكان يحكم أراجون في ذلك الوقت، الملك راميرو بن سانشو الكبير، وكان في بداية حكمه قد حاول غزو مملكة نافار وانتزاعها من يد أخيه غرسيه، ولكنه هزم كما رأينا، ومزق جيشه، واضطر أن يلجأ إلى السكينة حيناً ليعني بتنظيم شئونه والنهوض من عثاره. ولما قتل أخوه غرسية، وتولى ولده سانشو الحكم مكانه، لبث محافظاً على حياده وسكينته نحو جارته نافار، ولكنه وجه عدوانه نحو مملكة سرقسطة، وحاول غزوها، فاستنصر أميرها المقتدر بن هود، بفرناندو ملك قشتالة، فأمده ببعض قواته، ونشبت بين الفريقين في جرادوس معركة هزم فيها راميرو وقتل (1063 م).

فخلفه على عرش أراجون ولده سانشو، المعروف بسانشو راميرز. ولما توفي فرناندو ملك قشتالة حاول ولده سانشو أن يستولي على مملكة نافار، وكان شانشو ملك نافار، شعوراً منه بأطماع ملك قشتالة، قد عقد حلفاً مع جاره سانشو راميرز، فلما سار سانشو لمحاربتهما، استطاعا أن يقفا في وجهه، وأن يهزماه في موقعة فيانا (1067 م).

واستمر سانشو ملكاً على نافار اثنين وعشرين عاماً، وفي عهده توطد مركز نافار بين جيرانها، وأقر المقتدر بن هود صاحب سرقسطة لها بدفع الجزية في سنة 1069 م، وعقد مع سانشو حلفاً لمعاونته في حربه ضد خصومه سواء من المسلمين أو النصارى. وجدد هذا التحالف في سنة 1073 م. ولم يمض قليل على ذلك حتى قتل سانشو في كمين دبره أخوه ريموند وأخته أرمزندة، وذلك في سنة 1076 م، فسخط الشعب النافاري لتلك الجريمة أيما سخط، واستدعى سانشو راميرز ليعتلي عرش نافار. ولكن ريموند استغاث بألفونسو ملك قشتالة، فسار إلى نافار من ناحيتها الغربية، وسار إليها سانشو راميرز من ناحيتها الشرقية، وتفاهم الملكان على اقتسامها، بالرغم من وجود ولدى الملك القتيل القاصرين.

ص: 405

فاستولى سانشو على الجزء الواقع في منطقة البرنيه، وفيه العاصمة بنبلونة، واستولى ألفونسو على القسم المحاذي لنهر إيبرو، وبذلك اختفت مملكة نافار المستقلة إلى حين، بعد أن استطاعت أن تذود عن استقلالها عصوراً بإصرار وبسالة، ونمت مملكة أراجون، واتسعت رقعتها اتساعاً كبيراً، وبدأت تلعب دورها العظيم في شمال شرقي الجزيرة الإسبانية.

واتجهت أطماع سانشو راميرز بالأخص إلى جارته الإسلامية الجنوبية، أعني مملكة سرقسطة، فقام بمحاصرة مونتشون وأخذها في سنة 1089 م، ثم سار لحصار وشقة أمنع قواعد مملكة سرقسطة الشمالية وحاصرها، ولكنه توفي بعد قليل تحت أسوارها، فتابع ولده وخلفه بيدرو الأول الحصار، واستغاث المستعين بملك قشتالة فأمده ببعض قواته، وسار لإنجاد المدينة المحصورة، ووقعت بينه وبين بيدرو معركة شديدة في الكرازة، فهزم المستعين وحلفاؤه القشتاليون هزيمة شديدة، وسقطت وشقة بعد ذلك بأيام قلائل في نوفمبر سنة 1096 م (489 هـ) حسبما فصلنا ذلك من قبل في موضعه من أخبار مملكة سرقسطة.

وفي العام التالي سار بيدرو في قواته لمعاونة حليفه السيد إلكمبيادور ضد المرابطين، ووقعت الهزيمة على المرابطين في " مندير " قرب بلنسية.

واستمر بيدرو الأول على عرش أرجون حتى وفاته سنة 1105 م، وكان ملكاً شجاعاً مقداماً، وهو الذي مهد بافتتاحه لوشقة وبربشتر إلى القضاء على مملكة سرقسطة، وسقوطها فيما بعد في يد أخيه وخلفه ألفونسو، وكان ورعاً متعصباً، لا يكاد يفتح مدينة إسلامية، حتى يحول في الحال مساجدها إلى كنائس، ويغدق الصلات الوفيرة على الكنائس والأديار. ولما كان ولده الوحيد قد توفي قبل وفاته، فقد خلفه على عرش أراجون أخوه ألفونسو الأول الأرجوني المعروف بالمحارب، وهو الذي قدر له، فيما بعد بزواجه من أورّاكا ابنة ألفونسو السادس ملك قشتالة، أن يحكم سائر الممالك الإسبانية، وأن يغدو من أعظم ملوك اسبانيا.

إمارة برشلونة

إلى جانب الممالك الإسبانية النصرانية، التي تقوم في النصف الشمالي من شبه الجزيرة الإسبانية، كانت تقوم في الركن الشمالي الشرقي مما يلي جبال البرنيه،

ص: 406

إمارة نصرانية أخرى، هي إمارة أوكونتية برشلونة. ونحن نعرف أن برشلونة كانت أول ثغر عظيم يفقده المسلمون في شمالي شبه الجزيرة، وقد افتتحها شارلمان (كارل الأكبر) في سنة 185 هـ (801 م) أيام الحكم بن هشام، وجعلها قاعدة الثغر القوطي أو الثغر الإسباني، الذي أنشأه فيما وراء البرنيه، حماية لحدود فرنسا الجنوبية. وكان ملوك الفرنج يعينون حكام هذا الثغر في البداية من الأشراف أو الكونتات الذين ينتمون إلى أصل قوطي أو فرنجي. ولما ضعفت مملكة الفرنج وتخلت عن حماية الثغر وإمداده، وشعر أولئك الكونتات بقوتهم، ونأيهم عن الحكومة المركزية، أعلنوا استقلالهم، وانقسم الثغر إلى عدة إمارات أوكونتيات صغيرة كان أهمها إمارة برشلونة. وكان يحكمها في أواخر القرن العاشر آل بوريل، وفي عهدهم غزاها المنصور بن أبي عامر، واقتحمها وخربها، وذلك في سنة 375 هـ (985 م)، ولكنه لم يحاول الاحتفاظ بها. ولما سقطت الدولة العامرية واضطرمت الفتنة في قرطبة، سعي واضح الصقلبي في الاستعانة بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل، وزميله كونت أرقلة، فسار معه لمقاتلة البربر لقاء أموال جزيلة، واشترك إلى جانب المهدي محمد بن هشام في المعارك التي وقعت يومئذ (400 هـ - 1010 م). ومنذ أوائل القرن الحادي عشر نرى برشلونة تحت حكم آل برنجير، وقد حكمها مؤسس هذه الأسرة الكونت رامون برنجير الكبير من سنة 1035 إلى سنة 1076 م، وفي عهده اتسعت رقعة الإمارة، وضمت إليها أرقلة وشرطانية (1)، ثم ضم إليها ولاية قرقشونة الفرنجية، في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، وذلك بشرائها من ابنتى صاحبها الكونت روجر الثالث. وكان لضم هذا الجزء من أراضي لانجدوك إلى إمارة برشلونة نتيجة هامة، هي إعادة الصلة بين الثغر القوطي القديم، وجنوب فرنسا، والتمهيد بذلك لنزوح الفرسان الفرنج المغامرين، الذين تحدوهم روح صليبية، ويحدوهم البحث وراء طالعهم، والتحاق جموع كبيرة منهم بالجيوش النصرانية التي تقاتل المسلمين في شبه الجزيرة.

وكان من أهم أعمال الكونت برنجير الأول، هي إصلاحاته القضائية، فقد استدعى في سنة 1068 م جمعية من الكبراء في برشلونة، وأصدر هذا البرلمان قانوناً جديداً سمي " بعرف برشلونة " Usages de Barcelona ليطبق إلى جانب القانون القوطي القديم.

(1) أرقلة هي بالإسبانية Urgel، وشرطانية هي: Cerdana

ص: 407

ولما توفي رامون برنجير الأول خلفه ولداه برنجير ورامون في حكم الإماره معاً وفقاً لوصيته. ولكن الخلاف ما لبث أن نشب بينهما، وانتهى الأمر بالاتفاق على أن يتسمى كل منهما بكونت برشلونة، وأن يتناوبا الحكم كل ستة أشهر،

وفي سنة 1082 م، قتل رامون غيلة، واتجهت الشبهة في ذلك إلى أخيه. وقام برنجير بحكم الإمارة منفرداً بالأصالة عن نفسه، وبصفته وصياً على ولد أخيه القاصر رامون الثالث.

وكان بنو هود أمراء سرقسطة، وهم جيران إمارة برشلونة، يعتقدون في مقدرة الفرسان القطلان أبناء هذه الولاية، ويحصلون على معاونة آل برنجير من آن لآخر. وقد لعب أمراء برشلونة في ذلك الوقت الدور الذي لعبه معظم الملوك النصارى، في معاونة الأمراء المسلمين، سواء ضد أبناء دينهم المسلمين أو ضد النصارى أنفسهم. وقد أشرنا إلى ما وقع من ذلك في كثير من المواطن في أخبار مملكة سرقسطة ومملكة بلنسية. وكان أبرز دور قام به آل برنجير في ذلك هو استعانة المستعين بن هود بالكونت برنجير في مشروعه لافتتاح بلنسية. وكان الكونت يضطرم بغضاً نحو " السيد " ومشاريعه. فسار في قواته لمحاصرة بلنسية، ولبث على حصارها وقتاً، حتى اقترب " السيد " بقواته من المدينة، وتبادل السيد والكونت بعض رسائل التحدي المهينة، وأخيراً وقعت الحرب بينهما، فهزم الكونت وأسر، ولم يطلقه السيد إلا لقاء فدية كبيرة، ثم وقع التفاهم بينهما، وترك الكونت حصار المدينة وعاد بقواته (1090 م).

ومما هو جدير بالذكر أن الكونت برنجير، اشترك قبل ذلك بقليل مع قوات ألفونسو السادس، في موقعة الزلاّقة (1086 م) إلى جانب باقي الملوك النصارى، إيماناً منهم جميعاً، بأنهم يقاتلون في معركة صليبية عامة.

واستمر الكونت برنجير في حكم إمارة قطلونية حنى سنة 1092 م، ثم ترك الحكم لابن أخيه الفتى رامون برنجير الثالث، وسافر حاجاً إلى المشرق، فحكم رامون الإمارة بكفاية، وقاوم غزوات المرابطين فيما بعد بنجاح.

ص: 408